انشغــل «هيغـل» بالإجابة عــن التساؤل عمّا يربحه عظـماء التاريخ من جـرّاء تعـرضهم للنفي أو سقوطهم موتى أو قتلى مثل قشور فاكهة أفرغت من نواتها‏[1]. لم يكن ردّه يخرج عن إطار مفهوم مكر التاريخ الذي اعتقد أنه يجعل من الإنسان منتوجاً لإرادة الروح أو المبدأ العقلي المتجسد في التاريخ، معتبراً أن «ما ربحوه هو مفهومهم، أي الغاية التي حققوها، وهو ما أنجزوه».

لن نتوقف كثيراً عند ما ذهب إليه صاحب «العقل في التاريخ»، وخصوصاً عندما يحكم بالتبعية المطلقة للناس لإرادة التاريخ التي تجعل الزعامة تنسحب وجوباً لقائد يضحي الناس بأنفسهم وبما يملكون لأجل أن يحقق ما خُلق ليقوم به، لأن فلاسفة ومفكرين كثراً انبروا، منذ عدة عقود، للدفاع عن قدرة الإنسان على صنع تاريخه، وإن اختلفوا نسبياً حول حدود هذه القدرة وامتداداتها، متى تمكن من الوعي بشروط هذه الصناعة، كما هو الشأن بالنسبة إلى فريدريك إنغلز وكارل ماركس وجان بول سارتر ولويس ألتوسير وغيرهم. والوقائع التي تشهد على هذه الفاعلية كثيرة، ويكفي أن نذكر أن تاريخ الكون، كما تكشف الكتابات التاريخية والسياسية، لم يكن في مجمله إلا سلسلة طويلة وشاقة من تمرد الأبناء على الآباء، والمظلومين على الظالمين، والفقراء على الأغنياء، والصغار على الكبار، والمسودين على السادة‏[2]. معنى ذلك أنه في كل المجتمعات، وفي كل الأزمنة، ثمة حركة احتجاجية مستمرة في الزمان والمكان، تجمع بين الثابت والمتغير في آن، عبر أجيال وأوضاع دائمة ولامنتهية، نكاد نعاينها في مختلف الأنماط والاتجاهات، فهي من مكونات المبنى المحتمل للفاعلية الاجتماعية، ومن محددات معناها العميق‏[3].

أولاً: في معنى الحركات الاحتجاجية

إن الحضور المكثف للحركة الاحتجاجية في الاجتماع الإنساني يجعلها ظاهرة مجتمعية حاضنة لكل فعل وسلوك تمردي وانتفاضي أو ثوري‏[4]. فهي تنطلق في الأغلب برفع مطالب دنيا وبسيطة، وبجموع صغيرة ومتناثرة، ثم سرعان ما تتسع زمكانياً، إذا سمحت الظروف والسياقات والفرص السياسية بذلك، فتتخذ أشكالاً جديدة تسير بالحركة الاحتجاجية في اتجاه تصاعدي، وصولاً إلى انتفاضات عارمة، أو تمردات دامية، أو ثورات تستهدف رأس النظام. والنماذج على ذلك متشعبة، كما في حالة الثورة الفرنسية مثـلاً، حيث تطورت حركات الاحتجاج من دون أن يكون ذلك مقصوداً في البداية، إلى ثورة اكتسحت الحكم. وهو ما حدث في حالة الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً‏[5]. وكذلك في مصر وتونس، لم تكن أصـلاً الدعوة إلى الثورة هدفها إطاحة نظام حسني مبارك أو زين العابدين بن علي، بل حركات احتجاج انطلقت سلمية، حوّلها سوء تقدير فاعليتها بصورة متدرجة إلى ثورة قلبت موازين القوى داخل البلدين.

إذاً، ليست الحركات الاحتجاجية كذلك بسبب التسمية طبعاً، بل بالنظر إلى خصائصها، وتعبيراتها اللغوية والجسدية التي يوجهها المحتجون نحو جهة ما، يفترض توتر العلاقة بينهم بخصوص سوء توزيع منافع ومصالح الحقل الذي ينتمون إليه جميعاً. قد يكون هذا التوتر حاضراً في الأشكال الاحتجاجية الأخرى، مثل الانتفاضة أو التمرد أو الثورة، لكن التسمية تظل رهينة المسار والمآل الذي يمكن أن تسلكه. فهي متوترة وﺁنية بطبيعتها، باعتبارها ردود فعل على ضغوط أو إكراهات لا تطاق، يحضر معها بدرجة عالية التوتر والعنف، وبخاصة العنف المضاد‏[6]. وهي عبارة عن مجموعة من الأفعال الجماعية التي تتمايز عن الأنشطة التنظيمية والمؤسسية‏[7]. إنها عملية استعمال الجماهير للفضاء العام واحتلاله، بهدف أو بغية التعبير السياسي للآراء والمطالب، التي لا يُعبَّر عنها داخل المؤسسات والتنظيمات التقليدية‏[8]. ويعتبرها أحد الباحثين ضروباً متنوعة من الاعتراض، تستخـدم أدوات يبتكـرها المحتجون للتعبيـر عن الرفض أو لمقاومة الضغـوط الـواقعة عليهم أو الالتفاف حولها‏[9].

إنها ضروب منتشرة في الفئات الاجتماعية والسياسية كافة، وقد تتخذ مناحي هادئة أو هبات غير منظمة‏[10]، تحاول إرادات جماعية مختلفـة في إطارها إحداث التغيير الاجتـماعي والسياسي على نحوٍ كلي أو جزئي في نمط القيم السائدة والممارسات السياسية، وذلك بين أفراد يجدون في الحركة تجسيداً لمعتقداتهم ونظرتهم إلى الوضع الاجتماعي المنشود. ينتمي هؤلاء الأفراد في الأغلب إلى الفئات المهمشة التي تقع على مسافة بعيدة من المركز، سواء كان سلطة أو ثروة أو ثقافة أو رمزاً. وينقل لنا التاريخ الاجتماعي والسياسي أنه كلما أدركت جماعة معينة أنها أصبحت غير مرئية ومكشوفة ومطالبها مهمشة، سارعت إلى التعبير عن مطالبها بالشارع العام. إن هذه الجماعة التي يحسبها مالكو الثروة والسلطة بمنزلة حجر مطروح في الشارع، سرعان ما يصبح حسب «إريك هوفر» حجر الزاوية في بناء عالم جديد.

إن المهمشين هم خميرة التغيير. لم تكن سخرية من السخريات، أن هؤلاء في وقت من الأوقات في أوروبا هم الذين عبروا المحيط لبناء مجتمع جديد في القارة الأمريكية، بل كان هذا هو الشيء الطبيعي‏[11]. ثم ما فتئ أن صار هؤلاء في كل الأوقات، وفي كل بقاع العالم، القوة الأساسية لكسر شوكة التسلط والدعوة إلى الإصلاح والتغيير. والمغـرب بجغــرافيته الاستراتيجية وسوسيولوجيته البشرية المتنوعة، لم يكــن ببعيد أو غير معني بما يقع من حوله، بل إن الحراك الاجتماعي لم يتوقف فيه يوماً؛ فالمغربي ينمحي أمام السلطة تارة، ويتآلف معها تارة أخرى. ومن حيث كونه مسالماً ومحباً للمظاهر، يغدو جافاً وصامتاً حين تفاجئه عاصفة الأحداث. وحين يحتج ويثور، فإنه يكنس كل ما يعترض طريقه‏[12]. وعلى الرغم من أن التاريخ الرسمي ظل ينظر إلى عامة الناس نظرة توجس وحذر، وأحياناً لامبالاة، إزاء التضامن الذي يبديه المغاربة حين يتعلق الأمر بمعيشهم وكرامتهم، بعيداً من إرادة المخزن، وفي أوقات ضده، نسجل ظهور كتابات موازية في علم الاجتماع والسياسة في المغرب، تعنى بحركاتهم الجماعية ودورها في بناء الدولة والمجتمع.

سمحت هذه الكتابات نسبياً في إخراج الحركة الاحتجاجية ومكانة المهمشين فيها من إطار «المسكوت عنه» أو «اللامفكر» فيه بحسب صياغة محمد أركون‏[13]، إلى إطار النظر إلى المجتمع بأكمله، وتجاوز اختزاله في الخطاب الإجماعي للماسكين بالسلطة، لأن الفهم ينبع من الاختلاف لكشف جوانب أحداث معينة من هوامشها‏[14]. في هذا السياق، دعونا نلقي نظرة على مسار الفعل الاحتجاجي بالزمن المغربي في محاولة لفهم صيرورته وأهم التحولات التي رافقته.

ثانياً: نظرة عامة عن مسار الاحتجاج بالمغرب

كان المغرب بحكم جغرافيته، مثاراً للأطماع العديدة والمنازعات من أجل بسط النفوذ على هذه الرقعة جغرافياً وبشرياً واقتصادياً‏[15]. ولا جدال في أن الطبيعة الجبلية للمغرب انعكست على طبيعة السكان الذين عرفوا منذ القدم بصلابتهم ومهارتهم القتالية مستفيدين من الظروف الجغرافية الملائمة‏[16]. ويعد رد الفعل المغربي على الاستعمار تلقائياً وعميقاً وسريعاً ومستمراً، يغذّيه في الأفراد حب البقاء، وتذكّيه في الجماهير مشروعية الدفاع عن النفس‏[17]، والذبّ عن الكيان والميل إلى الحرية الفردية والاجتماعية لكونها من الصفات التي امتاز بها المغاربة في جميع مراحل حياتهم وتجاربهم التاريخية‏[18]. ولم يرتبط دفاع المغربي واحتجاجه عن حقه في العيش حرّاً وكريماً بالمستعمر فحسب، بل امتد داخلياً إلى الدولة ذاتها تعبيراً عن تقصيرها في جانب من الواجبات التي ينبغي أن تقوم بها لمصلحته.

بالرجوع إلى حالة السيبة، فإلى جانب ما اتسمت به من فوضى عارمة وعنف دموي بين القبائل في ما بينها من جهة، أو بينها وبين المخزن من جهة ثانية، نجدها بالأساس ترمز إلى تصادم مشروعين سياسيين، يسعى كلاهما إلى الطعن في مشروعية الآخر، وفي خياراته السياسية أو العقدية أو الاقتصادية‏[19]. لذلك، فباستثناء حركة الدباغين بفاس وحركة الإسكافيين بمراكش التي غذتها الحمولات الاجتماعية والاقتصادية رغم تداخلها شيئاً ما بالجانب السياسي، فباقي الأحداث التي احتضنها مجال السيبة تدخل في إطار الصراعات والتمردات السياسية وليس الحركات الاحتجاجية.

في فترة الاستعمار، زاوج المغاربة بين الكفاح المسلح والاحتجاج السلمي؛ فواجهوا سلطات الحماية الفرنسية والإسبانية بالسلاح، ثم سرعان ما احتجوا سلمياً بالتضرع إلى اللطيف القدير ألا يفرق العرب عن إخوانهم البربر بعد صدور ما سميّ «الظهير البربري» الذي تم استثماره بذكاء من جانب الحركة الوطنية لدفع الناس إلى مواجهة الاحتلال الأجنبي. بعد الاستقلال، أصبحت الحركات الاحتجاجية في المغرب وسيلة لتصريف الصراع الأيديولوجي – السياسي بين الأحزاب السياسية المعارضة والسلطة الحاكمة، داخل الساحات والقاعات العمومية ومؤسسات التعليم الثانوية والكليات، وعلى صفحات جرائدها، وغيرها من الفضاءات التي شهدت صراعاً عنيفاً وانتفاضات مدوية بين السلطة والمحتجين. خفّت حدة هذا التصادم في زمن التسعينيات، حيث اتخذت الحركات الاحتجاجية أشكالاً أقل عنفاً وأكثر تنظيماً، تزامناً مع موجة حقوق الإنسان، وارتفاع سقف المطالب الاجتماعية مقابل التراجع النسبي للمطالب ذات الرمزية السياسية، سمحت بانتقال دينامية فعل التغيير من المعارضة السياسية إلى الفئات الشعبية‏[20]، وهو ما جعل الاحتجاج تمريناً يومياً مألوفاً، تتعدد تعبيراته ومميزاته، داخل الفضاء العام المغربي.

لاعتبارات منهجية، سنكتفي في هذا السياق بدراسة موجزة للأشكال التي اتخذها الاحتجاج المغربي في مرحلة ما قبل حركة 20 فبراير 2011، على أمل أن نفرد لهذه المرحلة في ما بعد، بحثاً خاصاً.

ثالثاً: أشكال الحركات الاحتجاجية

إن المتتبع للمسار التطوري للحركات الاحتجاجية في المغرب إلى حدود مطلع سنة 2011 يمكنه أن يسجل أن الزمن الاحتجاجي فيه ينقسم إلى ثلاثة أجيال، يتميز كل واحد منها بأشكال تخصه. وإن كان من السهل عزل الجيل الأول من حيث طبيعة الاحتجاج داخله عن الجيلين الثاني والثالث، فالأمر ليس باليسير بين الجيل الثاني والجيل الثالث في الحالة المغربية لوجود نوع من التداخل والاندماج بينهما على مستوى الواقع، وهو ما سنحاول تجاوزه من خلال البحث عن المؤشرات المنهجية والنظرية التي تصلح لرسم خطوط فاصلة بين المرحلتين.

1 – جيل الاحتجاج السياسي

في ظل سياق سياسي سلطوي، كان سجل الفعل الجماعي في زمن الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، يتكون في الأغلب من الإضراب القطاعي للموظفين والمستخدمين، وإضراب الطلبة وتلاميذ الثانويات‏[21]. كانت المعاملة السياسية لأجهزة الدولة مع كل الصراعات الاجتماعية – تقريباً – في المغرب ترتكز على القمع والتهديد. فكانت وزارة الداخلية لا تسمح بأي استقلالية أو بناء للحركات الاحتجاجية، وتمنع في الوقت نفسه، تنظيم احتجاجات للحركات السياسية والاجتماعية المعترف بها رسمياً‏[22]. وتالياً، ففي غياب الظروف السياسية الملائمة، لم تكن التظاهرة في الشارع العام تمثِّل مطلباً بالنسبة إلى الحركات الاحتجاجية والسياسية، بل مثّل الإضراب الشكل الوحيد للاحتجاج‏[23]، ووسيلته المثلى للضغط على الدولة في الانتفاضات الحضرية الكبرى التي شهدها المغرب سنوات 1981 و1984و1990 كان ظاهره يستنكر التهميش الاجتماعي، وباطنه يضمر الإقصاء السياسي.

2 – جيل الاحتجاج الحقوقي

كثيرة هي المؤشرات التي تدل على أن العقد الأخير من تسعينيات القرن الماضي، تميز بظهور تنظيم اجتماعي أكثر عقلانية، بحث عن قنوات وأوجه جديدة للاحتجاج، لم تكن مألوفة من قبل، بالنظر إلى المناخ السياسي الذي ساد في الماضي‏[24]. لم يعد الفاعل التقليدي السياسي والنقابي هو المتحكم في الفعل الاحتجاجي من حيث الإعداد والأجرأة، وإنما سيكتسح الفاعل الإسلامي والأمازيغي والحقوقي والمعطلين من العمل الفضاء العمومي، مستعملين أساليب مختلفة تتمثل بالتظاهرات والمسيرات والوقفات‏[25]، علاوة على الإضراب.

3 – جيل الاحتجاج على السياسات التنموية

أمام ضعف التجاوب الحكومي مع مطالب الحركات الاحتجاجية، حافظ الضرر المشترك بين مجموعة من الأفراد من السياسات العمومية، على تواتره واستمراريته. لكن الملاحظ، هو ظهور أشكال أخرى فيها إبداع. هذه الإبداعية لم تنحصر في وقفات الشموع، بل في الرحلات والمؤتمرات والحملات الإعلامية‏[26]، ومسيرات المشي على الأقدام في اتجاه العاصمة ووضع الكمامات على الأفواه والخروج إلى الشارع من دون ملابس‏[27]، وتأسيس تنسيقيات محلية لمناهضة ارتفاع الأسعار، وحمل بعض المحتجين لبعض أواني الطبخ فوق رؤوسهم احتجاجاً على تدني القدرة الشرائية، وارتفاع حالات محاولات التهديد بإضرام النار في الذات، الذي انتقل إلى حيز التنفيذ بعد سنة 2011 وهي أشكال تعبر عن وعي الساكنة المغربية بفشل السياسات العمومية التي تتكفل بها الدولة عبر قطاعاتها الحكومية المركزية، أو السياسات المحلية التي تضطلع بها وحداتها اللامتمركزة عبر الجهات والأقاليم، أو تلك التي عهـد بها إلى الجماعات المحلية الحضرية أو القـروية، بالتأثير في الواقع المعيشي اليــومي؛ سـواء تعلق الأمر بالسكن أو الصحة أو التعليم أو الشغل أو البنى التحتية… إلخ.

إذاً تنوعت الأشكال الاحتجاجية التي عبّر من خلالها الشعب المغربي عن الخصاص والهشاشة التي تمس الكثير من فئاته. من خلال أرقام وزارة الداخلية، يقدم عبد الرحمان رشيق معطيات إحصائية مهمة حول الأشكال التي اتخذتها الحركات الجماعية المطلبية للتعبير عن نفسها سنوات 2008 و2009 و2010و2011. انتقل مجموع المسيرات من 496 مسيرة سنة 2008، إلى 1354سنة 2009، ثم قفز المجموع إلى 1485 مسيرة سنة 2010. الأمر نفسه بالنسبة إلى الاعتصام والوقفة التي وصل مجموعها إلى 3545 سنة 2010، في حين بلغ 2459 سنة 2009، ولم يتجاوز 2270 سنة 2008. كما أن التجمعات ارتفعت من 1679 تجمعاً سنة 2008 إلى 2503 سنة 2010، بينما بلغ مجموعها 2027 سنة 2009. في حين تضاعفت الأشكال الاحتجاجية الأخرى ما بين سنة 2008 و2010، حيث انتقلت من 646 سنة 2008 و598 سنة 2009 إلى 1079 سنة 2010؛ فخلال أربع سنوات، لم يتجاوز مجموع الأشكال الأخرى 4646، واستقر في 6670 مسيرة فقط، بينما وصل إلى 12418 تجمعاً، وبمجموع 16548 تتصدر الوقفة هذه الأشكال كافة، بنسبة تجاوزت 41 بالمئة من مجموع 40282 شكـلاً احتجاجياً.

ثمة حاجة إلى البحث في الأسباب التي تجعل المغاربة يقبلون على تبني الوقفة على بقية الأشكال. المؤكد أن هذه المهمة تتجاوز كثيراً إمكانيات هذه المساهمة وحدودها، وتحتاج إلى مشاريع بحث أكثر عمقاً وأكثر إمبيريقية، لذلك فالهدف هنا يقتصر على طرح بعض التساؤلات والإشارة إلى بعض العوامل الكامنة وراء صدارة هذا الشكل الاحتجاجي، منها كيفية تعبئة الموارد البشرية وطريقة تنظيمها والتخطيط لها فكراً وتصرفاً. غير أنه على مستوى الواقع، يظهر أن مهمة التمييز بينها غير يسيرة لسببين رئيسيين:

أ – التداخل الكبير بين هذه الأشكال، وهي مسألة لم يوفق الكثير من الكتابات في استجلائها، نظراً إلى كونها تذهب إلى أن الوقفة والاعتصام والمسيرة والتظاهرة والتجمهر، هي كلها تحركات جماعية تعلن عن نفسها بالطرائق العمومية. من البديهي أن نستخلص أنه بهذا التفسير الذي يخلط بين هذه الأشكال، نكون قد أغفلنا جوانب ظلت من دون جواب: هل تنشأ بالطريقة نفسها؟ ومن أين تبدأ؟ وأين تنتهي؟

ب – الغموض الكبير الذي يحيط بالوضع القانوني للوقفات الاحتجاجية في علاقتها ببقية الأشكال، وخصوصاً أن القضاء المغربي كانت له عدة تأويلات لهذا الوضع، الأمر الذي يطرح التساؤل حول طبيعتها القانونية، وإذا كانت فعـلاً تكتسي صبغة تظاهرة أو تجمع عمومي، وتخضع بالتالي لنظام التصريح القبلي أو المسبق، وهو ما يعني في نفس سلامة الموقف التأويلي للسلطة المحلية للفصل 11 من الظهير الشريف رقم 1.58.377 بشأن التجمعات العمومية كما وقع تتميمه وتعديله‏[28]، أم أنها تخرج عن دائرة الخضوع لمقتضيات قانون 00 – 76 الخاص بالتجمعات العمومية، ويجعلها مجرد نشاط غير مقنن، ولا يكتسي في أساسه أية صبغة قانونية لغياب السند القانوني الذي يقوم عليه، من خلال التعرض للوضع القانوني لهذه الأشكال، والتحقق مما إذا كان يستوعب مفهوم الوقفة الاحتجاجية، وتالياً اكتسابها لصبغته القانونية من عدمه.

 

رابعاً: ملامح الاحتجاج المغربي

تفاعلت الممارسة الاحتجاجية مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاشت المملكة على وقعها، على امتداد قرون. لم يكن هذا الامتداد خطياً وثابتاً، بل تخللته منعرجات تتنوع من حيث الحدة والتأثير، ترجمها تغير فعل الاحتجاج من حيث التفكير في آليات تصريفه وتبليغ مضامينه، وانتشار ثقافته في صفوف الكثير من الفاعلين، إضافة إلى توسع نطاقه من حيث الزمان والمكان. في المقابل، لا تغيب عن ذهن المتتبع لمظاهر تغير هذا الفعل، استمرار تسجيل بعض تجليات الثبات التي ظلت ملازمة له.

1 – طابع الاحتجاج المنظم والمفكَّر فيه

يتحدد السلوك العقلاني من خلال الممارسة الموجودة في الواقع، وفي طريقة تدبير قضايا المجتمع العقلانية وحاجاته، وليس فقط من خلال مطابقته للمنطق والعلوم والنظريات. سنستعير من إدغار موران تعريفه للإنسان بأنه كائن بيو – ثقافي، لنقول إن الاحتجاج كسلوك إنساني هو في الوقت نفسه:

– فعل بيولوجي لا ينفصل بحكم الفطرة عن طبيعة الإنسان الغريزية، ولا غرابة في أن يكون مشترَكاً بين الشعوب والمجتمعات كافة، في الماضي والحاضر، وسيظل كذلك في المستقبل.

– فعل ثقافي ينفلت بفضل ملكة العقل من حيوانيته الخاصة، ويتلاءم مع الوسط الذي يعيش فيه وينتمي إليه، وطبيعي أن يختلف من مجتمع إلى آخر، من حيث مدخلاته ومخرجاته. وهذا ما يفسر كونه عملية بناء منظمة تفرض على المحتجين اختيار الشكل التعبيري الذي يسمح بالتأثير في الجهات المعنية، وتحديد المطالب والشعارات المرفوعة التي تظل في حدود الممكن والمعقول، واستثمار التطور الحاصل في مجال الإعلام والاتصال.

يصعب أحياناً أن ننكر أن الحركة الاحتجاجية تبقى في الأصل ممارسة مشاغبة وعفوية تنفلت من التنظيم والضبط والتوجيه، وبموازاة ذلك لا يعد الاعتراف بحجم الانزلاقات والتداعيات الخطيرة التي ذاق مآسيها المحتجون في الماضي بسبب سوء التنظيم أمراً مستعصياً. ألم تكن الانتفاضات والتمردات التي عرفها المغرب المعاصر يعوزها التنظيم المسبق؟ وكيف كانت ستكون الحصيلة لو أنها كانت ناتجة من عمل تنظيمي مؤطر يخفف من قوة الصدام بين الجماهير المحتجة وأجهزة الدولة؟

في الحقيقة، رغم وجود بعض التفاوتات البسيطة، فحالة الصراع العنيف التي تميزت بها الاحتجاجات الجماهيرية، في هذه الحقبة، تكاد تكون عامة في بلدان الوطن العربي. لقد ظلت تحركات متباعدة تتسم بالتشتت وطابع رد الفعل الوقتي والعفوي، وهو ما يحرمها فرص التطور إلى فعل مقوم قوي‏[29]. لم يشكل الوضع في المغرب استثناء، إذ وصفت الانتفاضات الحضرية الكبرى التي عرفها المغرب بكونها عفوية، وعمياء ومن دون تنظيم‏[30]، بسبب انفجار الأوضاع التي صار من الصعب التحكم في الفوضى التي أحدثتها. غير أن ما يستحق الذكر أن خاصية العفوية هذه بدأت في التراجع مع الوقت، بعد أن تحولت هذه الحركات الجماهيرية الواسعة إلى حركات صغرى ومحدودة بدت أقل تلقائية وأكثر انضباطاً وقصدية وتنظيماً. لم تعد ممارسة الاحتجاج اليوم عفـوية فـي فضاء عمـومي، كتجمع الناس فـي الشـوارع احتفالاً بمـناسبة دينية، أو فـي أســواق أو أمام وسائل النقل، بل هي فعل مطلبي مدبر. في السابق، لم يكن الاحتجاج يخلف أثراً، إذ تنوب الحناجر عن الكلمات، وهي صعوبة كانت تزيد من عسر فهم هذه الحركات الجماعية بالنسبة إلى الباحث فيها، لكن اليوم، تزخر الشوارع بهذا النوع من الحركات التي تعرف بنفسها وتفصح عن مطالبها من خلال شعارات مكتوبة وبلاغات وبيانات وتسجيلات.

2 – خاصية استعمال الفضاء العام

أصبح الاحتجاج يتخذ الفضاء العام مقراً رئيساً له، يحق للمحتجين إعلان مظالمهم ومطالبهم وانتقاداتهم ورفضهم عبر مكوناته المختلفة: ساحات عمومية، أو رصيف أمام الجهة التي يعتبرها المحتجون معنية بطلبهم أو مطالبهم، وأحياناً يتدرجون في اختيار المكان وفق منطق تصعيدهم درجة الاحتجاج‏[31]. لقد تحرر المغاربة نسبياً من الخوف الذي كان يتملكهم عند التفكير في النزول إلى الشارع العام المفتوح على كل الاحتمالات، مع ما يعنيه ذلك من تشكيك في الشرعية السياسية للحكم، وتالياً إعلان المواجهة مع أجهزته الأمنية والعسكرية؛ فالذي حدث منذ عام 1956 إلى حدود حقبة السبعينيات، أن المواجهة التي سادت بين المعارضة والملكية، اتسمت بالعنف المتبادل، فالمعالجة السياسية لجميع الانفلاتات الاجتماعية التي حضرت كانت عنيفة، وكلها انتهت بالاعتقال والاغتيال وقمع الصحافة‏[32].

وتكررت الاحتجاجات العفوية على نحوٍ دوري، في الثمانينيات. فحتى عهد قريب لم يكن بمقدور الشباب المعطلين، ولا غيرهم، رفع عقيرتهم بالصراخ في وجه «النظام»، وبالضبط قبالة مقر البرلمان، وتالياً، فمشهد الخيام البلاستيكية المنصوبة في قلب شارع محمد الخامس بالرباط، التي سكنها الدكاترة المعطلون عدة شهور، كان يدخل في خانة المستحيل‏[33] في السنوات الفائتة‏[34]. لكن بعد ذلك، وعبر تدبير سياسي وإداري حديث للمجتمع الحضري، خف استعمال العنف كوسيلة للضغط على المجتمع، وظهر متغير جديد هو المطالبة بالحق في الوجود داخل الشارع العام من جانب القوى الديمقراطية، ثم سرعان ما طالب الإسلاميون بذلك في ما بعد، وبقية الفاعلين الاجتماعيين.

في هذه المرحلة يذكر عبد الرحمان رشيق أن الحديث عن بقية استراتيجية الشارع العام، بدأ يبرز في خطابات الأحزاب، وهذا ما تمت ترجمته عملياً من خلال التظاهرات المساندة للعراق وفلسطين، وهذا لم يكن مألوفاً من قبل‏[35]. هذا المعطى سيتأكد أكثر نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة‏[36]، حيث أصبح فاعلون اجتماعيون جدد يمارسون ضغطاً على الدولة من أجل اكتساح الفضاء العمومي، وهم: الإسلاميون، النساء، المعطلون، الحقوقيون، الأمازيغ… إلخ. بفعل المتغيرات السياسية التي شهدها المغرب، على مستوى العلاقات بين مختلف الفاعلين، تشكلت الملامح الأولى لاستراتيجة احتلال المجال العام، سمحت لهؤلاء الفاعلين بالبحث عن أساليب احتجاجية متنوعة لاقتحام الفضاء العام عبر تظاهرات سلمية، أو من خلال تنظيم وقفات واعتصامات‏[37].

3 – ميزة السلمية

مع السنوات الأخيرة لمغرب القرن العشرين، بدأت خطورة الثقافة الصدامية المؤطرة للاحتجاج تخفت وتأفل‏[38]، وبدأت الوقفات تكتفي بالاحتجاج وترديد الشعارات المطلبية من دون الانتقال إلى ممارسة العنف‏[39]. وقد تأكدت سلمية الاحتجاج بفعل نوعية الفئات التي انخرطت أكثر في انطلاق هذا الشكل من الممارسة الاحتجاجية؛ إذ ضم خريجي معاهد وجامعات جمعهم مطلب التشغيل. منظراً إلى مستواهم التعليمي ترسخ لديهم شعور بعدالة مطلبهم، وبشرعية الممارسة الاحتجاجية ذات الطابع السلمي من أجل الاستجابة إليهم، فأدوا بذلك إلى حد ما دوراً بيداغوجياً في نشر ثقافة الاحتجاج السلمي توسيع نطاقها‏[40]. ويضيف أحد الباحثين أن هذا الانتقال يرتبط بتحول سوسيولوجية الاحتجاج من الذكورية والشبابية التي تطبع انتفاضة المهمشين والفقراء إلى التظاهرة التي تعرف حضوراً مهماً للنساء والأطفال كإشارات ديمغرافية على طابعها السلمي‏[41] الذي يتم تعضيده بإصرار الكثير من المحتجين على حمل الأعلام الوطنية وصور الملك محمد السادس، في ممارسة نوع من المراقبة الذاتية‏[42] لاتقاء عنف الأجهزة الأمنية، وخصوصاً أن هذه الأخيرة ما زالت تتسرع في استعمال العنف لتفريق المحتجين. فالمتغير هنا حسب العطري مرتبط بالمحتجين، لا بالمحتج عليهم الذين لا يترددون في اللجوء إلى العنف، متى توارت ضرورات التلميع والضغط الخارجي‏[43].

4 – اتساع مجال الاحتجاج ومضمونه

تغير مجال الاحتجاج من حقبة زمنية إلى أخرى. وهو التغير الذي يحيلنا على الحركية التي يمتاز بها الاحتجاج المغربي. كان المجال قروياً بامتياز، ويرسم بأمانة العلاقة التي كانت قائمة بين المخزن والقبيلة في زمن السيبة. سرعان ما تحول هذا الفضاء إلى المدينة في أوج تصدي الحركة الوطنية للتغلغل الأجنبي، وتعزز لأسباب متعددة في زمن الاستقلال. غير أن التحولات الاجتماعية والتوافقات السياسية بين القصر والمعارضة التي شهدها المغرب بعد التسعينيات، جعلت الاحتجاج يمتد شيئاً فشيئاً إلى المدن الصغرى، ثم إلى البوادي التي وصل إليها السخط والتذمر الاحتجاجي. وهو الامتداد الذي صار ملحوظاً بقوة في مختلف تفاصيل المشهد المجتمعي، وحتى في تلك المجالات التي كانت ممنوعة من تصريف فعلها الرافض للوضع القائم؛ إذ اعتاد السكان في المغرب العميق هذا الطقس اليومي للتعبير عن حال التهميش الترابي، كما دخلت فئات جديدة إلى النسق الاحتجاجي كضباط البحرية والقضاة وأئمة المساجد والجنود… إلخ. وعلى الرغم من اختلافها الظاهر، فإن أحداث الاحتجاج بمختلف مناطق المغرب الحضرية والقروية، القريبة من المركز أو البعيدة منه عشرات أو مئات الكيلومترات، تعكس الواقع نفسه. لربما القاسم المشترك بينها، بحسب أحد الباحثين، هو استبطان المحتجين خوفاً كبيراً أمام التحولات غير المتحكم فيها التي تعمل في عمق المجتمع من جراء السياسات العمومية والخيارات الكبرى للدولة في ظل تحولات دولية تفرض على المغرب سياقاتها وإكراهاتها‏[44].

وبالعودة إلى التطور التاريخي للاحتجاج بالمغرب، منذ الاستقلال إلى ما قبل مولد حركة 20 من فبراير، نجد أن موضوعات الاحتجاجات الاجتماعية تتوزع عموماً بين: الشغل والسكن، والتهميش (الطرق، الصحة، التعليم، الماء الصالح للشرب، الكهرباء)، والتضامن، وانعدام الأمن‏[45]. والأكيد أن سنة 2011، وهي السنة المضطربة على نحو خاص، ستعرف كما سنرى رفع شعارات تطالب بالقيام بإصلاحات سياسية كمطلب أساسي لاستكمال مسار البناء الديمقراطي وإعلان الرغبة الحقيقية في التغيير، بمختلف أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

على الرغم من مظاهر التحول، فإن المغرب من الدول التي لم تحدث قطيعة مع الماضي، وما زال يتمازج فيها الماضي بالحاضر‏[46]. يعـد الاحتـجاج مـمارسة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، رغـم مظاهر التحديث التي أصابت أشكـاله وموضـوعاته، كخطاب وكفعل يتكـرر في الـزمان والمكان بسبب وجـود خلل وعائق أو اختــلالات وأعطاب ينبغي تجاوزها والبحـث عــن السبل الكفيلة بحلها وإصلاحها والحــد منها أو التخفيف من آثارها. ينفي الكثير من الباحثين وجود تقليد في المغرب للاحتجاجات المنظمة‏[47]، لكنهم يجمعون حول استمرار بعض تجليات الثبات التي طبعت هذه الممارسة على المدى الطويل. إن الانتقال من مجتمع كانت فيه للدولة تقريباً سلطة شبه مطلقة على جميع المستويات، إلى سلطة سياسية تعلن تبنيها للديمقراطية، والحوار، واحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحرية السوق، ليس بالأمر السهل. فالتدبير السياسي لمجتمع متغير بسرعة فائقة، ومتعطش للحرية وللتعبير عن آرائه ومصالحه، جعل السلوك الحالي للدولة خاضعاً للتحول، ومحتفظاً بعناصر الثبات في الوقت ذاته.

ارتبط ما هو ثابت بتحول حالة الأزمة إلى حالة قصوى‏[48]، جعلت المجلس الوطني لحقوق الإنسان يلاحظ في أحد تقاريره أن الحركات الاحتجاجية التي تشهدها مدن المغرب وقراه، تعود بالأساس إلى المطالب الاجتماعية والاقتصادية، وأحياناً الإدارية‏[49]، التي تعكس هشاشة وضع الساكنة والتحديات التي تحول دون العيش الكريم، بحكم عدة عوامل: منها ما هو خارجي يتعلق بتبعية سياسة الدولة ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي إلى تقلبات السوق الطاقية العالمية، وتوصيات المؤسسات المالية، وما هو داخلي، وبخاصة ما سبق أن عرفه المغرب من جفاف، وما تبعه من ارتفاع في أسعار عدد من المواد الاستهلاكية في إطار تحرير السوق، وإعمال قانون حرية الأسعار والمنافسة‏[50]. وبالرجوع أيضاً إلى خطب الملك محمد السادس، نجد أن خــطاب الإصــــلاح الذي ينشــده يلتمس الواقعية مع المعضلات الاجتماعية التي تعترض المشروع التنموي ببلادنا، ويعترف بأن الحرب التي يشنها هي حرب على الفقر‏[51].

إن الفشل في تدبير الأزمة الاجتماعية يبقي الخط مفتوحاً على التوتر بين الساكنة والدولة، كمؤشر سلبي على استمرار تعارض مصالح الفاعلين فيه داخل النسق، وفي الوقت نفسه كعلامة إيجابية تعمل على تطوير عناصره وإعادة إنتاج آليات التأقلم الدائم مع ديناميته. وتالياً، يبقى الاحتجاج كنزاع أو صراع اجتماعي‏[52] سلوكاً ثابتاً يسعى من خلالها المحتجون على الدوام إلى فرض تنازلات على السلطة القائمة‏[53]، وبخاصة على المستوى الاقتصادي الاجتماعي الذي أضحى المحرك الأساسي لهذا الصراع‏[54].

أما العنصر الآخر الذي يشهد على طابع الثبات، فيتجلى في فشل الحركات الاحتجاجية في تجاوز حالة التشتت التي ترافقها؛ سواء تحقق المطلوب أو ظل معلّقاً من دون إجابات، الأمر الذي جعل مهمة الانتقال إلى حركات اجتماعية مستمرة في الزمان والمكان أمراً يصعب تحقيقه، إما بسبب قمعها من طرف رجال الأمن أو الدرك أو قوات التدخل السريع، وإما لاحتوائها بشكل تكتيكي يتمثل بتبني مسلك التفاوض والحوار والاستجابة الجزئية لبعض المطالب، وترك الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات لامتصاص الغضب وزرع الأمل في نفوس المحتجين.

خاتمة

تبقى هذه الملاحظات أولية حول أهم أشكال الحركات الاحتجاجية بالمغرب وخصائصها ومطالبها، في ظل سياق محلي وإقليمي شديد التحول، سمح بانفراد كل جيل احتجاجي بملامح وتعبيرات تميزه، من دون إغفال مراعاة التداخل والتلاقح بين الأجيال. ولهذه المساهمة أن تتساءل عن نفسها في ما إذا نجحت في إبراز هذه التمايزات في ظل استمرار أزمة اجتماعية تظل منفتحة على كل الاحتمالات في الحاضر والمستقبل.

لقد أصبح الاحتجاج يشكل سلطة لها القدرة على الضغط والمساءلة. إنها مساءلة متعددة في مظاهرها، ولكنها موحدة من حيث موضوعها، وهو الاحتجاج على كل أشكال الإقصاء الاجتماعي التي لم تفلح السياسات التي تتبعها الحكومة والجماعات المحلية في القضاء عليها، على الرغم من الجهود المبذولة. فمن البديهي أن يحتج من يفتقر إلى وسائل الإكراه والإنتاج، ويحس أنه يعيش على الهامش.

في المغـرب، وبعـد مضي أكثر من نصف قرن على استقلاله، عجزت نماذج التنمية المتبعة عن الاستجابة الجيدة والدائمة لحاجات السكان المعيشية. لم نصادف خروج حركة جماعية غاضبة تطالب الدولة أو جهة أو جهات معينة بالتقليص من امتيازاتها وأنها تتنازل أو ستتنازل عنها لصالح فئة أو فئات معينة، وإنما ارتبط اتخاذ قرار الاحتجاج دوماً بالمطالبة بقسط من الامتياز وأحياناً ضمان الحد الأدنى من الحقوق الأساسية التي لا ترتبط أساساً بما هو خبزي مادي فقط، بل بما هو حقوقي قيمي.

ولربما لا يجدي الاكتفاء بالتنفيس دائماً في نزع شوكة الحراك الاحتجاجي بالمغرب، بل لعله المضاد الحيوي الذي ينجح في التخفيف من الآلام موقتاً، لكنه لا يزيد الجسم إلا ضعفاً، ومسببات الداء مناعة. ولا غرابة أن تتدرج «اللا» المغربية التي يعبر عنها الاحتجاج، من التعبير عن الخصاص الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي والدستوري الذي جعلته حركة 20 فبراير على رأس مطالبها، ليتبين لنا عمق دلالات ما عناه إبراهيم بوطالب بشخصية الشعب الذي يطلق عليه أيضاً اسم الجماهير، حيث اعتبرها شخصية خفيفة في اللسان ثقيلة في الميزان، مبهمة الحد، خطيرة الشأن، يستحيل أن تجتمع صفوفها في لحظة واحدة وفي مكان واحد، لكن يكفي أن يندفع من سيلها بعض الجداول، أو تتفق على كلمة سواء، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً‏[55].

 

قد يهمكم أيضاً حرية الرأي والتعبير والحراك الديمقراطي في الوطن العربي: جدلية العلاقة

اطّلعوا ايضا على الثقافة السياسية الحضرية في الوطن العربي: العلاقة بين الاتجاه نحو الديمقراطية والاحتجاج السياسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الاحتجاج_السياسي #الديمقراطية #الاحتجاج #المغرب #سلطة_الاحتجاج #التسلط #الاحتجاج_السياسي #الاحتجاج_الحقوقي #الحقوق #دراسات