اخترت أن تكون افتتاحية مجلة إضافات لهذا العدد هي مقدمة كتاب تحريري مهم حول تطور العلوم الاجتماعية في ظل نزاعات اجتماعية وسياسية. ولو أنه حول بلد عربي واحد (لبنان)، ولكن ما سيلاحظه القارئ أن كثيرًا مما جاء فيه يعكس صيرورة العلوم الاجتماعية ووضعيتها في البلدان العربية الأخرى. عنوان الكتاب هو مرآة العلوم الاجتماعية اللبنانية: الفاعلون والممارسة والمعرفة في لبنان (Raymond, Catusse and Hanafi, 2021)، والذي صدر حديثًا وهو مؤلف من فصول كتبت باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية. لقد حرصت إضافات على نشر المقدمة لاهتمام المجلة ومركز دراسات الوحدة العربية بهذا الموضوع الجوهري على سبيل المثال (حنفي، بن غربيط-رمعون ومجاهدي، 2014).

 

في اللحظة التي ننهي العمل على هذا الكتاب المشترك[1]، يعيش أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية الحجْر الصحي، ويخضعون لقواعد تعلّق أنشطتهم الاجتماعية العادية. يشهد الاقتصاد العالمي توقفًا مذهلاً. وتُطرح تساؤلات كثيرة حول مفاهيم التضامن، والعلاقات بين الأجيال، وتنظيم العمل والإنتاج، وطرق إدارة المرض والموت، والتنقل، ودور الدول والمؤسسات. يعيش لبنان، إضافة إلى هذا الوضع العالمي غير المسبوق، أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لا مثيل لها. فكيف، في مثل هذه الظروف، يمكننا أن ننجح في التفكير في تاريخ العلوم الاجتماعية وفائدتها وترسيخها في مجتمعاتنا؟ كان من الممكن أن تؤثر الدهشة التي شعر بها معظمنا في مواجهة ضخامة الأحداث وفجاعتها على سير العمل، وأن نعدّ التفكير بعملنا من خلال تحقيق هذا العمل الجماعي عرضيًا، إن لم يكن غير مُجدٍ. مع ذلك، أصبحت العلوم الاجتماعية أكثر ضرورية اليوم للتحكم بمشكلات حياتنا ومحاولة فهم ما يجري. إذ وجهت العلوم الاجتماعية نظرنا، وقدمت لغة على تساؤلاتنا، وعناصر للمقارنة مستمدة من التاريخ أو من سياقات وطنية أخرى. لقد ساعدتنا العلوم الاجتماعية على إعطاء معنى لما نعيشه، وعلى تطوير قراءة أدق، أكثر تعقيدًا لعالم مضطرب.

هل ستمثل العلوم الاجتماعية إذًا، لمواطني القرن الحادي والعشرين، ما كانت تمثل العلوم الإنسانية للرجل (والمرأة) المثقف/ة (honnête homme) في أوروبا الحديثة أو لأدب النهضة؟ هل ستشكل أمتعة ثقافية ثمينة، حتى لو لعدد صغير، لاكتساب سلوكٍ أكثر استنارة؟ لا تكفي الإجابة الإيجابية أو السلبية عن هذا السؤال لاستنفاد هذا السؤال العام حول فائدة العلوم الاجتماعية، والذي يتم توجيهه إلينا بصورة متكررة والذي يكمن وراء عدد من الإصلاحات البنيوية والتوجهات البرامجية الجديدة التي تنظم أنشطتنا ومهنتنا. لقد طُلب من الباحثين الاجتماعيين تحديد القيمة المضافة التي يمكن أن تجلبها تخصصاتهم إلى مجتمعاتنا، إن لم يكن بطريقة أكثر اختزالية لاقتصاداتنا، وهذا سيؤثر في استقلالية البحث الاجتماعي. ألم يقل المؤرخ لوسيان فيفر  (Febvre, 1920) بشأن تخصصه، إن «التاريخ الذي يَخْدِم هو التاريخ الذي يصبح عبدًا» «une histoire qui sert est une histoire serve».؟ غيّرت السياسات البحثية المستوحاة من النيوليبرالية، والتي تم تنفيذها على سبيل المثال في وقت مبكر من ثمانينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة وبعد ذلك بعقد أو بعقدين في أوروبا (Duval and Heilbron, 2006) على نحوٍ عميق الظروف المؤسساتية والاجتماعية للنشاط العلمي، ما أدى إلى تراجع استقلالية مجال البحث بذريعة مواءمته على وجه الخصوص مع احتياجات المجتمع وأولوياته وتحدياته. «التسليع الوهمي» للمعرفة  (Burawoy, 2015) وتحويل الجامعات إلى «شركات أكاديمية»[2] حقيقية، وخفض التمويل العام المخصص للعلوم الاجتماعية، ومنهجية طرق تمويل المشاريع: كل هذه التطورات تؤدي إلى مزيد من عدم استقرار تشكيل فرق البحث والمسار المهني الفردي للمعلمين والباحثين. يعود تعريف أجندة وتحديد أولويات الأسئلة العلمية المشروعة بصورة أقل إلى المنطق الخاص بالحقول التخصصية منه من اعتبارات وأولويات الجهات الممولة. أخيرًا، يؤدي تدعيم الخبرة كواحدة من وظائف البحث إلى فرض قيود متزايدة على التخصصات التي لا تحظى بقيمة متكافئة في هذا السوق. تتمتع بعض التخصصات بتقاليد قديمة في التعاون مع العالم الاقتصادي أو السياسي غير أن بعض التخصصات الأخرى تظهر هشاشة أكبر في قدرتها على تعزيز منفعتها الاجتماعية.

في الوطن العربي، وبخاصة في لبنان، لا تعَدّ هذه الظواهر المختلفة جديدة ولكن تبعاتها وتجلياتها تختلف من وقت إلى آخر. في مواجهة الارتفاع الهائل في عدد طلاب التعليم العالي منذ السبعينيات والثمانينيات، لا تخصص الجامعات الحكومية سوى جزء بسيط فقط من ميزانياتها لأبحاث العلوم الاجتماعية، بينما لا تهتم العديد من الجامعات الخاصة الجديدة منذ التسعينيات بهذه التخصصات ((Bamyeh 2015; Kabbanji 2012. وفي الآونة الأخيرة، ساهمت الدعوات الملحّة الموجهة إلى الوطن العربي للانضمام إلى «اقتصاد المعرفة» المعولم، إذ تتماشى الأبحاث مع احتياجات اقتصاد السوق، والذي أدى إلى تهميش العلوم الاجتماعية (حنفي وأرفانيتيس، 2016) في الوقت نفسه، أدى التدخل المكثف للمنظمات الدولية، سواء من حيث سياسات التنمية أو في البلدان التي شهدت نزاعات مسلحة، إلى تعزيز تنمية الخبرات غير الأكاديمية التي يتجه إليها العديد من أساتذة الجامعات والباحثين الجامعيين المحليين، وأيضًا الخريجين الجدد الذين يبحثون عن عمل.

يمثل لبنان، وكذلك فلسطين (Romani, 2016) مثالين واضحين على ذلك. لم تتغير أساليب تمويل التعليم وتلك الخاصة بتطوير حياتهم المهنية فحسب، بل أيضًا شروط إنتاج المعرفة الاجتماعية ذاتها. إذ تنفصل هذه الشروط عن القواعد العملية التي تم تطويرها في مجتمع جامعي مضطرب، وتساهم في إيجاد معايير وممارسات من سيمارسون مهنة العلوم الاجتماعية. عززت الدعوة إلى الانتقال من التخصص إلى دراسات (دراسات الشرق الأوسط، دراسات أوروبية، إلخ) بعد ثورات 2011 هذه الاتجاهات في المغرب العربي والمشرق العربي. وتتميز بطمس الحدود التخصصية التي تنظم عوالم الأكاديمية، وتوازن بين التعبير غير المتكافئ للمعرفة «المحلية» – وفي اللغة العربية – وبين المعرفة «العالمية» – في أغلب الأحيان باللغة الإنكليزية (حنفي وأرفانيتيس، 2016) وتدفعها نحو التنبُّئية Catusse, Signoles and Siino, 2015))

في مواجهة هذه التطورات، يعبّر الباحثون الاجتماعيون عن قلق صامت ولكنه متزايد بشأن مستقبل تخصصاتهم ومهنهم. فولد هذا الكتاب في هذا السياق من الاهتمامات المتقاربة. لا ننوي، نحن المراقبين المهتمين بتدهور هذه المهن، أن نوجه نداءً لقضية خاسرة، ناهيك بالخطبة الجنائزية للدفاع عن معرفة متخصصة جدًا. على الضد من ذلك، نقوم بالتحرك بأدواتنا لتسليط الضوء على آليات حاسمة تتجاوز ساحات الجامعة. لذلك فنحن نراهن على اعتبار أنفسنا موضوع للبحث، بما يتجاوز الإشكالات التي يمكن أن تثيره هذا بسبب الوضعنة أو غياب الوعي لوضعيتنا (Bourdieu, 1984). تجمع هذه الآلية بين طموح التفكير بالذات وطموح تعليم العلوم الاجتماعية. ويلوح في الأفق، خلف الأسئلة الموجهة إلى الفاعلين اللبنانيين في مجال العلوم الاجتماعية وممارساتهم، هدف تسليط الضوء على آليات أوسع. تتحول العلوم الاجتماعية، على هذا النحو، إلى مراكز مراقبة للتغييرات في مجتمعها: تسليع العالم، وعملية التبعية[3]، أو بخلاف ذلك، منطق الشرعية، وإنتاج المعايير وإعادتها، التصنيف، عدم المساواة، أو تغير عوالم العمل (هشاشة الوظيفة العمومية)… إلخ.

لفهم هذه التحولات الحالية، من الأكثر عالمية إلى تلك المدرجة في المزيد من القضايا المحلية، اخترنا استكشاف ووصف المسار التاريخي والخصائص الاجتماعية لهذه التخصصات والمهنيين في سياقهم المحدد للممارسة في لبنان. يتعلق الأمر بالمشاركة في الإنتاج، في استخدام الممارسين الحاليين والمستقبليين لمعرفة انعكاسية (Réflexif) ونقدية حول نشأة العديد من التخصصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تمارس في لبنان وتطورها، وأثرها في الجهات الفاعلة وأطرها المؤسساتية، وترسيخها في المجتمع.

يرتكز عملنا على الاعتماد على التقييمات والتشخيصات المختلفة للتعليم والبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية التي أجريت في لبنان منذ التسعينيات والألفين. في حالة ما بعد الحرب الأهلية، إذ مثّل إعادة تشغيل المؤسسات وتطويرها، وبخاصة المؤسسات العامة، أمرًا أساسيًا في عملية إعادة الإعمار، ركزت عمليات الجرد هذه غالبًا على الصعوبات التي تواجهها المؤسسات المسؤولة عن التعليم العالي والبحث (اليونسكو 1996؛ الأمين 1997؛ 1999)، وعلى الأولويات التي يجب اتباعها في المستقبل من حيث التعليم (AUPELF-UREF 1995). تم إنتاج هذا الأعمال بدعم من المنظمات الدولية أو الهيئات العامة الوطنية المعنية بهذه الأسئلة، من أجل المساعدة في تحديد سياسات القطاعات أو برامج التعاون، وقد اعتمدت هذه الأعمال طرق كتابة خاصة بتقارير الخبراء، مع تفضيل التركيز على تقييم أنظمة التدريس والبحث.

طموحنا متكامل ومختلف. من خلال الجمع بين مساهمات استطلاعاتنا الخاصة حول الظروف الاجتماعية والسياسية والمعرفية للإنتاج في العلوم الاجتماعية، طرحنا تساؤلات حول تاريخها، ومنطق بنائها وتطورها. أردنا أن نسلط الضوء على الرجال والنساء اللبنانيين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، أوقاتهم وأمكنة وجودهم، وتحدياتهم وإنجازاتهم. من خلال التركيز على التخصصات والجهات الفاعلة والممارسات الخاصة بها، كان هدفنا فهم كيفية بناء المعارف ونقلها والسماح بها اجتماعيًا. بهذا المعنى، فإن استعارة «المرآة» التي اخترناها كعنوان لهذا الكتاب لا تعني أن المسألة بالنسبة إلينا هي إجراء تشخيص لحالة العلوم الإنسانية والاجتماعية في لبنان قبل صوغ مقترحات الإصلاح، ولا لتطوير إبستمولوجيا لتقديم توصيات. بدلًا من ذلك، نعتزم الانخراط في تمرين للتحليل النقدي والمقارن للمسارات التي تشكلت من خلالها العلوم الاجتماعية اللبنانية في العديد من بيئات المعرفة المؤسساتية والمهنية. لا نهتم فقط في المؤسسات الي ندرسها، ولكن أيضًا في المجتمع الذي يشترط تنظيمهم.

وجهت هذه المقاربة ثلاثة رهانات: الأول، تراكم المعرفة ونقلها، قادنا إلى تفضيل التحليل طويل الأمد للمسارات الاختصاصية في شكل مونوغراف بدلًا من اقتراح تحليلات أكثر شمولية للحالة الآنية للمعرفة أو العالم الأكاديمي. والثاني، تعزيز القدرات الحالية والمستقبلية للعلوم الاجتماعية، قادنا إلى جهد تأملي خاص، وحشد موارد تخصصاتنا لتحديث الرهانات والتوترات ونقاط الضعف التي تؤثر في مهننا ومجالات معرفتنا. أخيرًا، ثالثًا، قادتنا المساهمة في النقاشات النظرية التي اشتغلت تاريخ وسوسيولوجيا المعرفة، إلى مسارات التفكير في استقلالية العلوم الاجتماعية، وهو سؤال يسمح لنا السياق المحدد للبنان المعاصر بمعالجته بطرائق جديدة.

لقد أرست بعض المساهمات الحديثة أساسًا مهمًا لمثل هذا البحث. تقع ضمن أنواع مختلفة من القضايا ومجالات المعرفة: علم اجتماع العلوم(Kabbanji, 2010 ؛ حنفي وأرفانيتس2016) )، والتاريخ الاجتماعي للمعرفة (Raymond, 2013)، ولكن أيضًا علم الاجتماع التاريخي لمؤسسات المعرفة (عمل هالة عواضة [2019 ] في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، شانتال فيردي (Verdeil 2006; 2004) عن جامعة القديس يوسف، علي موسوي [2013] عن الجامعة اللبنانية… إلخ.) أو حتى الأنثروبولوجيا السياسية للخبرة (Kosmatopoulos, 2011)  يجب أن نذكر أيضًا المسح الذي تم تنسيقه في لبنان من قبل جاك قبانجي (Kabbanji, 2010; Kabbanji and Moussaoui, 2007) كجزء من مشروع تقييم القدرات العلمية والتقنية والابتكارية لبلدان البحر الأبيض المتوسط (إستيم ESTIME)، المشروع الذي قاده معهد أبحاث التنمية في فرنسا (IRD). تعالج هذه الدراسة «مهنة» الباحث من وجهة نظر ونشاط عيّنة من الأساتذة والباحثين اللبنانيين (في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والقانون والاقتصاد)، إضافة إلى تحليل مؤسساتي لنظام البحث الوطني. أظهر هذا الاستطلاع، الكمي والنوعي، قوة الطابع الفردي على ممارسات البحث وهيمنة البحث التطبيقي، منذ نهاية الحرب في لبنان (1975-1990)، بناءً على طلب المنظمات الوطنية أو الدولية، الجهات المانحة (وفقًا لمصطلحاتها التفضيلية الخاصة)، أبحاث تتعلق بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية المختلفة الناشئة داخل المجتمع اللبناني. وتلخص الدراسة العقبات الناتجة من تكوين تقاليد بحثية لبنانية بحتة. وتتساءل الدراسة بوجه خاص عن قدرة المجتمع العلمي الوطني على الحفاظ على الحد الأدنى من السيطرة على أجنداته البحثية وكذلك الحفاظ على المهنة النقدية للعلوم الاجتماعية. يتجاوز مجال التاريخ، الذي تم أخذه كدراسة حالة من قبل كانديس ريمون (Raymond 2013)، أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويتفلّت، بالتالي، من نظام الخبرة الذي يسيطر على التخصصات التي يغطيها مسح إستيم. هنا أيضًا، سمحت عملية المأسسة بظهور حقل تخصصي مهني يظل مع ذلك متحررًا بصورة ضعيفة من القضايا الخارجة عن التخصصات (هنا ذات طبيعة سياسية وليست اجتماعية – اقتصادية).

يبرز تساؤل محوري بالنسبة إلينا من خلال هذه الدراسات في مختلف التخصصات. وهو استقلالية (Autonomie) البحث ومفصلة ذلك مع الطلبات الواردة من العالم الاجتماعي، وحتى أنماط مشاركته في العالم الاجتماعي ومدى تأثره في سياق تدويل و«طرفية» (Périphérisation) العلوم الاجتماعية العربية (حنفي، 2014). أثبتت فكرة الاستقلالية، المستعارة من علم اجتماع بيير بورديو لوصف خصائص حقل ما (Champ) وقدراته الفردية على التنظيم والتمييز، بصورة مستقلة عن القيود الخارجية، بالفعل أنها مثمرة في مقاربتنا الجماعية، بما في ذلك، كما سنرى لاحقًا، إبراز تبعية (hétéronomie) العلوم الاجتماعية اللبنانية. لكن استجوابنا امتد، نظرًا إلى أننا نولي اهتمامًا، من فصل إلى فصل، ليس إلى ما يمكن أن يصنع أو يكسر وحدة العلوم الاجتماعية فحسب، ولكن قبل كل شيء إلى أشكال متعددة ممكنة من الاستقلالية (Lahire 2012)، التي تطالب بها التخصصات تجاه القوى الخارجية أو تجاه التخصصات الأخرى، مثل العلوم السياسية باستقلالها عن الحقوق، إلى استقلالية الفاعلين وممارساتهم. في لبنان، كما تُظهر بعض الفصول التي تم جمعها في هذا الكتاب، فإن هذا التساؤل يتقاطع مع جهود الكثير من جمعيات الأساتذة والباحثين، والتخصصات (الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع، والجمعية اللبنانية للعلوم السياسية) أو متعددة التخصصات (باحثات)، الجمعية اللبنانية للعلوم التربوية، لإنتاج تأملات منتظمة حول ممارسة العلوم الإنسانية والاجتماعية وتحدياتها. لكن هذه الآراء المختلفة، نشرت في وقائع المؤتمرات والمجلات [4] أو تظهر في أرشيفات الجمعيات، في معظم الأحيان مستمدة من العودة إلى تجربة شخصية في البحث أو قراءة نقدية للوسط الأكاديمي، أكثر منه عملًا منهجيًا وضعيًا وتأريخيًا سيستيماتيكيًا. لذا، اعتمدت طريقة التفكير لتي اقترحناها على هذه الأدبيات الثمينة للتساؤل على نحو أكثر منهجية، وبوجه أساسي حول مأسسة التخصصات وتطورها إضافة إلى مسارات المتخصصين وأشكال ممارساتهم المهنية.

أولًا: المعرفة كاختصاص

ما المقصود بالتخصص (discipline)؟ ينضوي تاريخ العلوم الإنسانية والاجتماعية اللبنانية ضمن إطار مؤسساتي شهد تغيرات جوهرية خلال القرن الماضي. لم يكن التخصص والمهنة شيئًا بديهيًا منذ بدء ولكنهما تم بنائهما حديثًا نسبيًا. ويتطلب ذلك فحصًا تفصيليًا من دون أن يتم إدراج هذه العلوم ضمن نموذج كوني لمأسسة العلوم الاجتماعية.

يشير مفهوم التخصص في الواقع إلى وجود مجالات أو قطاعات محددة من المعرفة تدعي «استقرار موضوع المعرفة وأمن الحدود وإنشاء أنماط موحدة لمعالجة الأشياء التي تم قطعها سابقًا (Boutier, Passeron and Revel, 2006: 25)  ولكنه يمثل أيضًا مبدأً تنظيميًا وتصنيفيًا للأنظمة الأكاديمية، من الناحية التربوية والاجتماعية والمؤسساتية. لذلك فإن النظام هو «فضاء منطقي وفضاء تاريخي للنشاط العلمي (Fabiani, 2006: 15). يسمح التمييز بين هذين البعدين للتخصص بصقل جينالوجيا (Généalogie) مقبولة عمومًا للعلوم الإنسانية والاجتماعية في لبنان، وبعضها لعلم ما في أبعاده الأكثر تميزًا. يرتبط ظهور العلوم الاجتماعية بسهولة بأول جامعات «حديثة» تأسست في بيروت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر – الكلية السورية البروتستانتية (1866، الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقًا) وجامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين (1875) – بالتزامن مع مشروع النهضة العربية وتشكيل الدولة التي تهدف الدول والقوى الراعية لهذه الجامعات إلى تشكيل النخب وضمها. في التخصصات المقترحة، تم التركيز بعد ذلك على التخصصات المهنية مثل الطب أو الصيدلة أو التجارة، والقانون والهندسة في وقت لاحق[5]. عندما تم إدخالها في المناهج الدراسية، لم تكن العلوم الإنسانية والاجتماعية بالضرورة تخصصات منضبطة، بمعنى أنها لم تثبت نفسها دائمًا كمجالات معرفية منظمة حول طريقة مميّزة، وسؤال محدد ودورات تدريبية مستقلة. فكانت هذه المواد جزءًا من التعليم العام كما الحال في الكلية البروتستانتية السورية، أو كانت موجّهة في المقام الأول للمبشرين والعلمانيين الأوروبيين المغتربين في حالة الكلية الشرقية التي افتتحت عام 1902 في جامعة القديس يوسف. ومع تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتنصيب الانتداب الفرنسي على الدولتين الجديدتين في لبنان وسورية، شهدت العلوم الإنسانية والاجتماعية تنوّعًا وتخصّصًا. وأبدى الطلاب، في بعض الأحيان، حماسة حقيقية لهذه العلوم الجديدة. ولكن كما يوضح فيليب بورمو حول علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، فإن أهداف هذا النوع من التعليم ظلت مختلفة أكثر فأكثر عن تلك المخصصة في هذه المجالات في الوقت عينه في الولايات المتحدة أو في أوروبا: لم يكن الأمر يتعلق بتنشئة، من خلال تخصص معيّن، «أكاديميين وخبراء واختصاصيين اجتماعيين»، ولكن بدلًا من ذلك، حث «الطلاب على الأساليب التحليلية ودراسة المشاكل السياسية والاجتماعية للمنطقة، من دون إبعادهم عن المهن المرموقة أو الأكثر ربحية في خدمة الدولة». (Bourmaud, 2017: 100)

مثّل إنشاء مناهج جامعية تدمج هذه المواد التعليمية جزءًا من التحديث الأول للعلوم في الوطن العربي، وتزامن مع التحولات الإمبراطورية ثم الاستعمارية الكبرى، والتي أثرت في التنظيم السياسي والتنظيمات الاجتماعية في المنطقة. أعيد تشكيل مجالات المعرفة وفقًا للأطر الاجتماعية السياسية التي نشأت (الدولة، الأمة)، مفضلة تبني «فكرة العلوم الاجتماعية» التي تميز المشروع الوطني («التفكير والتحليل من خلال «أنا» [Roussillon 1999: 1364])، بينما أثر «الأوصياء الجدد على الماضي» (Di Capua, 2009) بممارساتهم التأريخية على تطوّر المؤسسات السياسية. ومع ذلك، لم تتخذ هذه التعاليم شكل كليات تخصصية محددة تهدف إلى تدريب جسم من المتخصصين المنتجين.

وتكمن لحظة تأسيس الثانية في لبنان في حركة الاحتراف المكثفة التي بدأت في الستينيات، بفضل الاهتمام الذي أبداه المشروع الشهابي[6] بالعلوم الاجتماعية وتطوّر الجامعة اللبنانية (Favier, 1994؛ عواضة، 2019). لقد كانت الأخيرة، في الواقع، هي التي خرّجت، من بداية السبعينيات فصاعدًا، أكبر مجموعات خريجي الجامعات في العلوم الإنسانية والاجتماعية[7]، والتي زوّدت نفسها بأكبر هيئة تدريس متخصصة. بوجه عام، استفاد التعليم العالي الذي بدأ في الستينيات على نحو كبير من كليات الآداب والعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مما أدى إلى توسع تدريجي في هيئة الأساتذة والباحثين في مختلف التخصصات الموجودة ورفع المستوى شهادة التعليم المطلوبة للتدريس. وساهمت الجامعة في تنشئة وتدريب مجموعة مهنية، ببرامجها التعليمية المتخصصة، ومساراتها، و«شروط دخولها» (أولًا دبلوم الماجستير ثم الدكتوراه)، إذ حدّ الطابع النخبوي للجامعات الكبيرة ذات الأصل التبشيري من عدد المتخصصين الجامعيين في العلوم الإنسانية والاجتماعية لتعليم فقط عدد قليل من الطلاب.

من المهم أخذ هذه التحولات المورفولوجية في الحسبان (Bourdieu, 1984)، لأنه يجعل من الممكن تجاوز شكل معين من الاسمية التخصصية (Nominalisme Disciplinaire): من خلال استمرار الاسم نفسه، من المحتمل في الواقع أن تظهر، على مدار القرن، تشكيلات اجتماعية مختلفة. لنأخذ مثالًا واحدًا فقط، لقد تغير التاريخ في لبنان بطبيعته خلال القرن العشرين: لقد تطور من تخصّص فكري يمارسه كُتاب ذو ثقافة واسعة «Polygraphes» ذات ملامح وأهداف متنوعة، إلى تخصص أكاديمي يمارسه – إن لم يكن حصريًا، على الأقل ليس على شكل هيمنة - من جانب مجموعة من الأشخاص المدربين في هذا المجال والذين يمتهنون خلق المعارف التاريخية ونقلها وتقييمها. يتم إخلاء هذه التغيرات في التنظيم الاجتماعي للتخصصات بشكل عام من خلال أدبيات جينيولوجية بأكملها حيث تظل العلوم الإنسانية والاجتماعية مفهومة إلى حد كبير في ضوء التقاليد التخصصية المتجسدة في شخصيات مختلفة من «الرواد» أو «أسلاف» للاختصاص. وإن تكن هذه الأدبيات مفيدة لفهم الموروثات الفكرية المفترضة أو استمرارية مشروع المعرفة، غير هذه الأدبيات لا تخبرنا كثيرًا، من ناحية أخرى، عن المجموعات التي تحمل هذا المشروع أو عن «المكونات المؤسساتية والاجتماعية والمادية التي تضمن استمرارية هذا الجهد المعرفي» (Blanckaert 1995: 39).

إن فهم التحولات التي تؤثر في قطاع الجامعة في ما يتعلق بقضايا الاحتراف يجعل من الممكن أيضًا التشكيك في عدم التطابق بين مشروع تخصصي ومنطقة اجتماعية مؤسساتية. وهكذا، على سبيل المثال، فإن الأنثروبولوجيا التي استرجع تاريخها اللبناني في عمل زينة الصواف، هو في الأساس نتيجة للاستثمارات والمساهمات الفردية في مجال معرفي معين، ولكنها، لم تتحرر من علم الاجتماع إلا بشكل ضعيف على المستوى المؤسساتي. على الضد من ذلك، لا يحدث تخصص في مجال معرفي من خلال وجود مسبق لشيء محدد بوضوح وثابت، ولكن من خلال التأثيرات المؤسساتية التي تطبع مشروع التخصص بهوية معينة. هذه هي حالة علوم الإعلام والاتصال التي بُنيت في لبنان على أنها «مجال متعدد» (inter-discipline) يتميز بمركزية المعرفة في المعلومات الصحافية وتهميش علوم الاتصال (انظر فصل بيتي جيلبرت سليمان في الكتاب). هذا هو الحال أيضًا بالنسبة إلى العلوم الدينية التي يتم تطويرها في مناهج ومؤسسات تعليمية محددة من خلال الجمع بين المساهمة النظرية، أكثر منها المنهجية أو التجريبية، لمختلف التخصصات (انظر إلى فصل علي قاسم في هذا الكتاب).

على هذا النحو، بدا من المفيد لنا أن نسلط الضوء في هذا العمل، بدلًا من التخصصات الراسخة و«الواضحة» مثل التاريخ أو علم الاجتماع أو الاقتصاد، إلى مجالات تأخذ شكلها من خلال التفاعل بين التخصص والمؤسسة والمهنة: علوم الإعلام والاتصال أو الدراسات الإسلامية، ولكن أيضًا الدراسات الحضرية (درسها إريك فيردي في هذا الكتاب) والعلوم السياسية (التي خصص لها ميريام كاتوس، سامر غمرون وجميل معوض فصلًا في هذا الكتاب).

وهكذا، قادنا مشروعنا الجماعي إلى وصف وتحليل هيكلة طويلة المدى لحقول معرفية، من خلال ممارسات متنوعة للجهات الفاعلة. إنهم ينظمون أنفسهم في مجتمعهم ليس على أرض راسخة، بل في ساحات تتنازع فيها السلطة والتخصص (Spécialisation) وحتى التخصص الأكاديمي (Disciplinarisation). تشكّل حدودهم موضوعًا للصراع، كما هو الحال مع إضفاء الطابع المؤسساتي التدريجي على علوم المعلومات والاتصالات. وتظهر أيضًا معارك صغيرة، مثل تلك التي تظهر داخل أوساط السياسيين، أو مخططي المدن أو في مناهج العلوم الدينية حول تحديد ما يأتي في إطار الخبرة أو الأكاديمية، أو حدود التخصص أو ميزاته. وتتنوع التحديات التي يواجهونها، من أكثرها مادية (على سبيل المثال تطوير مسار مهني) إلى أكثرها رمزية (السمعة، والسلطة الفكرية، وما إلى ذلك). تظهر حقول المعرفة أنها قابلة لتأثيرات خارجية مختلفة (hétéronomes) بصورة أساسية. وهذا يشكّل ربما، المساهمة الأكثر بروزًا في مناقشة الأبحاث الميدانية التي تم جمعها في هذا الكتاب.

ثانيًا: عدم يقين بنيوي وتبعية في الممارسات

لقد سعينا في الواقع إلى فهم الجذور الاجتماعية للعلوم الاجتماعية، أي الظروف الاجتماعية لإنتاجها وتداولها واستخداماتها. في هذا الصدد، تشارك مساهمات العمل ملاحظتين تجعلان مهن العلوم الاجتماعية فريدة من نوعها في لبنان. فمن ناحية، ليس من المستغرب أن تحتل مسألة الأزمة مكانة خاصة للغاية. على الرغم من أن إضفاء الطابع المؤسساتي على التخصصات وإضفاء الطابع المهني عليها قد أنتج آثارًا حسية وميدانية تشير إلى استقلاليتها النسبية (Bourdieu, 1985)، إلا أن علاقات التبعية هي التي يبدو لنا أنها الأكثر تحديدًا في بنية مسارات الفاعلين ومؤسساتهم. يستحق هذا الاستنتاج أن يُناقَش ليس بوصفه شذوذًا في ساحات ممارسة الإنسان الأكاديمي (Homo Academicus) اللبناني ولكن على خلاف ذلك كسمة بنيوية لمواقف وممارسات موحدة.

أكثر من الأزمة نفسها، التي حددناها بعض أبعادها العالمية المعاصرة والموضوعية، إنه الشعور بالأزمة الذي تم الإبلاغ عنه في العديد من الأبحاث الميدانية. في عام 1996، أكد منسقو عدد مجلة باحثات المكرسة للبحث في العلوم الإنسانية في الوطن العربي (وبخاصة في لبنان)، بطريقة استفزازية إلى حد ما، أن العلوم الاجتماعية العربية لا تزال في طور التكوين، مرحلة «ما قبل العلم»، وفي الوقت نفسه كانت مهددة بالفعل بالاختفاء (فياض ونصر، 1996). يبدو أن هذا الخوف منتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء الوطن العربي كل (Colonna, 1991). في الواقع، ظهر هذا التخوف بصورة منتظمة لعقود عدة، إذ يمكن عدّه سمة تأسيسية للتمثيل الذاتي للمثقفين العرب (Frangié, 2012). لكن هذا الشعور بالأزمة في العلوم الاجتماعية الذي تم التعبير عنه في مجلة باحثات يجب أن يكون مرتبطًا أيضًا بالوضع الهش جدًا الذي عاناه ممارسو المهنة عقب الحرب المدمرة في لبنان (1975 – 1990). تؤثر هذه الهشاشة في مكانة هذه العلوم في المجتمع اللبناني وظروف ممارستها في القطاع الجامعي المنكوب. حتى اليوم، بعد ما يقارب ثلاثين عامًا من نهاية الحرب، تشهد مصادرنا على تدهور ظروف عملهم، والتقليل الاجتماعي لمهنهم، والصعوبات في تشكيل مجموعة متماسكة، وعلى عقبات اجتماعية وسياسية تعيق المهنة التي يلتزمون فيها.

تكشف مراقبة خيبات الأمل الشخصية و«الحوادث» في المسارات الجماعية عن تحولات اجتماعية عميقة تؤثر في علاقات القوة الرمزية أو المادية. تطرح هذه التحولات شكوكًا في «اجتماعية» هذه المعارف والتخصصات، على الأقل في المجال الأكاديمي، أي قدرتها على الإنتاج وايجاد جمهور (Blanckaert, 1995: 41). يُطرح هذا السؤال أولًا في مؤسسات التعليم العالي اللبنانية، حيث يسجل عدد الطلاب في هذه التخصصات انخفاضًا، مما يعرض للخطر وجود أقسام تخصصية معينة، وإعادة انتاج جسم تعليمي وبحثي. وتنعكس هذه المعارف على الصعيد الدولي بصورة «هامشية» للمعرفة المحلية وأغلبية منتجيها. إن النزعة الكامنة «للنشر عالميًا مقابل الاندثار محليًا»، مقابل «النشر محليّا والاندثار عالميّا» والذي أبرزه ساري حنفي (2014) تسائل المسار المهني ونوعية الجمهور المخاطب في صميمها. ما يتجلى على نطاق أوسع في منطق إدراج العلوم الاجتماعية اللبنانية في المعرفة العالمية.

ومع ذلك ربما يكون عكس المنظور أو الرؤية مفيدًا في خلاص المرء من خطاب الأزمة الذي يشلّ في بعض الأحيان. فبدلًا من الاحتفاظ فقط بالجوانب الهرمية والتنفيرية للانفلاش (Extraversion) الأكاديمي، أو البنية المنقسمة لبيئة الأكاديميين وفقًا لدرجة اندماجهم في الشبكات الدولية، يمكن أيضًا أن نتذكر أن التسجيل في مثل هذه الشبكات من المرجح أن يعزز الاستقلالية النسبية للفاعلين الوطنيين (Bourdieu, 2001). في ظل ظروف معينة وبدون أن يكون هذا منهجيًا، يمكن بالفعل تعزيز قدرتهم على تحرير أنفسهم من قيود محلية معينة تثقل كاهل البحث. في أصعب الأوقات التي عرفها لبنان خلال نصف القرن الماضي، مكّن الاندماج في الديناميات العابرة للحدود الباحثين في بداية حياتهم المهنية، ليس فقط من اكتساب رأس المال العلمي وتسهيل تنقلهم، ولكن أيضًا، في سياق معين من الاستقطاب السياسي القوي، من تجاوز الانقسامات الأيديولوجية على المستوى الوطني من خلال التركيز على تقدم البحث التخصصي ضد الروتينات الفكرية المحلية (Raymond, 2013). على مستوى آخر، نظرًا إلى تعدد تقاليده الأكاديمية وارتباطاته المتعددة بالحقول العلمية العابرة للحدود، شكل لبنان أرضًا خصبة لتداول براديغمات (Paradigms). إذ أظهر أنه مكان لتهجين المعرفة واستكشاف القضايا المبتكرة. فعلى سبيل المثال، مثلت الأبحاث الحضرية في نهاية الحرب مجالًا مبتكرًا جدًا لإنتاج المعرفة، تقع على مفترق طرق ديناميات البحث الدولية والقضايا السياسية والاجتماعية والفكرية الخاصة بالبلد الذي يشهد إعادة إعمار. من دون الوقوع في السذاجة مقابل البنية المهيمنة للتبادل العلمي الدولي، يبقى أن العديد من مجالات المعرفة يمكن أن تؤدي في لبنان إلى مثل هذه اللقاءات ومثل هذه الابتكارات، إذا تمت معالجة أوجه عدم اليقين البنيوية التي تؤثر في نشاط البحث نفسه.

يتضمن، هذا الكتاب، فصولًا مخصصة لتحليل تطور التخصصات الهشة أو التي تثير جدلًا، والفصول المتعلقة بالممارسات الحقيقية لمنتجي المعرفة (منطق النشر في المجلات التي حللتها كانديس ريمون، أو تلك المتعلقة بتقييم العمل الجامعي من جانب علي موسوي، أو تلك المرتبطة بتنظيم مؤسسة مثل معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية التي تدرسها هالة عواضة)، ما يكشف بالفعل الشكوك العميقة الناتجة من التوترات المختلفة التي ترتبط جميعها بين «داخل» و«خارج» التخصصات، وحيث يتبين أن الأخير هو الأكثر تحديدًا.

تشهد التطورات في العلوم الاجتماعية في لبنان على ضعف الاستقلالية وتبين أن «النضال من أجل احتكار شرعية كفاءة» لا يحدث في حقل مستقل كما افترض بيير بورديو (Bourdieu, 1976). لا تؤدي ساحات المعارك من أجل المعرفة (Long and Long, 1992) إلى زعزعة أي رؤية خيالية لـ «مجتمع علمي» مفترض فحسب، بل تظهر حدود الحقول التخصصية، بوجه خاص، أنها قابلة للاختراق للقواعد والمعايير والأدوات التنظيمية التي لم ينتجها الحقل الخاص بها. فعلى سبيل المثال، تظهر دراسة حول وضعية المجلات اللبنانية منذ الستينيات أن ترتيب قطاع النشر والمجلات قد أدّت دورًا بنيويًا في المجال اللبناني للعلوم الإنسانية والاجتماعية، في اللحظة نفسها التي كانت تتشكل فيها جمهرة (Massification) الأولى للتعليم العالي. في هذا الترتيب، تفوقت المجلات الفكرية العامة إلى حد كبير على المجلات العلمية المتخصصة في نشر العلوم الاجتماعية. إن طرق عمل هذه المجلات الفكرية العامة وازنت آثار تخصصات ممارسات العلماء الناجمة عن زيادة التخصص في المناهج الدراسية والشهادات الجامعية: فقد فضلت مزيجًا بين السياسي والعلمي، وبين الفكري والأكاديمي، مع الحفاظ على مسامية الحدود بين المجالات التخصصية المختلفة. بوجه عام، بعيدًا من جعل هذه القابلية لتأثيرات الخارجية عيبًا في تطور العلوم الاجتماعية، يبدو لنا على الضد من ذلك، أن نعود إلى المقارنة الأولية التي ترتكز على مراقبة فريدة للمنطق ولاستراتيجيات إنتاج المعرفة المأخوذة في كماشة مزدوجة.

تكمن التوترات الأولى، التي يلحظها المرصد اللبناني، في منطق تسليع المعرفة، في مواجهة عملية جمهرة التعليم، والمنافسة بين التعليم العمومي والتعليم الخاص والمكلف، وفي خفض قيمة شهادات العلوم الإنسانية والاجتماعية في أسواق العمل (Kabbanji 2012 Moussaoui 2014; ). وفقًا للبيانات التي قدمتها دانييل سكاف (Skaff, 2019)، يلتحق طلاب التاريخ والعلوم الاجتماعية (باستثناء أولئك الذين يتابعون مقررًا في الدراسات الإسلامية أو كلية الحقوق) بصورة أساسية في «القطاع المفتوح» في الجامعة اللبنانية، حيث لا تتدخل علامات البكالوريا ولا عوامل اقتصادية غير مباشرة (مثل تكاليف التسجيل)، وحيث تكون امتحانات القبول المعدة لفروع معينة غير انتقائية. من ناحية أخرى، تحتل تخصصات العلوم الاجتماعية مكانًة محدودة في الجامعات الخاصة الأكثر نخبوية[8]، وتختفي هذه المكانة في الجامعات «الموجهة نحو سوق العمل» (Kabbanji, 2012). وفرت الإدارات العامة والتعليم، لفترة زمنية طويلة، المنافذ المهنية الرئيسية لهذه التخصصات، والتي امتدت تدريجيًا إلى المنظمات غير الحكومية ووكالات التنمية عندما بدأ التوظيف العمومية في الركود (Moussaoui, 2014). لكن اليوم، أصبحت الهوة بين الحصول على دبلوم والحصول على عمل واضحة. ويمثّل ذلك قضية عامة، مثل التحركات الوطنية في عام 2019، كما كان الحال في مجتمعات أخرى في المنطقة (Emperador Badimon 2020). يتم التعبير عن الإحباطات النسبية بين الاستثمار الشخصي والعائلي في المسار الجامعي والوظائف والفرص بطرائق عديدة. إذ خاض الطلاب والمتخرجون احتجاجات في وسط العاصمة بيروت في الانتفاضة الشعبية في خريف 2019. وينعكس ذلك أيضًا في إعادة تموضع مهن العلوم الاجتماعية في مجالات المعارف التطبيقية وتقديم الخبرة والاستشارات.

لا تعَدّ ظاهرة استثمار أساتذة الجامعات والباحثين في سوق الخبرة حديثة في لبنان ويعود تاريخها على الأقل إلى الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات وما تلاها من انخفاض حاد في قيمة الأجور. إن ممارسة الخبرة – وهي شكل آخر لتسليع المعرفة – مكّنت قبل كل شيء هؤلاء الفاعلين من تأمين دخل إضافي كبير في بعض الأحيان (على حساب سيطرتهم على أجنداتهم البحثية). ولكن، في مواجهة الصعوبات المتزايدة في الوصول إلى الوظائف الجامعية والوظائف العامة، فإنها تمثل الآن منظورًا مهنيًّا متكاملًا، بناءً على مجموعة كاملة من الوظائف (مستشار مستقل أو موظف من قبل مكتب دراسات، أو معدّ لدراسات ومهام في مؤسسة بحثية أو منظمة غير حكومية). إضافة إلى هذا الاتجاه، هناك عدم تناسب بين التمويل المتاح للتنمية مقابل وذلك المخصص للبحث الأكاديمي البحت، إن وجد. والنتيجة هي تحول تدريجي في المهارات وتفضيل الأنشطة البحثية خارج المؤسسات الأكاديمية. تستدعي هذه النزعة التشكيك في المكانة التي تحتلها الجامعة في الحاضر والمستقبل في إنتاج المعارف الاجتماعية: بعيدًا من القدرة على المطالبة بالاحتكار في مسائل البحث الاجتماعي، هل يحكم على العلوم الاجتماعية أن تصبح المزود البسيط للموارد البشرية لنشاط يحدث بشكل رئيسي خارج أسوارها؟ تعالج الفصول التالية، دور الدراسات الحضرية وعلوم الاتصال والمعلومات أو حتى العلوم السياسية، في إعادة تشكيل المجالات التخصصية خارج الأسوار الجامعية. أكدنا أعلاه ما ينطوي على الممارسات الشخصية للبحث. سنركز هنا على آثار هذه العملية في مجموعات المعرفة التي تنظم نفسها في بيئات مهنية متغيرة. بيتي جيلبر – سليمان تظهر كيف تنشأ علوم الإعلام والاتصال وتتمأسس في شكل كلية في الجامعة اللبنانية في بوتقة المطالب والاعتراف بمهنة «الصحافي». تعتبر التفكير في المدينة، التي عالجها إريك فيردي، مثالًا صارخًا آخر على الصلات الواضحة بين الخبرة والتخصص والاستخدامات العملية للعلوم الاجتماعية. إذا كان التحاق العلوم الاجتماعية في خدمة التخطيط الحضري محدود في نهاية المطاف، فإنه يسمح بالتأكيد، في لبنان، بعلوم تشاركية ونقدية لسياسات المدينة. تنطلق المعرفة من الجامعة، غير أنها تشكّل موردًا للنشاط العام، والالتزام المدني.

تقود مسألة الخبرة التفكير نحو نوع ثان من التوتر، فئة ثانية من علاقات التبعية التي لم تعد تتشكل عند الارتباط بالمجال الاقتصادي، ولكن مع المجال السياسي. تلقي استطلاعاتنا في الواقع الضوء على بعض المبادرات التي أثارتها خيبات الأمل الناشئة عن الجامعة فيما يتعلق بإنشاء مراكز أبحاث أو أشكال أخرى من الأنظمة الهجينة التي تحاول، كل على طريقتها الخاصة، تسوية مسألة فائدة العلوم الاجتماعية بوضعها في خدمة العمل السياسي أو الاجتماعي. فبعض المنظمات الأكثر دينامية وابتكارًا – سواء كانت جمعيات مثل المفكرة القانونية أو دعم لبنان، أو شركات استشارية غير ربحية مثل ستوديو أشغال عامة - ترى البحث كأداة للتدخل الاجتماعي والنشاط. توفر البيانات الناتجة من المسح الميداني، مثل النتائج الأخرى للبحوث الأصلية، موارد حاسمة لنشاطاتهم الالتزامية. يعيد ممارسة البحث الميداني إحياء نمط مفضّل لإضفاء الشرعية على قضاياهم من خلال التحركات التي حدثت في أعوام الألفين عندما لا يكفي مجرد التظاهر بـ «التحدث باسم» (المواطنين، الذين لا صوت لهم… إلخ) (Karam, 2006). من المؤكد أن إدراج النشاط البحثي في ​​آليات المدافعة أو الناشطة لا يخلو من قيود جديدة. وهكذا، على سبيل المثال، هناك توتر الذي لا يمكن حله بين توقيت النشاطات المختلفة للبحث الأكاديمي وشكل البحث التطبيقي حيث تتطلب احتياجات قضية ما القدرة على استغلال النتائج بسرعة. يؤدي ذلك أيضًا إلى علاقة أكثر عملية بالموارد النظرية التي توفرها التخصصات. ومنطق إنتاج المعرفة هذا أن الارتباط بالمسائل ذات الطبيعة السياسية لا يؤدي بالضرورة إلى الابتعاد عن المتطلبات الإبستمولوجية والأخلاقية للعلوم الاجتماعية، بينما تجعل من الممكن إعادة الارتباط بالطموح النقدي للأخيرة.

أكثر كثيرًا من هذه الترتيبات التي يعتمد فيها تفعيل العلوم الاجتماعية إلى حد كبير على التثبيت المزدوج للممارسين في «مجال المشاكل» و«تحالفات المصالح» (لاستخدام صيغة إيريك فيردي) بين الساحات الأكاديمية والسياسية، فإن علاقات التبعية داخل القطاع الجامعي تمثّل نقطة الضعف الرئيسية والتحدي الرئيسي الذي تواجهه العلوم الاجتماعية اللبنانية. لقد أكدنا أعلاه التهديد الذي يتهدد قدرات جسم الأساتذة والباحثين في إعادة إنتاج نفسه خصوصًا في ظل انخفاض العدد خصوصًا في مراحل الشهادات العليا (ماجستير، دكتوراه). إضافة إلى هذا التهديد، هناك التهديد الذي تمثله الآليات غير المستقلة الموجودة في صميم الممارسات الأكاديمية المعتادة مثل تقييم الأقران، أو تلك التي تحكم الوصول إلى الوظائف الجامعية وتمويل الأبحاث والنشر. من الواضح أن استمرار سيطرة ظاهرة الرعاية السياسية والمجتمعية على المؤسسات الجامعية، والتي تجلت بوجه صارخ في الأزمة البنيوية للجامعة اللبنانية (الأمين، 2018)، تمثل أحد المخاطر الرئيسية التي تثقل كاهل العلوم الاجتماعية في لبنان، بما في ذلك في استخداماتها خارج الجامعة. تلامس الآثار المشوهة للممارسات الزبائنية أنماط توزيع السلطة الأكاديمية (التعيين في مناصب رئيس القسم، والعميد، والرئيس، والمشاركة في المجالس الاستشارية ولجان التقييم وتحديث البرامج، والقبول في أطروحة… إلخ.) وبناء المهن الجامعية (التوظيف، التعيين، التثبيت، الترقية). ومن ثم، لا تنحصر الصعوبات التي تواجه المجتمعات التخصصية لتشكيل هيئة (والدفاع، إذا لزم الأمر، عن مصالحها الخاصة) فحسب، بل تشمل الحدّ الدائم لقيمة رأس المال العلمي في اقتصاد الممارسات في مختلف الحقول التخصصية، لمصلحة الرساميل الاجتماعية المرتكزة على علاقات الولاء للفاعلين المهيمنين في المجال السياسي.

نريد أن نختم هذه المقدمة كدعوة لمزيد من استكشاف العوالم الاجتماعية للعلوم الاجتماعية في لبنان. أردنا أيضًا التركيز على طرائق جديدة للنظر في استخدام التخصصات وضرورتها في إلقاء الضوء على متغيرات مجتمعاتنا. وعلى الرغم من ذلك، فإن المشروع المشترك الذي صيغ بنتيجته هذا الكتاب ينتهي في سياق يزعج أكثر مما يوضح ثوابتنا وآفاق تطلعاتنا. يمرّ المجتمع اللبناني بانهيار اقتصادي غير مسبوق يصاحبه شبه انهيار نفسي وضعف في المؤسسات الاجتماعية. يهدد هذا الانهيار الاقتصادي بتسريع انسحاب الجامعات إلى وظيفتها التعليمية المهنية وتوجيه ضربة قاتلة لكل من التدريب البحثي والبحث نفسه (على الرغم من التشريعات الجديدة منذ عام 2014 التي تطالب الجامعات الخاصة بتخصيص ما لا يقل عن 5 بالمئة من ميزانيتها للبحث). دعونا نضيف العودة إلى تراكم الوظائف الذي اتسمت به الممارسات المهنية للأكاديميين اللبنانيين خلال حرب 1975-1990، مع «صراعات الاستثمار» (Lahire, 2004) التي يترتب عليها ذلك. بالطبع، ليست هذه المرة الأولى، تاريخيًا، التي تتغيّر فيها مهن المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا والجغرافيين، وما إلى ذلك، بسبب المآسي الجماعية. ومع ذلك، فإن ما تصفه الفصول التالية بطريقة مبتكرة هو الطريقة التي يمكن من خلالها تشكيل مفاصل وتحالفات جديدة بين المؤسسات الأكاديمية ومؤسسات المعرفة الأخرى (مثل المنظمات غير الحكومية، أو المؤسسات البحثية)، من خلال نفعية بناءة أو حدس مثمر أو اهتمام مشترك، حول الأساليب الجديدة لإنتاج وتعزيز العلوم الاجتماعية.

 

قد يهمكم أيضاً  أسلمة وتأصيل العلوم الاجتماعية: دراسة في بعض الإشكاليات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العلوم_الاجتماعية #علم_الاجتماع #العلوم_الإنسانية #مستقبل_العلوم_الاجتماعية #العلوم_الاجتماعية_في_لبنان #مستقبل_علم_الاجتماع_في_العالم_العربي #كتاب_مرآة_العلوم_الاجتماعية_اللبنانية_الفاعلون_والممارسة_والمعرفة_في_لبنان