كون الغرب عن الإسلام صورة مشوهة طيلة قرون طويلة، استجابة لما كانت تمليه الكنيسة، في مرحلة كان يطبعها الخوف والقلق من هذا الدين؛ فالصورة السلبية التي رسمها صاحب الكوميديا الإلهية[1] لنبي الإسلام مثلا، تلخص موقف عصر بأكمله وليس موقف فرد فقط. ولم يبدأ الموقف الغربي في التراجع إلا في القرن التاسع عشر مع تنامي الروح العلمية في البحث، وتراجع سلطان الكنيسة، دون أن يعني هذا أن الصورة صارت دقيقة. وقد عكس الأدب الغربي عموما ذلك التطور الذي لحق هذه الصورة، ليتحول الشرق الإسلامي في القرن التاسع عشر إلى فضاء لتلك العناصر الشرقية التي تشبع النظرة الإكزوتيكية المتعالية للأديب الغربي، ثم ليصبح الإسلام انطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين من الأديان التي يتنامى انتشارها في الفضاء الغربي ككل؛ لذا فهذه المساهمة هي بيان لمظهر من التحول الذي عرفه الإسلام في الذهنية الغربية بين قرنين، من خلال ديواني شاعرين أمريكيين.

يعكس الأدباء عادة في أعمالهم، تفاصيل عن مواقف أقوامهم اتجاه غيرهم، مما يسترعي انتباه هذا ” الغير”، فطالما رأى المرء نفسه بعيني غريمه، لذا فقد دأبت العديد من الدراسات على بيان طبيعة حضور الإسلام في الشعر الغربي، قديمه وحديثه[2]، كما هو الشأن في أشعار: دانتي أليغييري، وتوماس مور، وجون ملتون، ويوهن فولفغانغ غوته، وفيكتور هيجو، وإدغار آلان بو، وفيديريكو غارسيا لوركا، وراينر ماريا ريلكه…، وتبقى هذه المساهمة امتدادا لهذا النوع من الدراسات، بالتركيز على عالم الإسلام في الشعر الأمريكي[3]؛ وقد اخترت نموذجين للدراسة، يتعلق الأمر بشاعر من شعراء القرن التاسع عشر، هو بيارد تايلور(1825-1878)، من خلال ديوانه “قصائد عن المشرق”، الصادر سنة 1854، أما النموذج الثاني فهو من شعراء القرن العشرين، وهو دانيال مور(2016-1940) من خلال ديوانه “سونيتات رمضان”، الصادر سنة 1996.

 

  • تايلور.. والمغامرة الشرقية

لم يكن الاستشراق الأمريكي، وقت صدور ديوان بيارد تايلور” قصائد عن المشرق” سنة 1854، قد حقق تراكما مهما، فقد تأخرت انطلاقته الفعلية إلى الأربعينات من القرن التاسع عشر، مع تأسيس الجمعية الاستشراقية الأمريكية، وأمام هذا التأخر[4]، كان يجد الأمريكيون ضالتهم في الاطلاع على كتابات الاستشراق الأوروبي، لاسيما الاستشراق البريطاني، بحكم الصلة الوثيقة بين بريطانيا وأمريكا، فورث الأمريكيون بذلك، تلك الصورة التي رسمتها الكتابات الأوروبية عامة عن الشرق، بما في ذلك الأعمال الأدبية التي تناول فيها الأدباء الأوروبيون الموضوعة الشرقية.

كما تأثر عدد من رموز الأدب الأمريكي في هذا القرن، بالعديد من الإنتاجات الأدبية الشرقية، لعل أبرزها ذلك التأثير الكبير لألف ليلة وليلة، التي شكلت في أذهان الأدباء الأمريكيين الكثير من الافتراضات القبلية بخصوص الشرق؛ كما حضرت الموتيفات الشرقية في إنتاجات شعراء أمريكا بدرجات متفاوتة، نمثل لذلك بالعديد من القصائد، كقصيدة “الأعراف”[5] وقصيدة “إسرافيل”[6] لإدغار آلان بو[7]، وقصيدة “أيام” لرالف والدو إمرسون[8]، دون تجاهل التأثير الذي تركه عليه بعض أعلام الشعر الفارسي، والقصيدة الملحمية ” كرليل” لهيرمان ميلفيل[9].

يعد بيارد تايلور من القلائل الذين حاولوا أن يكتشفوا روح الشرق كما هي عليه، بعيدا عن الصورة التي تم تقديم الشرق بها للقارئ الغربي، لذا فقد ارتحل في سنة 1851 صوب الشرق، حيث زار العديد من الأمصار العربية (مصر، فلسطين، سوريا…)، وقد سجل تايلور الشاب الكثير مما شاهده وعايشه في رحلاته، فقد أغنى الخزانة الأمريكية بالعديد من الكتابات الرحلية، التي جعلت منه “رائد الكتابة الرحلية بأمريكا”[10]، نذكر منها: رحلة إلى إفريقيا الوسطى سنة 1854، ديار السراسنة سنة 1855…، كما أصدر تايلور العديد من الدواوين الشعرية، يهمنا منها ديوانه المعنون ب(قصائد عن المشرق) الصادر سنة 1854؛ وهو ديوان متوسط الحجم، يضم ثلاثة وخمسين قصيدة، خصص الأربعين الأولى منها للموضوعة الشرقية.

يندرج الديوان في مرحلة أولى، كان فيها إنتاج تايلور ينصب على الشعر الغنائي، والبالاد، والرومانس[11]، وقد لقي انتشارا واسعا لدى القراء الأمريكيين فور صدوره، فالديوان مؤلف مهم يستحق الدراسة عن كثب[12]، وقد نال استحسان العديد من الأدباء، خاصة الذين كانوا من الدائرة المقربة من تايلور، كجمس راسل لويل[13]، وريشارد هنري ستودارد[14]، الذي أكد على أن تايلور في ديوانه هذا، قد (وضع اليد على الشعور الخفي للشرق، كما لم يفعل شاعر كتب بالإنجليزية خلا بايرون)[15]؛ وهناك من يرى أنه، بخلاف القصيدتين المشار إليهما آنفا (قصيدة “أيام” لإمرسون، و”كليرل” لميلفيل)، اللتان تجاوزتا الموتيفات الشرقية، سعيا لجذب اهتمام القارئ إلى مستوى أعمق، لم تتجاوز القصائد الشرقية لتايلور كونها ضربا من الرومانسية الخلابة[16].

عكس ديوان (قصائد عن المشرق) إعجاب تايلور الكبير بالعرب والإسلام، متحررا إلى حد كبير من تلك النظرة الإكزوتيكية الاستعلائية التي سيطرت على أغلب الشعراء الغربيين في هذا القرن، وقد حفل الديوان(بصور حية، وبأوصاف مبهرة للسكان المحليين، وللتجارب اليومية للبدويين، وكذا وصف لحياة مشرقية ساحرة وجديدة كليا، متحررة من المظاهر الكاذبة التي لحقتها من قبل الغرب المعادي)[17]، ويبقى شرق تايلور شرق المفارقات، فهو (بالتناوب متوهج وواهن، حسي ومتزمت)[18]؛ غير أن زيارته الفعلية للشرق لم تخلصه من ذلك التأثير السحري لألف ليلة وليلة عليه، فقد شكل هذا العمل في ذهن الشاعر (بعض المفاهيم والافتراضات القبلية بخصوص طبيعة المشرق)[19]، لذا نلمس تأثير الليالي في العديد من قصائد الديوان، نمثل لذلك بالعناوين التالية:(“الشاعر في المشرق”[20]، “إغراء حسن بن خالد”[21]، “تودد عمران”[22]…).

كما حضرت الموضوعة الدينية في الديوان بشكل واضح من خلال العديد من القصائد، مما جعل تايلور يستعين ببعض الدراسات التي اهتمت بالإسلام، لعل في طليعتها، المؤلف الشهير للأمريكي واشنطن أيرفينغ[23](محمد وخلفاؤه)، الصادر سنة 1849، فقد كان تايلور معجبا بأيرفينغ وقارئا لأعماله[24]. وقد صورت هذه القصائد العربي باعتباره مسلما ورعا يخشى الله ويتقيه. كانت أولى هذه القصائد، قصيدة ” الصلاة العربية “[25]، التي تستعرض وصفا لطقوس صلاة المسلمين:

 

ينادي المؤذن “لا إله إلا الله”

نحيفا، طويلا ينزل من المئذنة،

التي تطل على  سور المدينة البعيدة.

 

“لا إله إلا الله” يصغي لها المؤمنون،

هذه ساعة المناجاة مع الله والنبي:

الذي يسمع دعاءهم بأذن مصغية.     (الأسطر من 1 إلى 6)

 

وقصيدة “الخليل”[26]، التي تحتفي ببدوي مسن، جعله ورعه الديني محط إعجاب وتقدير الجميع، فهو مستحضر لنعم الله شاكر لها:

 

أدعو الرب، الرحيم،

ليغمر الجميع ببركته:

أقدس اسمه، لأجل أنه عظيم،

ومحب، ورؤوف،

ولأجل هبة الحب هذه، أهب بدوري –

نسمة الحياة، التي بها أحيا –

كما منحني هو، في سعة،

حب أبنائه، حيثما يممت   (الأسطر من 24 إلى31)

 

وقصيدة ” حكمة علي “[27]، التي تحتفي بحكمة علي بن أبي طالب:

 

جلس النبي ذات مرة، في حوار هادئ،

قال: “أنا دار الحكمة،

وعلي بابها.” (الأسطر من 1 إلى 3)

 

من الواضح أن هذه القصيدة قد قامت على محاكاة ترجمةِ حديثٍ طويل، فقد انتشر هذا النوع من المحاكاة الشعرية في شعر القرن التاسع عشر، خاصة لدى الرومانسيين، الذين حاكوا كثيرا من النصوص الشرقية المترجمة، وذلك بإعادة صياغتها شعرا[28]، وهو ما فعل تايلور مع هذا الحديث، فقد روي عن سلمان الفارسي:(أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)[29] فلما سمع الخوارج بذلك حسدوا عليا على ذلك، فاجتمع عشرة نفر من الخوارج، وقالوا: يسأل كل واحد عليا مسألة واحدة لننظر كيف يجيبنا فيها، فإن أجاب كل واحد منا جوابا واحدا علمنا أنه لاعلم له. فجاء واحد منهم وقال: يا علي! العلم أفضل أم المال؟ فأجاب… إن العلم أفضل، فقال له: بأي دليل ؟ فقال: لأن العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث قارون وهامان وفرعون. فذهب الرجل إلى أصحابه بهذا الجواب فأعلمهم، فنهض آخر منهم وسأله كما سأل الأول فقال: يا علي …[حذف]… فقام العاشر، وقال: يا علي ! العلم أفضل أم المال ؟ قال… العلم، قال: بأي دليل ؟ قال: لأن صاحب المال يتكبر ويتعظم بنفسه، وصاحب العلم خاضع ذليل مسكين، فرجع إلى أصحابه وأخبرهم بذلك، فقالوا: صدق الله ورسوله، ولاشك أن عليا باب العلوم كلها. فعند ذلك قال علي… والله لو سألني الخلق كلهم ما دمت حيا لم أتبرم، ولأجبت كل واحد منهم بجواب غير جواب الآخر إلى آخر الدهر.).

ثم تأتي قصيدة “مولد النبي”[30]، التي تحتفي بميلاد النبي محمد عليه السلام، حيث صاحب مبعثه العديد من المعجزات؛ ويبدو أن تايلور قد أفاد من كتاب (محمد وخلفاؤه) لأيرفينغ[31]، ذلك أن بعض المعجزات الإلهية الموصوفة في القصيدة، سبق لأيرفينغ الإشارة إليها:

 

حتى نبوءات الطبيعة تقر

بميلاد النبي-

فهو زهرة الأزمنة المتأخرة، وتاج

لقيمة الإنسان-

وبطريق المعجزات والعجائب

كان الترحيب به على الأرض  (الأسطر من 16 إلى 18)

 

ثم قصيدة ” الشيخ “[32]، التي تستعرض مناجاة الشيخ لربه في تذلل وانكسار:

 

عندما تتربص بي قوة الشر

 زملني  بحماك

دع روحي تحس حضورك

وأيامي ملأى بك.      (الأسطر من 31 إلى34)

 

ظهر إذن ديوان تايلور في مرحلة كان فيها الشرق مجالا للأنشطة التجارية والسياسية الغربية، وموضوعا أثيرا في الأدب الغربي للقرن التاسع عشر؛ مما جعل بروز الموتيفات الشرقية في الأدب الغربي عامة، ومنه الأدب الأمريكي، أمرا شائعا في هذا القرن، فالديوان استجابة لنظرة إكزوتيكية غربية عامة اتجاه العناصر الشرقية، غير أن تايلور استطاع أن يتحرر بشكل كبير من تلك النظرة الاستعلائية التي سيطرت على الأديب الغربي، مما جعله ينجح- بتوفيق كبير- في تلمس روح الشرق كما هي عليه.

 

  • مور.. والأغاني الرمضانية

يعد دانيال مور من الأصوات الشعرية البارزة في النصف الثاني من القرن العشرين بأمريكا، فقد استطاع عبر غزارة إنتاجه، وشاعريته ذات المنحى الروحي، أن يفرض اسمه في الساحة الأدبية الأمريكية؛ وقد كانت انطلاقته بديوان (رؤى الفجر)، سنة 1964، الذي تبناه ناشر معروف بسان فرانسيسكو[33]، مما يعني أن دانيال الشاب، ذو الأربعة والعشرين ربيعا، قد دشن مساره الشعري ببداية قوية[34]. وقد كانت مرحلة الستينات بالنسبة للشاعر مرحلة جد مضطربة، عاش فيها الكثير من التقلبات، حيث تأثر سلبا بمأساوية وقساوة حرب فيتنام، ورفض مثل الكثير من المتمردين هذه ” الأمريكا” الظالمة المتوحشة؛ وفي أواخر الستينات أسس دانيال مور مسرحا بكاليفورنيا، صمد لثلاث سنوات(من 1966 إلى 1969)، عرض فيه العديد من مسرحياته، ارتبط جلها بأحداث المرحلة (لاسيما حرب فيتنام)، نذكر منها: الحيطان تسيل دما، قيامة بليس،… ويبقى تأثره بجلال الدين الرومي، أبرز صلة لدانيال مور بعالم الشرق الإسلامي خلال مرحلة الستينات، فقد كان كثيرا ما يعكف على قراءة مثنوياته، وتجدر الإشارة إلى أنه باستثناء ديوانه السالف الذكر، إلى جانب ديوان آخر بعنوان: (هذا الجسد من الضياء الأسود اخترق الماس 1965)، فكل دواوين دانيال مور قد نشرت فيما بعد في ظل إسلامه[35].

وبالتركيز على الجانب الروحي، فقد عاش دانيال مور فراغا روحيا في مرحلة الستينات جعله ينفتح على العديد من التجارب الإيمانية، التي ارتبطت بمذاهب وطوائف وطقوس روحية قديمة: (كانت البداية باستلهام شخص السيد المسيح، باعتباره نموذجا إنسانيا رفيعا – اعتناق البوذية على مذهب الزن – اليوغا – البوذية التبتية – مصاحبة الغورو[36] الهندوس)، ليتنهي به الأمر مسلما، مما فتح الباب لمسار شعري جد مختلف.

بدأت قصة مور مع الإسلام حينما أتى للقائه ببيركلي، الكاتب والفنان إيان دالاس (الذي تَسَمى لاحقا بالشيخ عبد القادرالصوفي)[37]، بهدف التعاون الفني مع فرقة مور المسرحية[38]، فكانت فرصة عرض فيها الشيخ عبد القادر الإسلام على مور، الذي أسلم في يومه ذاك، ثم توجها بعدها – رفقة معتنقين جدد للإسلام – إلى المغرب سعيا لمغامرة روحية؛ وهكذا كان أن اعتنق دانيال مور الإسلام في يوم عيد ميلاده الثلاثين، الذي صادف أواخر سنة 1969، فأصبح دانيال عبد الحي مور مسلما صوفيا، ليجد نفسه هذه المرة أقرب إلى أشعار جلال الدين الرومي، الشاعر الصوفي الذي طالما أعجب بأشعاره، كيف لا، وقد أضحى من أتباع الطريقة الصوفية الشاذلية الحبيبية[39] بإحدى زوايا مدينة مكناس المغربية، وقد عبر عن إعجابه بشيخ الطريقة محمد بن الحبيب عند أول زيارة له، يقول: (عندما جلست بين يديه، رضي الله عنه، كنت تحت ظل جبل عملاق من النور، وفيضا لهذا الوعي الإلهي، وتجليا للرحمة، والرأفة، والمعرفة الإلهية [مجسدة] في ثوب بشر)[40]، وقد تأثر مور بديوان شعر صوفي من نظم شيخه بن الحبيب، والمسمى:(بغية المريدين السائرين وتحفة السالكين العارفين)، حيث كان يقرأه ضمن ما يقرأ من أوراد، يقول عن شعر شيخه: (في ديوانه، رأيت الشعر في وظيفته الحقيقية، حيث يجتمع الجمال والحقيقة)[41]، ومن خلال هذا الشعر- لاسيما قصيدة “رائية التفكير”-  شكل مور النظرية الجمالية والفنية التي تبناها في أعماله[42].

بعد اعتناقه الإسلام، طلب منه إيان دالاس (الشيخ عبد القادر الصوفي) أن يتوقف عن كتابة الشعر[43]، هذا التوقف الذي دام قرابة عقد من الزمن. وفي سنة 1972، أدى مور فريضة الحج رفقة زوجته، وهي نفس السنة التي صدر فيها ديوانه الجديد (القلب المحترق: مرثاة لموتى الحرب)[44]، بعدها سعى مور للاستزادة روحيا عبر سفره إلى العديد من البلدان، بدءا بالمغرب، ثم إسبانيا، والجزائر، ونجيريا.

استأنف مور كتابة الشعر في مستهل الثمانينات[45]، حيث أصدر العديد من الدواوين ذات النفس الصوفي الجلي، نذكر منها: (الصحراء باب النجاة الوحيد – حوليات الآخرة – مُذنب هالي …)، وقد نشرت هذه الأعمال في طبعات يدوية محدودة، ذلك لأن ناشريه[46] (لم يرق لهم «دانيال مور» الجديد)[47]، وفي سنة 1986 زار مور المغرب، حيث قضى فيه شهر رمضان، واستطاع أن يكتب العشرات من القصائد الشعرية (السونيتات) تحت التأثير الروحي لهذا الشهر، فوجد نفسه، صباح العيد، أمام اثنتين وستين سونيتة، نشرت مجموعة منها بداية في مجلة (المسلم الأمريكي)، ثم جمعها لاحقا في ديوان حمل عنوان (سونيتات رمضان)، سنة 1996، وأعاد نشرها في طبعة أخرى[48] سنة 2005، وقد كانت هذه المجموعة، (فضاء روحياً لتجربته الرمضانية وتصويراً شعرياً لعالم الصيام والعالم من حول الصيام)[49].

يتألف ديوان (سونيتات رمضان) من أربع وستين سونيتة[50]، اختلفت من حيث الطول والقصر، منها ما ضم ثلاثة أسطر شعرية فقط[51]، يدور أغلبها حول موضوعة رمضان والصيام، وقد وجد مور في العنوان الذي اختاره خير تعبير عن تفاعل الإطارين: الإسلامي والأمريكي في ديوانه، حيث أحب ذلك ( التقابل وتفاعل الدلالات الثقافية في اقتران كلمتي “رمضان” و”سونيتات”)[52]، وقد لقي هذا الديوان استحسانا من قبل الدارسين، حيث نوه آلان عبد الحق جودلاس[53]، في تقديمه لطبعة الديوان الأولى، بالعمق الذي تم به الجمع بين الإطارين الإسلامي والأمريكي، يقول: (إن مور هو شاعر أميركا اليوم كما أنه شاعر الإسلام (باللغة الإنجليزية) دون منازع.. إنه مثير بتجذره الأميركي ومثير بروحانيته الإسلامية.. إن قراءته رحلة. والسفر معه يثير الأسئلة: أين نحن؟ في أي عالم؟ أية أميركا؟ من هو المسلم؟ من أنا؟ إن سونيتات رمضان مثل دليل المسافر إلى عوالم الثقافات المتعددة والحضارات المتنوعة.)[54]. ويقول عنه لاورنس فيرلنغيتي[55]🙁 إن تجليات سونيتات رمضان البديعة قد تبدو معارضة لرباعيات الخيام، لكن هدف الشاعرين واحد. إنه الحرية، وموهبتهما مثل فرسي رهان)[56]؛ أما كارل كيمبتون[57]، فاعتبر ديوانه من أجود الدواوين التي قرأها للمعاصرين، وقد أطرى على عمقه الشاعري، الذي تأسس على تجربة الشاعر الصوفية، حيث غاص الشاعر عميقا، متجاوزا محدودية الحواس ليتيح لنفسه (معرفة مباشرة نادرا ما توجد اليوم في الشعر الأمريكي)[58]، كما أشار إلى أنها قصائد قريبة من الجمهور العادي، فهي تثيره بطرقها لتفاصيل اليومي إلى تسامي سردها الصوفي، ويقر في الأخير أن هذه القصائد قد خلقت (فضاءا خارجيا يتجاوز الوضع المعتاد والمحزن للشعر الأمريكي اليوم.)[59].

ومما يلفت النظر في ديوان السونيتات، هو إقبال مور على التفاعل مع كثير من الأحاديث النبوية والأقوال المأثورة، باعتبارها نصوصا موازية تأتي بعد عنوان القصيدة، وقد دخلت في علاقة تفاعلية مع سونيتات الديوان، لتضيء جوانب عديدة من عالم الصيام في شهر رمضان، ولتسبغ، من خلال الاعتبار العالي الذي تحضى به لدى عموم المسلمين، طابع الصدق على هذه الأشعار؛ كما أعانتنا، عبر التوجيه الذي حققته، على إزاحة الغموض الذي اكتنف العديد من السونيتات، والسعي نحو تأويل مثمر.

يبقى حضور الأحاديث النبوية، خاصة تلك المتعلقة برمضان والصيام، حضورا لافتا في الديوان، وقد تنوع التعامل معها في السونيتات بين استحضار الحديث مرة باعتباره نصا موازيا يلي عنوان القصيدة، ثم العودة للتفاعل معه داخل متنها، كما هو الشأن في ( السونيتة الثامنة[60]، والسونيتة التاسعة[61]، والسونيتة العاشرة[62]…)، ومرة يكتفي مور باقتباس الحديث داخل المتن اقتباسا نصيا، سواء كان تاما أو جزئيا، كما هو الشأن في (السونيتة الحادية عشرة[63]، والسونيتة الخمسون[64]، والسونيتة الخامسة والخمسون[65])، وهكذا فقد استحضرت السونيتة الثامنة، حديثا قدسيا يقول فيه الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)[66]، وعنون مور السونيتة التاسعة بحديث يقول نصه: (موتوا قبل أن تموتوا)[67]، واستحضرت السونيتة العاشرة حديثا يقول نصه: (لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم)[68]، واقتبس مور في السونيتة الحادية عشرة حديثا يقول فيه النبي عليه السلام:( للصائم فرحتان: فرحه حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه)[69]، واستحضر في السونيتة الثالثة والعشرون، حديثا يقول نصه: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)[70]، واقتبس في السونيتة الخمسون حديثا روي عن سلمان الفارسي، بخصوص شهر رمضان: (وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار)[71]. كما اقتبس مور في السونيتة الخامسة والخمسين حديثا نبويا يقول فيه النبي عليه السلام: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)[72].

كما ضم الديوان سونيتات حاكى فيها دانيال مور أحاديث أخرى من خلال إعادة صياغتها بطريقة شعرية، في شكل هو أقرب إلى الترجمة[73]، مما منح مجالا للسرد القصصي في هذه السونيتات، كما هو الشأن مثلا في السونيتة الثانية والعشرون، التي أعادت إنتاج حديث قدسي يتداوله الصوفية بكثرة، وقد طُعن في صحته[74]، يقول نص الحديث: (أن الله تعالى لما خلق العقل قال: يا عقل أدبر، فأدبر .. يا عقل أقبل فأقبل .. يا عقل من أنا؟ فقال أنت الله رب العالمين، وخلق النفس وقال لها: يا نفس أقبلي، فأدبرت .. يا نفس أدبري، فأقبلت .. يا نفس من أنا؟ فقالت أنت أنت وأنا أنا، فسلط الله عليها الجوع .. ولما سلط عليها الجوع دب فيها الضعف .. ولما دب فيها الضعف استكانت وخضعت فقال لها: يا نفس أدبري فأدبرت .. يا نفس أقبلي! فأقبلت .. يا نفس من أنا؟ قالت: أنت الله رب العالمين).

والملاحظ أن مور قد استحضر في ديوانه أحاديث مطعون في صحتها لدى أهل الحديث، ولا غرابة في الأمر، فالمعروف عن أهل التصوف تاريخيا عدم درايتهم بعلم الحديث، لذا فقد حفلت كتبهم بالكثير من الأحاديث الموضوعة، بل إنهم وضعوا – هم أنفسهم – الكثير منها، بحجة الترغيب في الخير والترهيب من الشر، ولا يتحرجون من صنيعهم هذا مادامت الغاية – في نظرهم – هي التقرب من الله وتهذيب النفوس، ولم يشذ مور عن القاعدة، ما دام مرشدوه إلى الدين من المتصوفة.

ومنه يمكننا أن نستخلص مدى اطلاع دانيال عبد الحي مور على الثقافة الإسلامية، حيث استطاع أن يتفاعل بنجاح مع مجموعة من الأحاديث النبوية التي تهم الصيام، كما وظف العديد من المعطيات الدينية التراثية، خاصة تلك المتعلقة بتراث التصوف الإسلامي، الشيء الذي أعاننا على كشف الكثير عن خلفية مور الإبداعية في الديوان ككل.

خلاصة

عرضت هذه المساهمة لديواني شاعرين ينتميان لدائرة الشعر الأمريكي، أحدهما ينتمي للقرن التاسع عشر، والآخر للقرن العشرين، ومن خلالهما استطعنا أن نستخلص وجهين لأمريكا في تعاملها مع الشرق الإسلامي، وجه مثله  بيارد تايلور الذي عاش في أمريكا متأخرة نسبيا عن أوروبا الغربية، لكنها طموحة وتسعى لتدارك الفارق، أمريكا العنصرية التي تشكل امتدادا لأوروبا، ولا تعترف إلا بالرجل الأبيض، هذه “الأمريكا” كونت لدى تايلور تلك النظرة الإكزوتيكية  اتجاه الشرق، لذا فقد كان لاحتكاكه المباشر بهذا الشرق الدور الكبير في تخليصه من كثير من المُسبقات التي علقت بذهنه. ووجه مثله دانيال عبد الحي مور الأمريكي المسلم، الذي عاش في أمريكا كوسموبوليتية متفوقة تقود العالم، وفي نفس الوقت تعاني من الداخل الكثير من التناقضات والتشردمات، جعلت من مور أكثر واقعية، وأكثر تعاطفا مع هذا الآخر (الشرق) الذي تصوره أمريكا خصما.

 

قد يهمكم أيضاً  المنحى التنويري عند جرجي زيدان من خلال كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الغرب_والإسلام #الإسلام #شعر #الشعر_الأمريكي #الإستشراق