مقدمة:

يأخذ آلهة ما بعد الحداثة الفرنسيون، ورعاتهم الأمريكيون، من التذكير المستمر بالمحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية ادعاءً لإعلان نهاية العقل، والحقيقة، والعلمانية بصورتها المطلقة. في حين يرى خصومهم من الفلاسفة الوضعيين عدم صحة هذه الادّعاءات. لكن على مدى عقود، تمكَّن أتباع “ما بعد الحداثة” من إعداد مناهج المدارس والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وفرضِ خطاب التنوع والتعددية بصورة غير قابلة للنقد. وكان لهذا الفعل دوافعه ومكاسبه أيضًا.

شن معسكر ما بعد الحداثة هجومًا على أفكار مثل الحق والجمال والإله لكي يمرر مرادفات التنوع، وما بعد الاستعمار، الآخر، المثلية، صراع الأنثى ضد الرجل. صنعت الطبقة المتعلمة الجديدة جدار فصل عنصري للجماعات المختلفة يحدده الجنس، أو العرق، أو العقيدة، ولتتخذ كل جماعة خندقها وتبني مواقفها الراديكالية لتتمزق كل الصلات بين أفراد المجتمع الواحد.

عملَ هذا التفكير الجديد بكفاءة في ظل جهاز دعائي بيروقراطي تمكن من تزييف الحقائق، واستغلال الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وشن حروب باسم الحرية والديمقراطية والحفاظ على التنوع، ومثّلت المصطلحات السابقة مجتمعة تناغمًا واضحًا بوصفها روح الليبرالية وما بعد الحداثة.

تتكشف الدوافع والارتباطات الغامضة التي سخّرت المصطلحات الجديدة لخدمة روح العنف داخل أعمال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو[i]، الذي استُوردت أعماله وأُعيد صوغها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. مثّلت القوة التي بنى عليها فوكو نظرياته حجر الزاوية في الخطاب العام الأمريكي انطلاقًا من الأوساط الأكاديمية ثم تسربت للحكومة من طريق مناهج التعليم. وعلى مدار ربع قرن أمدّت نظريات فوكو الحشودَ المتحمسة من الأكاديميين والمعلمين والأفراد إضافة إلى تبنّي اليسار نظرياته بالاستعارات والتشبيهات والتأويلات اللازمة لتفسير الحالة الاجتماعية الأمريكية.

في ضوء عبادة فوكو[ii] صارت اللعنات والدم والعدوان هي في الواقع العقلانية، في ضوء الحفر الأركيولوجي في التاريخ القديم الذي قام به فوكو، حيث قُدمت هذه المفاهيم بوصفها الترياق للسياسة الأمريكية، وصوت العقل الوحيد والسبيل الأمثل للتعلم.

أولًا: شظايا الغنوصية[iii]

كانت الغنوصية[1] بداية في الاتجاه الاستطرادي[2]. ولم يكن رُسل الفوضى من مدرسة ما بعد الحداثة فرديين، ولا يتحدثون باسم الإنسان أو لصالحه؛ بل كانوا بالفعل متحدثين نيابة عن الفوضى. من ناحية أخرى، يشعر الكثير من البشر اليائسين بمرارة الإحباط، ويغرقون في دوائر الوحدة، عندما يقدم فلاسفة ما بعد الحداثة نماذج العدم وكُره الذات والتدمير بوصفها الحل المُتاح، ويظهر الفيلسوف اليوناني، ديوجانس الكلبي[iv]، كبطل في نظر العدميين الفرنسيين وعلى رأسهم فوكو. فالكلبي كان يعيش متسكعًا في الطرق والساحات العامة باصقًا في وجه الأغنياء، لكي يكشف نفاقهم، واستقامته، بوصفه صادقًا مع نفسه مواجهًا لسخف الحياة. فكان لا ينتمي إلى مدرسة ولا يرغب في أن يكون له تلاميذ.

تحول احتقار العالم إلى خطاب أو نظرية، أو تقليدٍ غنوصي، فكره كل شيء ذي مذاق خاص، خصوصًا عندما يكون مؤطرًا بطابع فلسفي ويحمل رمزية مشروع لتخريب كل ما هو قائم. فلقد صنع رُسل الفوضى ما بعد الحداثة دينًا جديدًا قائمًا على استنكار النظام، والإكراه، والقداسة، والانضباط، والتشدد الديني، ويقودون هجومًا ضاريًا من طريق الكتابة ضد كل من يختلف معهم.

يعاني فلاسفة ما بعد الحداثة الشك والشعور بأن الوجود في العالم يائس وعديم الفائدة. ولقد تمَلّكَ باطاي هذا الشعور كثيرًا ولا سيّما في سنواته الأخيرة وأقر بالقول: “كان يجب أن أتخلى عن الكلام، كان عليَّ أن أدرك عجزي أكثر وأمسك لساني”[3]. وبرغم ذلك لم يفعل ولن يفعل فلاسفة ما بعد الحداثة ذلك أبدًا.

إعادة ترتيب الشر، وضرورة التدمير لإعادة التوزيع، والحرب هي الوسيلة الملائمة لفكر ما بعد الحداثة، حيث المجتمعات تعيد بناء نفسها وتكتسب مهارات جديدة خلال أزمنة الخراب والفساد الناتج من هذا الوضع الذي هو نتيجة طبيعية لدورة إعادة الترتيب القائمة على الهدم.

استُقي نشوء الإنسان نفسه، في سرديات ما بعد الحداثة، من الغنوصية القديمة التي لا تعرف الترتيب ولا الثبات؛ فهي لها منطلقات عديدة ومصادر كثيرة. فالخلق له أكثر من رواية تصدر عن المدرسة الفكرية الواحدة، وهذا الأمر من قبل المسيحية. حيث كان هناك مزيج كثيف من الخرافات والأساطير اندمجت فيما بعد مع الكتاب المقدس وكونت سردية لا يمكن للقارئ العادي أن يخترقها أو يطرحها للنقاش أصلًا. ولقد تم تمرير هذه الرواية المختلَقة عبر ما يسمى الوحي الإلهي، وتوقفت النقاشات حول الإنسان في الدوائر النخبوية فقط.

ظهرت طوائف ترى في الإنسان – وخصوصًا جسده – شرًا مطلقًا، ولذا يجب أن يتم التخلص من المادة التي تسجن الروح، وعلى الإنسان أن ينسحب من الحياة من الجسد من أي تعلق بمادة. هذه هي الحرية ما بعد الحداثية التي تتفق كليًا مع الغنوصية في احتقار الجسد. فالتحرر صار الاغتراب والانسحاق والتخلص من أي ارتباط مجتمعي وتجاهل كل قانون بشري قد يقود إلى الفاشية، إلا أنه وفق زعمهم السبيل الوحيد للشعور بالرضا الذاتي والكمال لكي تكون شخصًا محصنًا ضد أي عوار.

لأجل الكمال، دعا الغنوصيون قديمًا إلى التخلص من الممتلكات وإطلاق الرغبات الجنسية. تساوت الممتلكات والأجساد في التداول؛ إنه مجتمع المساواة، اكسروا كل القوانين التي تحدد ما يجب أن يقوم به الإنسان وترسم علاقاته، إن المعتقدات هي التي ولدت البؤس والمعاناة في هذا العالم.

مثّلَ عدم الاعتراف بأي سلطة جوهر الفكر ما بعد الحداثي، وبهذا كُسرت العقيدة الدينية التقليدية عبر عناصر خطابية تم توليفها مع الأساطير الغنوصية والعبادات الأبوية، ومظاهر الانحراف والسلوك اللاأخلاقي والرغبة في كسر الروابط المادية.

تأليهُ العدم والانتهاكُ كانا فكرتي باطاي للتخلص من الإنسان الاجتماعي وإطلاق دينامية الخطاب/القوة. جمع باطاي مجموعة هامشية من الأساطير اللاأخلاقية والدموية ليجعلها تكون المخيال الرئيسي لمشروعه الفلسفي، بل اقتبس من الخرافات الغنوصية ما حسبه تدليلًا على الاقتصاد السياسي الكامن في فكر التضحية. لم تحمل أفكار باطاي من آلاف الآلهة سوى الألم والدمار والحزن للبشر. كان التصور الرمزي بالنسبة إليه هو استبدال المعرفة باللامعرفة، والمتعالي بالدنيء، لتصبح الخطيئة البشرية هي الصواب الوحيد القائم في ذهنية إنسان ما بعد الحداثة.

صار الوجود الإنساني موتًا زائفًا، لاأخلاقية، مصادفة، لعبًا، استهلاكًا محمومًا، كبتً، ضحكًا لا يتوقف، لاعقلانية مفرطة. هذا لاهوت باطاي الذي سيعمل على تنفيذه فوكو، ويعطي له الجانب العملي للممارسة عبر تكثيف الهلوسات الغنوصية، وخلط الأدبي بالتاريخي وصنع خطاب لغوي يعيد هندسة الواقع الاجتماعي ويدخل في العقل الإنساني تقبُّل الدم والفوضى بجانب العقلانية والدين.

كان هدف فوكو تربويًا، استطاع بعبقريته أن يجذب كل الخطاب الأمريكي المثقف له، فشيَّد صرحًا خرب به كل الجمال والوجود، نتحدث عن أواخر السبعينيات حيث انطفاء نار التمردات الكبرى مترافقة موت الأيديولوجيا. كان فوكو فرصة البرجوازية الذهبية لمنع اشتعال حرائق التمرد مرة أخرى.

ثانيًا: فوكو والخيال العلمي الاجتماعي… الغنوصية الجديدة[v]

“اعتبرني الليبراليون التكنوقراط عميلًا لحكومة ديغول، واعتبرني اليمين الديغولي أناركي، وسأل أستاذ أمريكي عن سبب قدومي إلى بلاده بوصفي ماركسيًاً شاذًا، وأجاب عن نفسه: بالتأكيد هو عميل للاستخبارات السوفياتية”. – ميشيل فوكو[4].

ميشيل فوكو ليس مُقلدًا للعمل الخطابي لجورج باطاي، بل هو مطور عبقري له، حيث منح للصحوة الغنوصية لباطاي الاتجاه العلمي التطبيقي اللازم لها، وزج بهذا الخطاب الغنوصي إلى الخطاب الرسمي الليبرالي العام الفرنسي منذ أواخر الستينيات. وبعد عقد من الزمن، تحول فوكو إلى ماركة شهيرة في التفكير تضاهي ماركات النبيذ الفرنسي الفاخرة. لقد تحول فكر فوكو إلى سلعة رئيسية للتصدير حيث صارت كتبه في كل المكتبات الأكاديمية في الولايات المتحدة، ودائمًا ما ستجد أعماله على رفوف المتاجر هي الأعلى مبيعًا؛ بل أكثر من هذا، فإن أغلب الدراسات في مكتبات باريس عن فوكو صار معظمها مترجمًا عن اللغة الإنكليزية.

إنجاز رائع لفوكو الذي أعاد تقديم فكره عبر ذوق رفيع من الأدب الغرائبي مُزج مع إطار فلسفي ضلل أغلب المؤرخين عن أصول الطرح المقدم، حيث اختفى باطاي أو صار هامشيًا، وتمت الاستعانة بالأفكار المثالية الألمانية لهيدغر على سبيل المثال، وبالخصوص نيتشه الذي أخذه إلى بؤرة الضوء. كان نيتشه ممرًا مضللًا لفوكو لإخفاء أصول مشروعه. لندع المثالية الألمانية جانبًا، وليرقد نيتشه في سلام… فقد تم تشويه وتأويل أفكاره بما يكفي من الفلاسفة حسب رغباتهم، ولنُزيلَ الغطاءَ السميك لنكشف خط الاستمرارية بين مخطط باطاي اللغوي ونموذج فوكو؛ المعرفة/القوة”.

يتصدر فوكو المجال الفكري في الولايات المتحدة منذ أواخر السبعينيات، على الرغم من أنه قد تم نسيانه عمليًا في أوروبا، هذا ما يهمنا البحث عن أسبابه، أما قراءة أعماله فهناك المئات من الأعمال التي قامت بهذا ولن نحتاجها الآن.

عام 1970، أصدرت (دار غاليمار – Éditions Gallimard)، الباريسية المرموقة الأعمال الكاملة لجورج باطاي في إثني عشر مجلدًا، قدم فوكو للأعمال الكاملة مشيدًا بباطاي وواصفًا إياه بأنه “أهم أدباء القرن، ولم يسبقه أحد في الربط بين الجنس والدم والرعب والجريمة والتطرف، وكل ما يدمر الإنسان إلى ما لا نهاية”[5]. يعد هذا اللقاء – على الورق – أول لقاء بين باطاي وفوكو، كان الفرق بين الإثنين في الأسلوب دراماتيكيًا. فباطاي كان موظف أمين مكتبة بالأدق، بينما فوكو كان ابن النظام بامتياز. وباطاي خريج إحدى أهم المدارس النخبوية في فرنسا، وخالط أعلى مستوى أكاديمي فيها، بينما مع فوكو تغيرت مقاييس علم الاجتماع الغنوصي لمشروع باطاي.

في الستينيات، قدّم فوكو كتابه الأكاديمي تاريخ الجنون، محللًا فيه العديد من البحوث الطبية الأرشيفية على أساس أطروحة مفادها أن “الجنون في الواقع هو اختراع لبناء فكري” في إشارة إلى التساوي بين البيروقراطية المنتصرة حديثًا والطب السريري المستخدم في المصحات النفسية.

صارت فكرة باطاي عن التجانس وعدم التجانس لفهم الكون حاضرة في صيغة مرضية لدى فوكو، فالنار المقدسة صارت جنونًا، والتجانس صار مرض الجذام، وعدم التجانس صار الشر الأسود المطلق للطاعون، بينما فوكو يشد الغنوصية إلى العصر ما قبل الحديث، ولا يتركها كامنة في غياهب التاريخ.

السفينة التي ملأها باطاي بالخرافات الوحشية الغنوصية، قرر فوكو لها أن تسبح مُحمَّلة بالمجانين. أدرك فوكو أن الجنون، وليس الصور الغنوصية المجردة، هو الذي سيمنح لمشروعه الخطابي الجديد الحيوية اللازمة لكي يتدفق إلى مساحات غير محدودة داخل الفضاء العام. أدرك فوكو أن العقل يساوي الخطاب، والخطاب يقوض الفوضى. ومع تنحية العقل لصالح الجنون يمكن صُنع خطاب يساوي الفوضى.

لم يتمحور مشروع فوكو لتوثيق العقاب العنيف ولا وسائل العلاج الوحشية في المصحات للمجانين، بل تمحور حول كيفية تقبُّل روح المريض لهذه الوحشية واحتوائها والتكيف معها، ومن هنا صار خطابه فكريًا بامتياز حيث يمهد التربة لطرح كل ما هو سيئ في الإنسان دون حبسه داخل قواعد عقلانية بيروقراطية. فالجشع والطمع مثلًا، وكل ما يسببانه من أذى للإنسانية، علينا أن نتكيف معهما من باب كونهما مصدرًا لنمو الثروات، هذا ما جعل خطاب فوكو يحظى بالأفضلية لدى المحافظين الجدد ورواد السوق الحر.

لم ينسَ فوكو، بعبقرية، إعادة تكييف الماركسية مع طرحه الجشعَ كمصدر ثروة، بل الحفاظ على حياة الفقراء يعَدُّ حجر أساس لمجد الأمة. لا يريد فوكو أن يُنهي بؤس الفقر بل يريد أن يكرمه، ومن هنا نلحظ تحول خطاب باطاي الغنوصي الذي يتمحور حول “السيد-العبد” منذ العصور الوسطى إلى خطاب علمي فلسفي.

نظر فوكو إلى عقلانية الحداثة بوصفها “خطيئة” حاولت حيْد ظلام الغضب والجنون في قلوب البشر، بل جعلت الحداثة الجنون حبيس الملاحظة السريرية، هذه السلطة المتطفلة على البدائية الوحشية للغنوصية لدى باطاي يريد فوكو كسرها الآن، عبر إعادة بناء سردية للجنون ليس بوصفه تجربة فردية بل بكونه تاريخًا للشعوب.

بدأ فوكو في تفسير فكر باطاي الغنوصي بوصفه سلسلة من الغايات الإنسانية الكامنة خلف سلطة وخطاب مجرد، وأنه تطوير للغة وإعادة توجيهها لاستخراج الجنون والكبت والعنف داخل الإنسان الذي سيعيد السيادة الهمجية المفقودة. أعد فوكو خليطًا من العدمية والماركسية الجديدة والبنيوية والنقد الأدبي السريالي من أجل تقديم ترياق العصر المابعد الحداثي، أو بشكل أدق أن يقدم طوق نجاة لقوى المعارضة اليسارية المفلسة حيث قدم لهم خطابًا مستساغًا وبلا أهداف، مع كثير من النقد والإلحاد والصور الجمالية الفرنسية، ومرحَّبًا به من جانب الليبراليين الجدد.

عام 1966، نشر فوكو كتاب الكلمات والأشياء Les Mots et les choses))[6] ، الذي أعلن فيه “موت الإنسان”. أكثر من 400 صفحة من التاريخ الحديث للعلوم الاجتماعية والبيولوجيا واللغة، ظنها فوكو لعبة، كسر جزءًا من المعارف الإنسانية ووضعها لتقابل بعضها بعضًا. نموذج مثل لعبة المرآة التي تغيّر في الأشكال والأحجام، وظن فوكو أن هذا الجزء من التاريخ هو سردية كبرى لنهاية الإنسان. وبالرغم من فقر فوكو المعرفي في علم الاقتصاد ظن أن النزعة المالتوسية[7] ستمثل الحل الأمثل للتخلص من الفقر، وهذا ما ميز خطابه مرة ثانية أنه كان بسيطًا ويجعل من مشكلات تيارات المعارضة والحكم على السواء بلا حل وبالتالي لا مشكلة أصلًا علينا تقبُّل الوضع كما هو.

بمرور الوقت، سيتكشف فعلًا أن خطاب فوكو كان الأفضل للمؤسسات لكي تنسحب من الماركسية، وتركن لتأييد نظام فوكو عوضَ الصراع مع الرأسمالية والطبقة والنضال. لم يعد هذا الخطاب القديم يستهوي الجماهير، وانقسم المعسكر الماركسي. فجزء لا يملك آلية للعمل الثوري والآخر لا يملك آلية للعمل السياسي. بدت الماركسية كالسمكة لا يمكنها أن تخرج من الماء لمواجهة أفكار ما بعد الحداثة العشوائية في كل مكان.

في كانون الأول/ ديسمبر 1970، بعد حقبة من أحداث الشغب في أوروبا 1986، صار فوكو يلقي محاضرات في كوليج دو فرانس (Collège de France). في الواقع هذه لم تكن أكاديمية للتدريس، ولم تملك هيكلًا طلابيًا، بل مجموعة فخرية من الأساتذة يلقون 12 محاضرة في العام، لا تتعدى مدة المحاضرة ساعتين، وهي مفتوحة لحضور الجمهور. تحدى فوكو أنه في هذه الأجواء لا بد من كسر الخطاب العلمي ليطرح بدلًا منه خطاب الحقيقة المليء بالسلطة القمعية والدم والعنف وقصص القدماء والغنوصية الملهمة للاحترام والرعب على السواء. لقد تحول درس فوكو الفلسفي إلى طقس استعراضي كعروض المسرح، وبات الحديث عن التطبيق العملي لخطاب باطاي الغنوصي يكمن في الهجوم على “وحدة المجتمع” التي أصر فوكو على أنه لا ينبغي النظر إليها إلا كشيء يجب تدميره (الحل الأمثل هو الهجوم على الأعراف عبر المخدرات والجنس وكسر حدود كل المحرمات)[8]. باختصار كان فوكو يريد أن يقدم عرضًا غنوصيًا قديمًا من الكرنفالات الأمومية التي تحفل بالخمور والجنس المتبادل.

بدلًا من مهاجمة جذر المشكلة، والكشف عن العوار للجميع وتحمُّل الأفراد لمسؤولياتهم الأخلاقية، وخصوصًا في ما يتعلق بالأسباب المولدة للعنصرية الأمريكية، فقد تحول الفرد بفضل تعويذة فوكو البسيطة (معرفة- سلطة) من هدفٍ للسلطة قد يقهر إن خرجت عن السيطرة إلى ممارس لسلطة ما وإن كانت أصغر ولكنه فاعل. “فالفاشية فينا جميعًا” وبالتالي طُمست كل مراكز القوى، فلم يعد هناك مصدر نحاسبه أو نوجه له اللوم. ولهذا رأت المؤسسات الأمريكية في هذا التصور حلًا مثاليًا لا مدان فيه، وسمحت بإنشاء عدد كبير من الأقسام والمناهج القائمة على تكريس ثقافة ما بعد الحداثة التي تشمل: النسوية، مثليي الجنس، الأمريكيين من أصول مختلفة، أفريقيا، والشرق الأوسط، وثقافة التنوع بوجه عام.

خاتمة[vi]

خلاصة القول، لقد نجح خطاب فوكو في الولايات المتحدة لأربعة أسباب رئيسية:

  • اليسار المفلس الذي أراد الحفاظ على امتيازاته وخلق نضالات وهمية وغير مكلفة في ضوء ما بعد الحداثة.
  • تجميد العنصرية العرقية في أماكن العمل والدراسة تحت مسمى وهمي للمعرفة النسبية التي تقدم شعورًا زائفًا بتمكين الطبقات المحرومة.
  • رغبة مؤسسات السلطة في منع أي فهم حقيقي لآليات عمل الحُكم في الدولة.
  • العولمة وعبادة السوق التي صنعت وهم محو الحدود والفواصل الوطنية وخرافة نهاية المركزية.

تؤكد هذه الأسباب أن اختراق خطاب فوكو للمجالات الأكاديمية الأدبية والفلسفية والنقدية إنْ هو إلا اختراق سياسي بالأساس، وشكلت قوته في الرمزيات الجنسية المنسية لعلم الخيال العلمي الاجتماعي مجالًا فريدًا للاقتباس وتنمية التيار الفردي النفعي، وفي الوقت نفسه مكَّن السلطات من التخلص من فكرة المعارضة التي تحاول بناء مشروع مقاومة يومي ضد الظلم والمراوغة والكذب، فما سبق، هو عادات علينا تقبُّلها في الإنسان كما أخبرنا التاريخ الغنوصي، أما عن البطش والتعذيب والدم فهذه عوامل طبيعية خلقت الإنسان ومن الخطأ محاولة احتواء هذه الطبيعية بصورة عقلانية أو قانونية.

 

قد يهمكم أيضاً  قراءة سريعة في الأيديولوجيات السائدة في العالم والوطن العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ميشيل_فوكو #فوكو #الغنوصية #الغنوصية_الجديدة #فكر #أيديولوجيا #الحداثة #ما_بعد_الحداثة #المذاهب_الفكرية #المعرفة