لا يمكن البحث في تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان من دون الوقوف على خلفيات تأليف الكتاب ومرامي مؤلفه التاريخية والنهضوية والأيديولوجية، والاعتبارات التي انطلق منها وحدته على خوض غمار هذا العمل الشاق والدقيق. أول هذه الخلفيات والاعتبارات أن تاريخ الإسلام، على حد تعبير المؤلف، في مقدمة الطبعة الأولى، إنما هو تاريخ تمدنه وحضارته وليس تاريخ حروبه وفتوحه، على ما تعوّده مؤرخو العرب في تاريخ الإسلام. وعليه، إن تاريخ الإسلام هو من أهم التواريخ العامة، لأنه عبارة عن تاريخ العالم المتمدن في القرون الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث‏‏[1]. وثانيها افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم، لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم؛ بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم‏‏[2]. أما ثالث هذه الخلفيات فيتمثل بالرد على بعض الكتبة من الإفرنج وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن المسلمين أو العرب قلّما أفادوا العلم لأنهم نقلوه عن اليونان ولم يزيدوا فيه شيئاً من عند أنفسهم، بل هم شوّهوا ما نقلوه فأضروا العلم وأفسدوه‏‏[3].

يبدو واضحاً أن زيدان كان يرد على أطروحات إرنست رينان التي أثارت في ثمانينيات القرن التاسع عشر جدلاً واسعاً بينه وبين جمال الدين الأفغاني. فقد زعم رينان في محاضرة عن «الإسلام والعلم» ألقاها في السوربون عام 1883 أن الإسلام والمدنية لا يتفقان. يقول رينان: «كل من كان مطلعاً بعض الاطلاع على أحوال زماننا يشاهد بوضوح انحطاط البلدان الإسلامية الحالي، وتقهقر الدول الخاضعة لحكم الإسلام، وانعدام معالم الفكر لدى الشعوب التي اقتبست من هذا الدين وحده ثقافتها وتربيتها. فجميع من يؤمّون الشرق أو أفريقيا يدهشهم ضيق التفكير المحدود بصورة حتمية لدى المؤمن الحقيقي، وذلك الطوق الحديدي الذي يطوق رأسه، فيجعله مغلقاً بإحكام في وجه العلم وعاجزاً عن الانفتاح على أي فكرة جديدة»‏‏[4]. ومع اعترافه بالفلسفة العربية وبالعلم العربي، يرى رينان أنهما كانا عربيين باللغة فقط، إذ كانا بكاملهما من عمل مفكرين غير مسلمين عانوا ثورة نفسية داخلية على دينهم، ولم يتمكنوا من التأثير في المؤسسات الإسلامية، من هنا فالإسلام لا بد زائل بحكم انتشار العلم الأوروبي‏‏[5].

يتصدى زيدان لهذه الأطروحات في تاريخ التمدن الإسلامي عبر أجزائه الخمسة ليؤكد إسهام الإسلام الأساسي والمميز في الحضارة الإنسانية، معتمداً في ذلك منهجية بحثية تميزت بالرصانة الأكاديمية التي تفرض الإحاطة بكل موضوع من موضوعات البحث، من مختلف جوانبها، وتجنّب الأحكام المتسرعة والمتحيزة والتفسيرات الأحادية. من هنا كان رجوع زيدان في كتابه إلى مصادر ومراجع متعددة عربية وأوروبية تتباين في قراءتها للتمدن الإسلامي، وقد ذكر في خاتمة كتابه جدولاً بأسماء الكتب العربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية التي رجع إليها‏‏[6] منقباً مقارناً ناقداً كي يأتي أي استنتاج يخلص إليه قريباً إلى الحد الأقصى من الدقة العلمية. على هذا الأساس رأى زيدان أن الأخذ عن بعض المصادر الإفرنجية يحتاج إلى تمحيص ويجب ألا تؤخذ على علاتها. فمن أمثلة ما جاء فيها أنه كان في الإسكندرية على عهد الفاطميين عشرون مدرسة علمية وفي القاهرة عدد عظيم من المدارس الكلية، في حين أن المدارس لم تبنَ بمصر، إلا بعد انقضاء عصر الفاطميين‏‏[7].

وغالباً ما عمد زيدان إلى المقارنة بين المراجع العربية القديمة والمراجع الإفرنجية لاستخلاص الحقائق التاريخية. من ذلك ما عمد إليه في تحديد عدد سكان مصر وتحديد مساحة أراضيها الزراعية‏‏[8]، أو في تحديد رواتب العمال والقضاة في زمن الخلفاء الراشدين‏‏[9].

ويتبنى زيدان منهجية المقارنة في موقف دفاعي عن التمدن الإسلامي فيقارن بين عدد المجلدات في عهد التمدن الإسلامي ومكتبات أوروبا‏‏[10]، ويقارن أيضاً بين العرب والرومان واليونان والفرس في العلوم والآداب‏‏[11]، كما يقارن بين حال المرأة في الجاهلية وحالها في التمدن الإسلامي‏‏[12].

في ضوء هذه المنهجية ألف زيدان تاريخ التمدن الإسلامي، فانصرف في جزئه الأول إلى البحث عن حال العرب في بداوتهم وكيف تدرجوا إلى الحضارة والعوامل التي ساعدت على ذلك. وتطرق إلى الحكومة في الجاهلية والكعبة وقريش وظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهورها، ثم انتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأندلسية فالفاطمية وغيرها، والأسباب التي أتاحت للعرب فتح المملكتين الفارسية والرومية مع قلة عددهم وضعف معداتهم.

وعمد بعد ذلك إلى النظر في المملكة الإسلامية في إبان عزها، وفي مصالح تلك الدولة وتشعبها إلى مصالح متعددة، كالخلافة والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم تاريخ هذه المصالح وما تفرع عنها أو أُلحق بها.

أما الجزء الثاني فموضوعه «ثروة المملكة الإسلامية»، وهي ركن عظيم من أركان ذلك التمدن، وقد قسمها زيدان إلى «ثروة الدولة الإسلامية» أي ثروة الحكومة ورجالها، و«ثروة المملكة الإسلامية»، أي ثروة البلاد وأهلها. بحث أولاً في ثروة الدولة من أيام النبي، فالخلفاء الراشدين، فبني أمية فالعصر العباسي، حيث نضجت الثروة وبلغت معظمها في أيام الرشيد والمأمون بسبب سعة المملكة وارتفاع الجباية وقلة النفقة حتى بلغ ما يبقى في بيت مال الحكومة في أيام المأمون نحو 300 مليون درهم في السنة، ما لم يتفق لدولة من الدول. أما في عصر الانحطاط فقد تناقصت الثروة نظراً إلى الفتن وإسراف الخلفاء ونسائهم وازدياد نفقات الدولة ورواتب موظفيها وقضاتها واستئثار رجال الدول بالأموال لأنفسهم.

وبحث زيدان في ثروة المملكة الإسلامية، فتكلم على اختصاص الثروة بالمدن وانحصارها بالفئة الحاكمة ومن ينتمي إليهم من أهل الوجاهة والنفوذ بينما العامة في فقر مدقع، ثم وصف أشهر المدن الإسلامية في مصر والشام والعراق كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد.

وخصص الجزء الثالث للبحث في العلوم الإسلامية لعلاقتها بأحوال الدول وسياستها، لذلك عدّه زيدان أهم أبحاث الكتاب، ولا سيَّما أن المسلمين نقلوا إلى لسانهم معظم ما أنتجته عقول البشر من أول عهد المدنية إلى أيامهم، فورثوا علوم الكلدانيين والفينيقيين والمصريين والفرس واليونان والهنود. وقد ذكر المستشرقون أن للتمدن الإسلامي أفضالاً على العلم، إلا أن أكثرها يحتاج إلى تمحيص، ما حدا المؤلف على استخراج الحقائق التاريخية من الكتب العربية ومما كتبه أفاضل الإفرنج في الإنكليزية والفرنسية والألمانية.

قسم زيدان الكلام في موضوع هذا الجزء إلى علوم العرب قبل الإسلام وعلومهم بعده، فذكر خلاصة ما كان عند العرب في الجاهلية من العلوم والآداب كالنجوم والطب والشعر والخطابة والتاريخ. وقسم علوم العرب بعد الإسلام إلى علوم إسلامية، وعلوم كانت في الجاهلية وارتقت في الإسلام، وعلوم دخيلة. وتطرق إلى إحراق مكتبة الإسكندرية، وإمساك العرب عن تدوين العلم إلى آخر القرن الأول للهجرة، فنبَّه إلى أن الذين يقابلون بين الرومان والعرب إنما يظلمون العرب لأن المقابلة يجب أن تكون بين الرومان والإسلام، مشيراً في هذا الصدد إلى أن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم.

وبحث زيدان في العلوم الإسلامية التي قسمها إلى علوم شرعية وعلوم لغوية وعلوم تاريخية، فتناول القرآن وجمْعه وتدوينه والفقه ومصدره، والنحو وبلاغة الإنشاء وتاريخها، ثم التاريخ والجغرافية، وتطرق إلى الآداب العربية الجاهلية وتأثير الإسلام في الخطابة والشعر.

أما العلوم الدخيلة فيذكر منها زيدان تاريخ آداب اليونان متوسعاً في تاريخ فلسفته من سقراط إلى أرسطو، ثم آداب اللغة الفارسية وآداب الهنود والسريان. ويخصص فصـلاً خاصاً عن نقَلة العلم في العصر العباسي وملخص تراجمهم وكلهم من غير المسلمين، ذاكراً الكتب التي ترجمت عن كل لغة بالتفصيل وهي تعد بالمئات، وقد نقلت بسرعة لم تتفق لأمة من الأمم. وعرض زيدان للطب الإسلامي فأحصى الأطباء المسلمين ونظر في ما أدخله المسلمون في الطب والكيمياء والصيدلة والنبات وغيرها، وتناول تاريخ النجوم وتاريخ المراصد في الإسلام وما أحدثه المسلمون من الآراء وآلات الرصد الجديدة. وختم الكلام في المدارس والمكاتب وما حوته من الكتب.

وخصص زيدان الجزء الرابع من تاريخه للبحث في سياسة الدولة منبهاً إلى أن هذا الجزء لعله أهم أجزاء الكتاب وأوعرها مسلكاً لما يحيط بالوقائع السياسية من الشكوك، لكنه أقدم على بحثه متسلحاً بما يقتضيه من النظر الفلسفي والحكم العقلي والقياس التمثيلي‏‏[13]. فقسم تاريخ الإسلام إلى دورين: أولهما من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة العباسية، وثانيهما النهضة التي أعقبت ظهور الدولة العثمانية وإحياء الخلافة الإسلامية. وينقسم الدور الأول إلى خمسة أعصر: العصر العربي الأول من ظهور الإسلام إلى انقضاء الدولة الأموية؛ فالعصر الفارسي الأول من قيام الدولة العباسية إلى خلافة المتوكل؛ فالعصر التركي الأول من خلافة المتوكل إلى تسلط الديلم؛ فالعصر العربي الثاني من قيام الدولة الفاطمية إلى انقضائها؛ فالعصر المغولي من ظهور جنكيزخان إلى وفاة تيمورلنك. ثم العصر التركي الثاني وهو عصر الدولة العثمانية، والعصر الفارسي الثاني وهو عصر الدولة الصفوية.

تناول زيدان العصر العربي الأول مبيِّناً أن الإسلام قام على الجامعة الإسلامية التي جمعت كلمة العرب تحت راية الإسلام، وأن سياسة الراشدين بنيت على التقوى والحق والعدل. أما سياسة الأمويين فكان محورها التغلب والتعصب على غير العرب وابتزال الأموال بحق أو غير حق، فضيّقوا على أهل الذمة واحتقروا الموالي.

وتناول العصر الفارسي الأول وقيام الدولة العباسية التي قسم سياستها إلى سياستين: الأولى مبنية على الغدر والفتك والثانية مؤسسة على العدل والحق والمحاسنة، وتخلل ذلك فصل في حرية الدين وما كان من تنازع العناصر وذهاب العصبية العربية بذهاب دولة الأمين حتى ندر الدم العربي بعد القرن الثاني للهجرة، إلا في البادية.

وتقدم زيدان إلى العصر التركي وتدرّج الأتراك في مصالح الدولة حتى تغلبوا على الخلفاء، فذهبت هيبتهم واستقل أصحاب الأطراف بولاياتهم فتشعبت الدولة إلى فروع فارسية وتركية وعربية وكردية. وعرض بعدها لظهور الدولة الفاطمية في مصر ثم تضعضعها وغلبة الأكراد عليها، وما آل إلى انقسام الدولة الإسلامية على نفسها، فطمع بها الأعداء وجاءها المغول فاكتسحوها وزادوها ضعفاً واختلالاً.

أما الجزء الخامس من تاريخ التمدن الإسلامي وهو أكثر الأجزاء طلاوة وأقربها إلى أفهام المطالعين، في رأي المؤلف، فيبحث في الآداب والعادات والعمران والأحوال العائلية ممل يندرج تحت اسم «حضارة» أو «مدنية». وأبحاث هذا الجزء تنتظم في أربعة أبواب أولها نظام الاجتماع وأساسه طبقات الناس، وقد تناولها زيدان بفصول في طبقاتهم قبل الإسلام وطبقاتهم بعده. وتوسع في نظام الاجتماع في العصر العباسي حيث قسم الناس إلى طبقتين كبيرتين: العامة والخاصة وما يلحق بكل منهما من طوائف من الناس في القرى والمدن. وثانيها الآداب الاجتماعية وتاريخها من زمن الجاهلية وما عرفه البدو من مناقب أخلاقية، وتسرب الفساد إلى هذه المناقب بتقدم القوم في الحضارة. وأثبت المؤلف فصولاً في حال المرأة وفي أحوال الطعام واللباس والمأوى في الجاهلية وما أحدثه التمدن من تغيير في كل تلك الأحوال. وثالثها حال العمران والثروة والرخاء ويتناول فيها المؤلف القصور في المدن الإسلامية الكبرى وثروة الخلفاء وتنعمهم باللباس والأثاث والمجوهرات وانغماسهم في الترف والسكر وما نتج من ذلك من تهتك وإسراف. أما آخر هذه الأبواب فقد خصص لمجالس الخلفاء ومواكبهم واحتفالاتهم وملابسهم وألعابهم وملاهيهم.

أولاً: خلاصات عامة على هامش «تاريخ التمدن الإسلامي»

يمكن الخروج من كتاب تاريخ التمدن الإسلامي ببعض الخلاصات العامة:

1 – التمدن الإسلامي حلقة مهمة في تاريخ التمدن الإنساني، فقد نقل المسلمون إلى لسانهم معظم ما أنتجته عقول البشر من أول عهد المدنية إلى أيامهم، فورثوا علوم الكلدانيين والفينيقيين والمصريين والفرس واليونان والهنود، وتفوقوا على هؤلاء وأضافوا إلى ما أخذوه عنهم من العلوم، فضـلاً عما وضعوه هم أنفسهم من العلوم الإسلامية واللسانية وما تفردوا فيه من قريحة الشعر. بل إننا إذا قابلنا بين المسلمين والرومان رأينا أن المسلمين كانوا أكثر اشتغالاً بالعلم والأدب من أولئك، وكانت لهم إسهامات ذات شأن في الطب والفلك والترجمة والتعليم والفلسفة. لكن زيدان لا يتخذ مع ذلك موقفاً تبجيلياً للإسلام، فيعترف بأن بعض مكتبة الإسكندرية احترق قبل الإسلام ولكن ذلك لا يمنع احتراق باقيها في الإسلام‏‏[14].

2 – تراوح تاريخ الإسلام بين التعصب والعنف وقتل المخالفين وفرض الجزية على النصارى واليهود حتى بعد إشهار إسلامهم، وبين محاسنة النصارى واليهود وغيرهم من الأديان والمذاهب وإطلاق حرية الدين، حتى إن الخلفاء «كانوا يشاركون النصارى في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى كالميلاد والشعانين ويخرجون معهم إلى أماكن النزهة كأنهم أمة واحدة»‏‏[15].

3 – عرف تاريخ الإسلام حداً كبيراً من الغنى والثروة، لكن ذلك ظل حكراً على الخلفاء والوزراء والخاصة والأتباع، أما العامة فكانوا أسرى الفقر والجهل وموضع احتقار من الخاصة، لكن «طلاب السلطة المطلقة لا يستغنون عنهم لأنهم معظم الرعية وبهم تجبى الأموال ومنهم تتألف الجنود، فمن استطاع كسب ثقتهم واجتذاب قلوبهم ملّكوه»‏‏[16].

4 – يمثّل التاريخ الإسلامي تراجعاً من بعض الوجوه في حال المرأة العربية، لقد كان للمرأة في الجاهلية شأن وإرادة وكانت صاحبة إنفة ورأي وحزم، وقلّما أصاب هذه المناقب من تغيير في عصر الراشدين، فاتجهت قواها في صدر الإسلام إلى سداد الرأي ومزاولة الأدب والشعر‏‏[17]. إلا أن المرأة بدأت بتبديل طباعها من أيام الأمويين لأن العفة والغيرة أصابتهما في ذلك العصر صدمة قوية بتكاثر الجواري والغلمان وانغماس بعض الخلفاء في الترف‏‏[18]. ولم ينضج العصر العباسي حتى تنوسيت المرأة العربية في المدن وذهبت حريتها وغيرتها‏‏[19].

ثانياً: المنحى التنويري عند جرجي زيدان من خلال كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»

شكل فكر التنوير الذي عرفته أوروبا في القرن الثامن عشر فضاءً فلسفياً يختلف اختلافاً جذرياً عن الفضاء التراثي بما أرساه من قيم ومفاهيم وتصورات غير مسبوقة في التاريخ أصابت الإنسان وموقعه في الطبيعة والكون، والعقل الإنساني وأولويته وحريته في النقد والرفض والمساءلة، والنظام السياسي وحدوده ومصدره، والسلطة وشرعيتها وعلاقتها بالمجتمع والفرد، إضافة إلى التحولات الانقلابية في الأنماط الاقتصادية والتقنية والإنتاجية والمعرفية، ما شكّل عالماً جديداً بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية، عالماً خرج معه الإنسان من ظلامية القرون الوسطى إلى أنوار الحداثة حيث تشكلت مفاهيم الفرد والحرية الفردية والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني، المفاهيم المؤسسة للمجتمع الحديث الذي يتناقض في مفهومه وجوهره مع مجتمع ما قبل الحداثة، مجتمع الرعاية والوصاية والطاعة والانقياد إلى الغيب واللامعقول. وعليه، إن ادعاء الخطاب الإسلامي بأن قيم الحداثة إنما هي إسلامية الأصل أو أن الإسلام قد عرفها قبل الحداثة الأوروبية بزمن طويل، بالاستناد إلى بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بعد انتزاعها من سياقها التاريخي والثقافي، يشكل عملية تبجيلية محضة ومغالطة تاريخية حقيقية‏‏[20].

ارتبطت حركة التنوير بالضرورة، بإعلاء شأن العقل، بوصفه الميزان الوحيد للحكم على الأمور، وكذلك إعلاء شأن العلم، والتشديد على الالتزام بالموضوعية، مقارناً بالخضوع للأهواء، والاحتكام إلى التجربة والملاحظة، مقارناً بما يحب المرء أن يراه أو ما جرى الناس على اعتقاده‏‏[21]. إن فكرة العقل هي المحور الأساسي لفلسفة الأنوار لاعتقاد أصحابها الراسخ بأن العقل وحده كفيل بحل كل مشاكل الإنسان والتدرج به نحو بلوغ الكمال، وقد ارتبط مفهوم العقل عند فلاسفة الأنوار بنبذ الخرافات والأساطير، فالعقل وحده قادر على إخراج الإنسان من الظلمات وتوجيهه إلى الحقيقة، وإيجاد مجتمع قائم على العدالة والتسامح في الاعتقاد والمساواة في الحقوق الأساسية كالحرية السياسية والفكرية. وهكذا تم تنصيب العقل في عصر الأنوار بوصفه السلطة العليا في ترسيخ نظام جديد للأمور نابع من قوانين العقل نفسه‏‏[22]. والفكرة المركزية الأخرى في فكر الأنوار هي فكرة الطبيعة المكمّلة لفكرة العقل، حيث باتت دراستها دراسة علمية، وفهم قوانينها العامة، أمراً ممكناً من دون اللجوء إلى قوة خارجها تتحكم في مسارها، وتبرر التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي والسياسي وامتيازات رجال الدين والنبلاء‏‏[23]. أما فكرة التقدم فقد استحوذت على اهتمام أساسي عند فلاسفة الأنوار، إذ حسب هؤلاء سيؤدي ذيوع التنوير بالضرورة إلى التقدم، أي التحول التدريجي إلى الأفضل، والتوصل إلى حياة أرضية يزول فيها الشر والفساد ويرسخ الخير والفضيلة.

كما حظيت المسائل الاجتماعية والسياسية باهتمام بالغ في فكر التنوير، حيث أرسى روسو ومونتسكيو جملة من الآراء والمفاهيم الليبرالية في ما يتعلق بالحرية والمساواة والنظام الاجتماعي الأمثل. قال روسو بالحرية الأدبية التي هي وحدها تجعل الإنسان سيد نفسه، إذ إن طاعة القانون الذي يفرض بالعقد الاجتماعي هي «حرية»‏‏[24]، كما أن العقود هي الأساس لكل سلطة شرعية بين الناس‏‏[25]، ما يبطل أي مبرر للاستبداد المتناقض في الجوهر مع الطبيعة الإنسانية. وشدد روسو‏‏[26] ومونتسكيو‏‏[27]على ضرورة أن يراعي الحاكم الصالح العام وألا يصرف انتباهه على المطالب العامة إلى الأمور الخاصة.

أما مونتسكيو فقد حدد الحرية في «عمل كل ما تجيزه القوانين» لاعتبار أن العالم الاجتماعي يخضع للقوانين شأنه في ذلك شأن العالم الطبيعي. وقد استهل مونتسكيو مؤلفه «روح القوانين» بتعريف القوانين بوصفها العلاقات الضرورية المنبعثة من طبيعة الأشياء‏‏[28]. وأبدى كوندرسيه تفاؤله لمستقبلٍ للإنسانية يزول فيه الظلم وتعم فيه المساواة بين الأفراد والأمم على السواء، فيسير الإنسان بخطى ثابتة أكيدة على طريق الحقيقة والفضيلة والسعادة‏‏[29].

ولمفكري التنوير الغربي موقف من المساواة، فقد عنت عند روسو الاعتدال في الغنى والفقر بحيث لا يكون هناك مواطن بلغ من الفقر حداً يضطر معه إلى بيع نفسه. لكن المساواة يجب ألّا تعني على الإطلاق أن درجات الغنى والقوة ينبغي أن تكون هي إياها، أما إذا كان التطرف أمراً لا مفر منه، وجب على قوة الاشتراع تنظيمه‏‏[30].

وأرسى فكر التنوير الغربي فكرة «الوطن» المتعدية للمذاهب والطوائف والإثنيات، وكذلك فكرة التفاني في حب هذا الوطن وخدمته والتضحية بالمصلحة الخاصة في سبيله على نحو ما بين مونتسكيو في تحديده الفضيلة السياسية‏‏[31].

تغلغل فكر التنوير الغربي في الفكر العربي الحديث فأسهم في توجهاته وفي إرساء مقالات حداثية عند رواده كانت لا تزال غريبة عنه وعن التراث التاريخي للفكر الإسلامي عامة. فأفكار حرية الضمير والتسامح المرتبط بالحرية الدينية، وحرية التعبير، وتشجيع الشخص البشري على ممارسة استقلاليته الذاتية الكاملة، وتحقيق مصيره الروحي على هذه الأرض، هي كلها من صنع الحداثة ولم تعرفها المجتمعات السابقة لا في الجهة الإسلامية ولا في الجهة المسيحية‏‏[32]. لكن كيف تغلغل التنوير إلى فكرنا العربي وكيف تعرف روادنا النهضويون إلى قيمه ومقولاته؟

تجمع الدراسات التاريخية على التأثير الأساسي في انفتاح العرب على فكر الأنوار إلى حملة نابليون على مصر عام 1798‏‏[33]، فقد وضعت هذه الحملة الفكر العربي الذي كان ينوء تحت أثقال التقليد والتخلف القروسطيين على تماس مع فكر الغرب. وبهذا قدم الفرنسيون وحدهم للنهضة الثقافية والأيديولوجية العربية أكثر مما قدمته البلدان الأوروبية الأخرى مجتمعة، ويعود الفضل في ذلك إلى المنورين الفرنسيين في القرن الثامن عشر وإلى الثورة الفرنسية‏‏[34].

من هنا يمكن اعتبار الغزو الاستعماري الفرنسي حافزاً أساسياً ورئيسياً لدى النخبة المثقفة للبحث في أسباب تخلف الوطن العربي، وبالتالي التفتيش عن السبل الممكنة لمواجهة التحدي الذي يمثله هذا الغزو. في هذا الإطار بالذات، كان توجه الأوائل من رواد النهضة العربية الحديثة، وبخاصة أولئك الذين قيِّض لهم الاحتكاك المباشر بالمدنية الغربية، إن من خلال الهجرة إلى بعض العواصم الغربية، كالطهطاوي والشدياق والمرّاش، أو من خلال معرفة اللغات الغربية كبطرس البستاني، إلى مراقبة معالم التمدن الغربي والإفادة منه في بناء النهضة العربية الحديثة‏‏[35]. كان هم هؤلاء التلاؤم مع النفس والتلاؤم مع العالم الذي اكتشفوه عبر أوروبا، وإذ باستطاعتهم وهم داخل هذا العالم لا خارجه، أن يفهموه وأن يستفيدوا من إنجازاته بلا خوف على هويتهم أو على دينهم‏‏[36].

في ضوء هذا التوجه المميز لفكر النهضة العربية يجب أن نقرأ أيديولوجيا التنوير العربي كما برزت وتبلورت في كتابات النهضويين الرواد من رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المرّاش إلى شبلي الشميل وفرح أنطون وجرجي زيدان مروراً بناصيف وإبراهيم اليازجي ومحمد عبده وأديب إسحاق وعبد الرحمن الكواكبي.

تمثلت الفكرة الرئيسية عند المتنورين العرب في الاعتراف بالدور الخاص للعقل والعلم في المجتمع، وكان عليهم إنجاز مهمة بالغة الصعوبة، هي محاربة تجهيلية القرون الوسطى، ومحاولة إصلاح المجتمع عن طريق التنوير، كما في السعي إلى إزالة الفرقة الدينية وتوحيد الشعب. ولم يكن المتنورون العرب يؤكدون قوة العقل ويتطلعون إلى التقدم وحسب، وإنما كانوا يشجبون الاستبداد السياسي وطغيان رجال الدين ويعارضون كل ما من شأنه عرقلة التطور الحر للفرد‏‏[37].

في هذا السياق أعاد المتنورون العرب صياغة النظريات والمعايير التي كانت تلبي متطلبات المجتمع العربي وتوافق حالته، ومنها إعادة إنتاج نظرية الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي عند منوري المدرسة الرومنسية الفرنسية، وهي نظرية تقر للإنسان بحقوق ثابتة تحميه من الجور والاستبداد، وتقول بالشعب مصدراً وحيداً للسلطة، وبمبدأ الفصل بين السلطات، وبتنظيم العلاقات بين الناس وفقاً لقانون يسري على الكل، وبأن السلطة التشريعية مسؤولة أمام الشعب الذي له حق الرقابة على تصرفاتها ومحاسبتها. سنداً إلى هذه المثل السياسية بادر الرائد الحلبي فرنسيس المرّاش 1836 – 1874 في ستينيات القرن التاسع عشر إلى إعادة إنتاج نظرية روسو في العقد الاجتماعي والحرية الأدبية، فرأى أنه إذا كانت الحرية مستحيلة في العالم الطبيعي والمادي، لخضوع الإنسان لما لا ينتهي من القوانين المادية والطبيعية، إلا أن الحريات الاجتماعية والسياسية ليست ممكنة فحسب، وإنما هي واجبة وضرورية باعتبارها تعبّداً لأحكام دولة الصلاح وخضوعاً لقوانينها، وهذا هو عين الحرية‏‏[38]. ومن هنا نادى المرّاش في كتابه غابة الحق عام 1865 بـ «دولة العقل» وبتقييد السلطة برقابة الشعب ومراعاتها للصالح العام.

وتقدم اهتمام المتنورين العرب بالعلم فألفوا فيه سر التقدم وأساس رقي الشعوب وخلاصها. وجهدوا لذلك في نشر التعليم وحض الجماهير على التعلم واكتساب المعارف، لأن في ذلك أساس نهضة المجتمعات وارتقائها، فالشعوب المتنبهة لحقوقها قادرة على الجد في طلبها. وعلى هذه الخلفية بالذات نشط النهضويون في إنشاء المدارس في لبنان ومصر وسواهما من الأقطار العربية.

بشكل عام يمكن تلخيص أفكار التنويريين العرب في مبادئ أساسية‏‏[39]:

أ – الاعتراف بحقوق طبيعية للإنسان لا يمكن التصرف بها، كالحق في الحرية والحق في التفكير والتعبير والاعتقاد.

ب – مراقبة السلطة السياسية وتقييدها بقوانين تراعي العدل والمساواة، وإخضاعها للمساءلة والمحاسبة[40]، ونقد الامتيازات القائمة على دعاوى باطلة وغير مبررة.

ج – تنزيه الدين عن الأغراض السياسية والفصل بين الرابطة الوطنية والانتماء الديني‏‏[41].

د – الإقرار بالعقل مرجعية في الأمور الدينية إلى جانب المرجعية الفقهية‏‏[42].

هـ – التوجه إلى دراسة الطبيعة وقوانينها دراسة علمية بعيدة من السحر والتفسيرات الخرافية.

و – معاملة المرأة معاملة تليق بمكانتها في الأسرة والمجتمع، واحترام كرامتها الإنسانية وحقها في اختيار الزوج، وفي أن تنال نصيباً من العلم والمعرفة‏‏[43].

ويمكن القول إنه مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر جرى استيعاب كثير من النظريات والأفكار التي صاغها الغرب، والتي تميزت منذ ذلك الحين بأهمية حاسمة بالنسبة إلى الفكر العربي مثل أفكار الدستورية والبرلمانية والعدالة والقومية، وما إلى ذلك‏‏[44]. وقد استوعب المسلمون تلك النظريات والأفكار من خلال الأشكال والمفاهيم المألوفة لديهم في ضوء الإسلام، ولم يكن الإسلام بالنسبة إلى أغلبية المسلمين يعني مجرد الإيمان بتفوقهم الروحي، وإنما كان يعني أيضاً القوة القادرة على إنقاذهم من الاستعباد الاستعماري وضمان التقدم الشامل، الأمر الذي مثّل في الظرف التاريخي للثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مقدمة لتطور اتجاهات النزعة الإسلامية والإصلاح الإسلامي‏‏[45]. وكان يتقاسم أفكار الإصلاح الإسلامي بهذه الدرجة أو تلك مناضلون ضد الاستبداد وزعماء للحركة القومية التحررية التي كانت تستخدم تلك الأفكار في إثبات أو تأكيد آرائها وهو ما لم يكن بد منه ولا غنى عنه في ظروف هيمنة الدين على وعي الناس. ساعد ذلك على تقبُّل الأفكار التقدمية في الوطن العربي، إذ كان يعبّر عنها من خلال الشكل الديني المألوف، الأمر الذي أدى إلى تشكل أيديولوجيات قومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد استعان المتنورون العرب، في معرض تدليلهم على صحة آرائهم، بأمثلة من التاريخ العربي وتاريخ الإسلام وبالقرآن وبالأقوال المأثورة لعلماء القرون الوسطى، وأعادوا النظر في مادة الماضي الفكرية والآراء الاجتماعية والسياسية الغربية، بما يتمشى مع وجهة نظرهم‏‏[46].

في هذا السياق كان اتجاه التنويريين العرب، والمسيحيين خصوصاً، إلى التراث العربي والإسلامي وإلى اللغة العربية بوصفها حاملة هذا التراث، من أجل حث العرب على النهوض والتقدم، ودفع الأمة العربية إلى اليقظة واستعادة أمجادها الغابرة. كان هؤلاء بمنزلة الطليعة المباشرة للتغيير، لأنهم شكلوا الطبقة الأقدر على الاستجابة للأفكار والقيم الجديدة، وتكييفها وفقاً لحاجاتهم وواقعهم‏‏[47]. ولقد أحيت دراسة اللغة والآداب العربية في تلك الحقبة التاريخية الشعور بالأمجاد الغابرة، حتى أصبحت هذه الذكريات التاريخية مقوماً أساسياً من مقومات القومية العربية، وهكذا أصبحت اللغة العربية والأدب والتاريخ جوهر التراث الثقافي العربي، وهذا ما حدد للقومية العربية طريقها وأعطاها زخماً قبل الحرب العالمية الأولى‏‏[48].

من هنا كانت دعوة الشيخ ناصيف اليازجي إلى إحياء الأدب العربي القديم بوصفه السبيل الوحيد للنجاة. وكانت طرافة دعوته وجدّتها تثيران انتباه الناس لأنه كان يتجه بها إلى العرب، النصارى والمسلمين جميعاً، وكان يهيب بهم، في زمن كان التعصب الديني لا يزال عنيفاً، أن يذكروا تراثهم المشترك وأن يشيدوا على أسسه مستقبـلاً يجمعهم إخواناً متآلفين. وقد أصبح أحد أبنائه، إبراهيم، أول من نادى بالتحرر القومي للعرب‏‏[49]، وصاحب القصيدة الميمية المشهورة حيث يقول:

وما العرب الكرام سوى نصال                   لها في أجفن العليا مقام

لعمرك نحن مصدر كل فضل                     وعن آثارنا أخذ الأنام

ونحن أولو المآثر من قديم                       وإن جحدت مآثرنا اللئام[50]

أما المعلم بطرس البستاني فقد عمد إلى تأليف معجم للغة العربية محيط المحيط ومختصر له قطر المحيط، انطلاقاً من أن اللغة العربية هي «شامة في وجه اللغات» وهي التي تجمع العرب وتشدهم إلى ماضيهم التليد.

وفي هذا السياق من الاهتمام بالتراث وبعث الإحساس بالماضي الزاهر تبرز أمامنا أيضاً شخصيات أدبية مرموقة، مثل أحمد فارس الشدياق وفرنسيس المرّاش وأديب إسحق وجرجي زيدان الذين عبروا عن اعتزازهم بعروبتهم وتراثهم. أشاد المرّاش بتاريخ العرب وأخلاقهم وتفوقهم على الإفرنج، فالعرب كما يصفهم، طبعوا على الإنسانية، وهم الذين اتبعوا الجود والكرم وأبدعوا حفظ الذمم وغنوا بالنخوة المروءة، واشتهروا بعزة النفس وكرم الجنس. وهم أول أمة سمت بعرضها وأقسمت بشرفها وذمتها، وكفاهم بدايع لغتهم الشريفة بما فيها من الجواهر والدرر‏‏[51].

ويهيب أديب اسحق بالعرب احترام لغتهم وتاريخهم داعياً إياهم إلى الاتحاد ومواجهة الأخطار المحدقة بأمتهم، متسائلاً: «ألم يكن في كل هذه الأقطار نفر من أولي العزم تبعثهم الغيرة والحمية، على جمع الكلمة العربية فيتلافون أحوالهم قبل التلاف، متظاهرين متوازرين كالبناء المرصوص أو كصخور تلاحمت فصار ركامها جبـلاً لا تؤثر فيه العواصف ولا تضعفه الزلازل»‏‏[52].

التوجه المركزي الذي يمكن استنتاجه إذاً من خلال مراجعة توجهات متنوري الفكر العربي الحديث يتمثل بالانكباب على إحياء التراث العربي والإسلامي واللغة العربية حاملة هذا التراث والجامعة بين العرب، إذ كل العرب على حد تعبير أديب إسحق «إخوان في الوطن تجمعنا جامعة اللسان، وكلنا وإن تعددت الأفراد إنسان»‏‏[53]. أما التلاقي بين العروبة والإسلام فيعود إلى أنه كان للعرب النصيب الأكبر في تشكيل تاريخ الإسلام، فالقرآن كان عربياً، والنبي كان عربياً وكانت دعوته الأولى موجهة إلى العرب، وكان العرب مادة الإسلام الأولى، وأصبحت اللغة العربية لغة العبادة والعلم والشرع والثقافة، حتى حين انتقل الحكم إلى الأتراك احتفظت اللغة العربية بمركزها كلغة الثقافة الدينية والشرعية، فكانت هي تلك الوسيلة التي بواسطتها استمر العرب يقومون بدورهم في شؤون المجتمع العامة‏‏[54].

في ظل هذا الانبعاث التاريخي للأفكار العروبية والإسلامية، وفي مواجهة بروز النزعة العرقية المتعالية لدى الأتراك واتجاههم إلى تتريك اللسان العربي والثقافة العربية يبرز جرجي زيدان الرائد النهضوي اللبناني 1861 – 1914 كواحد «من أكثر الذين عملوا على إحياء وعي العرب لماضيهم، سواء بتواريخه أو بسلسلة رواياته التاريخية التي نهج فيها نهج الكاتب الإنكليزي وولتر سكوت ورسم على غراره أيضاً، لوحة رومنطيقية عن الماضي»‏‏[55].

ألف زيدان كتابه تاريخ التمدن الإسلامي مطلع القرن العشرين وهي مرحلة استشرت فيها نزعة التتريك والتعالي على العرب في مقابل اشتداد نقمة العرب على الأتراك، وبخاصة بعد أن قام الاتحاديون – حزب الاتحاد والترقي – يمهدون لبرنامجهم الخطير الرامي إلى تتريك جميع عناصر السلطنة في البوتقة الطورانية. وقد لخّص عبد الرحمن الكواكبي النفور القومي المستحكم آنذاك بين العرب والأتراك من خلال أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب، ومنها العرب الشحادون، الأجلاف، النوَر، القذرون، صغار العقول، فاسدو الذوق، كثيرو الهذر‏‏[56]. ومن الواضح أن الكره والنفور كانا متبادلين بين العرب والترك مدة طويلة على الرغم من ولاء العرب «للخليفة» السلطان طوال الحكم العثماني تقريباً، إذ كان العرب يقابلون احتقار الترك لهم، بقولهم فيهم: «ثلاث خلقن للجور والفساد، القمل والترك والجراد»‏‏[57].

لم يكن توجه جرجي زيدان إلى التاريخ العربي لغاية تأريخية محضة، بل هدف من وراء كتاباته التاريخية إلى إبراز انتصار الخير والعدالة والتنوير على قوى الشر والجهل، وقد تميز منحاه التأريخي باتجاه تنويري واضح، فهو إذ يلجأ إلى التاريخ العربي يشجب الطغيان ويؤيد النضال ضد الاستبداد في كل مظاهره. ولا شك في أن اللجوء إلى التاريخ قد ساعد على بلورة الشعور القومي لدى العرب وربّى فيهم كراهية الاضطهاد وحب الحرية‏‏[58].

أكب جرجي زيدان على تأليف كتابه تاريخ التمدن الإسلامي لافتقار قراء العربية – كما يذكر في مقدمة الطبعة الأولى – إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم. ولا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة على حد تعبيره، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث. فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث‏‏[59].

لا بد أولاً من الإشارة إلى التباس مفهومي العرب والإسلام واختلاطهما عند المؤلف، فهل هما متساويان أم هما مختلفان مع تلاقيهما من أكثر الوجوه؟

البيّن أن زيدان يخلط بين المفهومين، إذ إنه يتكلم أحياناً عن العرب فيما هو يقصد الإسلام أو يتكلم عن الإسلام فيما هو يقصد العرب. وفي استنتاجنا أن العرب على اختلاف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم، في رأي زيدان وهنا أساس الاختلاط عنده، إنما ينتمون إلى الإسلام بوصفه هويتهم الحضارية الجامعة.

عمل زيدان في تاريخ التمدن الإسلامي عبر أجزائه الخمسة على تأكيد أصالة دور العرب والمسلمين في التمدن الإنساني، على الضد من بعض الأطروحات الاستشراقية التي ذهبت إلى أن العرب لا فضل لهم في تمدنهم الإسلامي لأنهم أنشأوه على أنقاض التمدنين البيزنطي والفارسي، وإلى أن التمدن الإسلامي عبارة عن مزيج من ذينك التمدنين مع بعض التعديل. فالعرب وفق هذه الأطروحات بعيدون من الحضارة، لم ينشئوا تمدناً من عند أنفسهم في عصر من العصور الجاهلية ولا الإسلامية.

ينبري زيدان لهذه الأطروحات فيؤكد أن العرب أكثر الأمم استعداداً للحضارة وسياسة الملك، لا يقلون في ذلك عن سواهم من الأمم التي تمدنت قديماً أو حديثاً‏‏[60]. كما أن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة: «فالذين أقاموا منهم في بلاد ما بين النهرين أدهشوا العالم بمدنيتهم. والمقيمون في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا أنهر فيها ولا جداول، وقضوا قروناً في البداوة، لما أتيحت لهم الإقامة في البلاد الخصبة بعد الإسلام، لم يكن تمدنهم فيها يقصر عن تمدن أولئك»‏‏[61].

إن التمدن الإسلامي ليس أول عهد العرب بالحضارة، فاليمنيون كانوا واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين. وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة، فضـلاً عن ذلك، أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة في ذلك الحين، فالعربي والكلداني والأشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة. أما عرب اليمن القحطانية، فقد تمدنوا تمدناً لا تزال آثاره مطمورة تحت الرمال في حضرموت واليمن. ومن آثارهم في اليمن سد مأرب الذي يعد من عجائب الأبنية، وقد بنوه في القرن الثاني قبل الميلاد‏‏[62]. زد على ذلك أن العرب لم يمض على نشوء دولتهم قرن حتى ظهر تمدنهم وبانت ثمار عقولهم، ففي القرن الثاني والثالث للهجرة ملأوا الأرض علماً وأدباً ومدنية وحضارة مع أن سواهم – الجرمان والصقالبة – قضوا أجيالاً ولم يتمدنوا مع أنهم أقرب إلى مركز التمدن اليوناني من العرب‏‏[63].

وكان العرب في جاهليتهم أهل أنفة وذمام وكرم ووفاء، وهو ما يدل على استعدادهم لمستقبل عظيم‏‏[64]. وقد تكاثر الشعراء والخطباء والحكماء في القرن الأول قبل الإسلام، ما شكل نهضة أدبية شملت الدين ومهدت لقبول الدعوة الإسلامية‏‏[65]. ومع أن المسلمين ظلوا زهاء قرن وليس عندهم كتاب مدون غير القرآن ولم يكن معروفاً عندهم تأليف الكتب، وليس في آثار العرب بالحجاز ما يدل على أنهم كانوا يعرفون الكتابة إلا قبيل الإسلام، لم يمض عليهم قرنان والثالث حتى نضجت شريعتهم وتكون فقههم، وهو من أفضل شرائع العالم، وقد أسرعوا في ذلك مثل سرعتهم في تأسيس دولتهم ونشر دينهم‏‏[66]. ودخلت لغة العرب بعد الإسلام في طور جديد من البلاغة والفصاحة، ظهر في عباراتها على اختلاف طرق تأديتها خطابة أو كتابة‏‏[67]. فعرف المسلمون خطباء مثل علي بن أبي طالب والحجاج بن يوسف. وكان الخلفاء ينظمون الشعر ويكرمون الفقهاء والعلماء، وقد سعوا في نقل كتب العلم وبذلوا الأموال في البحث عنها وترجمتها، ونقلوا إلى لسانهم معظم ما كان معروفاً من العلم والفلسفة والطب والنجوم والرياضيات والأدبيات عند سائر الأمم المتمدنة في ذلك العهد. أخذوا من كل أمة أحسن ما عندها، فكان اعتمادهم في الفلسفة والطب والمنطق على اليونان، وفي النجوم والسير والآداب والتاريخ على الفرس، وفي التنجيم والزراعة والسحر على الأنباط والكلدان، وفي الكيمياء على المصريين، فكانوا بحق ورثة أهم العلوم عند غيرهم، وقد مزجوا ذلك كله وعجنوه واستخرجوا منه علوم التمدن الإسلامي‏‏[68]. وقد تم ذلك في قرن وبعض القرن ما لم يستطع الرومان بعضه في عدة قرون، ولم يكن ذلك ليتم لولا معاملة الخلفاء للنقلة بالبذل والإكرام، بقطع النظر عن مللهم أو نحلهم أو أنسابهم وفيهم النصراني واليهودي والصابي والسامري والمجوسي، مما يصح أن يكون مثالاً للاعتدال والحرية وقدوة لولاة الأمور في كل العصور‏‏[69]. ولا غرو إذا احتفى الخلفاء بأهل العلم، وهم أنفسهم كانوا من طليعة العلم ومريديه، وكان بعضهم علماء في الشرع واللغة والنجوم والفلسفة والمنطق.

وكان للعرب فضل كبير على الحضارة الإنسانية فقد نقل الرومان والمسلمون العلم عن اليونان، لكن المسلمين كانوا أكثر اشتغالاً بالعلم والأدب من أولئك، فلم يكتفوا بنقل العلم عن اليونان واستبقائه على حاله، بل هم درسوه وزادوا فيه من نتائج قرائحهم وعقولهم، وبما نقلوه عن علوم الفرس والهند والكلدان، فضـلاً عما وضعوه هم أنفسهم من العلوم الإسلامية واللسانية‏‏[70].

وتعد مؤلفات المسلمين بعشرات الألوف، ولا ريب أن الضائع منها يزيد على أضعاف الباقي، ودرس هؤلاء العلوم الدخيلة، قرأوا كتب أفلاطون وأرسطو وأدخلوا فيها آراء جديدة، فتنوعت وارتقت‏‏[71]. والعرب أحدثوا في الطب آراء جديدة، ولهم فضل كبير على الصيدلة، وكانت مارستاناتهم – مستشفياتهم – في غاية النظام يعالج فيها المرضى على اختلاف طوائفهم ونحلهم‏‏[72]. ولهؤلاء حظ وافر في علم النبات ودراسة النجوم وإنشاء المراصد، وقد فاقوا سواهم في الموسيقى وأتقنوا صناعة آلاتها، وأدخلوا ألحاناً لم تكن من قبل‏‏[73]. والعرب، على عكس ما يُظن، هم أسبق الناس إلى اختراع البارود، وإذا لم يكونوا اخترعوه فلا أقل من أنهم أوصلوه إلى ما عُرف به في الأجيال الوسطى‏‏[74]. أما في الأدب فقد فاق ما نظمه العرب من الشعر في قرن واحد أو قرنين ما لم يجتمع عند أمم العالم المتمدن في عدة قرون، وخصوصاً في العصر الجاهلي، ويربو ما نظموه في نهضتهم الأخيرة قبل الإسلام على أضعاف ألياذة هوميروس وأوديسيته ومهابهاراتة الهنود‏‏[75]. وما لبث الإسلام أن تحضروا وذاقوا طعم العلم حتى أصبحوا أحرص الناس على الكتب وأكثرهم بذلاً في الحصول عليها وأشدهم عناية في صيانتها. فأنشأوا المكتبات في بغداد وفي الأندلس ومصر، وقد حوت هذه المكتبات في عهد التمدن الإسلامي 4910000 مجلد مقارنة بـ 8539000 مجلد في مكتبات أوروبا مطلع القرن العشرين‏‏[76]. وجهد العرب في إنشاء المدارس، ففي القرن السادس للهجرة كان هناك 20 مدرسة في دمشق و30 في بغداد و17 مدرسة كبرى و120 مدرسة صغرى في غرناطة‏‏[77].

إلى جانب هذه الصورة المشرقة للتمدن الإسلامي، الأدبي والعلمي والثقافي، ثمة صورة أخرى لا تقل إشراقاً تمثلت بالحكم والسياسة عند العرب، كما رسمها زيدان بفكره التنويري، متأثراً في ذلك بما عرفه وعايشه من فكر أوروبا الليبرالي، فقد زار لندن سنة 1886 وقضى صيف 1912 متنقـلاً ما بين فرنسا وإنكلترا وسويسرا‏‏[78]. فأتقن الإنكليزية واطلع على كتب أوروبية يصعب حصرها، منها «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» لديمولان، و«العوامل الأخلاقية في تكوين الأمم» لغوستاف لوبون. واستشهد بآراء توماس مور وفورييه وسان سيمون ومبادئ الاشتراكية المسيحية وبعض آراء ماركس وبايكون وبحث في نظريات مكيافيلي وأيد النظريات العلمية التي أوردها لوبون في كتابه نشوء المادة. وإلى زيدان في كتبه التاريخية يعود الفضل في تعريف الوطن العربي للمرة الأولى بأساليب البحث الأوروبي ونتائجه، على الرغم مما فيها من أخطاء ومغالطات، على حد تعبير بروكلمان‏‏[79].

وكما قرأ زيدان حركة الثقافة والآداب والعلوم في التمدن الإسلامي من منظور ليبرالي وبمفاهيم ومصطلحات تنويرية، تعامل كذلك على هذا النحو مع توجهات الحكم والسياسة وتحولات السلطة وأشكال تعاملها مع الشعب في هذا التمدن بتصورات ومبادئ حداثية تنويرية مثل الحق والعدل والتسامح والشورى والمساواة والفصل بين السلطتين الدينية والسياسية ومساءلة الحاكم ومحاسبته وتواصله مع الناس وإصغائه لمشاكلهم وهمومهم. في ضوء هذه التصورات التنويرية تطرق زيدان إلى دراسة طبيعة السلطة في الجاهلية فلاحظ أن الأمير البدوي مع سلطته المطلعة قلّما يستبد في أحكامه، ويغلب أن يستشير أهل بطانته وخاصته، يجالس جميع الناس ويخالطهم، رفيعهم ووضيعهم، وهم لا يعرفون ألقاب التفخيم ولا نعوت التملق، فإذا خاطب البدوي أميره ناداه باسمه وطالبه بحقه‏‏[80]. وكان العرب في الجاهلية يختارون للرياسة أقواهم عقـلاً وأكثرهم دهاء وسياسة بلا تواطؤ أو تعمد‏‏[81].

أما سياسة الدولة في أيام الخلفاء الراشدين فكان قوامها الجامعة العربية، وعمادها العدل والرفق، فأخضعوا معظم المعمور في بضع وعشرين سنة، ووجهتهم دينية وسلاحهم التقوى والحق، وحكومتهم بالانتخاب والشورى‏‏[82].

وقد عرف الخلفاء الراشدون بالزهد والتقوى والعدل، فأبو بكر أسلم وعنده ثروة طائلة، أنفقها في سبيل الإسلام، ولما مات لم يجدوا في بيت ماله غير دينار. أما عمر بن الخطاب فكان شديد الحرص على أموال المسلمين لا ينفقها إلا في مصالحهم‏‏[83].

وتناول زيدان مسألة التسامح الديني في تاريخ التمدن الإسلامي، فرأى أن الإسلام تعامل بالاحترام والحسنى مع غير المسلمين. فالخلفاء الراشدون إذا أنفذوا جيشاً للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيراً، ولا سيّما النصارى ورهبانهم. ولم يكن المسلمون – يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، وكانوا يعترفون لصاحب القسطنطينية بسيادته على نصارى الشام‏‏[84]. وكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، ويحاورونهم في الدين، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم‏‏[85]. لكن هذا لم يحل دون معاناة هؤلاء في بعض المراحل التاريخية وخصوصاً أيام المتوكل المتوفي سنة 247 هـ، فقد كان أشد الخلفاء العباسيين وطأة عليهم، لأنه أمر بهدم الكنائس المحدثة بعد الإسلام، ومنعهم أن يُظهروا الصلبان في شعانينهم‏‏[86]. باختصار، إن أفظع ما قاساه اليهود والنصارى من الاضطهاد، إنما كان في دور الاضمحلال والتقهقر في العصور الوسطى، وخصوصاً بعد الحروب الصليبية. وقد كان أهل النفوذ من النصارى أشد وطأة على أهل دينهم من حكامهم المسلمين‏‏[87]. وبصورة عامة إن المسلمين في إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصباً للدين‏‏[88]. إلا أن الأمويين ما لبثوا أن انحرفوا عن القواعد التي وضعها الخلفاء الراشدون في إنفاق الأموال والتعامل مع غير المسلمين، فابتزوا الأموال من البلاد التي فتحوها بأية وسيلة كانت، حتى إنهم مدوا أيديهم إلى الزكاة، وبالغوا في القوة والعنف وتجاوزوا الحدود في القتل والتمثيل بالقتلى فتوقف نشر الإسلام على عهدهم وخرجت الدولة من أيديهم‏‏[89]. ولما قامت الدولة العباسية وأصبح الوزراء والعمال يعملون لحشد الأموال، وتجمعت الأثقال على رؤوس الرعية، ساءت حالهم.

كل ذلك مرده في رأي زيدان إلى أن سبب خراب الممالك «الظلم»، فإنه يقوض أركان الدول بما يدعو إليه من تقييد الأيدي عن العمل، فيقعد الزارع عن زراعته، والتاجر عن تجارته، والصانع عن صناعته، ولا مال إلا إذا اشتغل هؤلاء، ولذلك قالوا «العدل أساس الملك». أما دول هذه الأيام فأساس نظامها الحرية الشخصية، والمبادئ الاقتصادية، فلا يطالب أحد من الناس إلا بما يقتنع هو أنه حق صريح، وإلا فإنه يتظلم وظلامته مسموعة‏‏[90].

على هذا النحو أوصل زيدان رأيه في الحكم العادل القائم على الشورى بمعناها التنويري، وباعتباره متلازماً مع العدل وخدمة الصالح العام. ما يقتضي الفصل بين الخلافة والسلطة الأمر الذي حرص عليه أهل التقوى من المسلمين، لأن الحكم المطلق لا يتأيد ويتسع نطاقه ويطول مكثه إلا بالدين، فما من دولة مطلقة طال حكمها واتسعت مملكتها إلا وفي سلطتها صبغة دينية تجعل لملوكها مزية على سائر الناس. أما إذا أريد فصل الدين عن السياسة فلا بد من تقييد الحكومة بالشورى، وهي أفضل الحكومات وأطولها عمراً، وإلا فإنها تنحل سريعاً‏‏[91].

إن الدور الأساسي للدين في السياسة يقوم على توسط الفقهاء بين الخليفة والعامة، لأن عامة المسلمين ينقادون إلى فقهائهم ويستسلمون إليهم. فالخلفاء العباسيون كانوا يحتاجون إلى الفقهاء للاستعانة بهم على إخضاع العامة وامتلاك قلوبهم. والنفع متبادل بين الفئتين، لأن الفقهاء كانوا يكتسبون بتقربهم من الخلفاء مالاً وجاهاً ولكن ما يكتسبه الخلفاء منهم أعظم وأبقى‏‏[92].

إن طلاب السلطة المطلقة لا يستغنون عن العامة، لأنهم معظم الرعية، فمن استطاع كسب ثقتهم واجتذاب قلوبهم ملَّكوه، ولا يجتذب قلوب العامة مثل الدين، فإذا اجتمعت السياسة والدين تمت وسائط السلطة المطلقة وتولى أمور الناس أكثرهم دهاء‏‏[93].

هذه النصوص تؤكد أن زيدان كان من مؤيدي الاتجاه التنويري الرافض لاستخدام الدين لأغراض سياسية، الذي تمثل بفكر النهضة العربية عند أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المرّاش وفرح أنطون وأديب إسحق وسواهم. إلا أن زيدان، كما يبدو من بعض نصوص تاريخ التمدن الإسلامي كان يميل إلى القول بـ «المستبد العادل» فـ: «الحاكم المطلق إذا كان عادلاً مع علم وكفاية وسلامة الحواس لم يكن أقدر منه على النهوض بأعباء المملكة وتوسيع نطاقها والتوفيق بين رعاياه»‏‏[94]. لكن الحاكم يجب أن ينتخب بالشورى على ما درج عليه الخلفاء الراشدون، وهذا في رأي زيدان أفضل ما وصل إليه جهد المتمدنين. فأكثر حكام العالم المتمدن يحكمون بقوانين سياسية وضعها عقلاء الأمة وأكابر الدولة، يطيعها الناس ويجرون على أحكامها، وكان هذا شأن الملوك المطلقين في أوروبا إلى عهد قريب، بل كذلك شأن الديمقراطيات التي يتولى الحكم فيها ملك يرث العرش عن آبائه أو رئيس جمهورية ينتخبه الشعب وفق قواعد مقررة في الدستور‏‏[95].

وبحث جرجي زيدان في «المساواة» في التمدن الإسلامي فرأى أن الدولة الإسلامية نشأت على المساواة والمؤاخاة والتعاون. وقد استمرت على هذه القاعدة خصوصاً في عصر الخلفاء الراشدين، فعمر بن الخطاب الذي ولى الأشعري في الكوفة، طالبه بالمساواة بين الناس بقوله «ساو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك»‏‏[96]. لقد توخى الراشدون التسوية بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم، حتى أصبحوا يخاطبون الخليفة أو الأمير بجسارة وأنفة كما يخاطبون بعض أقرانهم، وإذا رأوا فيه اعوجاجاً هددوه أو عنفوه وأصلحوه، فإذا لم يطعهم قتلوه. وكثيراً ما كان المسلمون يحصبون أميرهم وهو يخطب فيهم، إذا أنكروا شيئاً من أقواله أو أعماله‏‏[97]. وكان الخلفاء الراشدون حتى زمن الأمويين يجالسون الناس ويخاطبونهم لا يحتجبون عنهم. وبالإجمال كان سلوك الخلفاء الراشدين شبيهاً بسلوك الرؤساء في الديمقراطيات الحديثة، بالبساطة في العيش والتصرف مثل سائر الناس.

وخص زيدان المرأة في التمدن الإسلامي باهتمام كبير. تناول أحوال المرأة في الجاهلية فأشار إلى أنها كانت تشارك الرجل في تدبير شؤونه وتعينه في أسفاره وأعماله، وقد كان لها شأن وإرادة وكانت صاحبة أنفة ورأي وحزم، فنبغ غير واحدة منهن في السياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة. والغالب في نساء الجاهلية أن يخيَّرن قبيل الزواج، فلا يزوج الرجل ابنته إلا بعد أن يشاورها. ونساء الجاهلية كن يصحبن الرجال إلى ساحة القتال فيداوين الجرحى ويحملن قرَب الماء‏‏[98]. واشتهرت من النساء غير واحدة في صدر الإسلام، جرت بذكرهن الأمثال، منهن عائشة أم المؤمنين، فقد كان لها عقل راجح وقد رأست حزباً كبيراً من الصحابة وروت أحاديث كثيرة هامة. ولما نضج التمدن الإسلامي اشتهر عدة نساء بالسياسة والصلاح‏‏[99]. إلا أن ما طرأ على العرب بعد الإسلام من انغماس في الرخاء والقصف واختلاط بأهل المدن، أفضى إلى انحطاط المرأة وذهاب عزة نفسها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل، وأقفل عليها الأبواب والنوافذ، وسد في وجهها الطرق والمسالك، ومنعها من الخروج أو الكلام، وهو صاحب الذنب في انحطاطها‏‏[100].

ومن نتائج هذا الاضطراب والخلل في علاقة الرجل بالمرأة في التمدن الإسلامي، الحجاب الضيق على نحو ما شاع بين العائلات الإسلامية في الشرق. وما سبب ذلك سوى سوء ظن الرجال بالمرأة واستبداده بأهل بيته واستئثاره بالملذات لنفسه، وليس هو من مقتضيات الإسلام، ولكن الناس تعودوا أن يفسروا الآيات القرآنية بما يوافق عاداتهم أو أغراضهم أو أميالهم. واعتقدت المرأة بتوالي الأجيال أنه يحل للرجل ما لا يحل لها، فصبرت عليه وخافته، وخافها وحبسها وجعل بينه وبينها حاجزاً، وأعلن ارتيابه وأصبح يفاخر بأنها لا تخرج من منزلها إلا إلى القبر‏‏[101].

على أن ظلم المرأة على هذه الصورة واحتقارها مخالف لتعاليم القرآن، لكن البلاد التي يتولاها حاكم ظالم يقتدي به أرباب العائلات بظلم نسائهم وأولادهم، أما في الحكم العادل فالمرأة تنال حقوقها والرجل يعدل في بيته فالبيت دولة صغيرة تمثل دولة الأمة‏‏[102].

ويرفض زيدان تعدد الزوجات، إذ هو في رأيه من آفات العائلة الإسلامية، أما الآيتان اللتان تتحدثان عن تعدد الزوجات، فهما أقرب إلى النهي عن ذلك منه إلى الأمر به، ولذلك رأيت الغالب في العقلاء وأهل المروءة الاكتفاء بزوجة واحدة‏‏[103].

بهذا المنحى التنويري في قراءة تاريخ التمدن الإسلامي، لا يكتفي زيدان بتأكيد قابلية العرب والمسلمين للحداثة التنويرية، بل إنه أكد في الوقت نفسه أن التمدن الإسلامي جزء أساسي ومكون أصيل في تاريخ الحداثة الإنسانية.