بعد 62 عاماً تعود مبادئ ثورة 23 يوليو المصرية وصورة قائدها الراحل جمال عبد الناصر إلى الواجهة من جديد، لا لظهورها في ميادين مصر قبل عام ويزيد فحسب، ولا للتنافس الواضح على ادعاء حمل رايتها والانتساب إلى تجربتها، كما في الانتخابات الرئاسية المصرية الأخيرة فقط، بل لأنها باتت تمثل حاجة للمصريين في مواجهة التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهونها، كما أصبحت طوق نجاة للأمّة بأسرها بعد محاولات إغراقها بكل أنواع الفتن العرقية والدينية والمذهبية على امتداد الوطن الكبير، لا بل أصبحت مبادئ هذه الثورة رمزاً حيّاً متجدداً على مستوى حركة التحرر العالمية نفسها، حيث يتردّد صداها على لسان أكثر من زعيم من زعماء هذه الحركة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما تتم الإشارة إلى قائدها جمال عبد الناصر كواحد من أبرز رموز الاستقلال الوطني ومكافحة الاستعمار والعنصرية بكل أشكالها.

إن هذه الاستعادة المصرية والعربية والإسلامية والأفريقية والعالمثالثية والدولية لثورة يوليو وقائدها، تؤهلها لأن تكون بمبادئها وتجربتها وسيرة قائدها بمثابة خارطة طريق تخرج مصر، ومعها كل العرب، وكل حركات الاستقلال والتحرر والنهوض في العالم إلى عالم أكثر عدلاً ورخاءً وتوازناً واحتراماً لحقوق الشعوب ومواطنيها.

وتبقى استعادة هذه المبادئ والعمل بها هي الوسيلة الفضلى لإحياء ذكرى قيام ثورة يوليو بعيداً عن خطأ التمجيد العاطفي والتعداد المتكرّر للإنجازات وخطيئة التحامل على ثورة لم تستطع قوى كبرى أن تزيل معالمها ومعانيها من ذاكرة الأمّة ووجدانها.

إن بعض مبادئ ثورة 23 يوليو التي ينبغي استحضارها والاسترشاد بها اليوم مصرياً وعربياً وعالمياً تتلخص بالآتي:

أولاً: تكامل الوطنية المصرية مع القومية العربية

لقد كان من أهم مبادئ ثورة 23 يوليو هو تكامل الوطنية المصرية مع القومية العربية، فلا طغيان لواحدة على الأخرى، ولا مقايضة بينهما، ولا تفضيل لهذه أو تلك، بل إدراك عمق التلازم بين الهويتين والدائرتين، إذ لا سبيل إلى الوحدة العربية إلا بتعزيز الوحدة الوطنية وصونها من كل محاولات الاختراق، ولا تحصين للوحدة الوطنية إلا بتأكيد الانتماء القومي الجامع لأبناء القطر الواحد على قاعدة المواطنة والمساواة التي لا تفرّق بين الانتماء إلى دين أو إلى آخر، إلى مذهب أو إلى مذهب ثانٍ، إلى هذا العرق أو ذاك، فمن يدعو الناس إلى احترام عقيدته الدينية، وهويته القومية، وسيادته الوطنية، عليه احترام عقائد الآخرين الدينية، وانتماءاتهم القومية، وسيادتهم الوطنية.

لهذا جسّدت ثورة 23 يوليو هذا التلازم بين الوطني والقومي مثلاً، حين تبرع قائدها بأرض في وسط العاصمة المصرية لبناء الكاتدرائية الأكبر للأقباط ودعا المصريين جميعاً، بمن فيهم أسرته الصغيرة، إلى التبرّع لبنائها.

كما تجلّى احترامه للسيادة الوطنية يوم اعترض على محاولة الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم ضمّ الكويت بالقوة، مسارعاً إلى اعتماد الحلّ العربي لتلك الأزمة بدلاً من استدعاء التدخل الأجنبي، ليكرّر الأمر نفسه حين احترم إرادة الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب بعقد اجتماع مشترك معه، وهو رئيس الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي والجنوبي، في خيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية في إشارة تحمل العديد من المعاني، وتطمئن هواجس بعض اللبنانيين التاريخية من وحدة اندماجية تبتلع الكيان اللبناني.

ثانياً: التلازم بين العروبة والإسلام والبعد الأممي

عبر إدراك مبكر لقائد ثورة يوليو بأهمية الإسلام كدين لغالبية المصريين والعرب، وكمكوّن حضاري وثقافي لكل مصري وعربي، وكدائرة استراتيجية مهمة لمصر وأمّتها، اكتشف جمال عبد الناصر أهمية هذا التلازم بين العروبة والإسلام مع كتابه الأول فلسفة الثورة.

لذلك كان عبد الناصر قائداً مصرياً وعربياً وإسلامياً في آن، اهتم بتعليم القرآن ونشر الإسلام في العديد من بلاد العالم، ولا سيّما في أفريقيا التي أخضعها الاستعمار الأوروبي باسم «التبشير»، فأرسل بعثات من الأزهر الشريف إلى أصقاع الدنيا، مدركاً أن الإسلام جسر بين العروبة وأمم عديدة في العالم التي يربطها القرآن بالعربية، وتجمع مواسم الحج الملايين منهم في ديار العرب المقدّسة، وترسم لهم قضايا العرب العادلة، ولا سيّما في القدس وفلسطين، بوصلة للتحرر في بلادهم.

وقد تجاوزت رؤية عبد الناصر للإسلام أي تجاذب مذهبي؛ من هنا جاء اعتماد الأزهر الشريف، بتوجيه من ثورة يوليو، المذهب الجعفري مذهباً خامساً لتدريسه في الأزهر مع المذاهب الأربعة في الدين الحنيف.

لم يكن الإسلام في ثقافة ثورة يوليو عصبية للتنافر مع مؤمنين من ديانات أخرى، ولا بالتأكيد عصبية مذهبية للتناحر داخل الدين الواحد، بل كان حصناً آخر من حصون المواطنة المصرية، ومخزوناً روحياً وحضارياً ضخماً للقومية العربية، فلم يجد جمال عبد الناصر ضيراً في الانتصار لمطران قبرص مثلاً في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني، ولا في احتضان ترشيح الزعيم الماروني حميد فرنجية رئيساً لمؤتمر التضامن الشعبي العربي الذي انتصر لمصر إبان أزمة تأميم قناة السويس، وما تلاها من عدوان ثلاثي عام 1956.

كما لم يتأخر عبد الناصر لحظة واحدة عن بناء كتلة عالمية كبرى تضمّ بين قادتها سوكارنو المسلم، ونهرو الهندوسي، وماو تسي تونغ البوذي، وتيتو الشيوعي، وأحرار أمريكا اللاتينية المسيحيين، مدركاً أن الإيمان واحد، وإن تعدّدت السبل وأساليب التعبير عنه.

ثالثاً: مركزية القضية الفلسطينية في النضال الوطني لمصر، والكفاح القومي للعرب، والتحرر الإنساني في العالم

لم يكن من قبيل الصدف أبداً أن تلمع فكرة الثورة المصرية في عقل جمال عبد الناصر ورفاقه الضباط الأحرار خلال الحصار الصهيوني لهم وللجيش المصري في الفالوجة خلال حرب فلسطين عام 1948، مدركاً أن الانتصار على العدو الصهيوني وحلفائه يبدأ بتحرير القاهرة نفسها من نظام التبعية والفساد والقهر الاجتماعي.

ولم يكن إدراك عبد الناصر لارتباط الصراع مع الاستعمار وربيبته الصهيونية بالنضال من أجل الحرية والاستقلال والتنمية والوحدة، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، نابعاً فقط من طبيعة الفكر الوطني والقومي والتحرّري الذي حملته ثورة 23 يوليو، ولا ناجماً عن التزام أخلاقي وقومي وإنساني بحق الشعب الفلسطيني في أرضه وحريته فحسب، بل كان أيضاً وليد رؤية استراتيجية عميقة للأمن القومي لمصر وأمتها بأسرها، مدركاً أن أكثر المخاطر التي تهدد ذلك الأمن إنما كان مصدره غزوات قادمة من فلسطين وبلاد الشام، وأن الدفاع الاستراتيجي عن  استقلال مصر ومستقبلها إنما يكون في مواجهة تلك المخاطر والغزوات التي لبست عبر التاريخ لبوسات متعدّدة، كان آخرها اللباس الصهيوني العنصري الاغتصابي.

كما أنه ليس من قبيل الصدف أيضاً أن تبدأ نقطة التحول في سياسة مصر الخارجية، وبناء علاقات مع الاتحاد السوفياتي، كما مع دول عدم الانحياز، حين رفض الغرب تسليح جيش مصر لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، ولا سيّما عام 1955، فأقدم عبد الناصر على كسر احتكار السلاح، وتوجّه شرقاً نحو المعسكر الاشتراكي، وعقد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا، كما أنجز اتفاقاً مع موسكو لبناء السدّ العالي (حجر الزاوية في تنمية مصر المستقلة) بعد أن سحب البنك الدولي، بإيعاز من واشنطن، تعهّده بمساعدة مصر على بناء ذلك السدّ عقاباً لمصر على توجّهها التحرري في صيف عام 1956.

وليس من قبيل الصدف، أيضاً، أن تكون مواجهة مصر للعدوان البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي ردّاً على تأميم قناة السويس، نقطة التحول في قيادة عبد الناصر للأمة العربية التي التفّت جماهيرها حوله في مواجهة ذلك العدوان الذي تجلّى من خلاله، وبوضوح، حجم التطابق بين المشروعين الصهيوني والاستعماري، بعد أن وقع العديد من الزعماء العرب في وهم خديعة التمايز بين الصهيونية وداعميها من القوى الاستعمارية في العالم.

لم تكن فلسطين بالنسبة إلى ثورة 23 يوليو، إذن، قضية شعب مشرّد من أرضه فقط، ومنطلق مشروع استيطاني احتلالي ممتد من «الفرات إلى النيل» فحسب، بل كانت جزءاً لا يتجزّأ من أمن مصر وحقها في الاستقلال والتنمية والتقدم.

وهنا بقيت شعارات ثورة يوليو التي أطلقها عبد الناصر، مثل شعارَي: «ما أُخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة»، و«المقاومة وُجدت لتبقى»، وستبقى، شعارات خالدة في الوجدان العربي، ومقياساً لسلامة المواقف، ومعياراً لوطنيتها والتزامها القومي.

رابعاً: التوازن الدقيق بين الصلابة المبدئية والمرونة السياسية النابع من التمييز الناضج بين المبدئية السياسية والجمود العقائدي

كثيراً ما قاد ضياع الخطوط الفاصلة بين السمَتيْن، إما إلى الانزلاق في مساومات وتنازلات جوهرية، وإما إلى ما يشبه الانهيار أو الانتحار نتيجة الانسياق وراء شعارات دوغمائية متحجّرة.

وبهذا المعنى، كانت رحلة الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر عبارة عن حرب كاملة مع الأعداء، حصل  فيها تقدم حين لاحت الفرص، كما حصل تراجع حين اضطربت موازين القوى، فواجهت حملات مغرضة ممن يتهمها بالتطرف، وممن يتهمها بالتفريط، لكن التفاف الشعب المصري والأمة العربية حول ثورة يوليو وقائدها والثقة بهما حال دون وصول تلك الحملات المغرضة إلى غاياتها، فكان أعداء مصر يلجأون إلى العدوان الخارجي بعد أن تسقط مؤامراتهم أمام حائط المناعة الشعبية الداخلية، كما رأينا في حربَي 1956 و1967، وكلاهما كانت مناسبة ليكتشف المصريون والعرب حجم التحالف بين أعدائهم المحليين والإقليميين والدوليين.

وما كان ممكناً لثورة 23 يوليو أن تترجم هذا التوازن الدقيق إلى فعل مؤثر في حياة مصر والأمة، لولا أن قائدها اعتمد منذ اللحظة الأولى آلية «الخطأ والتجربة» في مقاربته لمختلف التحدّيات الداخلية والخارجية، فأسس بذلك ما يمكن تسميته اليوم «ثقافة المراجعة النقدية» للسياسات والتجارب والرؤى، التي ما إن اعتمدها اليوم حزب أو جماعة أو نظام إلا وخرج من عثراته منتصراً، وما إن امتنعت جهة عن اعتمادها في ظروف المحن إلا ووجدت نفسها على طريق التراجع والانهيار.

بفضل هذه السياسة، كان جمال عبد الناصر، قائد ثورة يوليو، صادقاً في إجراء المراجعات الضرورية، وشجاعاً في التراجع عن الأخطاء ومعالجة أوجه التقصير، متحمّلاً المسؤولية حتى ولو أدى الأمر إلى تنحّيه عن رئاسة مصر (كما حصل بعد حرب 1967)، والى إعفاء أقرب المقرّبين إليه من مناصبهم، بل وإلى محاكمتهم، وصولاً إلى اعتماد هذه المراجعة دائماً لتطوير أساليب تنظيمه السياسي من حركة التحرير إلى الاتحاد القومي، إلى الاتحاد الاشتراكي، وصولاً إلى «التنظيم الطليعي» الذي أراده عبد الناصر تنظيماً سرّياً خوفاً من تسرّب الانتهازيين إلى صفوفه، كما كان يحصل مع التنظيمات السابقة.

فإذا كان «التراجع عن الخطأ فضيلة»، كما تقول الحكمة الإنسانية، فإن «المراجعة الدائمة للتجارب» تبقى أم الفضائل في العمل السياسي، وقيادة البلاد والعباد، ولا سيمّا حين  يستهدف هذا العمل تغييراً بحجم طموحات ثورة يوليو، وتحريراً بحجم تطلعات شعب مصر والأمة العربية.

خامساً: الانشغال الدائم بهموم الفقراء والكادحين في مصر خصوصاً، والأمة العربية عموماً

لقد كانت ثورة يوليو مسكونة منذ أيامها الأولى بأوجاع فقراء مصر وكادحيها من عمال وفلاحين وكسبة ومحدودي الدخل، وهو ما عبّرت عنه بـ «الأهداف الستة» المعلنة لثورة مصر لدى انطلاقها، كما عبّرت عنه، منذ الأيام الأولى للثورة، بتمليك صغار الفلاحين سندات ملكية أرضهم التي حرموا منها على مدى قرون، والتي كانت فاتحة لسلسلة إجراءات اشتراكية شملت قطاعات الإنتاج الرئيسية في البلاد، وتسبّبت بنهضة صناعية كبرى في مصر، حيث أتى وقت أصبح يشاد فيه مصنع كل ساعة، كما قال يوماً أبو الصناعة المصرية الحديثة الراحل عزيز صدقي، حين حلّ علينا ضيفاً في المنتدى القومي العربي في لبنان في أحد احتفالاته السنوية بذكرى ثورة يوليو.

كانت استراتيجية ثورة يوليو في بناء مجتمع «الكفاية والعدل» تقوم على التلازم بين التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، لا باعتبارهما هدفيْن سامييْن لكل رؤية تقدمية إنسانية فحسب، بل نتيجة وعي علمي دقيق بأن الطريق إلى العدالة الاجتماعية الحقيقية يمرّ عبر تنمية الموارد وتعزيز قطاعات الإنتاج، وتقليص البطالة، وتوسيع السوق الداخلية، وفتح الآفاق الخارجية، ومحاربة الفساد، ووقف الهدر، وتوفير الفرص المتكافئة، ومكافحة الأمية، وديمقراطية التعليم، إذ حينها تتوافر للبلاد ثروات يمكن  توزيعها بالعدل بين الناس.

كذلك كانت ثورة يوليو من التجارب الرائدة في التأكيد أن طريق التنمية الحقيقية يمرّ بالضرورة عبر توفير عدالة اجتماعية تعزّز تكافؤ الفرص، وتوسّع قاعدة الإنتاج للسوق الداخلية، وتحاصر اقتصاد الريع وما يرافقه من فساد وهدر، وتقلّص الفوارق بين الطبقات، وتشرك أوسع شرائح المجتمع في العملية الاجتماعية، وتوفر حوافز مشجعة لليد العاملة لكي ترفع من مستوى الإنتاج بعد أن تطمئن إلى مشاركتها في أنصبة الأرباح.

قد يأخذ البعض هنا على السياسة الاقتصادية لثورة مصر (وشعارها «مجتمع الكفاية والعدل» المتلازم مع شعار «الخبز مع الكرامة» الذي ربط التنمية بالاستقلال، كما ربط الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي)، وقوعها في بعض الأخطاء، وحتى الخطايا، ولا سيّما حين لم تنجُ من براثن البيروقراطية التي تنشب أظافرها في قوت الناس وتعرقل عملية الإنتاج، كما لم تنجُ أحياناً من التسرّع في بعض القرارات نتيجة ظروف سياسية، وكذلك لم تنجح في إتاحة الفرص اللازمة للمبادرات الاستثمارية الخاصة في التكامل مع القطاع العام في عملية الإنتاج القومي، لكن أحداً من هؤلاء لا يستطيع أن ينكر أن السياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية لثورة يوليو قد وفّرت لفقراء مصر الحدّ الأدنى من متطلبات العيش، ولشباب مصر فرصاً وافرة للعلم والعمل معاً، وللمهارات المصرية عموماً أن تبقى في وطنها متّقية شرور الغربة، بل أن توفر لمصر خطط تنمية خماسية ناجحة، كثيراً ما كان توقيت الحروب على مصر متلازماً مع انطلاقها، كما توفر لمصر قاعدة إنتاج صناعية وزراعية ضخمة بات المصريون جميعاً يدركون حجمها، ويأسفون لتفكيكها منذ أن بدأت مشاريع «الخصخصة» تعطي نتائجها الكارثية على الاقتصاد المصري.

سادساً: تلازم الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية

لا نغالي إذا قلنا إن جمال عبد الناصر كان مسكوناً دائماً بالآليات القادرة على ترجمة دقيقة وعميقة لمفهوم «الديمقراطية»، مع الانتباه إلى المضامين الاجتماعية والاقتصادية لهذا المفهوم، وضرورة تحصينه على نحو يحفظ الاستقلال الوطني، ولا يسمح باستغلاله لخرق هذا الاستقلال.

لقد كانت التجربة الحزبية المصرية سلبية عشية قيام الثورة، الأمر الذي دفع قيادتها إلى حلّ الأحزاب مع إقرارها بأهمية التنظيم السياسي والشعبي، فكانت تجربة حركة التحرير أولاً في السنوات الأولى للثورة، ثم الاتحاد القومي بعد قيام الوحدة مع سورية عام 1958، ثم الاتحاد الاشتراكي العربي في ستينيات القرن الماضي وحتى رحيله، وكذلك كان التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب محاولتين لبناء عمود فقري للتنظيم الشعبي الواسع، وكضمان لاستمرار الثورة وتحقيق أهدافها.

لا بل تشير الوثائق والشهادات إلى أن عبد الناصر قد وصل في نقاشاته مع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي إلى حدّ طرح فكرة قيام حزبين داخل مصر يتنافسان ديمقراطياً في خدمة أهداف الثورة.

وهذه المحاولات والمناقشات، إن كانت تشير إلى أمر، فهي تشير إلى وعي جمال عبد الناصر ورفاقه بضرورة الخروج بصيغة للعمل السياسي تتجنّب ديمقراطية الإقطاع ورأس المال الريعي والربوي، لكي لا تسقط في استبدادية الأنظمة الشمولية.

من هنا كان تشديده المستمر على تلازم الديمقراطية السياسية مع الديمقراطية الاجتماعية عبر بناء مجتمع الكفاية والعدل، الذي لم يكن ليوفر لأبناء الطبقات الفقيرة والوسطى والمحدودة الدخل مجرد صوت في صناديق الاقتراع، بل ليوفر كذلك لهذا الصوت الحرية الحقيقية للتعبير بعيداً عن تأثيرات المال والنفوذ والحاجة إلى صناديق المعونات الغذائية.

ربما لم ينجح عبد الناصر تماماً في ترجمة هذا التلازم بالشكل الذي كانت تطمح إليه الثورة، وهو ما كان يعبّر عنه بصيغ متعدّدة ودعوات مستمرة للمراجعة، لكن تجربة ثورة يوليو نجحت في لفت الأنظار إلى ضرورة الانتباه إلى المضمون الاجتماعي والاقتصادي للديمقراطية، وضرورة إخراج الفقراء والكادحين من دائرة التهميش والإقصاء، لا بل نجحت تجربة عبد الناصر القصيرة في عمر الشعوب (18 سنة) في أن تفسح المجال لطاقات قيادية مصرية وعربية لأن تنطلق في خدمة بلادها، وأن تصون مبادئ الثورة في كل الظروف، بل أن تطلق أجيالاً، ما زالت تتواصل، من شباب مصر وفقرائها وكادحيها، تعيد التمسك بمبادئ ثورة يوليو وتدافع عنها.

لكن الإدراك النظري للتلازم بين الاجتماعي والسياسي في المسألة الديمقراطية لم يكن كافياً للحؤول دون بروز مراكز قوى بيروقراطية داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها العسكرية الأمنية. لقد أدت أدواراً سلبية داخل التجربة، واستسهلت المعالجات الأمنية لبعض المشكلات الاجتماعية، والإشكالات السياسية، فأبعدت عبد الناصر عن قوى حليفة له في العمق، وسمحت بنمو مصالح شخصية وذاتية في نظامه على حساب المصلحة الوطنية والقومية، الأمر الذي أدى أحياناً إلى كوارث ونكسات، كما هو الحال في الانفصال (عام 1961)، وحرب حزيران/يونيو (عام 1967)، وصولاً إلى معاهدات كامب دايفيد بعد الانقلاب المريع على مبادئ ثورة يوليو بعد رحيل قائدها (عام 1970).

لكن أحداً لا يمكن أن ينكر الجماهيرية الهائلة لجمال عبد الناصر، وهي جماهيرية مستمرة حتى بعد أربعة عقود ونصف العقد على رحيله، ولا يمكن لأحد أن يفكّر في أن الملاحظات على سلوك الأجهزة الأمنية ومراكز القوى، وما أحاط بها من قمع وفساد، لا تقاس بما يمكن تسجيله من ملاحظات على سلوك هذه الأجهزة والمراكز هذه الأيام داخل مصر أو في العديد من أقطارنا العربية.

صحيح أن حركات في مصر والوطن العربي قد سبقت جمال عبد الناصر في الحديث عن حقوق الفقراء والكادحين، وعن اشتراكية تقيم العدل بين المواطنين، لكن يبقى أن جمال عبد الناصر نجح، عبر ثورة يوليو، أن يترجم تلك الأفكار بشكل عملي، وأن يطرح بقوة المضمون الاجتماعي والاقتصادي للديمقراطية السياسية، وكأنه يستشرف منذ زمن طويل أن يوماً سيأتي على وطنه وأمته يستغلّ فيه البعض شعاراً سلبياً للديمقراطية للإجهاز على الاستقلال الوطني، وعلى جملة المكاسب والمنجزات الاقتصادية والاجتماعية، وفي المقدمة منها القطاع العام.

سابعاً: عالمية ثورة 23 يوليو

إن أهمية تسليط الأضواء على عالمية ثورة 23 يوليو التي أبرزها جمال عبد الناصر في تجربته القصيرة العمر نسبياً (1952 ـ 1970) تتأكد اليوم، ونحن نلاحظ منذ سنوات اندفاعاً عالمياً للدفاع عن القضايا العربية، كفلسطين، والعراق، ولبنان، كما تجلّى هذا الاندفاع بشكل خاص مع مطلع هذا القرن في إثر انتفاضة الأقصى المبارك التي استشهد أول أطفالها محمد الدرّة تحت شعار ناصري خالد «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» في 28 أيلول/سبتمبر 2000، ثم مع ملحمة جنين عام 2002، فمسيرات عشرات الملايين الرافضين للحرب على العراق عام 2003، فالتحركات الشعبية الكبرى المندّدة بالعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، وصولاً إلى ما رأيناه في كل عواصم العالم من تحركات متعدّدة المستويات خلال محرقة غزة مع بداية هذا العام، تلك التحركات هي التي جعلت صهيونياً متوحشاً كليبرمان، وزير خارجية العدو، يعلن قبل سنوات: إن أكبر مشكلة يواجهها الكيان الصهيوني الإرهابي هي التحول في الرأي العام العالمي، وهو ما لمسه ليبرمان خلال زيارة قام بها لأمريكا الجنوبية، حيث خرجت تظاهرات التنديد به في عواصم هذه الدول، بدءاً بالبرازيل.

وتبرز سلامة رهان جمال عبد الناصر على البعد العالمي لحركة التحرر العربية في أن مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي أطلق حركة عدم الانحياز على مستوى العالم، ما زالت إشعاعاته الشعبية تضيء من خلال العديد من المبادرات والملتقيات والمنتديات العالمية. لقد كانت روح جمال عبد الناصر حاضرة في كل هذه الأماكن التي تتلاقى فيها وفود تمثل أمماً وشعوباً وأدياناً وحضارات وثقافات وتيارات عقائدية متنوعة.

وتتأكد تاريخية النظرة العالمية لثورة يوليو حين نسمع أبرز قادة الكفاح التحرّري يعلنون على الملأ تأثرهم بنهج جمال عبد الناصر وتجربته، من مثل فيدل كاسترو ورفيقه البطل الأسطوري تشي غيفارا الذي كانت آخر زياراته قبل استشهاده عام 1967 لجمال عبد الناصر، إلى شافيز وقادة النهضة التحررية الجديدة في أمريكا اللاتينية، مروراً بنلسون مانديلّا، والشهيد باتريس لومومبا، وغيرهما من أبطال التحرر الأفريقي، وصولاً إلى تأثيرات عبد الناصر في إندونيسيا مع سوكارنو، وفي الهند مع نهرو، وفي يوغسلافيا مع تيتو، وفي غينيا مع سيكوتوري، وفي غانا مع نيكروما، وفي مالي مع موديبو كيتا، وفي قبرص مع المطران مكاريوس، وفي العديد من بلدان العالم.

غير أن تأكيد هذا البعد العالمي للثورة العربية والعمل بمقتضاه، يبدو بشكل خاص ضرورياً اليوم للأمة في مواجهة تحديات النهوض الداخلي والهيمنة الخارجية بكل أشكالها.

فعلى مستوى المواجهة مع المشروع الصهيوني والاحتلال الأمريكي بات واضحاً أن مقاومتنا العربية أمست بحاجة ماسة إلى أن ترفد إنجازاتها وبطولات مجاهديها بالقدرة على حسم معركتها داخل الدائرة العالمية ذاتها، ولا سيّما إذا أدركنا دور الدعم العالمي للكيان الصهيوني، وللقوى التي تقف وراءه، بل إذا أدركنا حجم التضليل السياسي والإعلامي والثقافي الذي نجح أعداء الأمة في تسويقه لعقود طويلة ضد حقوقنا ومشاريع المقاومة والنهوض في الأمة، وخصوصاً في مجال «شيطنة» صورة المقاومة وربطها بالإرهاب.

فبقدر ما ننجح في أن نكسب تفهّم الرأي العام العالمي وتعاطفه لصالح قضايانا العادلة، فإننا ننجح في محاصرة أعدائنا وسلبهم أحد أبرز الاحتياطيات الاستراتيجية التي يعتمدون عليها.

ويشكّل التواصل العربي والدولي مع قوى التحرر العالمية أيضاً، وبينها أمم وشعوب وشرائح واسعة مهمّشة تماماً من خلال النظام الدولي الحالي وامتداداته الإقليمية، الردّ الاستراتيجي والتاريخي على كل استراتيجيات التفرقة والاستفراد التي تحاول قوى الهيمنة على العالم اعتمادها لمنع وحدة القوى المتضررة من هيمنتها، والحؤول دون اجتماعها لخوض معركة مصيرية واحدة على المستوى العالمي ضدها.

هذا التواصل الذي حرص جمال عبد الناصر دائماً على بناء جسوره وتوطيد دعائمه، يوفر لكل قوى المقاومة والممانعة في الأمة تفاعلاً خلاقاً في ما بينها، وتكاملاً فعالاً بين خبراتها وتجاربها وطاقاتها، فلا تزداد قوتها الإجمالية فقط، بل تزداد قوة كل طرف من أطرافها، ويشتدّ بأس كل حركة من حركاتها.

والحرص على إقامة هذا التواصل ترك آثاره الإيجابية على خطابنا العربي والإسلامي إلى حدّ بعيد، فكان خالياً من مفردات التعصب الديني، والتزمّت الفئوي، والانغلاق الشوفيني، والغلو المذهبي، لأن خطاب التواصل يكون موجهاً إلى شعوب وأمم وأديان وحضارات وثقافات، وبالتالي لا يكون الخطاب تواصلياً إذا لم يكن خطاباً إنسانياً حضارياً بعيداً عن النزوات العابرة، والعصبيات الضيّقة، والمناكفات المريضة.

كما أسهم تحقيق هذا التواصل بين أمتنا والعالم في تحرير ممارساتنا من العديد من الشوائب التي تعلق بها نتيجة الاستعجال أو الانفعال أو النزق أو الضيق أو اليأس، فلا نندفع في أعمال أو تصرفات تبدو للوهلة الأولى أنها تؤذي أعداءنا، فنكتشف مع الوقت أنها تؤذينا بالدرجة الأولى. والأفق الواسع الذي كان يوفره هذا التواصل مع العالم ينعكس إيجابياً حتى على علاقاتنا مع بعضنا البعض، إذ كيف نقصي بعضنا البعض فيما نحاول بناء جسور مع العالم، وبأي منطق يمكن أن نلغي من بيننا جماعات دينية أو عرقية أو مذهبية، فيما نحن نسعى لكي نصبح مقبولين من العالم بأسره بكل ما فيه من تنوّع، فنعتمد معه معايير مشتركة، ومفاهيم متقاربة، لقيم أخلاقية وإنسانية خالدة؟.

لكن القيمة المضافة للتجربة الناصرية في هذا المجال تتجلّى في أن جمال عبد الناصر لم يقع وهو يتوجه إلى كسب الرأي العام العالمي في خطأ وقع به كثيرون من بعده، حيث إنهم بذريعة كسب «المجتمع الدولي» فرّطوا بحقوقهم القومية وبسيادتهم الوطنية، وإنهم بحجة الحرص على تقديم خطاب مقبول في الخارج تنازلوا عن ثوابت أساسية في الداخل، فخسروا داخلاً أربكوه بسياساتهم الاستسلامية، ولم يربحوا خارجاً متربصاً بنا وبحقوقنا ومسانداً لأعدائنا.

كما لم يقع جمال عبد الناصر، وهو الحريص على التواصل مع القوى الحرّة والحيّة في العالم، في خطأ البعض الذي تنازل عن خصوصيات عميقة في أمته، روحية وحضارية وثقافية، باسم العالمية أو العولمة أو الكونية، بل إنه اعتبر أن العالمية لا تعني مطلقاً التحاق الأضعف بالأقوى، ولا ذوبان الأصغر  في الأكبر.

إن المتغيّرات المتسارعة في العالم تفتح الطريق واسعاً أمام عالمية» حقيقية لمشروعنا التحرري والنهضوي إذا فهمنا بعمق ما يدور حولنا، وإذا تعاطينا بدقة مع التحولات المحيطة بنا، وإذا رسمنا خرائط طرقنا.

ثامناً: الثوابت والمتغيّرات في تجربة ثورة يوليو

كان لثورة يوليو منذ انطلاقتها جملة ثوابت بقيت متمسكة بها حتى لحظة رحيل قائدها جمال عبد الناصر في 28/9/1970، وهي ثوابت الوحدة الوطنية، والاستقلال السياسي، والالتزام القومي، والعدل الاجتماعي، والديمقراطية السياسية والاجتماعية، والإيمان بالإسلام والرسالات السماوية.

وعلى جبهة هذه الثوابت جميعها، خاض عبد الناصر حروباً ومعارك، وواجه بسببها حملات «شيطنة» خلال حياته وبعد رحيله. كان يتقدم ويتراجع، ولكنه لم يتنازل يوماً عن ثابت منها.لكن تمسّك عبد الناصر بهذه الثوابت لم يحُل دون التعامل مع ما يجري حوله من متغيّرات، فإذا كان المتغيّر إيجابياً، سعى إلى استثماره إلى أبعد الحدود، وإذا كان سلبياً سعى إلى محاصرة آثاره من دون أن ينكر حصوله.

لقد كان جمال عبد الناصر خصماً عنيداً للاستعمار، ساعياً إلى إجلاء القوات البريطانية عن بلاده، وإلى مواجهة الأحلاف والمشاريع الاستعمارية دون هوادة، مثل حلف بغداد ومشروع أيزنهاور، لكنه في الوقت ذاته كان يقيم علاقات مع كل هذه الدول لخدمة مصالح بلاده وأمته، وشعاره في كل ذلك «نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا».

لم تمنعه صداقته الوثيقة مع موسكو من أن يختلف مع قيادتها في بعض المراحل، على خلفية الموقف السوفياتي من الوحدة المصرية ـ السورية، كما لم تمنعه معارضته العنيفة للسياسات الأمريكية في المنطقة والعالم من أن يفتح الأبواب لبناء علاقات مع إدارتها زمن الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي.

حتى في علاقاته مع أنظمة حاكمة في دول عربية وإسلامية، كان الثابت لديه دعم حركة الشعوب، ولا سيّما في مواجهة الاستعمار، لكنه أيضاً كان في علاقاته مع هذه الأنظمة يتكيّف مع المستجدّات والظروف، فلم يمنعه كل ما كان بين القاهرة والرياض من صراعات وحروب، خصوصاً حرب اليمن من عام 1962 إلى عام 1967، من أن يمدّ يده إلى الراحل الملك فيصل بعد حرب حزيران/يونيو 1967، وأن يتعاونا معاً على مواجهة آثار العدوان بعد قمة الخرطوم (31/7/1967).

ورغم احتدام الصراع بين قيادة ثورة يوليو وقيادة البعث في سورية، وما رافق ذلك من حملات وتبادل اتهامات، فإن القائد الكبير وجد نفسه مندفعاً لمواجهة التهديدات الصهيونية لسورية عام 1967، في موقف رأى فيه البعض سبباً من أسباب نشوب حرب 1967 التي خاضتها القاهرة ودمشق معاً، وأسستا بعدها لتنسيق عسكري وتعاون استراتيجي استمر بعد رحيل عبد الناصر (عام 1970) وحتى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973.

وفي الجزائر، ورغم الجمود الذي طبع العلاقات بين عبد الناصر والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين على خلفية العلاقة الوثيقة بين جمال عبد الناصر وأول رئيس للجزائر بعد الاستقلال الراحل أحمد بن بله الذي أطاح به بومدين في حزيران/ يونيو 1965، إلا أن وقفة بومدين الشهيرة انتصاراً لمصر والكرامة العربية بعد حرب 1967 جعلت الرجلين يقتربان كثيراً من بعضهما البعض، وأن تؤدي الجزائر أدواراً مهمة إلى جانب مصر في إزالة آثار العدوان.

أما مع القوى السياسية داخل مصر، فلقد جرت صدامات متكرّرة بين عبد الناصر وقوى معارضة داخلياً، أدت إلى سجن العديد من قياداتها، لكن هذا لم يمنع ظهور مراحل من الانفتاح كانت تطبع علاقة ثورة يوليو بهذه القوى، بل كانت تفتح منابرها ومواقع إدارية واقتصادية لبعض رموزها، فأقطاب اليسار المصري أدركوا أن ما يجمعهم بتجربة ثورة يوليو هو أكثر مما يفرّقهم عنها، فتعاونوا معها في مجالات عديدة، منها موقف عبد الناصر من سورية بعد الانفصال كان نموذجاً لهذا التوازن الدقيق بين الثوابت والمتغيّرات، وقد لخصه جمال عبد الناصر بكلامه الشهير: «المهم أن تبقى سورية»، ورغم ما تعرّض له من حملات من بعض المنظمات الفلسطينية على خلفية موافقته على «مشروع روجرز» (وزير خارجية أمريكا) في صيف 1970 الذي دعا إلى وقف النار بين مصر والكيان الصهيوني، إلا أنه دفع حياته ثمناً للإرهاق الذي أصابه وهو يدعو إلى قمة عربية في القاهرة لحماية المقاومة الفلسطينية من أحداث أيلول/سبتمبر 1970، أي بعد أسابيع فقط من مشروع روجرز.

وكان تعامل عبد الناصر مع مشروع روجرز نموذجاً لهذا التوازن بين الثوابت والمتغيّرات، فلقد كان القائد الراحل يعدّ خطة لعبور خط بارليف على قناة السويس، وكان شروط نجاح هذه الخطة هو توفير حائط من الدفاع الجوي للقوات المصرية في عبورها القناة، واجتيازها لذلك الخط المحصّن تحصيناً استثنائياً، وهو حائط لم يكن سهلاً إقامته بشبكات الصواريخ السوفياتية المتطورة للدفاع الجوي في ظل معارك مستمرة مع القوات الإسرائيلية.

لذلك قبل جمال عبد الناصر بخطة روجرز لوقف النار لاستكمال خطة العبور التاريخي، فيما قبل الصهاينة بهذه الخطة من أجل تجنّب التكاليف الباهظة التي بدأوا بدفعها في حرب الاستنزاف التي بدأها الجيش المصري بتعليمات من جمال عبد الناصر بعد أسابيع قليلة على حرب حزيران/يونيو، واستشهد في أشهرها الأولى البطل الشهيد الفريق عبد المنعم رياض، رئيس هيئة الأركان في القوات المسلحة المصرية الذي أصرّ على تفقّد الخطوط الأمامية للجيش المصري.

تلقى يومها جمال عبد الناصر الكثير من السهام المغرضة، بعضها من سيئي النيّة الذين يناصبونه تاريخياً العداء، وبعضها من حسني النية، لكنهم ينطلقون من جملة مبادئ من دون الأخذ بعين الاعتبار واقعية السبل إلى تحقيقها.

خاتمة

باختصار، عظمة ثورة يوليو وسبب تجذّرها في ذاكرة المصريين والعرب ووجدانهم وعقولهم، هي أنها حملت مشروعاً وطنياً وقومياً وإنسانياً، فاهتدت بمبادئه، وتحصنت بأفكاره، وشقّت لنفسها طريقاً داخل مصر، على مستوى الأمة والعالم.

مبادئ ثورة يوليو يمكن لها، مع مراعاة المتغيّرات طبعاً، ومع مبادئ المشروع النهضوي العربي المعاصر، ومع كل مبادئ الحركات القومية والتحررية، أن تشكّل خارطة طريق حقيقية لمصر والأمة العربية، من التزم بها انتصر، ومن ابتعد عنها تعثّر.

 

قد يهمكم أيضاً  العرب وضياع فلسطين

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #جمال_عبد_الناصر #ثورة_يوليو #النضال_المصري #القومية_العربية #النضال_الوطني #مبادئ_ثورة_23_يوليو #العروبة #وجهة_نظر