المقالة الحالية هي لمتخصّص ياباني بارز في السياسة العربية المعاصرة عامة، وتاريخ مصر الحديث والمعاصر على نحو خاص. إنه البروفسور إيجي ناغاساوا، الأستاذ في جامعة طوكيو، وأحد الباحثين البارزين في قضايا الوطن العربي في «معهد الدراسات المتقدمة حول آسيا». ولد عام 1953، وتخصص في الشرق الأوسط. وهو معروف في اليابان بكونه أحد المستعربين المتخصّصين بالوطن العربي. منذ تخرجه في كلية الاقتصاد التابعة لجامعة طوكيو عام 1976، نشر ناغاساوا العديد من الدراسات عن جوانب متعددة للمجتمع المصري الحديث والمعاصر، إلى جانب دراسات أخرى عن الشرق الأوسط. وبعد عمله لمدة تسعة عشر عاماً في «معهد الاقتصاديات النامية» في طوكيو، انتقل في عام 1995 إلى «معهد الثقافة الشرقية» التابع لجامعة طوكيو أستاذاً مشاركاً. وخلال عامي 1998 و1999، عمل مديراً للمركز البحثي التابع لـ «جمعية اليابان لتطوير العلوم» في القاهرة. وفي عام 1998، نال لقب الأستاذية في جامعة طوكيو، وهو اللقب الذي يحمله حتى الوقت الحاضر. المقالة الحالية ترجمة لبحث شارك فيه البروفسور ناغاساوا في المؤتمر الثلاثين للرابطة اليابانية للدراسات الشرق أوسطية، في جلسة خاصة عن «أفق جديد للدراسات الشرق أوسطية»: The 30th Annual Meeting of Japan Association of Middle East Studies at Tokyo International University, Special Session: A New Horizon of the Middle East Studies,11 May 2014.

عاش البروفسور ناغاساوا في مصر، وتجوّل في بلدان عربية وشرق أوسطية عديدة، وقاد مشاريع بحثية بارزة عن الوطن العربي. له العديد من المؤلفات والمقالات المنشورة باللغتين اليابانية والإنكليزية، منها كتابه المعمّق مصر الحديثة بعيون يابانية، الصادر في مصر عام 2005. في المقالة الحالية، يفكك البروفسور ناغاساوا فلسفة الثورات العربية من بدايات القرن العشرين وحتى ثورات الربيع العربي، التي انطلقت من تونس ومصر، ويحاول أن يحدد، برؤية سوسيو - تاريخية، وبمنظور اقتصادي، أسباب الإخفاقات في مشروع الدولة العربية المعاصرة. والمقالة الحالية تمثل رؤية أكاديمية محايدة ذات نكهة جديدة، لأنها تبتعد من تحليلات المركزية الأوروبية. وربما أن أحد عناصر القوة في هذه المقالة هو أنها تستند إلى الرؤية الأكاديمية والمشاهدة الشخصية. أقدم هذه المقالة إلى القارئ العربي لتكون إضافة جديدة لفهم واقعنا العربي المتشظي.

مقدمة:

تهدف المقالة الحالية إلى دراسة تطور الدول القومية في تاريخ العرب الحديث، بالاهتمام بدور الثورة: الانتفاضة أو الثورة الشعبية، ودراسة مستقبل الأنظمة العربية القائمة لما بعد الاستعمار في البلدان العربية. تتألف المقالة من الأقسام الآتية:

1 – المعنى المزدوج للثورة.

2 – الثورة ونظام الدولة العربية.

3 – ثلاثة عهود للثورات في تاريخ العرب الحديث.

4 – ثورات أخرى جديرة بالاهتمام في الحقب المتوسطة.

5 – دور أنظمة ما بعد الاستعمار.

6 – الإنجازات وأزمة الأنظمة لما بعد الاستعمار.

7 – مستقبل إصلاح النظام في عهد الثورة الجديدة.

1 – المعنى المزدوج للثورة

أصبحت الثورة مصطلحاً شائعاً لتفسير الظاهرة السياسية والاجتماعية التي حدثت أولاً في تونس ومصر، ثم انتشرت مباشرة إلى بلدان عربية أخرى قبل ثلاث سنوات. ويمكن القول تاريخياً إن للثورة معنيين: «الغضب الشعبي» (تنوع من الحركات الثورية، التمرد، الانقلاب، الشغب وما إلى ذلك)، و«الثورة» (تغيير النظام، أو تحول النظام السياسي يرافقه تغييرات اجتماعية واقتصادية). وعنى هذا المصطلح أساساً الصنف الأول فقط، لكنه تحول في ما بعد نحو المعنى الثاني في خمسينيات القرن العشرين، وعلى نحو خاص بعد الثورة المصرية في عام 1952. وعلى الرغم من هذا التغيير التاريخي، لا تزال الثورة تستخدم للتعبير عن المعنيين المذكورين أعلاه. وأود التشديد على أنه في ما يخصّ التساؤل عمّا إذا كانت الاضطرابات الشعبية الأخيرة ستتحول إلى ثورات، نستطيع القول إن ذلك لا يزال بالتأكيد سؤالاً مفتوحاً للنقاش.

2 – الثورة ونظام الدولة العربية

يشير هذا التغيير في معنى الثورة، وهذا التقلب والالتباس في مفهومها، إلى دور فريد للحركات الشعبية في تاريخ العرب الحديث. فللحركات الشعبية تأثير كبير، سواء في تشكيل الدول المستقلة في المنطقة العربية، أو في تطور نظام إقليمي لهذه الدول المستقلة، أي نظام الدولة العربية. كان هذا النظام هو نظام الدولة العربية الذي طور وحمى نمو الدول القومية في هذه المنطقة فقط كنوع من الحاضنة لها. ففي عملية التطور هذه، أدت العروبة، وهي أيديولوجيا إقليمية، دوراً مهماً في ربط كل دولة عربية مستقلة ضمن هذا النظام الإقليمي الفريد. لقد أنكرت القومية العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وهي صيغة راديكالية من العروبة بوصفها نوعاً من الأيديولوجيا العابرة للدولة الوطنية، «الحدود»الوطنية القائمة بغية تحقيق هدف الوحدة العربية، ومن الناحية الواقعية تقوية وترسيخ أسس كل دولة مستقلة.

3 – ثلاثة عهود للثورات في تاريخ العرب الحديث

يمكن أن نعترف بثلاث موجات للثورات التي اجتاحت جميع المنطقة العربية في التاريخ الحديث: الثورات الأولى التي حدثت خلال وبعد الحرب العالمية الأولى وحتى عشرينيات القرن العشرين، وعهد الثورات الثانية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى نحو خاص في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وعهد الثورات الثالثة في الوقت الحاضر في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

أدت الثورة العربية (1916 – 1919 ) التي سميت منذ البداية بهذا الاسم، إلى نتائج كارثية، بالتقسيم الاستعماري للمشرق العربي، الذي كان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ووضع تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي. ويجب أن ينظر إلى هذه الثورة كنوع من «الثورة البدائية»، التي رافقتها أيديولوجية قومية جنينية، أو بمعنى آخر، العروبة في حقبة النهضة، إلا أنها تعرّضت للتلاعب، وقمعت من القوى الاستعمارية. وقد مهد الفشل للثورات الأخرى التالية بعد الثورة العربية، مثل ثورة 1919 في مصر، والثورة العراقية في عام 1920 ضد الحكم البريطاني (الثورة العراقية الكبرى)، والثورة السورية الكبرى (1925 – 1927)، وعبَّدَ الطريق لترسيخ وإعادة تأسيس الحكم الاستعماري، وفي الوقت ذاته لقيام مؤسسات الدولة الحديثة. ويمكن ملاحظة العملية ذاتها في الشمال الأفريقي الفرنسي (المغرب العربي). ومن الجدير بالاهتمام أن هذه الأنظمة الاستعمارية لما بعد الحرب، أصبحت أساساً للدول العاهلية القائمة في المنطقة العربية.

حدثت الثورات العربية الثانية كسلسلة من الثورات الوطنية، وهي في الحالات الغالبة ثورات جمهورية، تهدف إلى استعادة السيادة الوطنية، وتفكيك أو تأميم الأنظمة الاستعمارية السابقة. وكان ذلك جزءاً من حركات التحرر الوطنية في آسيا وأفريقيا في حقبة عملية تفكيك الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وأدت هذه الثورات الوطنية في البلدان غير الأوروبية الدور ذاته للثورة الشعبية (الثورة البرجوازية) في التحول من الدولة المطلقة إلى الدولة القومية في أوروبا. وظهرت غالبية الدول الوطنية القائمة في آسيا وأفريقيا من خلال عملية التفكيك هذه بتحول الأنظمة الاستعمارية السابقة. فقد تأسس في المنطقة العربية على نحو خاص نوع فريد جديد من نظام الدولة ما بعد الاستعمار من خلال هذا التحول. وتعدّ الدولة الناصرية في مصر في ستينيات القرن العشرين نموذجها المثالي، لما يدعى نظام الاشتراكية العربية، للبلدان المجاورة، لما بعد الاستعمار. ويبدو أن ثورات النوع الثالث المستمرة الآن تبحث عن تحول أساسي لهذه الأنظمة لما بعد الاستعمار التي عاشت لأكثر من خمسة عقود.

4 – ثورات أخرى جديرة بالاهتمام في الحقب المتوسطة

يمكن أن نلاحظ ثورات مهمة في الحقب المتوسطة تربط عهود الثورات الثلاثة المذكورة أعلاه. فالثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936 – 1939) كانت ثورة المرحلة التي ظهرت بين حقبتي الثورتين الأولى والثانية. وقد أدى قمع هذه الثورة إلى التمهيد للنكبة في عام 1948. كما أدت هذه الصدمة والمأساة الكبيرة للعرب الفلسطينيين إلى انفجار سلسلة من الثورات الوطنية في الحقبة الثانية للثورات على طول المنطقة العربية. وكان لهذه الثورة أيضاً تأثير خطير في التغييرات الأيديولوجية في المنطقة العربية. فقد تحولت العروبة بعد هذه الثورة (1936 – 1939) من أيديولوجيا جنينية يدعمها عدد ضئيل من المفكرين إلى أخرى أكثر راديكالية وشعبية: القومية العربية. وكانت هناك أيديولوجيا أخرى في طريقها إلى التشكّل في هذه الحقبة. كانت هذه الأيديولوجيا هي الإسلام السياسي. فقد أصبحت جمعية الإخوان المسلمين في مصر الحركة الأكثر بروزاً ونجاحاً لهذا الاتجاه في عهد الثورة الثانية.

وعلى نحو تالٍ لعهد الثورة الثانية، اندلعت الثورة الإيرانية (انقلاب) في عام 1979 خارج المنطقة العربية. وقد عززت هذه الثورة على نحو أوسع اتجاه الإسلام السياسي، وسببت خطراً لأنظمة الدول العربية لما بعد الاستعمار. وفي هذه الحقبة أيضاً، انفجر غضب شعبي واسع بما أطلق عليه بالانتفاضة في فلسطين المحتلة (1987 – 1993 ). لم يطلق على هذا الحدث ثورة، لأنها أظهرت شكلاً جديداً من الحركة الشعبية، ويمكن الاعتراف بها بكونها سابقة للثورات الثلاث الحالية. وهناك جدل في ما إذا كانت هذه الحركة ستصبح قادرة على فتح طريق جديد يؤدي إلى بناء دولة وطنية في الأقاليم المحتلة في فلسطين، أو أنها ستندمج في خطة للاحتلال الاستعماري.

5 – دور أنظمة ما بعد الاستعمار

كافحت أنظمة ما بعد الاستعمار في البلدان العربية لتحقيق مهمتين: تطوير نظام الدولة الوطنية، وبناء اقتصاد وطني. ففي ما يخصّ النقطة الأولى، حاولوا حلها بالتأميم (أو حصر) الأنظمة الاستعمارية السابقة كما لو كانت «قوى إدارية مجهولة الهوية». إلا أن أنظمة ما بعد الاستعمار الجديدة ورثت الأنظمة الاستعمارية القديمة، بوصفها «حاضنة محلية للسلطات»، واستمرت بترويج المركزية الإدارية.

وإلى جانب هذا التغيير الإداري والمؤسسي، تطلب النظام الجديد تجديداً ثقافياً واجتماعياً لخلق «شعب متجانس» يسمح بتكوين أمة. ولتقوية الدولة الوطنية، حاولوا إيجاد أو حتى ابتكار ثقافة أصيلة متجانسة، وخلق لغة رسمية مشتركة. إن عملية اختراع ثقافة قومية أصيلة تكون مصحوبة أحياناً بنتائج سلبية تستبعد العناصر «غير القومية» من الدولة والمجتمع القومي. وفي حالة الاشتراكية العربية، اِستُخدِم مفهوم الشعب الُمشترك الذي يبدو أنه يمثل المواطن المتجانس قصداً للعناصر غير القومية: المجموعات ذات الأصول الأجنبية والطبقات المستغَلَة. وكان الدور التاريخي الثاني لأنظمة ما بعد الاستعمار هو تأسيس الاقتصاد الوطني المستقل. لقد حاولوا إصلاح بنية التبعية الاقتصادية الاستعمارية، وعلى نحو خاص اقتصاد المساحات الزراعية الواسعة للمنتجات البدائية، مثل اقتصاد تصدير القطن في مصر. ولتنويع النشاطات الاقتصادية، اندفعت هذه الأنظمة نحو تبني سياسة التأميم، وتأسيس نظام السياسات التنموية.

كان من المتوقع أن تؤدي دولة ما بعد الاستعمار كنظام تنموي دوراً جوهرياً بكونها وكالة للاقتصاد الوطني. وكانت إحدى الوظائف المهمة لهذه الأنظمة تنسيق مصالح الطبقات المختلفة. وفي خضمّ هذه العملية التنسيقية، كان من المتوقع أن يؤدي التأميم وظيفته بكونه وسيطاً أيديولوجياً لحل الصراع الطبقي الناتج من العملية التنموية. وكان الجانب الآخر المهم لتحول أنظمة ما بعد الاستعمار إعادة توجيه علاقات الدولة في المنطقة العربية. وبدأت الدول العربية المستقلة بالاعتراف بكل أمة عاهلية، وقلصت علاقاتها مع القوى الاستعمارية. ويمكن وصف هذا التغيير بكونه تفكيكاً للنظام الإقليمي، المسمى «نظام الدولة العربية».

6 – الإنجازات وأزمة الأنظمة لما بعد الاستعمار

من السهل كشف الفجوة الكبيرة بين مفهوم وغرض الدور التاريخي لأنظمة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية وأدائها الفعلي. فالموجات الثلاث للثورات المستمرة في الوقت الحاضر جاءت استجابة لسوء أداء أنظمة ما بعد الاستعمار، أو فشل تجاربها. فهذا الفشل والأداء غير المقنع هو الذي أدى إلى تحدّي الشعوب العربية. فالشعارات المشهورة لهذه الثورات العربية الحالية: الحرية، والكرامة، والخبز (العِيش باللهجة المصرية) التي تشير إلى محتوى هذه التحديات.

وفي ما يخصّ المهمة الأولى لتطوير نظام الدولة القومية، فقد انعكس الأداء السيئ لكل حكومة في الغضب الشعبي واليأس، لأنهم ظلوا مجرّدين من الحرية والكرامة. وقد أخفت أنظمة ما بعد الاستعمار الانشقاقات الاجتماعية العميقة، أو اخفت الانقسامات في بنية الدولة القومية، وأبرزت الأسطورة القومية للانسجام الثقافي. وفي ظل هذا المظهر الأيديولوجي الكاذب للاندماج الوطني، نمت مجموعات أو طبقات جديدة ذات امتيازات على حساب التعبئة الاجتماعية الراكدة. وتشير الحوادث المتكررة للصراع الطائفي والعرقي إلى فشل الاندماج الوطني. والفشل الأكثر خطورة هو حالة العراق ما بعد الحرب، حيث حدثت سلسلة غير منتهية من الصراعات التي نتجت من انهيار النظام الشمولي. وتظهر لنا حالة العراق على نحو واضح أن الخلاف الاجتماعي الخطير لم يختف بأيديولوجيا زائفة وأجهزة قمعية محكَمَة التنظيم فحسب، بل إنها تعمّقت وتعقدت أكثر خلال النظام الشمولي لصدام حسين.

ويتضح أيضاً الأداء السيئ لـ المهمة الثانية لبناء اقتصاد وطني. فقد تعرضت السمة التوجيهية لـ «الدولنة» في الاشتراكية العربية للنقد، لكونها السبب الجوهري لهذا الفشل. والأنكى من ذلك، أن النتيجة الفعلية هي تأجيل الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ في السبعينيات ولم يحقق شيئاً. وكانت النتيجة الوحيدة هي «خسارة عشرة أعوام» من الثمانينيات. فقد أوقفوا أي إصلاح جدّي. ولم يستطيعوا استبدال الجمع المتناقض بين الشعبية والتنمية في الاشتراكية العربية، وأسهموا فقط في دعم الأنظمة الشمولية. وفشلوا حتى الوقت الحاضر في تأسيس آلية تنسيق ذاتية للتوسط بين مصالح الطبقات المختلفة. كان ذلك مخيّباً لآمال المصلحين في البلدان العربية، على الرغم من أنهم درسوا التحديات التي تواجههم في عهد الازدهار النفطي. وأصبح الاقتصاد العربي يواجه فعلياً تخريباً في أغلب الحالات لعبئين مقيّدين: التركة السلبية للاشتراكية العربية، والميل الجديد إلى الاقتصاد الريعي.

وفي الوقت ذاته، سرّع تأخر الإصلاح السياسي والاقتصادي في ظهور حركات راديكالية للإسلام السياسي معادية للنظام. ومثّل ظهور الإسلام السياسي نوعاً جديداً من المثالية، أو أيديولوجيا أخرى عابرة للقومية، لتحل محل القومية العربية عتيقة الطراز، وهي أيديولوجيا متهاوية فقدت تأثيرها بعد هزيمة العرب في حرب عام 1967. فبعد هذه الهزيمة (النكسة وفقاً للأدبيات العربية)، تنحّت القومية العربية الباسلة جانباً لصالح العروبة المحافظة التي دعمت الاعتراف المتبادل بالأنظمة القائمة. وفقد نظام الدولة العربية قوته المتماسكة، وأصبح كل عضو في هذا النظام يشدد على عروبته الخاصة به. وقد أَخَر هذا الاتجاه الرجعي في النظام الإقليمي الإصلاحات الداخلية لأعضائه. ولم يوضع برنامج للتعاون الجدّي في التنمية الاقتصادية على مدى عقود.

7 – مستقبل إصلاح النظام في عهد الثورة الجديدة

عند مراجعة تاريخ الثورة والدولة القومية في المنطقة العربية، يجب أن تكون الفرضية الآتية أخاذة للعصر الحاضر بأن نوعية الحركة/الثورة الشعبية في كل عهد مؤثرة في صفة النظام الذي يأتي بعد الثورة. فأصول النقص والعجز في أنظمة ما بعد الاستعمار استمدّت من الحركات/الثورات الشعبية السابقة في عهد الثورة الثانية. فقد كانت الحركات الشعبية في عهد الثورة الثانية تميزت أحياناً بالشغب الجماهيري (حادثة حريق القاهرة 1952 قبل انقلاب الضباط الأحرار) أو العنف المباشر في الشوارع (أحداث الموصل وكركوك في عام 1959). فالشمولية أو الطبيعة القاسية لأنظمة ما بعد الاستعمار نتجت من الوضع العنيف والصارم لسياسة الجماهير العربية المتورطة في سلسلة من أحداث الشغب، وهجمات الشوارع، والاغتيالات والانقلابات العسكرية.

ونجد في الثورة الحالية المستمرة طبيعة جديدة مبتكرة للحركات الشعبية، متميزة من الأشكال العتيقة الطراز لسياسة الشوارع. وهي ليست ابتكاراً ذكياً للشباب الثوري فقط، بل إنها أيضاً نتيجة لتراكم تجارب الحركات الاجتماعية في العقود الماضية، وهي كذلك انعكاس للتغير المجتمعي في المجتمع العربي. ومهما يكن، ليس من المؤكد أن الثورة الجديدة الحالية المستمرة ستؤدي إلى الطريق الصحيح لإنجاز أهدافها: الحرية، والكرامة، والخبز. بمعنى آخر، ما زالت المهمتان اللتان شكلتا هدفاً لأنظمة ما بعد الاستعمار المذكورة أعلاه، باقيتين كتحديات مهمة لعهد الثورة الجديدة.

بيّنت التغيرات السياسية المرتبكة في السنوات الثلاث الأخيرة، عدم وضوح مستقبل الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلدان العربية بعد الحركات الشعبية. فقد أصيب الشعب بخيبة أمل من ضعف كل من «القوى اليسارية والليبرالية»، وعدم النضج السياسي للإسلام السياسي. حدثت نكسة الاتجاه الأخير بانهيار حكومة الإخوان المسلمين في مصر في السنة الأخيرة. وأظهرت أنهم فشلوا في كلا المهمتين بإصلاح نظام ما قبل الثورة (أو الجمهورية الأولى). وفضلوا أخيراً البحث عن فكرة خيالية لنظام إسلامي، من دون أن يحاولوا بدلاً من ذلك إنضاج نظام الدولة الوطنية القائم. أثارت الثورة العربية الجديدة مؤامرات معادية للثورية على المستويين: الداخلي والخارجي. والمنهج الآخر هو استخدام القوات العسكرية بتوظيف التدخل الأجنبي تحت اسم «مسؤولية الحماية» أو الانقلاب العسكري. ودعمت العروبة المحافظة مثل هذه المناهج، إلا أنه في الوقت ذاته، ظهر نوع جديد من العروبة خلال الثورة العربية، المتوقع كونها شبكة جديدة من التضامن الإقليمي. ومن المثير، إذا توقعنا حركة غير منظورة، أن تشكّل نظاماً إقليمياً جديداً في الشرق الأوسط في العهد الجديد للعولمة.

ومن وجهة النظر التاريخية، عُدَ نظام الدولة الوطنية حاضنة لقوة محلية لضمان حقوق الإنسان الفردية وأمن أفرادها. إلا أن هذه المهمة أو الدور التاريخي، تعتبر صعبة جداً لأغلبية الدول القائمة. لذلك، فان هذه الفجوات بين مفهوم الدور وأدائه الفعلي سبَبَ كثيراً من القلق والكوارث. وفي العصر الجديد للعولمة، يبدو أن تحقيق هذه المهمة يتطلب شكلاً جديداً من النظام الإقليمي يتعدّى حدود الدول الوطنية. وإن نضج الدولة الوطنية أو نموها المتسع سينجز بشبكة جديدة من النظام الإقليمي. وسيكون دور النظام الإقليمي في الشرق الأوسط مناقضاً لذلك الدور الخاص بالعروبة المحافظة التي تدعم نظام الاعتراف المتبادل للأنظمة القمعية. وستظل القضية الفلسطينية حاسمة لنظام الدولة الوطنية الإشكالي والنظام الإقليمي. وبغضّ النظر عن كيفية جعل ما يسمى حل الدولتين (الأمتين) فاعلاً، فإن مستقبل هذه القضية سيعتمد على إمكانية تشكيل هذا النظام الإقليمي الجديد.

 

يمكنكم ايضاً الاطلاع على  المجتمع المدني في ظل ثورات الربيع العربي