يندر أن تكون المشاريع الكبرى نتاج جهد فردي، بل هي حاصل فعل جمعي، يضطلع به المهتمون بنجاح هذه المشاريع. والمراكز البحثية والفكرية ليست استثناء عن هذه القاعدة؛ فهذه المراكز بحاجة دائمة إلى سيولة مالية، لتقابل مستلزمات استمرارها ونجاحها.

لقد شهد الوطن العربي عدة محاولات لتأسيس مراكز فكرية وبحثية، من بينها دارا «المعرفة» و«الطليعة». كما صدرت مجلات سياسية وفكرية عديدة، لعل الأبرز بينها المعرفة والطليعة والموقف ودراسات عربية. وقد أقفلت تلك المؤسسات والمراكز البحثية أبوابها، بعد أن عجزت عن مواجهة الاستحقاقات المالية المطلوبة، لضمان استمرارها.

ولا شك في أن النهاية المأسوية لهذه المؤسسات هي مرآة للصعوبات التي واجهها مشروع النهضة العربية، في العقود الأخيرة، والتي لم تستثنِ أحداً، بما في ذلك مركز دراسات الوحدة العربية، الصرح الشامخ، الذي بقي القلعة الحصينة لفكرة القومية العربية، في ظل الضعف والهوان العربيين.

لقد أدى ضعف الخطاب القومي إلى تراجع فكرة الأمة العربية الواحدة على الصعيد العربي الرسمي، وغياب دور المؤسسات القومية، كجامعة الدول العربية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بها.

ومع التغير الذي شهده العالم في موازين القوى الدولية، وتراجُع دور المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، واستِعار ظاهرة العولمة، ولهاث النظام العربي الرسمي نحو الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لم يعد هناك حديث عن تكامل اقتصادي عربي، ولا عن أمن قومي جماعي أو معاهدة دفاع عربي مشترك.

وفي ظل تراجع العمل القومي، وغياب المؤسسات البحثية والعلمية، سادت ضحالة الفكر، وكان نصيب التربية والثقافة والتعليم في هذا التراجع كبيراً، حيث بات التركيز منصبّاً على تقديس الدولة القطرية، وترسيخ مؤسساتها على حساب القضايا المصيرية للأمة. وقد انتقل ذلك التراجع متسارعاً من بنية النظام العربي الفوقية، إلى البنية المجتمعية، حيث بات تأثيره واضحاً في أوساط الشبان والشابات، الذين أصبحوا أسرى لنزعة الاستهلاك، والأغاني والأفلام والبرامج الهابطة، على حساب الاهتمام بالقضايا القومية والوطنية. وأمام هذا الخواء لم تعد مواضيع الانتماء والهوية والمستقبل العربي، من القضايا الجاذبة لجيل الشباب.

والواقع أن إعصار الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، في نيويورك وواشنطن، مثل نقطة فارقة في تصعيد الحرب على الأمة، والهجوم على الهوية ومرتكزات الثقافة العربية.

لم يعد الهجوم على الثقافة العربية، منذ ذلك التاريخ، محصوراً بالمستشرقين والأكاديميين، والصهاينة وبعض الفعاليات الفنية والجهات المعادية للأمة في الغرب الاستعماري، بل صار حالة عامة، تصاعدت بشكل دراماتيكي، فتحولت إلى احتلالات عسكرية للأرض العربية، ومن ثم لتصبح عدواناً على الذاكرة، باعتبارها الخط الأول في الدفاع عن الهوية، التي هي الحاضن لما تختزنه الأمة في وجدانها من انتماء وأفكار ومواريث.

إن هذا الواقع المأسوي، يلقي على عاتق المثقفين العرب إعادة الاعتبار لقضايا الانتماء والهوية، والمشروع النهضوي العربي، والدفاع عن قضاياها العادلة للأمة، والتحديات التي تواجهها، وإيجاد مخارج وآليات لتجاوز الأزمة الراهنة، وصولاً إلى صياغات جديدة، تسهم في تعضيد العلاقات التكاملية بين العرب: اقتصادية وسياسية وثقافية.

إن تحقيق ذلك هو بالتأكيد مسؤولية وطنية وقومية. وينبغي الإقرار أنه من من الأهمية والضخامة، بحيث لا يمكن لأشخاص محدودين الاضطلاع به. إن تحقيقه هو رهن بعمل جماعي، ليس فرض كفاية. إنه مسؤولية المؤمنين بقدر أمتهم، وبقدرة هذه الأمة على أن تخرج من جديد من بين ركام الآلام والتحدي لأخذ مكانها اللائق والفاعل بين الأمم.

إن مسؤولية المثقفين العرب، في ظل حالة التداعي الراهنة، هي مسؤولية مركّبة ومضاعفة. مركّبة ومضاعفة من حيث إن عليها مسؤولية تجاه التاريخ، من خلال التركيز على ثوابت الأمة، وإعادة الاعتبار لموروثها الحضاري، باعتباره الحاضن الرئيسي للذاكرة الجمعية للأمة.

وفي هذا السياق، أمام المثقف العربي الملتزم تحقيق مهمتين شاقتين: الأولى، العمل على توطين فكرة الهوية العربية وإعادة الاعتبار لها، بوصفها المخزون الحضاري للأمة القادر على حفز قدراتها للانطلاق من جديد.

والثانية، هي التصدي لموجات التعصب والكراهية وتعميم ثقافة الانفتاح والتسامح، وتعريف العالم بجوهر المواريث العربية، ووضع هذه المواريث في سياقها التاريخي، وتصحيح ما علق في الأذهان من صور خاطئة عن هذه المواريث، وكذلك عن الثقافة العربية لدى بلدان العالم، وبخاصة البلدان الغربية، تلك هي المهام المطلوبة من المفكرين والباحثين العرب للدفاع عن الأمة.

أما الشق الآخر من المهام التي ينبغي أن يضطلع بها المثقفون والمفكرون العرب، فتتصل بما له علاقة بصناعة المستقبل. وفي هذا الاتجاه، ينبغي من جهة، التركيز على إعادة الاعتبار للتضامن والعمل العربي المشترك، على قاعدة الالتزام بالثوابت القومية، وعدم التفريط بالحقوق، وبشكل خاص ما يتعلق منها بالحقوق العربية في فلسطين، وتبيان أهمية قيام تكتل عربي واسع، يجعل فعلنا مقتدراً، على تنمية بلداننا وصيانة حريتها، باستقلالية وعلى مختلف الصعد، وبما يمنحنا إمكانات هائلة في الساحة الدولية.

من جهة أخرى، المساهمة في تربية النشء الجديد، من خلال استخدام أحدث التقنيات والوسائل العلمية، من أجل تعميق فكرة الانتماء للثقافة والموروث العربيين، وإعادة صياغة مفهوم الهوية، بربط الموروث العربي بالتحولات الإنسانية الكبرى التي تحدث من حولنا، والدخول في عصر تنوير عربي جديد، يتفاعل مع ما هو مستجد علمياً وإنسانياً.

إن المطلوب في هذه المرحلة هو تنشيط الذاكرة العربية، وتعميق جدل العلاقة بين التاريخ بوصفه روح الأمة، والجغرافيا، بكل تجلياتها، باعتبار حضورها تجسيداً عملياً لإرادة الأمة، ولثقلها السياسي والاقتصادي ومهارة أدائها في المواجهة الحضارية، وقدرتها على التقدم بثبات وجدارة ووعي.

ينبغي عدم التقليل من أهمية التوجه للرأي العام العالمي، وبوجه خاص للجاليات العربية بالمغترب؛ من أجل خلق رصيد مساند لقضايانا الوطنية والقومية، ولحقّنا في التنمية والتقدم وتقرير المصير، وتصحيح ما علق في الأذهان من صور سلبية، أفرزها التضليل الاعلامي المعادي لتطلعاتنا في الحرية والاستقلال وبناء النهضة العربية، وعملت الدعاية الصهيونية على الترويج لها وترسيخها. وسيكون لزاماً علينا في هذا السياق، أن نسهم في جَسر الهوة الثقافية الواسعة بين أمتنا، ومختلف شعوب العالم، وأن نظهر ثقافة التسامح واحترام الرأي والرأي الآخر في منظومة فكرنا العربي.

إن مهمات كبرى كهذه بحاجة إلى عمل ثقافي كبير، يستخدم أحدث ما هو متوافر من تقنيات العصر، وبوجه خاص تقديم الدعم بمختلف أشكاله، لما هو قائم من مراكز أبحاث متخصصة عدة، تهتم بالنشر بالعربية وباللغات الحيّة، والتشجيع على تأسيس مراكز بحثية متخصصة، في مختلف الجوانب العلمية. وإصدار دراسات ودوريات وتنظيم ندوات في مختلف قضايا النهضة، وشيْد مواقع على الشبكة العنكبوتية، وقنوات فضائية متسقة مع هدف مشروع النهضة يسهم في إدارتها والإشراف عليها أكاديميون ومختصون بالشأن العربي العام، وبالولوج إلى عصر تنوير ونهضة جديدين، مع التزام واضح وصريح بالثوابت الوطنية والقومية للأمة.

وسيكون جوهرياً ومفيداً، التركيز على المحاور الرئيسية لمشروع النهضة: الهوية؛ التنمية المستقلة؛ الحرية؛ الديمقراطية؛ العدالة الاجتماعية؛ قضايا التكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين البلدان العربية؛ وقضايا العصر، وحقوق المرأة بأفق تنموي وحضاري وتنويري.

على أن تحقيق مثل هذه المشاريع، كما أسلفنا، ليس بالعملية السهلة، من حيث تكلفتها والقدرات الفنية المطلوب ضخها من أجل إنجازها. وهي بالتأكيد مشاريع ضخمة ليس بمقدور أفراد تنفيذها بقدراتهم الذاتية، من دون دعم من المؤسسات الرسمية والهيئات غير الرسمية المقتدرة، بمن في ذلك رجال الأعمال، والمؤسسات الاقتصادية.

إن المؤسسات والهيئات التي تضطلع بتنفيذ هذه المشاريع، هي في واقعها غير ربحية، على الرغم من أهميتها وحيويتها وضخامتها. إنها تعتمد في الغالب، على التبرعات والجهد التطوعي، وما يتوافر لها من مبيعات إصداراتها. لذلك فإنها غالباً ما تكون عاجزة عن أداء المهام المنوطة بها، ما لم يتوافر لها المال المطلوب.

وعلى هذا الأساس، فالتمويل مسألة أساسية لا غنى عنها لإنجاح هذا النوع من المشاريع. ولعل في موروثنا العربي سبل الخروج بحلول عملية، لمعالجة مشكلة نقص رؤوس المال المطلوب ضخها لتنفيذ تلك المشاريع.

فقد حرض الدين الإسلامي الحنيف على القيام بوقف الأملاك والمزارع وغير ذلك مما يدرّ المال لتوظيفها في سبيل البر والإحسان. وليس من شك في أن الدفاع عن الهوية والانتماء، وتنشيط الذاكرة الجمعية للأمة، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والعمل على إنجاز المشروع النهضوي العربي، هي أمور نبيلة ومحمودة وتأتي في السياق الذي شجعت عليه الشريعة السمحاء. ولا مناص  إذا ما أردنا لهذه الأمة أن تحافظ على هويتها وثوابتها القومية والوطنية، من الانطلاق في بناء مشاريع النهضة، وتوفير ما يستلزمه ذلك من أدوات وموارد بشرية لتحقيق هذه الأهداف.

إن هذه الأسباب تدفعنا لمناشدة المهتمين بتاريخ ومستقبل أمتهم، من رجال أعمال وفكر ومثقفين وأهل خير، أن يشمّروا عن سواعدهم، كل من موقعه، لإقامة وقفيات لدعم مراكز البحث العلمي، والعمل على توسيع دائرة هذه المشاريع. وهي مشاركة لا يستهان بها إن أردنا أن يكون لنا موقع لائق بنا في مسيرة الإنسانية المتجددة إلى أمام.