مقدمة:

شكل نجاح السلطة السياسية الجزائرية في تمريرها مشروع الدستور في البرلمان‏[1] بغرفتيه أمراً بالغ الأهمية في مسيرة النظام السياسي الجزائري. وهذا نظراً إلى كون النظام السياسي الحاكم في الجزائر تمكّن من تجنب موجات التغيير التي جاء بها الربيع العربي؛ فهذا الدستور الذي جاء تتويجاً للإصلاحات التي وعد بها رئيس الدولة في خطابه السياسي يوم 20 نيسان/أبريل عام 2011، المتمثلة بإصلاحات سياسية تراعي مبادئ الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات العامة، ومن ثم تمنح الجيل الشاب فرصة الولوج إلى الحياة السياسية وقيادة دفة الحكم، كان من المتوقع أن يكون ثمرة تجنيب الجزائر ويلات التغيير العنيف، ومن ثم كان عليه أن يراعي تطلعات الجماهير الشعبية في ضبط وتحديد القواعد الديمقراطية التي تحكم سير العملية السياسية، وفقاً لمتطلبات المبادئ الديمقراطية الحديثة. إلا أن هذا الدستور الجديد يتضمن مواد دستورية تكرس صراحةً هيمنة رئيس الدولة على كل الفاعليات والمؤسسات السياسية الأخرى.

لقد عانت الجزائر تاريخياً هيمنةَ مؤسسة سياسية واحدة على النسق السياسي كله، الأمر الذي يجعل الدينامية السياسية تتحرك وفقاً لرؤية واحدة. أما باقي الفاعليات فتبقى: إما تشتغل في الإطار الذي تحدده المؤسسة السياسية المهيمنة؛ وإما تبقى تعيش الإقصاء على الهامش السياسي. إن منطق الهيمنة السياسية الذي عاشته الجزائر منذ بداية تجربة التعددية السياسية كرّس منطق الإقصاء والاستبعاد السياسي للمعارضة السياسية، الأمر الذي يطرح إشكالية الثقة في دستور الإصلاحات السياسية الجديد. من هنا يمكن التساؤل: هل يمكن ضمان حياد العملية السياسية مستقبـلاً في ظل احتكار النظام السياسي الجزائري للسوق السياسية وتمتعه بشبكات اجتماعية واسعة للدعم والإسناد؟ وكيف يؤثر منطق الهيمنة المؤسساتية في دينامية العملية السياسية؟

أولاً: الدستور الجديد وإعادة إنتاج الهيمنة

تميزت عملية بناء الدولة في الجزائر تاريخياً بهيمنة المجتمع السياسي على المجتمع المدني بالمفهوم الغرامشي للكلمة، وهذا راجع إلى دور المؤسسة السياسية الرسمية في إنتاج المجتمع في المرحلة مابعد الكولونيالية، وفقاً لمعادلة الدولة تلد الأمة‏[2]، وهذا من خلال السياسات المتعددة التي انتهجتها النخبة الحاكمة في مجال التعليم والثقافة والصناعة والزراعة وغيرها، وهو ما جعل في ما بعد كل الفاعليات تتعاطى السياسة، وفقاً لما تقتضيه متطلبات استمرار المؤسسة السياسية الرسمية.

إن ارتباط التنمية بالدولة في وعي وممارسة النخبة الحاكمة والفئات الاجتماعية والسكان وقبول الدولة بهذا الرهان على مشروعيتها، أدى إلى إلحاق المجتمع بالمؤسسة السياسية إلى درجة أن مشاريع التنمية ومخططاتها منذ بداية الاستقلال، بما صاحبها من تأميمات وإنشاء قطاع عام اقتصادي وصناعي، وإصلاح زراعي، وتوسيع البنى التحتية الاقتصادية وتحويل العلاقات الاجتماعية، وتعميم التعليم والتكوين وتفجير بنيته النخبوية والفئوية، وتسريع وتكثيف الحراك والصعود الاجتماعي، ونشر تصورات ثقافية عمومية تحديثية وتغييرية، وتدخل مكثف في الميدان والصناعة الثقافية وتعبئة الإطارات وتثمين العمل العلمي والتقني والاقتصادي، وتوحيد الممارسة السياسية والنقابية… مثلت – بمنظور علم الاجتماع السياسي – ذوبان المجتمع في الدولة، وهيمنة المجتمع السياسي على المجتمع المدني، وتعاظم البعد السياسي الإرادي على صعيد الممارسة السياسية والحركات الثقافية والفكرية‏[3].

ولكن بعد إخفاق النخبة السياسية في إدارة التنمية وضعف برامج الرعاية الاجتماعية، جرى التفكير في إعادة توجيه النهج السياسي للبلاد، وهو الأمر الذي جاء بالانفتاح السياسي الذي لم يراوح مكانه إلى غاية اليوم. فالنخبة السياسية تريد أن تجعل من مسألة الديمقراطية على أنها منحة منها للجماهير الشعبية، وتالياً، ينبغي أخذ هذا العرض السياسي كما هو من دون أية مناقشة. وهذا واضح من خلال كل الدساتير التي أعقبت الانفتاح السياسي. فالجزائر عرفت منذ أحداث تشرين الأول/أكتوبر عام 1988 ثلاثة دساتير تعددية، تكرس كلها هيمنة رئيس الدولة على باقي المؤسسات الدستورية الأخرى (البرلمان، القضاء، المجلس الدستوري). وهذا بدوره كرس صيغة الدولة المنوقراطية التي تخضع كل توجهاتها الداخلية والخارجية لرؤية واحدة، تعكس الإرادة السياسية للحاكم.

بعد أن هبّت موجات الربيع العربي، شعرت النخبة السياسية الجزائرية بمصادر التهديد الشعبي نتيجة الوعي الجماهيري سياسياً، ومدى حساسية مطالبه في الدول المجاورة وبخاصة في الدولة التونسية، الأمر الذي جعل النخبة الحاكمة في الجزائر تكثف برامج الرعاية الاجتماعية وتقدم التسهيلات الاقتصادية للتخفيف من حدة التوتر الشعبي الناتج من إخفاقاتها الاقتصادية، وتزايد حالات الفساد السياسي التي رافقت نهجها السياسي، الأمر الذي جعل رئيس الدولة يعد في خطابه السياسي بمباشرة إصلاحات سياسية تعمل على تكريس الروح الديمقراطية وتفرض الرقابة الشعبية على المسؤولين السياسيين. وهذا الدستور الجديد الذي جاء نتيجة مشاورات مع مختلف الرموز والفاعليات السياسية التي قادتها رئاسة الدولة‏[4] أعاد مرة ثانية هيمنة مؤسسة واحدة على كل المؤسسات، بما يجعلها في منأى من المساءلة السياسية.

إن القراءة السياسية للدستور الجديد تقتضي تحديد موقع رئيس الدولة وحجم صلاحياته في هذا الدستور، وهذا من خلال تحديد نمطية التفاعلات بينه وبين المؤسسات السياسية الأخرى؛ فالمادة 77 من الدستور الجديد‏[5] تجعل من رئيس الدولة المحور الأساسي في العملية السياسية، وهذا ليس من خلال صلاحياته في عملية التشريع وحسب؛ ولا من خلال صلاحياته في قيادة المؤسسة العسكرية وحسب؛ وليس من خلال صلاحياته في عملية تعيين أعضاء الحكومة وحسب؛ بل الأكثر من ذلك، هو قدرته على الهيمنة على القضاء، وهذا من خلال صلاحياته في تعيين القضاة وإجراء الحركة لهم، وكذلك من خلال صلاحياته في تعيين أفراد الجهاز البيروقراطي، وبخاصة الولاة الذين يضمنون بدورهم الهيمنة السياسية على المستوى المحلي.

إذاً، شكل الدستور الجديد عملية إعادة إنتاج للهيمنة السياسية من خلال لقاءات واسعة بين الشخصيات السياسية والرموز الوطنية للجمهورية، فما يميز هذه الهيمنة – هذه المرة – هو أنها كانت بتوافق وطني بحسب النخبة السياسية الحاكمة، ولا سيما أن في وجهة نظرها أن البرلمان بغرفتيه وافق على الدستور بأغلبية مطلقة (499 صوتاً)، وهي نسبة أعلى كثيراً من تلك النسبة التي يشترطها الدستور وهي (388 صوتاً)‏[6] حتى لا يمرر إلى الاستفتاء الشعبي. إلا أن ما يميز هذا البرلمان هو صناعة سلطوية كآلية أخرى من آليات الهيمنة المؤسساتية التي انتهجتها النخبة الحاكمة منذ بداية تجربة التعددية السياسية في الجزائر، وبخاصة أنه تم انتخابه وفقاً لآليات قديمة، تفتقد الشرعية الشعبية.

إن الدستور الجديد الذي كان من المفترض أنه يكرّس الانفتاح السياسي ويؤسس لعملية تحول ديمقراطي حقيقي وفقاً لمتطلبات سير الأمم الحديثة، جاء حامـلاً للمفهوم القديم للهيمنة السياسية، وبخاصة أن الدستور نفسه – بعيداً من التقاليد السياسية الجزائرية – يضمن بالمفهوم القانوني سطوة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية. من هنا، يبقى رئيس الدولة هو الناظم الفعلي في توجيه العملية السياسية. أما بقية الفواعل الأخرى؛ فإما تدخل في نطاق المؤسسة السياسية الرسمية قابلة بالعرض السياسي المتاح لها، وإما تبقى في الهامش السياسي تجسد المعارضة الصوتية، مما يجعلها تعاني العزلة السياسية، وأي تصور آخر يعني الانتحار سياسياً.

إن ما يميّز الدستور الجديد هو أنه عاد إلى تحديد العهدات الرئاسية، بما يجعل رئيس الدولة لا يترشح لأكثر من عهدتين، وهي مادة دستورية كان أقرها دستور عام 1996‏[7]، وبخاصة أن هذه المادة أدرجت ضمن المواد الدستورية غير القابلة للتعديل، وهذا كله يطرح مستقبـلاً مسألة الدستورانية (La Problématique de constitutionalisme)، أي مدى جدية احترام القيادة السياسية مواد الدستور، وبخاصة مثل هذه المادة التي تحد من طموح القيادة السياسية إلى استمرارها في السلطة والاستبداد بمؤسسة الحكم. ولكن إذا كان الانفتاح السياسي يعني بالضرورة توسيعاً لفضاءات الحرية التي يبقى مداها ونموها مرهونين بمدى قدرة السلطة الحاكمة على قطع صلتها بالتعسف، فإن التراجع عنه يتجلى في تلك العملية التي يتم بموجبها وضع مختلف العراقيل أمامه من طرف هذه السلطة ذاتها‏[8]. وهذا طرح بالغ الأهمية، وبخاصة أن التراجع عن الانفتاح قد كرسته النخبة التي جاءت بهذا الدستور.

إن مسألة الدستورانية تتطلب من الحاكم، أولاً، أن يكون متشبعاً بثقافة سياسية ديمقراطية تقر بمبدأ التداول على السلطة، وفي ما بعد يأتي دور المؤسسات السياسية التي تحد من الانتهاكات الدستورية، ومن ثًم يأتي دور المعارضة السياسية في الحفاظ على قدسية الدستور الذي يحد من النزوع السلطوي، الذي يميز الأنظمة السياسية الأبوية على حد تعبير هشام شرابي. إلا أن ما يميز هذه المؤسسات أنها خاضعة في عملية تأسيسها لقواعد الهيمنة، فالمجلس الدستوري في حد ذاته يخضع في تكوينه للسلطة الأداتية لرئيس الدولة، وهذا من خلال صلاحياته في تعيين ثلث أعضائه‏[9]. ومن ثم يمكن لرئيس الدولة أن يحد من التأثيرات الرقابية لهذا المجلس في توجيهاته للعملية السياسية.

تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن الدستور الجديد عاد مرة أخرى ليعطي المؤسسة السياسية الرسمية المُجسدة في شخص الحاكم فضاءً واسعاً في قيادة العملية السياسية وتحديد توجيهاتها وإقامة التوازنات بين الفواعل المختلفة، وهذا من خلال الصلاحيات الواسعة التي تمنحه سلطة التدخل في باقي المؤسسات الأخرى، وبخاصة في مجال التشريع وتعيين رجال القضاء وثلث أعضاء المجلس الدستوري. فتعيين رئيسِ الدولة رئيسَ المجلس الدستوري‏[10] يمكِّنه من حسم كل القضايا الدستورية داخل هذه المؤسسة لمصلحته، كما أن تعيينه ثلث أعضاء مجلس الأمة، يجعله يغلق عملية التشريع من القمة، فلا إرادة تعلو إذاً على إرادة الحاكم. من هنا يتم تكريس عملية الهيمنة بقوة الدستور، هذا من خلال تحديد وضبط اللعبة السياسية دستورياً بما تخدم استمرار الجماعة السياسية المهيمنة. إلا أن النظام السياسي الجزائري يسعى تاريخياً إلى بسط منطق الهيمنة بأدوات وآليات أخرى أكثر مرونة، تتمثّل بالآليات السوسيوسياسية، وكذا دور الجهاز البيروقراطي في ترسيخ هذه الهيمنة بقواعد متعددة.

ثانياً: النظام السياسي الجزائري وآليات الهيمنة السوسيوسياسية

إن تحليل آليات الهيمنة للنخبة الحاكمة على جل الفاعليات السياسية الأخرى، يتطلب تحليل ما يعتمل سياسياً في أحشاء المجتمع، وهذا يتطلب تحليل قواعد التوجيه السياسي على المستوى المحلي، أي ما بين الريف والمدينة، وما بين البيروقراطية المحلية والتكوينات الاجتماعية، التي قد تكون على جمعيات ثقافية أو نسوية أو خيرية أو دينية أو كبار رجال الأعمال، وحتى مسؤولي التعاونيات الزراعية (الكولخوزات سابقاً). فأي تحليل لعملية التوجيه السياسي يتجاهل هذه المؤشرات، ربما لا يصل إلى نتائج جدية.

إن بيروقراطية الدولة الجزائرية حاضرة بقوة على كل المستويات المحلية، وهي مكلفة بدور منح الموارد للتكوينات الاجتماعية السالفة الذكر من جهة، ووضع الحواجز السياسية للمجموعات المناوئة لسياسات النخبة الحاكمة من جهة أخرى. فالمهم هنا هو دور الجهاز البيروقراطي في إقامة روابط علائقية متشابكة مع المجموعات الاجتماعية، ومن ثم فمسؤولو المكاتب الحزبية على المستوى المحلي، مهما كانت توجهاتهم السياسية، لا يمكن أن يكونوا خارجين عن شبكات الانتفاع السياسي هذه، ومن ثم يتم ضمان إقامة تحالفات نفعية، يمكن بموجبها إضعاف أي حزب سياسي قد يستعسر على النخبة الحاكمة تطويعه، وكذا يمكن إحداث ولاءات للحفاظ على التناغم الاجتماعي، الذي يضمن بدوره الاستقرار السياسي للنخبة الحاكمة؛ إلّا أن العملية لا تتم دائماً وفقاً لهذه الدينامية المعقدة، فكثيراً ما يتم التشكيك في نزاهة البيروقراطية المحلية والتمرد عليها من طرف الجماهير الشعبية، وخصوصاً في السنوات الخمس الماضية.

إن البنية الديمغرافية للمجتمع الجزائري تعطي هي الأخرى دافعية للجهاز البيروقراطي لصون الأمن على المستوى المحلي؛ فالمجتمع الجزائري الذي يشكل الريف أربعين بالمئة من سكانه يحتاج إلى خدمات أساسية (كهرباء، تعليم، صحة، مياه نظيفة، تجديد الطرقات، الدعم الفلاحي… إلخ) لا يمكن أن ينالها خارج سلطة الجهاز البيروقراطي، الذي يعمل بدوره على إحداث علاقات تحالف مع التكوينات الريفية لتأسيس الولاء للمؤسسة السياسية الرسمية، وبخاصة أن الريف الجزائري أثبت تاريخياً ولاءه للحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) منذ بناء دولة الاستقلال. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الريف الجزائري يمكن السيطرة عليه رمزياً بمجرد خطاب سياسي من طرف الحاكم، يستحضر فيه النزعة البومدينية[11] وتشجيع السكان الريفيين في نشاطهم الفلاحي. من هنا، يتم احتكار هذا الفضاء لمصلحة المؤسسة السياسية الرسمية، وتالياً، تبقى المعارضة السياسية بعيدة من ساحات العمل السياسي الفعلية التي من خلالها يتم ضبط المؤسسات السياسية التمثيلية من طريق التحالفات في الانتخابات بمختلف مستوياتها، التي يمكن من خلالها شرعنة الهيمنة السياسية بآليات قانونية من خلال تمريرها في هذه المؤسسات التمثيلية بموافقة الأغلبية التي يشترطها دستور الهيمنة.

إذاً، فأنثربولوجيا الفعل السياسي لدى المواطن القروي هي دائمة حاضرة في الحسابات السياسية للسلطة الحاكمة، وفي المقابل هي غائبة على حسابات الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك سوسيولوجيا الفعل السياسي الذي امتزج بمديات الانتفاع من طرف الجهاز البيروقراطي، وبخاصة في الحواضر المدينية، وهذا من طريق ربط التحالفات مع أغلب الجمعيات بمختلف توجهاتها الثقافية والسياسية، وكذا وضع الإطار القانوني الذي تتحرك فيه هذه الجمعيات على المستوى الحضري، كلها عوامل تمكنت النخبة الحاكمة من خلالها من إثبات حضورها اليومي في ساحات التفاعل السياسي. من هنا تم التمكن من تأسيس الهيمنة السياسية على الفضاء السياسي والاجتماعي، الذي يتم توجيهه لمصلحة التعاطي بإيجابية مع سياسات السلطة الحاكمة.

لقد قامت السلطة في الجزائر على استراتيجية اخضاع الفضاءات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للوصاية السياسية، على نحوٍ يمنع من توليدها المنافسة المهددة لاستمرارها، ويؤدي هذا الانشغال الاستراتيجي بالمتحكمين بالسلطة المركزية إلى التباهي بشرعية حديثة لمواجهة الشرعيات التقليدية، وإلى الزيادة في التخصص والبيروقراطية وإغناء الفضاء السياسي بالموارد، مما يسمح لها بمراقبة عمليات التغيير الاجتماعي؛ وتعتبر محاكاة نموذج الدولة الغربية وسيلة مباشرة لتحقيق هذه الغاية‏[12]. من هنا، شكلت الأجهزة البيروقراطية آلية فائقة القوة للسيطرة السياسية، وهذا من خلال استراتيجيتين تنتهجهما السلطة الحاكمة؛ تتمثل الأولى بوضع الحواجز السياسية والقوانين التي تقيد تحرك الحركات المناوئة للنظام الحاكم، والعمل على بقرطة العملية السياسية، من خلال إخضاعها للرتابة الإدارية كمنح التراخيص للتجمهر، والأنشطة الثقافية، أو اعتماد الأحزاب والحركات وغيرها. أما الثانية فتتمثل بدور هذه الإدارات في عملية منح الموارد للأفراد والمجموعات الاجتماعية، بغية المحافظة على استقرار النخبة الحاكمة، وكذا تكوين شبكات زبائن اجتماعية من أجل تأمين الولاء للسلطة السياسية.

من هذا المنطلق، يسعى النظام الحاكم إلى امتلاك المشهد السياسي كامـلاً، وإلى المراقبة المنظمة لعملية منح الموارد، وإلى امتداد الهيئة السياسية لتشمل اكتساب الأدوار والسلطات داخل مختلف الفضاءات الاجتماعية، وخصوصاً داخل الحياة الاقتصادية. وتسمح هذه الخاصية المتمركزة ذاتياً، بإعادة إنتاج الجماعة المتحكمة بالسلطة والمتمسكة بالفعل السياسي، بحيث لا يستطيع أي منطق (مثل الانتخاب التنافسي وممارسة الضغط والتحالفات المصلحية) أن يشكل قوة وازنة أمام منطق السلطة الحاكمة؛ فالنزعة الإرثية الجديدة ومن خلال امتلاك المشهد السياسي تعبّر عن نفسها بالتشخيص البارز للحكومة، والخلط بين الدور السياسي والإداري والشخص الذي يقوم به، وعبر الزبونية القائمة بين «الحاكم» والأفراد الذين يشكلون النخبة السياسية والإدارية. وتعد عملية منح الموارد بالنسبة إليها كنمط إقصاء للفاعلين في المحيط، والمبعدين من مركز النظام السياسي، وكوسيلة أيضاً تسمح لـ«الحاكم» بتمويل الفئات الداعمة له ولشبكات زبائنه، بانتقائية‏[13].

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن العملية الانتخابية والعملية الدستورية، لا يمكن أن تكونا مستقلتين عن الهيمنة على الفضاء السوسيوسياسي، وفقاً لقواعد العملية الاجتماعية. والمقصود بالعملية الاجتماعية هنا، هو تلك الصفقة المبرمة في خضم العملية السياسية بمناسبة كل استحقاق انتخابي ما بين وكلاء اجتماعيين، وأجهزة حزبية، ومترشحين، ووسطاء انتخابيين، وسماسرة، وهيئات رسمية وغير رسمية، وسلطات محلية ومركزية بخصوص رهان التمثيل البرلماني‏[14]. فمن لا يتقن هذه اللعبة يفقد هذا الفضاء السوسيوسياسي، وتالياً، لا يمكنه التأثير في توجيه العملية السياسية؛ والنخبة السياسية لمّا تمكنت من الهيمنة على هذا الفضاء، ضمنت بدورها الهيمنة على المؤسسة البرلمانية، ومن ثم وفرت لنفسها حرية التحرك في ضبط العملية مؤسسياً لمصلحتها، وهذا من خلال صوغها دستوراً يعكس إرادتها في توجيه العملية السياسية، والإبقاء على منطق الاستبعاد والإقصاء السياسي وتكريس منظومة هيمنة مؤسسة واحدة على كل التفاعلات السياسية. ولكن أين موقع المعارضة السياسية من عملية الهيمنة هذه؟

ثالثاً: المعارضة السياسية ومسألة التغيير السياسي

إن دراسة وتحليل دور المعارضة السياسية في تفكيك شبكات الهيمنة وإعادة بعث الحياة في الدينامية السياسية الجزائرية، يتطلب أولاً، إبراز واقع هذه المعارضة وعلاقتها التاريخية بالسلطة الحاكمة من جهة، وكذا قوة هذه المعارضة في التجذر اجتماعياً من جهة ثانية. وهذا حتى يتم تحديد عوامل القوة لدى المعارضة السياسية في المشاركة في توجيه العملية السياسية وتحديد قواعدها المؤسسية.

إن المعارضة السياسية في الجزائر لا تعاني معضلة الاستبعاد والإقصاء السياسي فحسب، فهذا قد يصنف ضمن المرتبة الثانية من مراتب الضعف واللافاعلية. بل الأكثر من ذلك، أنها تعاني انسحاب الجماهير من السياسة والنفور من كل ما هو سياسي، وهذا بخاصة بعد العشرية السوداء التي عاشتها الجماهير الجزائرية، وما رافقها من احتكار المؤسسة السياسية الرسمية للسوق السياسية. كما أن تاريخانية تشكل المعارضة السياسية في الجزائر، يجعلها في حالة تبعية بدرجات متفاوتة للنخبة الحاكمة، وهذا من خلال قبولها الدخول الطوعي في المبادرات والعروض السياسية التي تطرحها النخبة الحاكمة، وهذا بدوره أثر في صدقية هذه المعارضة نفسها. كما أن الانقسام العريض الذي تعانيه المعارضة السياسية ساهم هو الآخر في ضعفها، وتالياً، لا يمكنها تشكيل قوة جامعة في مواجهة السلطة الحاكمة في تأسيسها قواعدَ اللعبة السياسية. كما أن المعارضة في الجزائر تفتقر إلى الموارد السياسية، وهذا من خلال عدم قدرتها على حشد الجماهير لمصلحتها، وتضعضع خطابها السياسي، وضعف الحضور الإعلامي، وكذا عدم قدرتها على إبراز نقاط ضعف سياسات النخبة الحاكمة وإخفاقاتها الاقتصادية والتنموية، وهذا الضعف قابله قوة النخبة السياسية في إغناء المشهد السياسي بالبرامج التنموية وإبراز صدقية الدولة المشاريعية الذي سيقابله بالضرورة استسلام الجماهير الشعبية لإرادة السلطة الحاكمة، ومن ثم الاصطفاف حول سياساتها.

انطلاقاً من هذا الضعف المتعدد الجوانب الذي ينتاب المعارضة السياسية الجزائرية، فهو يجعلها في موقع الخيار بين اتجاهين؛ إما اتجاه المعارضة الضعيف غير المؤثر، وتالياً الوقوف على هامش المشهد السياسي، الذي سينعكس عليه – بالضرورة – ضعف هذه الأحزاب من خلال عدم قدرتها على تمويل حملاتها الانتخابية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انسحاب الجماهير القاعدية المساندة لها؛ وإما القبول بالعرض السياسي والاندماج كلياً أو جزئياً في المبادرات التي تطرحها السلطة السياسية. فالاندماج الكلي يعني بالضرورة تمثيل شخصيات بارزة من المعارضة في الحكومة. وهذا بدوره يتطلب المساندة المطلقة لسياسات الحكومة، وأي نجاح سيضاف إلى رصيد هذه النخبة وليس في رصيد المعارضة‏[15]. أما الاندماج الجزئي، فيعني بالمنطق الجزائري الاكتفاء ببعض المزايا السياسية والحصول على قدر من الحرية في نقد سياسات الحكومة من دون تجاوز الخطوط التي ترسمها النخبة الحاكمة لها. وفي كلا النمطين، لا يمكن التقدم بأي مبادرة سياسية مخالفة لتلك التي تعرضها الحكومة، وهذا كله يفرض استمرارية الهيمنة السياسية للمؤسسة السياسية الرسمية.

إن عرض تجربة المصادقة على مشروع الدستور الجديد الذي يكرِّس من منظور رئيس حركة مجتمع السلم (عبد الرزاق مقري) استمرارَ دولة الاستبداد، الناتجة من غياب الفصل بين السلطات الثلاث، وعدم استقلالية القضاء عن شخص الحاكم‏[16]، أبقى المعارضة السياسية تبقى محصورة في المعارضة الكلامية على مختلف وسائل الإعلام الجماهيرية على مستوى العاصمة، ولم تتمكن منذ تحالفها في نيسان/أبريل عام 2012 تحت حلف تكتل الجزائر الخضراء من تشكيل تهديد فعلي أمام تمرير الدستور، الذي حظي بتصويت الأغلبية البرلمانية المطلقة، وبخاصة أن اللعبة مغلقة في بنية البرلمان بغرفتيه، الذي تتشكل أغلبيته من أحزاب الموالاة‏[17]. وهنا تكمن قوة المؤسسة السياسية الرسمية من خلال عملها الواسع بوسائل وآليات مختلفة، سياسة واقتصادية واجتماعية، للتمكن من الاستحواذ على عتبة التمثيل السياسي حتى يمكن تفادي أي اعتراض من المعارضة السياسية.

ولكن إذا كانت السلطة السياسية تمكنت من الهيمنة على مؤسسة التمثيل الشعبي، الذي يمكنها من خلاله غلق اللعبة السياسية لمصلحتها، فهل هذا يبرر الضعف السياسي لدى المعارضة السياسية؟ إنها اليوم تتمثل بأقوى حزب سياسي إسلامي وهو حركة مجتمع السلم. إن المعارضة السياسية على مختلف توجهاتها الإسلامية والعلمانية (جبهة القوى الاشتراكية، وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) تعاني هي الأخرى الانشقاق السياسي الداخلي، وضعفاً في التجذر اجتماعياً إذا استثنينا (حركة مجتمع السلم) التي تملك قواعد جماهيرية واسعة على المستوى المحلي، وخصوصاً من أفراد سلك التعليم والمثقفين، ولكن هي الأخرى تعرضت مرات كثيرة لانشقاقات سياسية أثرت في فاعليتها السياسية. وهذا كله يضاعف قوة النخبة الحاكمة في احتكار السوق السياسية والعمل على التأسيس الدستوري، بما يضمن استمراريتها.

إن دراسة تاريخ الهيمنة السياسية في الجزائر وانعكاساتها على دينامية العملية السياسية وموقع المعارضة منها، يتجلى في أربع مراحل أساسية: تتمثل الأولى، بالنهج الثوري الذي انتهجته النخبة التي حكمت البلاد بعد الاستقلال والتضامن الشعبي الواسع مع مشاريعها السياسية والاقتصادية والثقافية، وهنا تمكنت النخبة الحاكمة من أداء دور حيوي في إعادة إنتاج المجتمع؛ المرحلة الثانية، هي تلك التي تعرض فيها المجتمع السياسي للهزات الاجتماعية والسياسية نتيجة ضعف أدائه الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما أجبره على الدخول في مرحلة التغيير السياسي الذي انعكس على التجاذبات السياسية التي أفضت إلى الإقصاء السياسي واحتكار السوق السياسية من قبل السلطة الحاكمة؛ أما المرحلة الثالثة فهي ولدت من رحم المرحلة الثانية، وتجسدت في الجفاء الذي عانته الحياة السياسية، وطغيان الحل الأمني على الحل السياسي كضرورة تاريخية وواجب ينبع من المسؤولية السياسية للمحافظة على كيان الدولة وديمومتها؛ أما المرحلة الرابعة، وهي تلك المرحلة التي عادت فيها الدينامية السياسية اليتيمة بتعبير برتراند بادي، والتي تجسدت في تمظهر وإعادة الظهور مجدداً للدولة المشاريعية وسخاء برامج الرعاية الاجتماعية، وتأسيس شبكات الولاء الزبونية التي تنفذ من خلالها النخبة الحاكمة إلى عمق المجتمع وأحشائه بآليات قد تكون عروشية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، وهو الأمر الذي انعكس على فاعلية المعارضة السياسية في مواجهتها نهج النخبة الحاكمة وبرامجها السياسية. ولكن في ظل الأوضاع السياسية والمالية الحالية، ما هو السيناريو المقبل للجزائر؟ وما هو مستقبل النخبة السياسية الحاكمة؟

رابعاً: مستقبل التغيير السياسي في الجزائر

إن دراسة مستقبل التغيير السياسي في الجزائر، يتطلب تحديد القواعد التي تقوم عليها اللعبة السياسية اليوم، كون الصيغة المؤسسية التي كرّسها الدستور الجديد، ما هي إلا نهاية الحسم لعملية طويلة متعددة العوامل تجري على المستويين السوسيوسياسي والسوسيواقتصادي، اللذين يتم من خلالهما ضبط وتوجيه الجماهير الشعبية؛ فمن يتمكن من الهيمنة على هذا الأخير (الجماهير الشعبية) يتمكن من ضمان مستقبله السياسي من خلال تحديد قواعد اللعبة السياسية مؤسسياً.

إن استقرار النخبة السياسية في الجزائر واستمرارها قائم على تصورين: التصور الأول، مرهون بصدقيتها في استمرار المشاريع الاقتصادية وسياسات الرعاية الاجتماعية. وهذان العاملان مرهونان برَيْعية الاقتصاد الجزائري، القائم أساساً على ما تجتبيه الدولة من عائدات تصدير الطاقة (الغاز والنفط)، ونظراً إلى انهيار سعر النفط والغاز في السوق الدولية السنوات الماضية، فحتماً ستتأثر برامج الدولة المشاريعية، ومن ثم يؤثر في صدقيتها في تمويل سياسات الرعاية الاجتماعية، الأمر الذي سيؤثر هو الآخر في شرعيتها، ومن ثم احتمالات التمرد على سياساتها الاجتماعية والاقتصادية، فهذا التصور القائم على تحليل المتغير الاقتصادي والاجتماعي في ضبط تناغم العملية السياسية بين النخبة الحاكمة والجماهير الشعبية، ينطلق من مسلمة العطاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، فأي تغير في هذا العامل، سينذر بتغير في استقرار النخبة الحاكمة.

أما التصور الثاني، فقائم على مسلمة حكمة الجماهير الشعبية في عدم التضحية بالاستقرار السياسي – الأمني بوصفه ثمرة مجهود طويل استنزف جل موارد الأمة، الذي طالما فقدته لمدة عشرية كاملة حيث عانت فيها ويلات العنف والإرهاب ومظاهر الدم والتخريب، الذي كاد ينهي كيان الدولة ككل، وبخاصة أن هذه المظاهر ما زالت راسخة في المخيال الجمعي الجزائري، وكذا قدرة الإعلام الرسمي على استحضار هذه المآسي دورياً، والتذكير بنعمة الأمن الذي كانت ثمرة لسياسات النخبة الحاكمة حالياً. كما أن قدرة وسائل الإعلام الرسمية على استحضار مشاهد العنف والدمار في بعض دول الربيع العربي، وبخاصة ليبيا وسورية، وهذا للتأثير في أفراد المجموع الاجتماعي وتوجيه المخيال الفردي ليؤمن بصدقية المؤسسة السياسية الرسمية، حتى يتم بناء ناظم يوجه الفرد، قوامه: أي تحرك خارج إرادة السلطة يعني الفوضى واللاأمن والدمار، وهذا ما مرت به جزائر التسعينيات وهو ما تمر به دول الربيع العربي اليوم من وجهة نظر السلطة الحاكمة. بناءً على هذا، تتمكن البنية الفوقية من الهيمنة على البنية التحتية، ومن ثم تستحوذ على العملية السياسية واحتكار السوق السياسية، التي بناءً عليها يتم استبعاد المعارضة السياسية الفعلية، والقبول بما يمكن تسميته المعارضة الصديقة.

ويذهب برتراند بادي إلى أن الدول العالمثالثية، ومنها الجزائر، قد استفادت من الميثاق الأمني الذي أقرّت فيه نجاح، كما أكد «فيبر» ذلك، احتكار العنف المشروع (Violence légitim). ولهذا أسست هذه الدولة نجاحها على مسلَّمة مزدوجة، وهي مسلَّمة الفردانية التي تدعو الفرد إلى البحث عن الحماية داخل مبادرة سياسية معينة وليس داخل جماعة الانتماء؛ ومسلمة صدقية هذه الدولة نفسها، أي قدرتها على الضمان الفعلي لأمن المواطن، وتوافر ما يكفي من الموارد لهذا الغرض. ولكن هذا الادعاء سيتبدد في ما بعد، ويرجع ذلك، من جهة إلى مقاومة البنى الجماعية وتالياً، إلى الانتقال العرضي من الولاءات المحلية إلى الولاء المواطني (Alléance citoyenne)، ومن جهة ثانية، إلى ضعف موارد السلطة المركزية، وتالياً إلى هشاشة ادعائها ضمان حماية الأفراد ‏[18].

وكي تتمم النخبة الحاكمة تدعيم وترسيخ هذا الناظم، تلجأ عادة إلى توسيع برامج الرعاية الاجتماعية، حتى يتم ضمان الحاجات الأساسية اليومية للمواطن، وهذا بغية الحفاظ على الحد الأدنى من الشرعية التي تقوم عليها المؤسسة السياسية الرسمية، القائمة أساساً بتعبير سيف عبد الفتاح ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ﴾‏[19]. فعلى هذه الأسس السوسيواقتصادية يتم بناء قواعد الهيمنة السياسية، وما التأطير المؤسسي المتمثل بالدستور لهذه الهيمنة الا خاتمة لعمليات متشابكة تفرضها الطبيعة السوسيولوجية للمجتمع الجزائري، وأنثروبولوجية الفعل السياسي، وكذا تاريخانية بناء الدولة السياسية، كلها عوامل تتفاعل وتنتظم لتشكل في ما بعد هيمنة المؤسسة السياسية الرسمية على باقي المؤسسات والفواعل السياسية الأخرى.

بما أن الرابط الذي يحكم العلاقة بين السلطة السياسية والجماهير الشعبية قائم على عقد اجتماعي ضمني بين السلطة والجماهير، الذي قوامه أن تتكفل السلطة الحاكمة بمعالجة المسائل الاجتماعية والاقتصادية مقابل التنازل عن قدر من الحرية السياسية، يتطلب وفرة مالية لدى خزينة الدولة، وكذا كفاءة الحكومة وجهازها البيروقراطي في التعاطي مع مسألة التنمية الاقتصادية وسياسات الرعاية الاجتماعية؛ وهذا ما تعانيه الجزائر اليوم؛ فالحكومة تعاني ضعفاً في الأداء الاقتصادي، وكذا هناك شرائح جماهيرية واسعة تعاني حالة البطالة، وخصوصاً فئة بطالة حاملي الشهادات. وكذا هناك انتشار واسع للفساد على مستوى الجهاز البيروقراطي، كلها مسائل تنذر بموجات من الغضب الجماهيري ودخول النظام السياسي في مرحلة من عدم الاستقرار.

كما أن تغير القيم بين أفراد الجيل الحالي نتيجة الانتشار الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام العالمية، وانفتاح أفراد هذا الجيل واطلاعهم على نمط العيش في دول الضفة الأوروبية، وكذا القيم التي أفرزتها فلسفة ما بعد الحداثة، كلها عوامل تؤثر في بنية المخيال السياسي للفرد، وفي توجهاته السياسية تجاه السلطة الحاكمة. لذا فإن استمرار الهيمنة بالمفهوم التقليدي لممارسة النخبة السياسية الجزائرية لا يمكن أن يستمر مع هذه القيم، وتالياً، تبقى مسألة التغيير السياسي أكثر إلحاحاً في عملية النهوض الاقتصادي والقضاء على الفساد السياسي ومظاهر الغبن الاجتماعي.

إن تراجع مداخيل الدولة الريعية، وما يرافقه من ضعف في تمويل سياسات الرعاية الاجتماعية، ينذر بدوره بحصول موجات من الغضب الجماهيري، وبعدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي يطرح بقوة مستقبـلاً مسألة التغيير السياسي. من هنا، كان ينبغي على السلطة إجراء التغيير الهادئ السلس عبر التأسيس الدستوري بدلاً من الاستمرار في منطق الهيمنة السياسية القائم على قواعد اللعبة الاجتماعية، وبخاصة أن البيئة السياسية الدولية والإقليمية، لا تسمح باستمرار مثل هذه الممارسات السياسية.

خاتمة

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن النظام السياسي الجزائري عمل منذ سنة 2011 على خوض معركة ربح الوقت مع المعارضة السياسية، حتى تمكّن من ترويضها في الظروف الشديدة الحساسية التي كان يمر بها النظام الحاكم في ظل التحولات السياسية التي كانت تعيشها دول الربيع العربي، وقد كسب هذه المعركة من خلال برامج الرعاية الاجتماعية من جهة، والاستعصاءات السياسية والأمنية التي تعرضت لها بعض البلدان العربية، والتي طرحت بعض اليأس لدى المتفائلين بالتغيير الثوري في الجزائر؛ من هنا شكلت دعامة للنخبة الحاكمة في استمرارها على نهجها السياسي، ومن ثم اختتمت هذه المعركة بالتعديل الدستوري الذي لا يزال يحافظ على الممارسة السياسية التقليدية القائمة على هيمنة المؤسسة السياسية الرسمية على الفضاء السياسي.

إن قدرة النظام السياسي الجزائري على تجنب التغيير السياسي من القاعدة، جعله يتحرك بحرية واسعة لتحديد مسيرة العملية السياسية مستقبـلاً، بما تضمن له المزيد من استمراريته، وبخاصة أنه يملك موارد سياسية تتيح له احتكار السوق السياسية ومن ثم استمرارية نهج الحكم القديم بحلة جديدة قوامها تحديد عهدات الترشح للرئاسة بعهدتين فقط. وهذا واضح من خلال جعل الدستور كمبادرة من طرف رئيس الدولة زكّاها البرلمان من دون أن تمر باستفتاء شعبي. وهذا الذي سيطرح مسألة التداول على السلطة من طرف الجماعات السياسية المختلفة، في ظل واقع سياسي تسيطر على جل تفاعلاته المؤسسة التي أنتجت الدستور.

صفوة القول، إن الدستور الجديد جاء ليكرس مرة أخرى منطق الهيمنة المتجذِّر في الثقافة السياسية للنخبة الحاكمة، وتالياً فإنه لو قُيّد منطق الهيمنة هذه المرة بعهدتين فقط، فقد تبقى إشكالية الدستورانية مطروحة بقوة في ظل هذه الثقافة السياسية، وبخاصة أن النخبة الحاكمة لديها من الموارد السياسية ما يمكنها من الاستمرار على النمط التقليدي للممارسة السياسية القائم على احتكار الفضاء السياسي. من هنا تبقى مسألة الإصلاح السياسي تطرح نفسها مجدداً مهما أُنتجت الدساتير المتوافق عليها وطنياً، ما دامت تعكس استمرارية الممارسة السياسية التقليدية التي تؤثر في حيوية الدينامية السياسية، ومدى مشاركة الفعاليات السياسية والوطنية كافة في توجيهها، وضبط توازناتها، ما يضمن ارتقاء العملية السياسية لمبادئ الديمقراطية الحديثة.

 

مواضيع ذات صلة

المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الجزائر: إشكالية الدور

استقلالية المجتمع المدني في الجزائر بين الهيمنتين السلطوية والدولية: دراسة نقدية

التعددية الحزبية في الجزائر: المسار والمخرجات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجزائر #الدستور_الجزائري #التعددية_الحزبية_في_الجزائر #السياسة_في_الجزائر #النظام_السياسي_الجزائري #المعارضة_السياسية_في_الجزائر #التغيير_السياسي #النخب_الحاكمة_في_الجزائر #نظام_الحكم_في_الجزائر #مستقبل_العملية_السياسية_في_الجزائر