ملخّص:

تتمحور هذه الورقة البحثية حول انعكاسات الصدمة النفسية المرتبطة بالحرب على الأطفال في جبل عامل (جنوب لبنان). فمن المعروف أن هذه المنطقة شهدت العديد من الحروب جراء الاعتداءات الصهيونية عليها، وكان آخرها حرب تموز 2006، وما آلت إليه هذه الحرب من خسائر مادية وبشرية وانعكاسات نفسية واجتماعية شملت كل الفئات العمرية والجندرية، ولا سيما الأطفال منهم، موضوع دراستنا بوصفهم الأكثر تعرضًا لخطر ضغوط ما بعد الصدمة، لأنهم ينتمون إلى مرحلة عمرية نمائية حسّاسة يوضع فيها بذور الشخصية ومكوّناتها المختلفة، وما تعكسه تلك الصدمة من اضطرابات نفسية واجتماعية مباشرة وغير مباشرة، قريبة الأمد، ومتوسطة الأمد، على الأطفال والتي قد تستمر معهم طيلة أيام حياتهم.

تعرض هذه الدراسة لحالات تم فحصها في العيادة النفسية ممن توافرت فيهم خصائص تشير إلى تعرضهم لصدمة الحرب، وتفسيرها في ضوء المنهج الإكلينيكي بهدف الوصول إلى رؤية متكاملة حول الأبعاد النفسية والاجتماعية والتربوية والنفس-جسدية وتقديم مقترحات متعلقة بنتائج الدراسة يمكن الاستفادة منها في أبحاث مستقبلية.

كلمات المفتاح: الصدمة النفسية، اضطراب ما بعد الصدمة، الأطفال.

مقدّمة:

شهد جبل عامل عبر تاريخه العديد من الحروب، جراء الاعتداءات الصّهيونية عليه، والتي كان آخرها حرب تموز 2006، حيث تعرضت المنطقة إلى أحداث مؤلمة تخطّت حدود التجربة الإنسانية، من نزوح و تهجير، وما رافقها من قتل وعنف ودمار وقصف متواصل ليل نهار، ومجازر وخطف وتهديد، وفقدت العديد من الثروات ووسائل الإنتاج، وجفّت مصادر الدخل، وتحوّل اقتصاد المنطقة من اقتصاد اكتفائي إلى اقتصاد معونات، وتحّول الناس إلى حياة معسكرات بائسة، والسكن في الملاجئ وما فيها من حياة الذّل والمسكنة والمخاطر والأمراض وتسوّل المنظمات الأجنبية وانعدام الرؤية والغد المجهول.

إن هذه الأحداث الصادمة والمتكرّرة، الفجائية والمهدّدة للحياة، وما يرافقها من أعمال عنف وتشرد وفقدان المسكن وتقطّع أوصال الحياة العادية للأسرة، وفواجع الموت المفاجئ والتعرّض للعوز وصعوبات الحياة ومشاعر التهديد؛ كلها مؤثرات تسبب زعزعة الثّقة وسقوط الطّمأنينة بالوجود وتفاقم الضغوط النفسيّة على المواطنين، وتترك وراءها انعكاسات نفسية مرضية صنفت علميًا باسم: “المتلازمات النفسية التي تعقب التعرّض للشدّة أو اضطرابات ما بعد الضغوط الصّدمية (Post –Traumatic Stress Disorders (PTSD)) “[1]، ولا سيما إذا لم يتوافر لتلك الصدمات السيئة عوامل تصريف وبصورة كافية خاصة في مرحلة الطفولة، فإنها تستمر معهم بقية حياتهم، وتظهر بشكل أعراض واضطرابات نفسية واجتماعية مباشرة وغير مباشرة، قريبة الأمد ومتوسطة الأمد، وربما تستمر معهم بقية حياتهم، وتعتمد على قدرة الإنسان في التكيف مع تلك الأحداث.

وتشير دراسة نفّذتها الجمعيّة الكويتية لتقدّم الطفولة العربية حول الأحوال النفسية للأطفال والشباب في لبنان بعد حرب تموز بتسعة أشهر على عينة من 6632 تلميذًا وتلميذة من صفوف الروضة حتى صف الثاني عشر، إلى نسبة 26 بالمئة من هؤلاء يعانون “ضغط ما بعد الصدمة[2]“.

وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الأطفال يتأثرون بأحداث الحرب بطرق مختلفة تعتمد على المميزات الشخصية لكل طفل، والتي تحدد المعنى الخاص الذي يعطيه الطفل للحدث. كما تؤدي الخصائص الشخصية للطفل الذي يتعرض للأزمة دورًا مهمًا في درجة تأثره بها، وتشمل:

– طبيعة المرحلة العمرية للطفل؛ طريقة إدراك الطفل للحدث الصعب؛ خبرات الطفل السابقة؛ قدرة الطفل على التعبير؛ إحساس الطفل بالدعم والرعاية الكافية من الأهل والمحيط.

من هنا يأتي اهتمامنا بشريحة الأطفال، البنية الأكثر هشاشة عن بنية باقي الفئات العمرية الأخرى، نتيجة عجزهم وقصورهم عن تلبية حاجاتهم بمفردهم، وعدم قدرتهم على حماية أنفسهم، وقلّة حيلتهم وضعفهم، وتبعيتهم للعالم الخارجي، إضافة إلى نقص المهارات في مواجهه الضغوط والمرونة النفسية في التكيف معها، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة لاضطراب ما بعد الصدمة، كون الحدث الصادم يجعلهم يقعون في دائرة المعرَّضين للخطر حسب ما عبّر عنه إريكسون “الأزمة المحتملة عند الأطفال” في إطار حديثه عن التطور النفسي لكل مرحلة نمائية، والتي تتفاوت بدرجات مختلفة وتزداد شدّة في الظروف غير الطبيعية كالكوارث والحروب. إضافة إلى اعتبار مرحلة الطفولة من أخطر المراحل النمائية في تكوين الشخصية ولا يقتصر خطرها على أنها المرحلة التي توضع فيها بذور اضطرابات الشخصية المختلفة، بل إنها المرحلة التي توضع فيها أسس الشخصية السليمة بأبعادها ومكوّناتها المختلفة.

هذه المقدمة تقودنا إلى طرح التساؤلات الآتية:

  • ما الاضطرابات المترتّبة على ضغط ما بعد الصدمة لدى الحالات التي تمّت دراستها؟
  • كيف انعكست تلك الاضطرابات على البنية النفسّية والاجتماعيّة للطفل؟
  • كيف يمكننا مساعدة هؤلاء الأطفال للحدّ من احتمالات تطوّر تلك الاضطرابات، ودرء عوامل الخطر التي قد تنذر بمرض نفسي، يهدّد صحتهم النفسية وتوازنها بقية حياتهم؟

أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة وموضوعها على المستويين النظري والتطبيقي، حيث يعَدّ موضوع الصدمة النفسية موضوعًا مفتاحيًا في علم النفس المرضي، فمن جهة يجعلنا نفهم الاضطرابات النفسية انطلاقًا من فهم تأثيرات الصدمة النفسية المرتبطة بالحرب، ومن جهة أخرى لأن أغلب الاضطرابات المعروفة في علم النفس المرضي والطب النفسي في إطار التعرّض لأحداث صادمة تتجاوز القدرات الدفاعية للشخص.

على المستوى النظري: تطلع هذه الدراسة على مجموعة من وجهات النظر والطروح المعروضة في الأدبيات العالمية حول الصدمة النفسية وحول انعكاساتها سعيًا للتعمق في تلك المعارف المتوفرة حولها.

على المستوى التطبيقي: تعتمد هذه الدراسة في تفسير الحالات التي تم اختيارها على مقاربات سيكولوجية – تحليلية، تهتم بالجانب النفسي لتلك الحالات كون منظور البحث هو منظور عيادي. إضافة إلى مقاربات سوسيولوجية حول نمط الحياة الذي تعيشه تلك الحالات، حيث أنه لا يمكننا الفصل بين العوامل النفسية والعوامل الاجتماعية التي تشكل كلًا مترابطًا في فهم وتفسير مفاعيل اضطرابات ما بعد الصدمة وتحقيق الأهداف المرجوة.

دوافع اختيار الموضوع:

دوافع ذاتية: تم اختيار هذا الموضوع انطلاقًا من دوافع ذاتية مرتبطة في علاقته مع خبراتي في البحث من جهة والممارسة العيادية من جهة أخرى.

دوافع موضوعية: مما تقدم حول أهمية هذه الدراسة التي تأخذ طابعًا خاصًا ومميزًا، فإننا لم نجد أي من الباحثين قد قام بإجراء دراسة علمية لتقييم الآثار النفسية والاجتماعية “طويلة الأمد” المرتبطة باضطراب ما بعد ضغوط الصدمة على الأطفال في جبل عامل تحديداّ. ولهذا فإن هذه الدراسة بمثابة حلقة مكملة لسلسلة من الدراسات المختلفة السابقة حول الموضوع نفسه في جبل عامل أو في لبنان ككل أو في غيرها من بلدان الوطن العربي.

الإطار المنهجي للدراسة:

للإجابة عن تساؤلات الدراسة وتحقيق أهدافها، تمّ اعتماد الطرق والإجراءات المنهجية العلمية التي تجسّدت في الأطر الآتية:

المنهج المعتمد: نظرًا إلى طبيعة موضوع البحث وأهدافه، تمّ استخدام المنهج الإكلينيكي الذي يعتمد على دراسة الحالة الفردية باعتبارها حالة إنسانية خاصة “لا سبيل للتعميم منها إلى باقي الحالات الأخرى”. هو منهج “يهتم بالتفاعل بين الوقائع أو ما يعرف بدينامية الوقائع (أي أن الوقائع ليست في حالة ساكنة بل تؤثر وتتأثر بالتغيرات المحيطة بالفرد). حيث لا يكون الفرد جمعًا لهذه الوقائع، بل هو نتاج لتفاعله داخله”[3].

ودراسة الحالة التي تقوم على الدراسة المعمقة لحالات فردية ومتفردة من حيث كونها وحدات كلية موجودة في وضعية، تفيدنا في الكشف عن الوقائع الأكثر ارتباطًا باضطراباته النفسية، والتعمق في فهم الانعكاسات النفسية والاجتماعية التي خلفتها تلك الاضطرابات.

التقنية المستخدمة: تعتمد هذه الدراسة على تقنية مناسبة للمنهجية المتبعة، أهمها تطبيق المقابلة العيادية نصف الموجهة التي تسمح لنا بتشخيص الحالة، بالإضافة الى اعتماد تقنية الملاحظة الحرة كأداة مكمّلة للمقابلة العيادية، والتي تفيد في جمع بيانات تتصل بسلوك الفرد.

عينة البحث وخصائصها: يمكن تصنيف عينة البحث بالعمدية، التي يقرر الباحث مقدمًا مفرداتها، حيث وقع اختيارنا على ثلاث حالات تم فحصها في العيادة النفسية “من قبل الباحثة كونها اختصاصية نفسية”، ممن توفرت فيهم خصائص تشير إلى تعرّضهم لصدمة الحرب، وفق معايير وخصائص يوضحها الجدول الآتي:

جدول

توزُّع العينة حسب القضاء الذي تنتمي إليه، النوع، العمر عند الصدمة، العمر عند زيارة العيادة النفسية، نوع الاضطراب، الوضع الاقتصادي للأهل

أسماء الحالات والقضاء الذي تنتمي اليهالنوعالعمر عند الصدمةالعمر عند زيارة العيادة النفسية-تاريخ الزيارةنوع الاضطرابالوضع الاقتصادي للأهل
ميرا- قضاء مرجعيونأنثى6 سنوات

2006

12 سنة

2012

التبول اللاإراديمتوسط
حسن- قضاء النبطيةذكر 7 سنوات

2006

15 سنة

2014

العدوانية والانتقاميةغير ميسور
مهدي- قضاء صورذكر 9 سنوات

2006

17 سنة

2014

حزن شديد واضطراب في المزاجميسور

من خلال الجدول، حول خصائص العينة التي تمّ اختيارها، تمّ مراعاة التنوع المناطقي (قضاء النبطية، قضاء مرجعيون وقضاء صور)، التنوع العمري الذي تراوح ما بين (6-9) سنوات (مرحلة الطفولة المتوسطة)، وهو عمر الأطفال عند اندلاع حرب تموز، والتنوّع النّوعي (اثنان من الذكور وأنثى واحدة)، والتنوّع الطّبقي (من ميسور إلى متوسط إلى غير ميسور).

كما حرصت الدراسة على اختيار مستويات متنوعة من الأطفال لجهة تعرّضهم لتأثير ما بعد ضغوط الصدمة المرتبطة بالحرب، منهم من فقد عزيزًا، ومنهم من تعرّض لمشاهد دموية، ومنهم من تعرّض لانفجار لغمي. وذلك للاستدلال على مستويات متنوعة من التأثير.

مجالات الدراسة:

المجال البشري: أجريت هذه الدراسة على فئة الأطفال ممن تعرّضوا لاضطراب ما بعد الصدمة جراء حرب تموز 2006، تراوحت أعمارهم بين (6-9 سنوات)، وهو عمر الأطفال عند اندلاع تلك الحرب.

المجال الزمني: انطلقت هذه الدراسة فعليًا في شهر تموز/ يوليو 2018 ولغاية نهاية شهر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه. جدير بالإشارة أن قِصَر مدة الدراسة يعود إلى توفّر جميع البيانات والمعطيات الموّثقة سابقًا في عيادتنا، منذ العام 2012 ولغاية العام 2014 (تاريخ زيارة تلك الحالات للعيادة النفسية بهدف العلاج).

المجال المكاني: تم تطبيق إجراءات الفحص والتشخيص العيادي والعلاج النفسي في أحد المراكز العلاجية الواقعة في منطقة جبل عامل، قضاء النبطية.

المصطلحات المستخدمة في الدراسة:

الصّدمة النفسّية: عرفها معجم مصطلحات التحليل النفسي على “أنها حدث في حياة الفرد يتحدد بشدّته وبالعجز الذي يجد الشخص نفسه فيه والاستجابة الملائمة حياله، بما يثيره التنظيم النفسي من اضطراب وآثار دائمة مولّدة للمرض”[4].

اضطراب ما بعد الصدمة: “إنه وعقب التعرض لحدث صادم يحصل تنوع كبير في أشكال المعاناة النفسية”. وفي بعض الحالات، يمكن أن تفهم الأعراض بشكل جيد ضمن السياق القائم على الخوف أو القلق”[5].

الأطفال: يعرف الطفل وفق مواثيق الامم المتحدة “بأنه كل إنسان لم يتجاوز السنة الثامنة عشرة”[6].

مرحلة الطفولة المتوسطة: “(من 6 إلى 9 سنوات)، فيها ينتقل الطفل من البيت إلى المدرسة، فتتوسّع دائرة بيئته الاجتماعية وتتنوع تبعًا لذلك علاقاته، وتتحدد ويكتسب الطفل معايير وقيمًا واتجاهات جديدة، والطفل في هذه المرحلة يكون مستعدًا لأن يكون أكثر اعتمادًا على نفسه وأكثر تحملًا للمسؤولية وأكثر ضبطًا لانفعالاته، وهي أنسب مرحلة للتنشئة الاجتماعية وغرس القيم التربوية والتطبيع الاجتماعي”[7].

مرحلة المراهقة: “هي المرحلة التي يكتمل فيها النضج الجسمي والانفعالي والعقلي والاجتماعي وتبدأ بوجه عام في الثانية عشرة وتمتد حتى الحادية والعشرين وإن ذهب بعض الباحثين على اعتبار نهايتها في الثامنة عشرة وتسمى الفترة الأولى من هذه المرحلة بفترة البلوغ”[8]. ويرى دوروثي روجرز “بأن المراهقة هي فترة نمو جسدي وظاهرة اجتماعية ومرحلة زمنية، كما أنها فترة تحولات نفسية عميقة، ينتقل من خلالها الكائن البشري من مرحلة الطفولة الى مرحلة الرشد”[9]. وحسب إريكسون “يسعى المراهقون في هذه المرحلة إلى تأكيد هويتهم ويحاولون تحديد أدوارهم وطاقاتهم وإمكانياتهم… وتنشأ الأزمة بين حاجات ورغبات الافراد ومطالب المجتمع”[10].

النكوص (Regression): “هو نمط آخر من أنماط الحيَل الدفاعية يتميز بالعودة إلى الوراء وإعادة تحريك لما سبق أن سجل في مراحل النمو المتتالية، فهو الرجوع في اتجاه معاكس من نقطة ثم الوصول إليها، إلى نقطة تقع قبلها”[11].

الإنكار (Denegation) : “إنكار الواقع عملية لا شعورية تحمي الأنا من مواجهة الواقع أو الحقيقة المؤلمة ويختلف الإنكار عن الكبت في أن مصدر الخطر فيه هو العالم الخارجي وليس اندفاعات الهو”[12].

عمل الحداد (Travail du deuil): يعرّف معجم مصطلحات التحليل النفسي عمل الحداد على “أنه عملية نفسية داخلية تلي فقدان موضوع التعلق العاطفي، وينجح الشخص تدريجيًا من خلالها في الانفصال عن ذلك الموضوع[13].

التثبيت (Fixation): “هو توقف النزعة الغريزية عند مرحلة مبكرة من مراحل التطور تتخلف بعض المكونات تخلفًا دائمًا عند أحد الأطوار الأولى، بينما تسير المكونات الأخرى في تطوّرها الطبيعي”[14].

التماهي (تعيين، توحّد) (Identification): “هو عملية نفسية يتمثل فيها الشخص دوافع وخصائص وصفات شخص آخر، فتغيره كليًا أو جزئيًا حسب نموذج التمثيل، فالشخصية تتمايز من خلال سلسلة من التماهيات”[15].

الكبت (Refoulement): “الكبت هو المحرك الأساسي للاشعور وهو عملية نفسية يحاول الشخص من خلالها حماية أناه، عن طريق دفع الأفكار والخبرات التي تتصارع مع مبدأ الواقع إلى حيز اللاشعور. فالخبرات المؤلمة التي تسبب للفرد الشعور بالذنب أو الدونية وتؤدي به إلى الشعور بالفشل غالبًا ما تنسى، حتى لا تتسبب ألمًا للأنا، إذًا فالفرد يهرب من كل ما يمكن أن يكون مصدر ضيق واضطراب عن طريق كبته ونسيانه”[16].

أقسام الدراسة:

في ضوء تساؤلات الدراسة وأهدافها والمنهجية المعتمدة، تم تقسيم الدراسة إلى مقدمة وثلاثة أقسام أساسية ومن ثم خلاصة وتوصيات.

يتناول القسم الأول الصدمة النفسية ومراحلها، أما القسم الثاني فيعالج اضطرابات ما بعد ضغوط الصدمة، ويتمحور القسم الثالث حول دراسة الحالات، مناقشتها وتفسيرها، أما الخلاصة والاستنتاجات فتتبلور في ضوء تساؤلات الدراسة وأهدافها.

أولًا: الصّدمة النفسيّة

يأتي الحديث عن الصدمة النفسية في هذا القسم لكونها الركيزة الأساسية والسبب المباشر للوصول إلى اضطراب ما بعد الصدمة. ويعدّ الحدث الصادم المتعلّق بالحرب سببًا في ملاحظة واكتشاف هذا الاضطراب. وتدل الأبحاث على “أن 34.6 بالمئة من الأطفال والشباب اللبنانيين تعرّضوا لما بين 12.24 حادثًا خلال حرب تموز (سماع قصف، رؤية مشهد، إصابة، فقدان منزل، فقدان قريب… إلخ)”[17]. وتجدر الإشارة إلى أن الأحداث الصدمية المسببة لاضطراب PTSD هي ليست المتعلقة بالحروب وكوارثها فقط، وإنما هذا الاضطراب ممكن أن يُسبَب عن الكثير من أنواع الصدمات التي تنطوي على تهديد الحياة، وبإمكانه أن يصيب الذكور والإناث على حد سواء، ويصيب الأطفال مثلما يصيب البالغين.

ولتعريف الصدمة النفسية، علينا بداية التفريق بين مفهومَي الضغط والصدمة كتمهيد للدخول في تفاصيل الصدمة النفسية وفهم الاضطرابات النفسية الناجمة عنها.

1- التمييز بين مفهومي الضغط والصدمة

الضغط النفسي هو حالة نفسية وبدنية وشعورية تنتاب البشر جميعًا في جميع الأعمار، يختبرها الشخص عندما يشعر بوجود خطر أو سبب يعرض استقراره، أو وجوده المادي، أو الاجتماعي، أو لمن يرتبط به بعلاقات أسَرية أو عاطفية إلى التغير، فهو حالة من الإنهاك النفسي والبدني والشعوري المستمر نتيجة محاولتنا ضبط أوضاعنا النفسية والبدنية والشعورية في مواجهة التغيرات في محيطنا الخارجي. يقول هانس سيلي: “إن الضغط النفسي هو ردّ فعل الإنسان للتغيرات التي هي جزء من حياته اليومية”[18].

أما الصدمة فهي تتظاهر غالبًا بعد وقت كمون وبعد مواجهة حدث خارجي، حيث “يتحول التهديد من تهديد خارجي مرتبط بالحدث إلى تهديد داخلي مرتبط بالهلع الذي يتجاوز الخوف والقلق وأيضًا الضغط، تنطبع بعد ذلك هذه الصورة للصدمة داخل الجانب النفسي في شكل “تهديد داخلي” ودائم، ناجم عن الالتقاء العيني مع الموت  (Reel de la Mort)، ويبقى تأثيره مستمرًا على الشخص ولا ينتهي بانتهاء الحادث”[19].

إن مفهوم الضغط النفسي والصدمة النفسية لا يمكن فصلهما حيث إنهما يتداخلان إلى درجة كبيرة “ويعود ارتباط مصطلح الضغط بمفهوم الصدمة النفسية إلى التسمية التي أطلقها المجتمع الأمريكي للطب النفسي A-P-A عندما أراد التخلي عن عبارة العصاب الصدمي وعصاب الحرب باعتبارهما يمدان بالصلة للتحليل النفسي”[20].

2- تعريف الصدمة النفسية

  • من حيث اللغة[21]: الصدمة من صدم والصدمُ : ضربُ الشيء الصلب بشيء مثله وصدمه صدمًا: ضربهُ بجسده، وصادمه فتصادمه فتصادمًا واصطدامًا وصدمهم أمر: أصابهم.
  • تعريف الصدمة في معجم أكسفورد الإنكليزي[22]: إنها هزّة عاطفية ناتجة من حادثة مؤلمة، تؤدي إلى اضطراب عصبي، وأصبحت كلمة صدمة ومشتقاتها كلمات متداولة في حديثنا اليومي، ومدلول هذه الكلمة للشخص العادي يعني أنها حادثة مأسوية مؤثرة فيه، ومسببة للإحباط.
  • تعريف الصدمة طبيًا[23]: هي التي تؤذي الجسم، وقد تسبب جروحًا أو كسورًا أو حروقًا، والصدمة في الطّب النفسي هي التي لا يستطيع المرء تقبلها للوهلة الأولى، ولا يفيق من أثرها إلا بعد مدة وقد تصيبه بالقلق الذي يولد العصاب المعروف بعصاب الصدمة.
  • الصدمة النفسية اصطلاحًا: هي ردة فعل الفرد تجاه أحداث شديدة، ومهدّدة للحياة، تعرّض لها هو بذاته أو شخص قريب وعزيز عليه.

3- مراحل الصدمة النفسية

بعد تعرض الفرد لحدث صادم، يمّر الفرد المصدوم بأوقات ومراحل متعددة هي[24]:

أ- مرحلة الكمون

تكون في شكل حالة من التوقف وعدم التصديق، والتأمل والتفكير المشتت والمركّز حول الحادث ثم التذكّر الدائم لظرف الحادث الصدمي. قد تدوم بضع ساعات أو تمتد إلى بضعة أشهر وفي بعض الأحيان تكون نقطة تحضير لدفاعات الأنا الصدمة المواجهة العنيفة.

خلال هذه المرحلة يجب حثّ الفرد على التعبير عن شعوره وحالته الداخلية محاولة للتحكم في الوضع عن طريق التعبير اللفظي، والإصغاء والمساندة العاطفية، وبمجرد بداية كلامه عن حيثيات الحادث الصدمي يمكن أن نعتبر ذلك مؤشرًا جيدًا عن بداية تنظيم الجهاز النفسي للسيطرة على تظاهرات الصدمة.

ب- متلازمة التكرار أو استعادة الذكريات المؤلمة للحدث الصدمي

إن اضطراب التكرار هنا يُحدث للشخص المصدوم حالة من إعادة استحضار الحادث الصدمي في شكل معايشة خيالية وهوامية وذلك عن طريق صور متلاحقة في مخيلته لما حدث ولا يستطيع منعها، حيث يتذكر المكان نفسه، أو يشم رائحة المكان نفسها، أو عن طريق تمثيل الأحداث من خلال اللعب، أو من خلال الكوابيس المرعبة المتكررة وحالات الهذيان المؤقت في بعض الأحيان. وحالة التأثر الوجداني الكبير هو السبب في ظهور هذه النوبات من الهلع والخوف الكبيرين. وما متلازمة التكرار سوى إعادة تنشيط لهذه الخبرة بهدف مواجهتها مرة أخرى والتحكم بها.

في هذه الحالة على المختص أن يكون منتبها لاحتمالية دخول العميل في حالة مرضية حادة قد تؤثر في التشخيص الصحيح، والمهدئات النفسية وهي أحسن تدخل مؤقت لهذه الحالة.

ج- مرحلة إعادة تنظيم الشخصية

بعد أن يكون العميل قد عايش الحادث الصدمي يحدث نوع من التغيير في بنية الشخص فتتغير عاداته اليومية، وتصرفاته مع تصوراته، وحتى نشاطه الجنسي، فيدخل في نوع من عدم الثقة مع المحيط والبحث عن الأمان وينظر إلى الاستقلالية ومحاولة إعادة بناء النفس من جديد.

في هذه المرحلة على المختص أن يحاول مساندة العميل، ويجعله يدرك حالة الأمان التي يبحث عنها بعيدًا عن الحادث الصدمي وما نتج منه من اهتزازات على مستوى الشخصية ككل.

 

ثانيًا: اضطراب ما بعد ضغوط الصدمة (PTSD)

إن التهديد الخارجي وأشكال الخطر العديدة التي يتعرض لها الفرد، من شأنها أن تحدث اضطرابًا وقلقًا يستدعي من (الأنا) مواجهة هذه الأخطار لتحقيق الانسجام والتوازن بين أركان الشخصية والمرونة والانفتاح على الدنيا والناس، ومفهوم الذات الإيجابي، والثقة بالذات وقبولها. “فالافتقار إلى الطمأنينة القاعدية، أو ما يسمى بالقلق القاعدي هو نواة كل الاضطرابات النفسية وحالات المرض، حيث تختل العلاقة مع الواقع، وتقع الحياة الداخلية ضحية الصراعات والمآزم والدفاعات المرضية”[25].

1- تعريف اضطراب ما بعد ضغوط الصدمة

  • “يورد تصنيف منظمة الصحة العالمية الخاصة بالاضطرابات العقلية والسلوكية (ICD-10-1992) اضطراب ما بعد الصدمةPTSD) ) ضمن الفئة F40- F48)) الخاصة بالعصاب والاضطرابات ذات العلاقة بالضغوط الجسمية المظهر ويضعه ضمن الفئة الخاصة بردود الفعل نحو الضغط الحاد واضطرابات التكيف”[26] .
  • عرفه فيلدمان (Fildman)[27] بأنه الاضطراب الذي ينتج من تعرّض الفرد إلى صدمة نفسية أو جسدية شديدة فيها خطورة على حياته.
  • التعريف الاصطلاحي: إن اضطراب ما بعد ضغوط الصدمة، هو مجموعة أعراض تنتج من تعرض الطفل إلى حوادث مرعبة في الحرب ومهدّدة تؤدي إلى معاناة الطفل انفعاليًا وتزيد من نسبة التجنّب السلوكي لديه، ويتمثل في استعادة خبرة الحدث الصدمي للأنشطة المرتبطة به فضلًا عن تدني المهارات الاجتماعية والأكاديمية.

2- تشخيص اضطراب الضغوط التالية للصدمة عند الأطفال

إن التشخيص النفسي (Diagnosic) هو تحديد للأعراض العامة للاضطراب والخطوط العريضة لمسار العلاج المحتمل، والاستجابة للأنواع المختلفة من العلاج. لذلك لا بد من تحديد فئات الأعراض ليتم التشخيص بشكل أكثر دقّة.

ولتشخيص اضطراب الضغوط التالية للصدمة عند الاطفال، تمّ الاعتماد على الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع المعدّل 1994DSM4- حيث حُدّدت معايير PTSD على الشكل التالي[28]:

أ- أن يكون الشخص قد تعرض لحدث صدمي عاشه على النحو التالي:

1 . أن يكون قد شاهد أو خبر حدثًا أو أكثر فيه حالات من الموت والتهديد به أو بسلامة الجسم له وللآخرين.

2. أن يستجيب لهذا الحدث بخوف شديد أو رعب أو عجز. في حالة الاطفال قد يظهر على الطفل سلوك مضطرب أو متهيّج.

ب- يستعيد الطفل الحدث الصدمي بشكل إقحامي في واحد أو أكثر مما يلي:

  1. ظهور ذكريات أليمة تبدو على شكل صور، أو أفكار، أو إدراكات ملحّة ترتبط بالحدث الصدمي. في حالة الأطفال يظهر لديهم نوع من اللعب التكراري يرتبط موضوعه بالحدث الصدمي.
  2. ظهور الحدث الصدمي، أو أجزاء منه في الأحلام في حالة الأطفال تكون أحلامهم مفزعة دون ان يستطيعوا تحديد مضمونها.
  3. يتصرف الشخص، أو يشعر كما لو أن الحدث الصدمي يحدث مرة أخرى. في حالة الأطفال قد تظهر في سلوكياتهم أجزاء محددة من الحدث الصدمي.
  4. شعور الشخص بالضيق والارتباك عند التعرض لإشارات أو رموز داخلية أو خارجية ترتبط بالحدث الصدمي بشكل عام.
  5. تظهر لدى الشخص استجابات أو ردود أفعال فيزيولوجية عند التعرض لهذه الإشارات.

  ج- تجنّب الشخص بشكل مستمر كل المثيرات المرتبطة بالحدث الصدمي، ويبدو هذا في ثلاثة على الأقل مما يلي:

  1. يبذل الشخص جهدًا في تجنب الأفكار أو المشاعر أو الأحاديث المرتبطة بالصدمة.
  2. يبذل الشخص جهدًا في تجنب الأشخاص والأماكن والأنشطة المرتبطة بالصدمة.
  3. نسيان أجزاء مهمة من الحدث الصدمي.
  4. الشعور بالعزلة والاغتراب عن الآخرين.
  5. العجز عن مشاعر العطف والحب، وضيق سعة الانفعالات.
  6. نقص واضح في الاهتمام بالأنشطة المهمة أو المشاركة فيها.
  7. الشعور بالمستقبل محدود غير واعد.

  د- وجود أعراض مستمرة في يقظة مرتفعة تظهر في إثنين على الأقل مما يلي لم تكن موجودة قبل الصدمة:

  1. فاعلية برنامج إرشادي فردي في التخفيف من أعراض الصدمة النفسية الناتجة من إساءة المعاملة.
  2. صعوبة الولوج في النوم أو الاستمرار فيه.
  3. قابلية (Irritability) للاستثارة ونوبات غضب وتهيُّج.
  4. صعوبة التركيز.
  5. فرط التيقظ (Hyper Vigilance).
  6. استجابات هلع مبالغ فيها.

هـ- استمرار الأعراض في (أ ب ج) مدة أكثر من شهر.

وتقسم الأعراض إلى ثلاثة أنواع حسب زمن التعرض للحدث الصادم:

  1. أعراض حادة: تستمر الأعراض أقل من ثلاثة أشهر.
  2. الأعراض المزمنة: تستمر الأعراض أكثر من ثلاثة أشهر.
  3. الأعراض المتأخرة: تبدأ بعد ستة شهور على الأقل من التعرض للحدث الصدمي، ويسبب الاضطراب تأذيًا واضحًا في الوظيفة المهنية والاجتماعية للفرد.

3- مؤشرات اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة

من هذه المؤشرات[29]: فقدان الدافعية، الانسحاب الاجتماعي، الإثارة المفرطة، نوبات الهلع والقلق المعمّم والكرب والاكتئاب، اضطراب النوم، الحساسية المفرطة لبعض الأصوات، العدوانية، الرغبة في الانتقام، فقدان القدرة على التركيز، الميل للبكاء بسهولة، الشعور بالذنب، السلوك النكوصي، صعوبة بإنشاء علاقات اجتماعية، الاتكالية الزائدة، فقدان الشهية، آلام في الرأس، دقات قلب غير منتظمة، آلام في المعدة، فقدان الوزن، فقدان الطاقة، عدم الرغبة في اللعب وعدم الرغبة في الحياة والخوف من المستقبل والتشاؤم.

إن طبيعة المؤشرات والضغوط (من حيث الشدة والاستمرارية) وعمر الطفل ومرحلة النمو التي يمر بها والسمات الشخصية الفردية للطفل، كل ذلك يؤثر في كيفية تكيف الطفل مع الظروف الصعبة. إذ كلما كانت التجربة مريرة أظهر الطفل اضطرابات عاطفية وسلوكية وعقلية، ولفهم وتقدير ما إذا كانت ردود الفعل على الظروف الصعبة طبيعية أم لا، لا بد من معرفة المراحل الأساسية لنموه.

4- التوجهات في تفسير اضطراب ما بعد ضغوط الصدمة

تعدّدت وجهات النظر في تفسير اضطرابات ما بعد ضغوط الصدمة، ويمكن إيجازها بالتالي:

أ- التوجه البيولوجي[30]:

حاول بعض الباحثين أن يربط اضطراب ما بعد الصدمة بعمل الدماغ وما يطرأ عليه من تبديلات كيميائية وفيزيولوجية ووظائفية، فالصدمة تؤدي إلى اضطراب في وظيفة الدماغ وبعض أنحاء الجسم، وهذا الاضطراب يظهر على شكل ارتفاع في نسبة الكاتيكولامين في الدم، ارتفاع في نسبة الأسيتيكولين، انخفاض نسبة النورايبنفيرين، انخفاض نسبة السيروتونين والدوبامين في الدماغ. إن مصير اضطراب ما بعد الصدمة يتوقف على نشاط الإفرازات المذكورة وكذلك على المواد المخدرة التي يفرزها الدماغ، ويبدو أن الدماغ يقوم بهذه الوظيفة عندما يتعرض للصدمة وبعد أن تمر الصدمة تحدث حالة شبيهة بالانسحاب والذي نلاحظه في عوارض الإنقطاع الفجائي لمتعاطي المخدرات”.

ب- التوجه النفسي الدينامي[31]:

ما يثير الحيرة في اضطرابات ما بعد الضغوط الصدمية وإن بدايتها يمكن أن تحدث بعد أشهر أو سنوات من تعرض الفرد لحادث صدمي ما. وبما “أن فرويد 1939-1856، كان قد عدّ “صدمة الولادة” وما يصاحبها من إحساس الوليد بالاختناق، بأنها تجربة القلق الأولى في حياة الإنسان فإن منهج التحليل النفسي ينظر إلى الصراعات اللاشعورية التي تضرب جذورها في مرحلة الطفولة المبكرة على أنها السبب في الاضطرابات النفسية على وجه العموم. وعليه ” فإن المنظّرين النفسيين الديناميين قد اعتمدوا هذه الفكرة في تفسيرهم لاضطرابات ما بعد الضغوط الصدمية. ولقد حاول Horowitz، 1986 تفسير هذا الاضطراب بنظرية نفسية دينامية خاصة، خلاصتها أن الحادث الصدمي يمكن أن يجعل الفرد يشعر بالارتباك تمامًا، وإن مثل هذا الارتباك قد يسبب له الفزع والإنهاك. ولأن مثل ردود الفعل هذه في الغالب تكون مؤلمة فإن الفرد يلجأ عادة إلى كبت معظم الأفكار الخاصة بالحدث الصدمي أو قمعها عن عمد. ولأن حالة التشويه والإنكار هذه لا تحل المشكلة كون الفرد لا يكون قادرًا على أن يجعل المعلومات الخاصة بالحدث الصدمي تتكامل مع معلوماته الأخرى، فعندئذ يكون ما يكون من أحاسيس ومشاعر وانفعالات”[32].

ج- التوجه السلوكي[33]:

وترى المدرسة السلوكية أن الحدث الصادم هو بمثابة منبّه غير مشروط يظهر الخوف والقلق والاستجابة اللاشرطية (الطبيعية) ويصبح المنبه غير الطبيعي (خبرة إذا ما اقترنت بالحدث الصادم، مثل الأصوات العالية، سيارات الاسعاف أو الدخان الكثيف وغيرها من المثيرات) منبهًا مشروطًا. وتظهر الاستجابات العاطفية المشروطة المتمثلة بالخوف والقلق التي يشعر الفرد بسببها بعدم الراحة وتؤدي به إلى أن يسلك سلوكًا مرضيًا يتصف بالتجنّية السلبية التي تمثل مظهرًا من مظاهر اختلال الصحة النفسية. أي أن النموذج السلوكي يساعد على فهم اضطراب ما بعد الصدمة من خلال نظرية التشريط، فالصدمات والنكبات والحروب تعتبر بمثابة منبهات مطلقة غير مشروطة تؤدي إلى استجابة الخوف وردات فعل فيزيولوجية مطلقة.

 د- اتجاه العوامل الاجتماعية[34]:

يرى باحثون آخرون أن أحد العوامل التي تساعد في تحديد ما إذا كان فردُ ما قد تعرض إلى حادث صدمي سيتطور لديه اضطراب ما بعد ضغوط الصدمة وتبعاتها أم لا، هو مستوى حصول هذا الفرد على سند اجتماعي (Social Support).

هـ- التوجه المعرفي[35]: (Cognitive Approach)

يقوم المنظور المعرفي على افتراض مفاده أن الاضطرابات النفسية ناجمة عن تفكير غير عقلاني بخصوص الذات وأحداث الحياة والعالم بشكل عام. وعلى أساس هذا الافتراض يرى ميللر (Miller (1995 أن الفرد يدرك الحدث الصادم على أنه معلومة جديدة وغريبة عن مخططه الإدراكي فلا يعرف كيف يتعامل معها، فتشكل له عندئذ تهديدًا ينجم عنه اضطراب في السلوك. وهذه الفكرة قائمة على نظرية معالجة المعلومات التي ترجع إلى كيللي 1995) (Kelly الذي طرح العديد من التفسيرات المختلفة والمألوفة في حينها بخصوص القلق والخوف والتهديد. فهو قد عرف القلق النفسي: بأنه إدراك الفرد للأحداث التي يواجهها على أنها تقع خارج مدى ملاءمتها لنظام البنى لديه.

ووفقًا لدراسات عديدة حول الصدمة تبين أنه لا يوجد هناك نموذج واحد يصلح لتفسير جميع أشكال الصدمة ومراحل عيشها عند البشر، وذلك تبعًا لتنوع مسببات عيش الصدمات النفسية من (الحروب، التعذيب، الكوارث الطبيعية، الاغتصاب)، كما أن هناك بعض الأشخاص تكون استجاباتهم للصدمات النفسية بصورة إيجابية، ويتم تكيفهم مع آثارها المختلفة باستخدام العوامل المختلفة للتكيف مثل التدين والترابط الأسري والاجتماعي والتكافل والعوامل الثقافية والاجتماعية للفرد، ولكن تبقى الآثار النفسية الخطيرة والمختلفة تلك التي تحدث للطفل إذا لم يتم التعامل معها بصورة واعية. وهنا كان تأكيد فرويد على أن الأمراض النفسية ما هي إلا بقايا خبرات صادمة في الطفولة.

ثالثًا: دراسة الحالات، مناقشتها وتفسيرها

 

1- ظروف الإجراء

بعد اعتماد تقنية المقابلة نصف الموجهة والطريقة الإكلينيكية في جمع المعلومات الخاصة بكل فرد من مصادر عديدة “مستندات رسمية وطبية، وظروف أسرية واجتماعية واقتصادية، جلسات فردية، اختبارات نفسية وعقلية… إلخ”، بالإضافة إلى تحديد اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية في ضوء الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع للاضطرابات العقلية dsm4 الخاص بالمحكات التشخيصية لاضطراب ما بعد الضغوط الصدمية، قررنا في مؤتمرنا المنعقد في 28 أيلول/ سبتمبر 2018، “جبل عامل تاريخ وواقع” تقديم تلك الحالات التي تمت دراستها وتفسيرها في ضوء المنهج المعتمد الذي يسمح لنا بدراسة معمقة للحالة الفردية في مشكلاتها النفسية والسلوكية، ودوافعها وعلاقتها بالبيئة المحيطة بهدف الوصول إلى رؤية متكاملة حول الأبعاد النفسية والاجتماعية والتربوية والنفس -جسدية، وتقديم مقترحات متعلقة بنتائج الدراسة يمكن الاستفادة منها في أبحاث مستقبلية.

2- تقديم الحالات، مناقشتها وتفسيرها

أظهر أفراد الحالات المعتمدة في هذه الدراسة، مجموعة أعراض مركّبة وطويلة الأمد لاضطراب ما بعد ضغوط صدمة الحرب، حيث ظهرت آثارها بصورة واضحة في شكل اضطرابات نفسية وسلوكية، تمحورت حول “اضطراب التبول اللإرادي، اضطراب سلوكي عدواني، اضطرابات مزاجية وقلق، انعكست على شخصيتهم وأدت إلى عواقب وخيمة.

1- الحالة الأولى: ميرا

تقديم الحالة: ميرا فتاة تبلغ من العمر 12 سنة (العمر عند زيارة العيادة النفسية)، تعيش في كنف أسرتها المؤلفة من “الأب والأم وميرا وأخيها البكر”، في إحدى قرى جبل عامل الحدودية، في منزل متواضع ومستوى معيشة متوسط. قصد والداها العيادة النفسية بهدف علاج ميرا من اضطراب التبول اللارادي الذي يحدث ليلًا ونهارًا، بعد معاناة طويلة مع هذه المشكلة.

تعود نشأة هذا الاضطراب إلى ما بعد حرب تموز 2006، بستة شهور، بعد أن تعودت ميرا دخول الحمام، حيث كان عمرها آنذاك 6 سنوات، عايشت هول الحرب طيلة فترة الاعتداء في قريتها مع أسرتها، لتصدم بعد ذلك باستشهاد عمّها (الطفلة المدللّة لديه). ثم تمّ إهمال الحالة من قبل الأهل لأسباب مادية من جهة ولبعد المراكز العلاجية من مكان السكن من جهة أخرى… إلخ.

الانعكاسات:

  • على الوضع النفسي: إن صدمة الحرب كانت بمثابة الجلجلة التي بدأت تعيشها ميرا، إذ غيرت هذه الحرب مجرى حياتها وتركت أثرا عميقًا وبالغًا في نفسها. وما عزّز هذا الأثر استشهاد عمّها، حيث اعتراها تعلّق مفرط بالأب وتثبيت عند المرحلة الأوديبية (3-6) سنوات، وظواهر نكوصّية (تبول لاإرادي)، أي رجوع الطفلة ميرا إلى عادات سلوكية سابقة سبق لها تعلمها وإتقانها. الأمر الذي أثّر فيما بعد في حالتها النفسية، من ظهور انفعالات شديدة، وارتفاع القابلية للاستثارة، اضطرابات مزاجية مرتبطة مع المحيط، مشاعر الذنب، وكوابيس ليليّة، إضافة إلى قلق الانفصال، واختلاط المشاعر، الاتكالية، وتقييم الذات المنخفض، صورة مشوّهة عن الجسد، تضرّر الشعور بالهوية، وصعوبة التوازن بين قابلية الأخذ والعطاء، والخوف من المواجهة، وانعدام الثقة بالنفس، والخجل والانطواء على الذات.
  • على الوضع (نفس– جسدي): نشوء اضطرابات نفس- جسمية (أعراض سيكوسوماتية) منها: آلام في المعدة واضطراب في عملية الإخراج.
  • على الوضع التّعليمي: صعوبة التذكر، صعوبة التركيز، تشتت الذهن، عدم الانتظام في متابعة الدروس وتراجع في الأداء المدرسي.
  • على الوضع الاجتماعي:

مع الأسرة: اضطراب العلاقة مع الأم وتعلّق شديد بالأب.

مع الأصدقاء: ضعف في الجانب الوجداني، شعور بالغربة عن الأصدقاء، الشعور بالدونية، الانسحاب والانطواء وعدم القدرة على التفاعل الاجتماعي بشكل طبيعي، كالحرمان من مشاركتهم في الأنشطة خوفًا من حدوث التبوّل.

التفسير:

إن ظهور اضطراب التبّول اللإرادي عند “ميرا” والذي هو شكل من أشكال اضطرابات ما بعد ضغوط الصدمة، وشكل من أشكال الهستيريا التحويلية بحسب فرويد، قد يعود إلى تجارب وخبرات صادمة مؤلمة ومهددة من جهة وإلى تجارب مؤلمة ذات طابع جنسي، أو عاطفي مرّت به الطفلة خلال طفولتها، وهذه التجارب تعرّضت للكبت إلى أن ظهرت بشكل عرض جسمي. وترى “أنا فرويد” في كتابها عن التحليل النفسي للأطفال “إن عملية التبّول اللإرادي هي عبارة عن ظاهرة نكوصية تكشف عن رغبات الطفل وصراعاته اللاشعورية وتجاربه السابقة المؤلمة مع الأم وذلك بالعودة إلى مرحلة الرضاعة حيث كانت عملية التبوّل تحدث بصورة لاإرادية”[36]. كما أن تعلق ميرا الشديد بوالدها يعود ربما إلى حالة التثبيت عند المرحلة الأوديبية (3-6) سنوات، أو ربما يشير إلى خوف ميرا من فقدانه بعد أن فقدت عزيزًا على قلبها (العم الذي كان يحل محل الأب أثناء سفره)، إضافة إلى كون الأب يشكل صمّام الأمان بالنسبة إليها.

أما عن ضعف العلاقات الاجتماعية، التي اتسمت بالانسحاب من الأنشطة اليومية والمواقف الاجتماعية فهو تعبير عن تأثير القلق لدى الحالة والخوف من التقييم السلبي من قبل الآخرين. وهذا ينسحب على تغير وانخفاض تقدريها لذاتها لمجرد تفكيرها في نظرة الآخرين لها. كما أن الانشغال الزائد بعيوب متخيّلة في مظهر الجسد (الجسد الملوث) سبّب لها قدرًا كبيرًا من الضغط النفسي والتوتر، الأمر الذي تسبب في حصول خلل لديها في أدائها الاجتماعي والوظيفي.

 2- الحالة الثانية: حسن

تقديم الحالة: حسن شاب يبلغ من العمر 15 سنة (العمر عند زيارة العيادة)، يعيش في كنف أسرته المؤلفة من خمسة أشخاص: الأم والأب وحسن (الأصغر سنًا) وأخيه وأخته، في إحدى قرى جبل عامل قضاء النبطية، في منزل متواضع، ومستوى معيشي متدن.

قصد والداه العيادة النفسية بهدف علاج “حسن” من اضطرابات سلوكية طويلة الأمد (عدوانية وانتقامية)، بعد أن اتسمت شخصيته في الصغر بالخجل والانطواء. تعود نشأة هذا الاضطراب إلى ما بعد حرب تموز بعام تقريبًا، حيث كان عمر “حسن” فترة الحرب سبعة أعوام، عايش الموت والحياة طيلة فترة الحرب في قريته، شاهد خلالها مشاهد دموية (نقل جثث الجيران بعد دمار حل في منزلهم)، ثمّ تمّ إهمال الحالة لأسباب مادية من جهة، وقلة وعي الأهل بعواقب الأمور من جهة أخرى.

 الانعكاسات:

  • على الوضع النفسي: شعور داخلي بالنقص وقلة الثقة، إحباط، شعور داخلي بالغضب، كره، اندفاعية لا شعورية، تبلّد عاطفي، أحلام اليقظة، قلق، شعور بالحزن والضيق، انخفاض في تقدير الذات، اضطرابات عاطفية وجدانية، اضطرابات تكيّفية، كوابيس ليلية، استثارة لا شعورية، تصوّرات وهواجس سلبية وفقدان الشعور بالأمن النّفسي.
  • على الوضع (نفس-جسدي): فقدان الشهية وآلام في المعدة.
  • على الوضع التعليمي: تشتّت ذهني، تراجع في الأداء المدرسي، رسوب متكرّر وصولًا إلى التسرّب الدراسي فيما بعد.

اتسم سلوكه العدواني بالفوضى والشوشرة على المعلم أثناء شرح الدرس، رمي الأوراق على الأرض، الخروج على النظام وعدم اتباع الأوامر، سلوك الانتقام من الأساتذة، السلوك العدواني العنيف كالخنق والرفس إلى حد إلحاق الضرر بالآخرين وعدم القدرة على ضبط النفس والتحكّم في الانفعالات.

  • على الوضع الاجتماعي: انعكس السلوك العدواني لهذه الحالة على علاقاته الاجتماعية، حيث فقد محبة الآخرين له، وقوبل بالرفض من قبلهم.

مع الأسرة: عناد وتحدّ في علاقته مع الأم، سلوك عدائي هجومي اتجاهها، علاقة سلبية مع الأب تجلت في سوء المعاملة من قبل الأب (كالإهمال والصدّ وعدم إشباع الحاجات الأساسية)، وصولًا إلى انعدام المحبة والألفة فيما بينهم.

مع الأصدقاء: علاقة متأرجحة مع الأصدقاء، سلوك هجومي، عنف لفظي ومادي، سلوك هستيري يصل إلى حدّ الإيذاء الجسدي، رفض من قبل الآخرين.

التفسير:

إن ظهور السلوك العدواني لدى “حسن” قد يعود إلى الخبرة الصدمية التي تعرّض لها خلال الحرب وظروف القهر والظلم والحرمان والتدمير… إلخ، إنها عوامل أدت إلى إحداث تغيرات بيولوجية ونفسية وسلوكية، حيث أن زيادة التنبيه في الإحساس لديه (يقوم مرعوبًا من نومه في الليل متصببًا بالعرق نتيجة الكوابيس حول الخبرة الصادمة التي تعرض لها)، يؤدي بدوره إلى ظهور تصرفات عدوانية لدى “حسن”، عبّر عنها ظاهريًا في شكل عدوان جسدي أو لفظي، التدمير والاعتداء على الممتلكات، التمرّد والعصيان والمخالفة والعناد والتحدّي والتخلف والتهوّر والفشل في الدراسة، والرغبة في الانتقام.

وقد يعود تطوّر هذا السلوك العدواني إلى عملية التنشئة الاجتماعية والتي تجلّت بسوء المعاملة وعدم إشباع حاجاته الأساسية، سيما وأن “حسن” يمرّ في مرحلة عمرية حرجة تشكل بحد ذاتها أزمة “مرحلة المراهقة”، تستدعي أن يتماهى الفرد بأبيه كمثال أعلى له. إلا أن خيبات الأمل المتكررة والإحباط وما رافقهما من شعور بالنقص، قد يدفع بالحالة إلى تبنّي السلوك العنفي كوسيلة تعويضيّة للتعبير عن ذاته وتأكيدها، وكأسلوب في التعامل مع الآخرين.

لقد شبه فرويد هذه “الشخصيات العدوانية” في مراحل النمو الجنسي “بالتوحّد بالمعتدي”، “وهي حيلة لا شعورية مصطنعة، للتغلّب على الخوف حينًا” وأكون أنا المعتدي “مع الميل اللاشعوري لاختلاق أسباب غير الأسباب الحقيقية (التبرير) وما يتضمنه ذلك من خداع لأنفسهم”[37].

3- الحالة الثالثة: مهدي

تقديم الحالة: مهدي شاب يبلغ من العمر 17 سنة (العمر عند زيارة العيادة)، يعيش في كنف أسرة مؤلفة من أربعة أفراد (الأم والأب ومهدي وأخته الصغرى)، في مسكن تتوافر فيه مقومات العيش الكريم ومستوىً معيشي جيد، في إحدى قرى جبل عامل قضاء صور. قصد والداه العيادة النفسية بهدف علاجه من اضطرابات نفسية تجسدت بالحزن الشديد واضطرابات مزاجية متقلّبة، وبعد المقابلات العيادية المعمقة، تبيّن أن مهدي يعاني اضطراب ما بعد ضغوط صدمة الحرب، فهو قد عايش نصف فترة الحرب في قريته ليعود بعد التهجير إلى منزله ويصاب بلغم أرضي، أدى إلى بتر الطرف السفلي، مع معاناة طويلة الأمد من الألم النفسي والعضوي.

الانعكاسات:

  • على الوضع النفسي: اضطرابات نفسية اتسمت بخلل في المزاج، حزن عميق، نوبات غضب، استثارة زائدة، اضطراب صورة الجسم، انطواء، خمول، عدم التكيف، خوف، ضيق، أرق، انشغال داخلي، قلق، كآبة، جرح نرجسي، عجز، انفعال وتوتّر، خيبة أمل، تقدير هابط للذات، الشعور بالنقص وقلة الثقة بالنفس ومشاعر انعدام الأمل.
  • على الوضع (نفس-جسدي): مظاهر فيسيولوجية مصاحبة للانفعال والتوتّر النفسي مثل الصداع، وحركات إيمائية لا شعورية في حركة العين واحمرار الوجه.
  • على الوضع التّعليمي: تراجع في مستوى التحصيل الدراسي، تشتّت ذهني، غياب متكرّر.
  • على الوضع الاجتماعي: اضطراب العلاقة مع المحيطين به داخل الأسرة، مواقف انفعالية متوتّرة، إعاقة حركية تؤثر في أدائه لأدواره الاجتماعية، اعتماده على الآخرين وتجنب الاختلاط معهم.

التفسير:

 إنه نتيجة تعرض “مهدي” للبتر، لاحظنا أن الحادث اللغمي كان مولدًا للصدمة لأنه يحمل مواصفات العنف والفجائية، وأيضا لأنه كان حادثًا خطيرًا بمعنى DSM4، حيث تعرّض لتهديد الموت، وعانى استجابة لضغط حاد، فطوّر اضطراب صدمي على المدى البعيد، انعكس على بنيته النفسية نتيجة عدم الاكتمال الجسمي (فقدان أحد أطرافه، مضافًا الى نقص في القدرات الجسمية)، في شكل جرح نرجسي، ترجمته وعبرّت عنه مشاعر الحزن والقلق، وقد حرضّت على مستوى التوظيف النفسي للحالة دخوله في سيرورة حداد، لتجاوز ما كان عليه سابقًا”، وتقبّل “ما هو عليه حاليًا”، أي لتجاوز (النقص الظاهري الجسمي) و(الداخلي النرجسي)، ذلك “أن صورة الجسم لها علاقة مباشرة مع شعوره بذاته أوب (أناه) أو حبّه لذاته، أو لأناه، وتقديره لها ولا سيما أن “مهدي” في مرحلة تشكيل الهوية وما لصورة الجسد من تأثير في تشكيلها. لقد استطاع “مهدي” أن يتكيف مع حالة البتر مؤمنًا بالقضاء والقدر لأنه لا يستطيع التعبير عن مشاعر معارضته لما يحدث له. أي أنه تقبل الفقدان في الواقع الخارجي” واقع غياب الطرف المبتور “إلا أنه على المستوى النفسي لم تنجح سيرورة الحداد ومآلاتها لديه، فهو لا يزال يصارع ضد الحزن والقلق الناجمين عن عدم تقبّل النقص الخارجي الجسمي.

أما على مستوى علاقاته مع المحيطين، نجده يمرّ بمشكلات سوء تكيف وحالة من القلق الاجتماعي تسود العلاقات الاجتماعية لديه، ليصبح دائم الشعور بأنه يشكّل عبء على أدوار الآخرين لعدم قدرته على القيام بأدواره نفسها مقارنة بقدرته وتفاعلاته قبل الإصابة، أو لعدم قدرته على تحمّل آراء الآخرين السلبية تجاه إصابته.

ويمكن أن نفسر العلاقة السببية بين البعد المعرفي والمؤشرات الجسمية إلى أن التقييمات المعرفية التي يتوقع الفرد أن يصدرها الآخرون عنه، تجعله في حالة توتر وقلق، في نظرتهم إليه، ولآرائهم السلبية التي تصدر تجاهه. إن هذه الآثار نفسية في الدرجة الأولى واجتماعية في الدرجة الثانية، تبدأ بتغيير مفهوم الفرد عن ذاته انطلاقًا من التغيير في صورة جسده التي كوّنها، وذلك ينسحب على تغيّر وانخفاض تقديره لهذه الذات لنجده فيما بعد حبيس الصدمة يعيش في عزلة وانطواء.

بعد هذا العرض المفصل للانعكاسات المرتبطة بالصدمة من الناحية العرضية، توصّلنا من خلال التحاليل التي أجريناها إلى مجموعة من الملاحظات من بينها:

  1. على مستوى التأثير: إن الأفراد المتعرضين لحادث من شأنه توليد صدمة، لا يطوّرون جميعهم اضطرابات ما بعد صدمية، فالأمر مرتبط بمقاومة الصدمة أو عدم مقاومتها كنتيجة لتأثير تلك العوامل. كما أن الاضطرابات التي يطورّها بعضهم ليست متشابهة كليًا إضافة إلى اختلاف درجاتها من حيث الشدّة والأزمان. كما أنه لا يمكن تطوير الأفراد لاضطرابات ما بعد صدمية انطلاقًا من تأثير عامل واحد “خبرة الحرب” مثلًا أو “العامل الأسَري” أو حتى من تأثير مجموعة من العوامل، لأنه لا يمكن دراسة تلك التأثيرات انطلاقًا من عامل أوحد أو من بعض العوامل كما سبق وقلنا.
  2. على مستوى التفاعلات: في مجال الأمراض النفسية لا نتحدث عن سبب وحيد يمكن اعتباره شرطًا ضروريًا وكافيًا لقدوم الاضطراب، ولهذا نتحدث عن عامل خطر مسبّب وعن سلسلة سببية وحتى عن سلاسل سببية متعددة تحتوي على عوامل خطر (وراثية، بيولوجية، محيطية، عائلية، مدرسية… إلخ)، فتأثير أحد هذه العوامل لا يمكن فهمه جيدًا في معزل عن العوامل الأخرى.. كما أن كل فرد متميز بفردانيته “البنيوية والتاريخية والوضعية” المتمثلة بالعامل الضاغط / الحادث الصادم والعوامل المرتبطة به “حيث تلعب هذه الخصوصية في التفاعل دورها من أجل جلب بعض الاضطرابات ما بعد الصدمية.

خلاصة

يتبين لنا أن لتأثيرات الحرب امتدادات عبر الزمن، فقد تتظاهر بشكل آني، أو بعد فترة كمون، وقد تكون عابرة، أو تصبح مزمنة وتستمر مع الفرد مدى الحياة. فالتهديد الأمني الذي عايشته تلك الحالات فجّر الاستعدادات التي ظهرت من خلال العوارض والاضطرابات السلوكية والنفسية لديهم، مما لا يساعد في تطوير صحة نفسية إيجابية لهم، ليعيشوا حالة انسداد الآفاق المستقبلية وانعدام التوازن النفسي. “فلا صحّة وفاعلية للوظائف العقلية والجسمية والمعرفية والعاطفية والاجتماعية في بنية نفسية سقيمة، ولا إمكانية للنماء بدون صحّة البنية النفسية ووظائفها وتفاعلها مع محيطها الحيوي”[38].

ففي هذا السياق تظهر أهمية التدخّل المبكر واتخاذ الإجراءات العلاجية النفسية المناسبة لأي عارض طارئ مباشرة، لمنع معاناة الاضطرابات اللاحقة للصدمة النفسية كونها المكوّن الأساسي الذي يؤثر في اضطراب ما بعد الصدمة، والعمل على إعادة ترسيخ الأمن والسلامة والحماية عند الأطفال، وتشجيعهم على مواصلة الأنشطة الاعتيادية ومساعدتهم على فهم انطباعاتهم الحسّية القوية وتزويدهم بمعلومات وخبرات أكثر… إلخ. وتقع هذه المسؤولية على الأهل بالدرجة الأولى، إذ ثمّة اعتبارات عليهم أن يأخذوها بعين الاعتبار في عملية الدعم النفسي كالإصغاء، والمشاركة والاحتواء… إلخ، لتكون مساندتهم النفسية ناجحة مع أطفالهم، ومن ثمّ مسؤولية الدولة وما تحتضن من منظمات عالمية تعنى بشؤون الطفولة ومؤسسات تربوية وجمعيات أهلية وتطوعية، أن تتعاون في ما بينها وباستمرار في توفير المساندة النفسية الملائمة للطفل الذي عانى صدمات الحروب. ونحن نعلم ما قدمه المجلس الأعلى للطفولة وفق برنامجه الوطني للدعم النفسي الاجتماعي للأطفال المتأثرين بالحرب وعائلاتهم بالتعاون وبدعم من منظمة اليونيسيف وغوث الأطفال البريطاني وبالتنسيق مع عمل الجمعيات الأهلية والدولية العاملة على الأرض وبالتنسيق والشراكة مع منظمة العناية الطبيّة الدوليّة واليونيسيف ومراكز الخدمات الإنمائية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها… إلا أن هذه المساندة لم تشمل كل المتضررين نفسيًا من الحرب من جهة، ولم توفر خدماتها في مسألة الدعم النفسي بشكل مستمر من جهة أخرى.

كما يتوجب على الدولة إنشاء مراكز الرعاية الصحية –النفسية في المناطق اللبنانية كافة، وبصفة خاصة منطقة جبل عامل التي تفتقر إلى مثل تلك المراكز، للتخفيف من آلام الناس ومعاناتهم وللحدّ من انتشار الأمراض النفسية على أنواعها وتطورها. وتجدر الإشارة إلى دراسة أجرتها جمعية إدراك 2018 “أن هناك شخصًا واحدًا من بين 4 أشخاص في لبنان، يعاني اضطرابات نفسية”.

بناء على ما تقدم، فإنه لا يجوز الإستهتار بالصحة النفسية والتغافل عنها، فهي مع تزايد تعقيدات الحياة وتصاعد متطلباتها وتحدياتها، لم تعد ترفًا، بل أصبحت على العكس من المستلزمات الأساسية تمامًا كضرورة إشباع الحاجات الأولية.

التوصيات

  • إجراء مزيد من الدراسات التي تعنى باضطرابات ما بعد ضغوط الصدمة على فئة الأطفال والمراهقين في لبنان.
  • اقتراح برنامج وقائي ضد الصدمات النفسية والاهتمام بإقامة دورات تدريبية لكوادر الشباب حول الدعم النفسي بحالات الأزمات وكيفية التدخل بغرض الحفاظ على صحة الإنسان من كل الأمراض.
  • بناء برامج إرشادية، داعمة للأطفال، وإكسابهم مهارات وأساليب العمل لدى تعرضهم لمواقف ضاغطة.
  • تدعيم دور الاختصاصي النفسي في العمل على التخفيف من حدّة الصراعات النفسية ومساعدة كل فرد في تجاوز صدمة المرض، ومراعاة التحويلات التي تحدث أثناء العلاج وكيفية التكفل بها.
  • تعزيز دور الإرشاد النفسي والاجتماعي في المؤسسات التربوية كافة، لتقديم المساندة اللازمة للطفل. وتعزيز الأنشطة الإبداعية والترفيهية داخل المؤسسة التربوية.
  • زيادة التوعية النفسية والتربوية بالاضطرابات النفسية لدى الأطفال الناتجة من اضطراب ما بعد الصّدمة عن طريق المواد الدراسية الجامعية أو من خلال الندوات والمحاضرات في الجامعات.
  • إقامة ورش عمل لتبادل الخبرات حول سبل التوعية والتثقيف نحو الصحّة النفسية، وحول كيفية إجراء الإسعافات النفسية الأولية حال تعرض الفرد لصدمة نفسية مفاجئة، للتخفيف من معاناته.
  • الاعتناء بالصحة النفسية للفرد، من قبل الوالدين في مرحلة الطفولة والمراهقة.
  • المساعدة في دمج المصابين الذين حدثت لهم إعاقة جسدية أثناء الحرب في الأسرة والمدرسة عن طريق زيارات المساندة وتهيئة الظروف المناسبة لها.
  • إنشاء وتفعيل دور الرعاية للصحة النفسية في لبنان عمومًا وفي جبل عامل خصوصًا وإلحاق المستشفيات كافة باختصاصيين ومعالجين وأطباء نفسانيين للحدّ من انتشار الأمراض النفسية ودرء عواقبها.

 

قد يهمكم أيضاً الأطفال الجنود في ظل القانون الدولي الإنساني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأطفال #الصحة_النفسية #الحروب #تأثير_الحروب #حقوق_الطفل #الصدمة_النفسية #اضطراب_ما_بعد_الصدمة #الانعكاسات_النفسية_للحروب_على_الأطفال #الصدمات_العاطفية #الرعاية_النفسية_للأطفال #ضحايا_الحروب