ينظر كثر إلى سينما المرأة في تونس باعتبارها تجربة متميّزة على مستوى بداياتها وخياراتها ومضامينها. فالمرأة في هذه التجربة لم تكن مادة مهمّشة في الأفلام أو جسداً يستغلّ في العملية التسويقية لهذه الأعمال الفنية، بقدر ما كانت قضية تبنّتها مجموعة من السينمائيات التونسيات على غرار سلمى بكار، ومفيدة التلاتلي، وحققن من خلالها انتعاشة للسينما التونسية منذ تسعينيات القرن الماضي.

فرغم أن المرأة السينمائية لم تكن حاضرة مع بدايات ظهور هذا الفن في تونس، واكتفى المخرجون الرجال بالاستعانة بعدد قليل من النساء في أدوار ثانوية في أعمالهم، إلا أنها كانت متابعة وتحاول خوض هذا المجال منذ زمن الاستعمار. ولاحقاً مع تأسيس الجامعة التونسية لنوادي السينما سنة 1950، ومراهنة الدولة التونسية على التعليم والثقافة بُعيد الاستقلال، بدأت المرأة تجد مكاناً لها في عالم الفن السابع، ولو بصفة مهمشة خلال تلك الحقبة، ليكون فيلم «فاطمة 75» (طرح سنة 1978) أول فيلم تخرجه امرأة تونسية، وهو وثائقي للسينمائية سلمى بكار، التي كانت كذلك أول امرأة تخوض غمار الإنتاج في التسعينيات.

والحديث عن سينما المرأة في تونس يقودنا ضرورة إلى تناول حضورها في عدد من المجالات، أبرزها الإخراج، ثم الكتابة والنقد، وكذلك التقنية والأداء، إضافة إلى مضامين سينما المرأة، وكيفية تناولها كمّادة درامية.

جرأة الرائدات

أول فيلم من إنتاج تونسي كان بعد الاستقلال، وتحديداً سنة 1966، بعنوان «الفجر» لتتوالى الأفلام بإمضاء مخرجين رجال حتى أواخر السبعينيات (1978)، حيث أخرجت سلمى بكار فيلمها «فاطمة 75» إثر تجربة في التلفزيون التونسي، وفي عدد من الأفلام لزملائها من الرجال، كمساعدة مخرج. كما قدمت المخرجة ناجية بن مبروك أول شريط روائي طويل تونسي هو «السامة» أو «الوشم» الذي طرح سنة 1985.

ويعتبر هذا التاريخ لدخول المرأة مجال الإخراج متأخراً نسبياً، إن وضعنا في اعتبارنا مكانة المرأة في المجتمع التونسي ودورها في الكفاح الوطني، وانخراطها في بناء الدولة الوطنية. وما يثير الاستغراب أن جل المخرجات الرائدات في هذا المجال لم يقدمن الكثير من الأفلام (كمّاً)، رغم عمق دراساتهن في هذا المجال، فهن خريجات معاهد سينما فرنسية وبلجيكية (سلمى بكار، مفيدة التلاتلي، ناجية بن مبروك، كلثوم برناز… إلخ)، كما عملن قبل إخراج أعمالهن في المونتاج (التركيب)، وكنّ مساعدات إخراج لسينمائيين كبار. فعلى سبيل المثال نذكر أن المخرجة مفيدة التلاتلي قامت بتركيب أفلام ناجحة، منها الشريط التونسي الشهير «عصفور السطح» لفريد بوغدير، الذي حقق إقبالاً جماهيرياً كبيراً خلال عرضه، و«عمر قتلاتو» للجزائري مرزاق علواش – قدم في مهرجان كان السينمائي سنة 1977 – فيما عملت كلثوم برناز مع طاقم فيلم «سجنان» لعبد اللطيف بن عمار (1973)، وفي مونتاج شريط «مغامرات إنديانا جونس» لجورج لوكاتش (1980)، و«القراصنة» لرومان بولانسكي (1985).

وبالتالي، فإن التجربة السينمائية التونسية في بداية السبعينيات، خاصة مع تطور نشاط الجامعة التونسية لنوادي السينما، كانت تسمح لهن بالبروز أكثر في هذا المجال، غير أن المخرجات الرائدات لم يتمكّنّ من تجاوز الصعوبات الإنتاجية في ذاك الزمن، وانتظرن تسعينيات القرن الماضي ليحققن نقلة نوعية في السينما التونسية بطرح عدد من الأفلام («تونس بنظرة النورس» لكلثوم برناز سنة 1991، و«مناصفة حبي» لنادية الفاني سنة 1992، و«رقصة النار» لسلمى بكار سنة 1995… إلخ). ولم تكن بدايتهن الخجولة هذه، سوى خطوة لدراسة المجال أكثر، واكتساب خبرة أكبر بالعمل في الأفلام الأجنبية، وفي اختصاصات سينمائية مكملة للإخراج، نخص بالذكر منها المونتاج الذي كان وراء «النجاح الكبير» للمخرجة مفيدة التلاتلي في فيلمها الطويل الأول «صمت القصور»، صاحب التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية سنة 1994.

عمل مفيدة التلاتلي في التوليف جعلها تقدم فيلماً عالي الجودة وحرفياً، ما عكس ولادة مخرجة متمكّنة من أدواتها السينمائية، وهذه الميزة يمكن سحبها على جل المخرجات التونسيات، فهن يتمتعن بالكفاءة التقنية على غرار زملائهن من الرجال، باعتبار أن أغلب الرواد وجيل السبعينيات والثمانينيات من السينمائيين تخرجوا في مدارس أوروبية، وساهموا بخبراتهم في ما بعد في تدريس وتأطير خريجي معاهد السينما من الشباب، غير أن الجانب الضمني للعمل السينمائي المقدم بكاميرا «أنثوية» لم يلق إعجاب الكثيرين في البداية، خاصة أن رائدات السينما التونسية اخترن محاربة التقاليد الاجتماعية، وكشف المستور، والدفاع عن قضايا المرأة ضد التمييز والعنف.

في عالم الفيلم القصير

بيد المخرجات التونسيات الشابات من بنات الجيل التالي، اخترن طريقاً مختلفاً عن الرائدات، فبعضهن لم يدرسن الإخراج من البداية، لكنهن كن متابعات ومنخرطات في الحركة السينمائية في البلاد، واختصصن في هذا المجال في دراستهن العليا على غرار هند بوجمعة المتحصّلة على جائزة أفضل فيلم قصير في الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي بشريطها «تزوج روميو جوليت»، وبعضهن الآخر مارس السينما في نوادي الهواة، ثم درسن الفن السابع أكاديمياً، وقدمن مجموعة من الأفلام القصيرة حتى يحافظن على استمرارهن في هذا المجال، في ظل غياب التمويلات العمومية والخاصة لإنتاج عدد كافٍ من الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة. ونذكر في هذا الإطار كلاً من كوثر بن هنية، ولطيفة الدغري، وشيراز البوزيدي، وليلى بوزيدي، ونادية تويجر.

ولعّل هامش الحرية الذي تتمتع به السينمائية التونسية اليوم بعد ثورة 2011، مكّنها من تحقيق بعض رغباتها الفكرية، مقارنة بالرائدات في هذا المجال، فصار الطرح أكثر جرأة، وتجاوز قضايا المرأة الذاتية إلى قضايا المجتمع والسياسة.

وعلى غرار ما يحدث في مختلف دول العالم، تبدو نسبة النساء العاملات في مجال الإخراج في تونس أقل من نسبة الرجال. وفي المقابل يبرز حضور المرأة السكريبت أو المختصة في الماكياج والملابس بصورة طاغية في مواقع التصوير. وهذه الخصوصيات تنسحب كذلك على المشهد السينمائي التونسي. غير أننا هنا نلفت الانتباه إلى أن نسبة المخرجات التونسيات ارتفعت في السنوات الأخيرة لتتجاوز نسبة 20 بالمئة من مجمل العاملين في هذا الاختصاص السينمائي، كما أن السينمائية المختصّة في التركيب أو المونتاج تحظى بالإشعاع وتنافس زملائها من الرجال. وقد توّجت التونسية نادية بن رشيد بجائزة أفضل مونتاج لفيلم «تمبكتو»، وذلك في الاحتفال السنوي للأكاديمية الفرنسية للفنون والسينما في دورته الأربعين، التي حصد فيها «تمبكتو» سيزار أحسن فيلم لسنة 2015.

وفي هذا المجال الحيوي في السينما، تبقى «المونتيرة» كاهنة عطية رائدة هذا الاختصاص في تونس. فهي بعد دراستها للسينما في فرنسا، عملت في أهم الأفلام التونسية، كما كانت لها تجارب أفريقية وعربية في مجال تطوير سينما الجنوب، ومن أبرز الأعمال التي قامت بتركيبها «بزناس»، و«بنت فاميليا»، و«سلطان المدينة»… إلخ.

ورغم تطور نسبة خريجات معاهد السينما في تونس في مختلف الاختصاصات، إلا أن هندسة الصوت وإدارة التصوير ما زالتا حكراً على السينمائيين الرجال الذين برزوا في هذا المجال مقارنة بالنساء، فجلُّهم مديرو تصوير في الأفلام التونسية، كما يشاركون في التجارب العربية أو الأفريقية، فيما تكتفي أغلب خريجات هذا الاختصاص بالعمل في التلفزيونات، وتتوجه قلائل منهن إلى الإخراج.

على مستوى الإنتاج، لم تغامر المرأة باقتحام هذا المجال ما عدا المخرجة سلمى بكار (أول منتجة تونسية في السينما)، ودرة بوشوشة، التي تعتبر حالياً أبرز المنتجين الداعمين للأعمال السينمائية الشابة، وكانت وراء طرح الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة الشابة رجاء العماري («الستار الأحمر»، و«أسرار دفينة»، و«ربيع تونس)، كما تولّت درة بوشوشة صندوق الجنوب (وهي مؤسسة فرنسية لدعم الإنتاج السينمائي في بلدان الجنوب، وتعتبر درة بوشوشة ثاني عربية تتولى هذا المنصب بعد السينمائية التونسية مفيدة التلاتلي).

من هايدي شمامة إلى هند صبري

لا يمكننا اعتبار السينما التونسية صانعة للنجوم، لكنها كانت وراء بروز الكثير من الممثلات. ولعّل شريط «صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، من دفع بهند صبري إلى النجومية العربية، وجعلها اليوم من أهم ممثلات جيلها. ففي الرابعة عشرة من عمرها تقمّصت هند صبري دور «علياء» بطلة «صمت القصور»، وهي في مراهقتها. وعكس أداؤها صدقاً وحرفية كبيرة، كما توّج فيلمها بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج، معلناً عن ميلاد ممثلة سيكون لها شأن، لتقدم هند صبري إثر هذا الفيلم عملاً ثانياً لمفيدة التلاتلي، هو «موسم الرجال»، وعدداً من الأعمال السينمائية التونسية الأخرى، منها «الكتبية»، و«عرائس الطين»، قبل أن تنتقل إلى القاهرة.

وتعتبر هند صبري من أبرز الممثلات التونسيات في السينما، إذ شاركت في أهم الأفلام السينمائية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، ورسمت من خلال أدوارها صورة مغايرة للسينمائية التونسية من خلال تنوّع أدائها وتقمّصها لأدوار محورية في الأفلام، وطرحها لقضايا اجتماعية تنبع من المعيش اليومي للتونسيين.

ولئن كانت هند صبري من أكثر الفنانات التونسيات ترشيحاً لتجسيد المرأة الشابة، فإن مشوار الفنانة الكبيرة فاطمة سعيدان يعجّ بالنجاحات والإطلالات المتفردة في السينما التونسية، فهي الأكثر طلباً من قبل المخرجين الكبار والشباب لأدائها العالي وجنونها الإبداعي… فاطمة سعيدان تلوّنت سينمائياً في أكثر من دور، فهي المظلومة والهائمة والمجنونة والمتمرّدة والفقيرة والمشرّدة والمتسلطة… وكانت حاضرة منذ فيلم «عرب» للفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي، في المشهد السينمائي التونسي، بأعمال عديدة، منها: «عصفور السطح»، و«صيف حلق الوادي» لفريد بوغدير، و«يا سلطان المدينة»، و«التلفزة جاي» للمنصف ذويب، و«صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، إلى جانب «مجنون ليلى» للطيب الوحيشي، و«آخر فيلم» لنوري بوزيد.

وفاطمة سعيدان تخالف القاعدة التي تجزم بأن الممثل المسرحي لا يمكن أن يحقق النجاح ذاته سينمائياً، إذ تمكّنت لأكثر من ثلاثة عقود من تحقيق قاعدة جماهيرية من دون أن تكون وجهاً تلفزيونياً ودرامياً مستهلكاً.

وبدورها الفنانة والكاتبة المسرحية جليلة بكار كانت لها خصوصيتها السينمائية، فهي لم تكتف بتقمّص أدوار البطولة في أعمال المخرج الفاضل الجعايبي المسرحية، والتي حوّلت في ما بعد إلى أعمال سينمائية على غرار «العرس» و«عرب»، أو في فيلمه «شيشخان» من بطولة الفنان المصري جميل راتب، بل ساهمت كذلك في كتابة سيناريو فيلم «جنون»، وشاركت في أعمال أجنبية، منها: «الليلة المقدسة» لنيكولا كلوتز، وعربية، منها: «متحضرات» لرندة الشهال.

أمّا حضور بقية الممثلات التونسيات في السينما، فهو قليل أحياناً لا يتجاوز دوراً أو اثنين على مستوى بطولة العمل، ومنهن: ربيعة بن عبد الله، وآمال الهذيلي، وأنيسة داود، ودرة زروق، وسناء كسوس، (يوسف)، فيما تفضل جلّ الممثلات التلفزيون لقلة الإنتاج السينمائي.

هذه الأسماء النسائية التي برزت في السينما، خاصة في التسعينيات، تمكّنت من نيل البطولة في عدد من الأفلام، على عكس الممثلات الرائدات اللاتي اكتفين بالمسرح والإذاعة، ثم التلفزيون، وذلك لندرة الأدوار المكتوبة للمرأة في المرحلة التأسيسية للسينما التونسية. وهنا نشير إلى الحالة الاستثنائية الوحيدة في تلك المرحلة من السينما التونسية، وهي هايدي شمامة شيكلي، التي تعدّ أول ممثلة أفريقية وعربية تجسد دوراً على الشاشة، وهي كذلك من أولى الممثلات في العالم اللاتي ينلن بطولة فيلم. فقد تقمّصت هايدي بطولة فيلم روائي قصير بعنوان: «زُهْرَة» سنة 1922، و«عين الغزال» سنة 1924، وهما من إخراج والدها ألبير شمامة شيكلي، رائد السينما التونسية.

معضلة الكتابة

بقي أن نذكر هنا أن أغلب المخرجات التونسيات يقمن بكتابة أعمالهن بأنفسهن، ومنهن سلمى بكار، أو يشتركن في صياغة السيناريو مع مخرج ثانٍ، على غرار فيلم «صمت القصور» لمفيدة التلاتلي – الذي شارك في كتابته النوري بوزيد – وفيلم «شيشخان» الذي شاركت في كتابته جليلة بكار. ولا تختلف سينما المرأة في تونس، كونها كذلك «سينما مؤلف»، عن أفلام السينمائيين الرجال. كما تعرف النقائص نفسها على مستوى الكتابة، وأهمّها ضعف السيناريو. فالسينما التونسية في العموم تتميّز بالجمالية، والتقنية العالية، والحرفية، مع جرأة في طرح المسكوت عنه، لكنها تفتقد في مجمل أعمالها للسيناريو الجيد.

من جهته، يعتبر النقد السينمائي معضلة، إذ لا يتجاوز شكله الانطباعي في أغلب الأحيان، وينتشر في الصحف والمواقع الفنية، كما تتناوله بعض الدراسات بالتحليل، غير أن أبرز الناقدات في هذا المجال اللواتي يعالجن المضامين السينمائية وأدواتها بحرفية، السينمائية والجامعية سنية الشامخي، المتحصّلة على دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون (سينما، وتلفزة، وفيديو) من باريس، وشهادة في كتابة السيناريو، كما أنها أصدرت كتابين عن السينما. ولعّل ارتباط سنية الشامخي العميق بعالم السينما، وإخراجها لمجموعة من الأفلام القصيرة والوثائقية، ودراستها لتقنيات الفنون والصورة، جعلتها بعيدة كل البعد عن الانطباعية في هذا الاختصاص.

التجربة السينمائية النسائية في تونس علامة فارقة في تاريخ الفن السابع التونسي، فالسينمائيات التونسيات حاضرات بقوة في مختلف جزئيات العملية السينمائية من كتابة وإخراج وأداء ومونتاج وغيرها من الاختصاصات الفنية، ما عدا إدارة التصوير، وهندسة الصوت، وندرة الأسماء النسائية المختصّة في النقد السينمائي. والأهم أنه لا توجد سينمائية واحدة اختصّت فقط بكتابة السيناريو، فالكتابة رغم أهميتها في العملية السينمائية، لا تحظى باهتمام كلي من السينمائيات، وتمارس إلى جانب الإخراج.

المرأة المهمّشة: جسد.. شهوة.. عقد نفسية

لقد كان تناول قضايا المرأة في السينما التونسية من قبل السينمائيات مختلفاً عن طرحه في أفلام السينمائيين الرجال، فحضور العنصر النسائي، باعتباره مادة درامية في أفلام البدايات السينمائية في تونس، كان ضعيفاً ومكمّلاً للحبكة، إذ لم تكن قضايا المرأة هاجساً للمخرجين بقدر ما اهتموا بالغوص في عمق البطل الرجل على غرار أفلام التحرير الوطني، والكفاح ضد المستعمر الفرنسي، ومنها «الفجر» لعمار الخليفي، و«السفراء» لناصر القطاري، الذي عالج القضايا الاجتماعية ما بعد الاستقلال.

وباستثناء فيلم «عزيزة» لعبد اللطيف بن عمّار – الذي صوّر تحولاً في القيم الأخلاقية في الفترة الأولى للاستقلال، وبروز فئات اجتماعية أكثر تفتحاً في المجتمع التونسي، لا يوجد فيلم ثانٍ لمخرج تونسي حمل اسم شخصية نسائية، واعتبرها شخصية محورية في عمله.

فالمرأة بقيت لعقدين – منذ انطلاق السينما التونسية إلى منتصف الثمانينيات – شخصية مبهمة ومشتّتة في صورتها السينمائية. فهي الأم المستكينة والمضحية في «خليفة الأقرع» لحمّودة بن حليمة، وهي المحبة المهجورة في «مختار» للصادق بن عائشة، إذ تقوم هدى، الطالبة الجامعية، في هذا الفيلم، بالبحث عن «مختار»، وهو أديب مشهور يبحث عن أشياء من الماضي، ويكتب حكاية فتاة صغيرة، لكنه يختفي بعد فترة من تعارفهما.

المرأة كذلك هي المجنونة في «وغداً..» لإبراهيم باباي، وهو شريط يصور ضيق عيش ثلاثة فلاحين، وقرارهم بالنزوح إلى العاصمة بحثاً عن عمل أفضل، غير أن الوضع كان أسوأ، ممّا جعلهم يبحثون عن سبل الهجرة إلى فرنسا. أمّا المرأة في «حكاية بسيطة كهذه» لعبد اللطيف بن عمر، فكانت متسلطة وسبباً في التسبب بعقد نفسية لابنها، ليختار رشيد فرشيو تهميشها كذلك في «يسرا».

«الوشم» يكسر قيود المرأة

لم يتغيّر هذا الحضور السينمائي النمطي للمرأة، إلا حين قدمت السينمائية ناجية بن مبروك فيلمها «السامة» (الوشم) سنة 1985، وتمردت فيه على قيود المجتمع والسينما في الآن ذاته، لتكون «المرأة الموقف» متصدرة لأحداث الفيلم، ورغم أن هذا العمل عرف العديد من العراقيل الإنتاجية والرقابية قبل صدوره، على غرار فيلم «فاطمة 75» لسلمى بكار، الصادر في سنة 1978، عن كفاح المرأة ونضالها، وكان أول عمل تسجيلي بعد تطويره من فيلم قصير إلى آخر وثائقي طويل مع نفس روائي، يعتبر «السامة» (الوشم) أول عمل روائي تونسي طويل لمخرجة، وهو يتحدث عن المرأة كشخصية محورية في العمل، لا كعنصر ثانوي في أحداثه.

ورغم النقد الحاد الذي رافق التجارب النسائية بعد فيلم «السامة»، واتهام السينمائية التونسية بــ «ذاتية» أعمالها، ومحاولاتها تجريم الرجل في كل ما يحدث للمرأة من اضطهاد اجتماعي، إلا أن هذه الأصوات كانت قليلة، وفيها الكثير من التجني على القيمة الفنية لأعمال تونسية حققتها نساء مخرجات.

فالسينمائيات الرائدات: سلمى بكار، ومفيدة التلاتلي، وطيلة مسار فني كامل، عكستا واقعاً اجتماعياً وفكرياً وسياسياً لجل مراحل تطور مكانة المرأة في المجتمع التونسي. وهما، رغم انطلاقهما من حكايات شاذة لا تمثل جل حالات المجتمع، إلا أنهما طوعتا شخصيات أفلامهما لتحمل مواقف وهواجس النساء في تونس.

المخرجة سلمى بكار، رغم أن شريطها الروائي الطويل الأول «رقصة النار» أو «حبيبة مسيكة»، كان غنائياً، إلا أنها تجاوزت مسألة نقل السيرة الذاتية لفنانة اشتهرت في بداية القرن الماضي لتصوّر مرحلة كاملة عاشتها المرأة التونسية في ذاك الزمان، وكيف يؤدي تحررها أو فنها إلى قتلها على يد عشيق غيور، كما حدث مع حبيبة مسيكة.

أمّا «خشخاش»، ثاني أعمالها الروائية، فانطلق من حكاية شابة تتزوج رجلاً ثرياً، لكنه شاذ جنسياً، ما يؤثر في علاقتهما الزوجية، ويدفعه إلى إدمان الـ «خشخاش»، حتى تواجهه حقيقة حرمانه العاطفي .. غير أن الإدمان يقود بطلة الفيلم (ربيعة بن عبد الله) إلى مستشفى الأمراض العقلية، حيث تلتقي رجلاً يعاني بدوره مشاكل نفسية، فتجمع بينهما علاقة تجعلها تقرر العيش في هذا العالم الجنوني بعيداً عن واقع لم يقدم لها إلا الآلام.

ولعل الحكاية في ظاهرها استثنائية، ولا تعبر عن فئة عريضة من المجتمع التونسي، كما يردد بعض النقاد، لكن الحرمان العاطفي والجنسي والعلاقات الزوجية المضطربة والقائمة على التقاليد الصارمة، وتأثيرها في المرأة والرجل على حد السواء، كانت حاضرة في جل الأعمال السينمائية للمخرجات الرائدات والجيل التالي لهن.

وفي فيلم «صمت القصور» لمفيدة التلاتلي، وبطولة هند صبري، تروي المخرجة حكاية «علياء»، مغنية في الخامسة والعشرين من عمرها تعود إلى قصر بعد موت صاحبه (الأمير علي)، حيث ولدت ونشأت لأم تعمل خادمة في الصباح، وراقصة عند المساء.

وتعيد «علياء» بين جدران القصر استرجاع حياتها الماضية، واكتشاف الذات، وإشباع حيرة طالما رافقتها لسنوات عن هوية والدها الحقيقي، لتكشف لها الذكريات عن اغتصاب والدتها من قبل أمير القصر، وتغادر بطلة فيلم مفيدة التلاتلي التي كانت منذ بداية الشريط حاملاً بعد أن قررت الاحتفاظ بجنينها، رغم رفض صديقها.

«صمت القصور» قدم في التسعينيات، فترة حكم البايات لتونس، ومع ذلك تمكّنت مفيدة التلاتلي، بأدواتها ولغتها السينمائية، من شد المتفرج التونسي بعد أن طرحت معاناة يمكن أن تعيشها المرأة المضطهدة جنسياً، والمغتصبة في كل زمان ومكان.

وفي شريطها الثاني «موسم الرجال» (سنة 2000) الذي كانت بطلته كذلك هند صبري، تسلّحت مفيدة التلاتلي بجرأة أكبر، وغاصت في عمق المشاكل الاجتماعية للمرأة من خلال حكاية نساء الجزيرة المهملات، اللاتي يهجرهن الرجال للعمل، ولا يعودوا إلا مرة واحدة في فترة «الموسم»، ليكشف الفيلم في تفاصيله عواقب التقاليد الاجتماعية المتسلطة والظالمة التي انعكست على كلا الجنسين. ورغم النقد الحاد الذي جابه الشريط، إلا أن انتصاره للواقع وطرحه لقضايا مسكوت عنها، فتح المجال أمام عدد من مخرجات الجيل التالي لمفيدة التلاتلي لكسر قيود «التابوهات». ونذكر هنا خاصة السينمائية رجاء العماري، التي تعرّضت في أفلامها: «الستار الأحمر»، و«أسرار دفينة» (الدواحة)، و«ربيع تونس»، مع منتجتها درة بوشوشة، لعدد من القضايا التي تهم المرأة، ومنها الإهمال النفسي والجنسي والانكسار الذي يخلفه المجتمع من خلال نظرته إليها في سلوكها وقراراتها.

أما رجاء العماري التي ما زالت في بداية الأربعينيات من عمرها، فقد قدمت عدداً من الأشرطة السينمائية الطويلة أكثر على مستوى الكمّ، مقارنة بمن سبقها أو بأبناء جيلها من السينمائيين. وفي «الستار الأحمر» أول أفلامها الطويلة، تصور المخرجة حكاية امرأة في الأربعين من عمرها (الممثلة الفلسطينية هيام عباس) تعيش الوحدة مع ابنتها، في ظل غياب الرجل في حياتها، ما يقودها إلى البحث عن حياة مختلفة تنتهي بها إلى الملاهي الليلية، حيث تمتهن الرقص، وتفرض عليها الأحداث تزويج ابنتها المراهقة من عشيقها.

ورغم أن الفيلم الطويل الروائي الأول لرجاء العماري قوبل بوابل من الانتقاد، باعتباره «لا يمثل غالبية التونسيات»، إلا أن المخرجة اعتبرت طرحها لهذا المضمون انتقاداً لمحاولات بعض العائلات كبت بناتها، على غرار بطلة الفيلم التي حين وجدت فرصة للتحرر، تاهت في متاهات الحياة.

وتواصل رجاء العامري باستماتة وشجاعة كبيرتين، رغم النقد، تناول الكبت النفسي وعقدة الجنس في أعمالها. وكان فيلم «أسرار دفينة» (2009) أكثر تعمقاً في هذه القضايا من خلال رواية بطلاتها الأربع نساء؛ ثلاث منهن منزويات عن العالم، لتكون الرابعة، القادمة من عالم متحرر، سبباً في انفجار العلاقة بين الأم والأختين، لتكشف في نهاية الأمر أن بطلة الشريط (حفصية الحرزي) هي الحفيدة، وليست الأخت، ممّا يصيبها بصدمة تجعلها ترتكب جريمة في نهاية تقليدية، لكنها معبّرة عن الصراع النفسي والعميق للمرأة في مجتمع يحمل الكثير من الأسرار الدفينة، رغم استقراره الظاهري.

وعكست كلثوم برناز كذلك في شريطها «كسوة» (الخيط الضائع)، الواقع الاجتماعي التونسي المتناقض، كاشفة عن بعض التقاليد البالية التي لا تتماشى مع التطور الثقافي والتعليمي للمجتمع، من خلال طرح فكرة الهوية وأساليب التعامل معها من قبل الفتيات العائدات من الخارج، وكيف يعشن صراعاً بين الحفاظ على التقاليد والتمتع بالحياة العصرية.

أمّا في تجربتها الروائية الثانية، فطرحت برناز موضوعاً أكثر جرأة، وهو المساواة في الميراث. ويعتبر فيلم «شطر محبة» عملاً مثيراً للجدل في تونس، إذ يعد أول فيلم يطرح مسألة المساواة في الميراث، وهي من القضايا المطروحة في تونس على مستوى المجتمع المدني فحسب.

التحرر من الذاتي

يبدو الجيل الجديد من المخرجات التونسيات مختلفاً جداً في خياراته السينمائية خصوصاً بعد ثورة 2011، فهو أكثر تحرراً من القضايا الذاتية والمتعلقة بالمرأة بعيداً عن بقية مكونات المجتمع.

هذا الجيل انخرط في قضايا أكثر شمولية، ولعّل معايشته لزمن صارت فيه تونس أكثر حداثة وتطوراً على مستوى التشريعات، وعاشت انفتاحاً اجتماعياً مقارنة بثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، جعله يقتحم عوالم أخرى في مجال السينما. فالمخرجة الشابة كوثر بن هنية استطاعت أن تثبت بصمتها الخاصة في عدد من الأعمال الفنية، على غرار «يد لوح» الذي يعالج أساليب التعليم في تونس. وهي كشفت في تحقيق وثائقي بروح روائية عن «شلاط تونس» في فيلم يحمل العنوان ذاته. كما تستعد هذه المخرجة لتصوير فيلمها الطويل الأول، وتمكّن مؤخراً فيلمها «عفت حياتي» من نيل منحة مسابقة «برنامج تطوير المشروعات» لمهرجان كان السينمائي الدولي المعروف بـ «مصنع سينما العالم».

وكان من المنتظر – حتى كتابة هذه السطور – أن يعرض هذا الفيلم في الدورة الجديدة لمهرجان كان (من 12 إلى 22 أيار/مايو 2015)، حيث إنه لو قيّض له ذلك، لكان «عفت حياتي»، سيعتبر أول فيلم تونسي يحصل على تأشيرة المشاركة في مهرجان كان.

إن السينمائية التونسية الشابة اليوم صارت تهتم بالقضايا السياسية والاقتصادية، وتتناول معاناة المرأة بأسلوب أكثر بحثاً عن حلول من خلال انتقاد الواقع ومحاولة تغييره، على غرار الحال في فيلم «النجاح» لشيراز البوزيدي، الذي عكس معاناة المناطق المهمّشة من خلال حكاية النساء العاملات في «المزابل» في قرية «النجاح» من ولاية سليانة التونسية.

وفي شريط «المناضلات» لسنيّة الشامخي، ترصد المخرجة الحياة الاجتماعية والسياسية والعائلية لعدد من الناشطات في المجتمع المدني والمجال السياسي في تونس، ومنهن: راضية النصراوي، وسعيدة قراش، وسعاد عبد الرحيم، وبشرى بلحاج حميدة، عاكسة مكانة المرأة في هذا المجال، والعراقيل التي عاشتها، ونضالاتها في زمن بن علي، ومواجهتها للظلم القائم على المهمّشين والفقراء، ودفاعها عن الحريات والحقوق… إنها صورة مغايرة عن المرأة لم يتعوّد المستهلك التونسي للسينما مشاهدتها في الأفلام التونسية وقاعات العرض، حيث كان من مكاسب ثورة 2011 إنتاج مثل هذه الأفلام المتمتعة بهامش كبير من الحرية على مستوى الطرح والتناول.

أمّا هند بوجمعة، فاختارت نموذج «عائدة»، المرأة الفقيرة المكافحة لأجل تأمين لقمة عيش لأبنائها، فرصدت يومياتها ورغبتها في نيل حقوقها وحقوق أبنائها من هذا البلد الذي يضمها بعد سقوط نظام بن علي… إنه فيلم عالج بعمق المتغيرات التي عرفتها تونس، اجتماعياً، منذ سنة 2011.

سينما المرأة في تونس كانت خجولة في بدايتها، رغم التكوين الأكاديمي، والانخراط في العمل الميداني والتطبيقي الذي تتمتع به الرائدات في الفن السابع. ولعّل ضعف الإنتاج، كان من أكبر عوائق البروز المبكر لأعمال المرأة السينمائية، لكن مع تطور الانفتاح في التسعينيات كانت أفلام المخرجات الأكثر بروزاً وتأثيراً، وربما جدلاً، ما مكّن مخرجات اليوم من العبور إلى مرحلة فنية أكثر نضجاً على مستوى المواضيع المطروحة في غياب الرقابة الرسمية والذاتية. وتعتبر الثانية مهمة جداً في تكوين سينمائيات الجيل الحالي، باعتبارهن تربّيْن على ثقافة الحوار وحرية التعبير، وكنّ أكثر تأقلماً مع المتغيرات السياسية والاجتماعية إثر الثورة التونسية، ما جعل إنتاجاتهن منوّعة وثرية على المستوى الوثائقي أو الروائي. ومع ذلك، تبقى جمالية الصورة واللغة السينمائية لعبة الرائدات اللواتي لا يزلن متفوّقات في طرحهن التقني والجمالي للعمل السينمائي.

المصادر:

(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة السينما العربية العدد 2.

(**) نجلاء محمد: كاتبة وصحفية من تونس.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز

Privacy Preference Center