تقـديـم:

ما زالت الحاجة ملحّة إلى وضع الرواية الشفاهية، والشهادات الحية المباشرة، كأحد المصادر الأساسية لدراسة التاريخ السياسي لأفريقيا بوجه خاص، مثلما هي مهمة لرصد التاريخ الاجتماعي وتحولات المجتمعات والثقافات. ذلك أن اختلاف الأدوار في هذه التحولات بين الزعامات والممارسين اليوميين في عملية التنمية السياسية والاجتماعية تجعل تعدد المصادر المعرفية، وفي مقدمها المصادر الشفاهية ذات أهمية بالغة في التوثيق العلمي، قبل الرد النهائي أو شبه النهائي عن سؤال: ماذا جرى؟ وإلى أين تمضي مصائر هذه الظاهرة أو تلك. إن التاريخ السياسي على وجه الخصوص – كما هو ظاهر لي في التجربة المصرية – وقد يكون في غيرها – إنما يخضع لعمليات تفكيك وتركيب أو إعادة تركيب دائمة من الفاعلين الجدد أو ورثتهم من المستفيدين منه، من هنا فإن تعدد الروايات يُعد ضابطاً مهماً لوقائع التاريخ، وليس مصدراً للارتباك كما يرى البعض.

تشكل علاقة مصر ببقية أفريقيا، سواء قبل ثورة يوليو 1952 أو بعدها، وسواء في مجال التنمية السياسية والاقتصادية أو مجال النضال المشترك ضد السيطرة الأجنبية، أحد نماذج هذه المسألة الخاصة بالتاريخ، وقد كان الاصطدام المباشر لنظام الرئيس السادات بالناصرية (1971) من الأسباب المباشرة أيضاً لضعف توثيق المرحلة الناصرية من جهة، وإلحاح الحاجة إلى رواية التجارب الشخصية وتسجيلها ليصبح توثيقها أقرب إلى الحقائق.

ما أكتبه هنا مجرد إضافة متواضعة في هذا المجال، لا تشمل بالتأكيد رواية كل ما حدث، كما لا تحجب بأي حال روايات أخرى من مصر أو من بلدان أفريقية أخرى، وبخاصة في الشمال الأفريقي العربي، وإن كنت قد سجلت ذكريات مشتركة مؤخراً (2002) استغرقت أكثر من عشر ساعات مع محمد فايق (مساعد الرئيس عبد الناصر)، كما أتيح لي من قبل مقابلة مطولة مع الراحل كوامي نكروما في كوناكري (1970) والرئيس الأسبق أحمد بن بللا في باماكو، وذلك خلافاً لعلاقات مباشرة سابقة مع عدد من زعماء حركات التحرير الأفريقية التي يجري الحديث عنها هنا أو التي ضمنتها كتابات سابقة لي.

ربما لا تتسع مساحة هذا المقال لذكر تفاصيل عدد من الأحداث في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين لنتصور كيف اندمجت مصر في عملية التحرر الوطني في عهد عبد الناصر المعروف بثورة يوليو (1952 – 1970). ويبدو لي أن أحداث تلك الحقبة هي التي جذبت مصر وقيادتها أكثر مما فعلت فلسفة مسبقة لقائدها الضابط الوطني والزعيم، وعلى النحو الذي صاغه هو نفسه في كتيب بعنوان فلسفة الثورة (1955) وما احتواه من حديث عن «الدوائر الثلاث» لمصر.

كان زخم الوعي الوطني جارفاً عقب الحرب العالمية الثانية، كما كانت المشروعات الاستعمارية كاسحة في نفس الوقت. فمن رغبة في تحقيق الاستقلال الوطني الكامل إلى مواجهة لمشروعات إقامة الأحلاف والقواعد العسكرية، عرفنا منها في مصر القوات البريطانية في مدن قناة السويس وحلف بغداد ثم حلف «السنتو» (Cento) في بلاد المشرق، كما عرفنا القواعد من حولنا في طرابلس بليبيا وكانيوستيشن في أديس أبابا، فضـلاً عن سيادة الاستعمار المباشر في أنحاء أفريقيا. وفي الوقت نفسه كان السودان يبدو اسمياً تحت الإدارة المشتركة المصرية – الإنكليزية، بينما هي بريطانية فعلياً! إذاً، كان على الحكم «الثوري» الجديد في مصر أن يتخذ موقفاً من كل ذلك، وأن يسمح بداءة لأطراف منه ومن القوى الوطنية الأخرى أن تمارس الكفاح ضد القوات الأجنبية على أرض مصر، وأن يفاوض بريطانيا من أجل الجلاء عن مصر والسودان في الوقت نفسه، كما كان يفاوض في شروط البقاء بعيداً من الأحلاف العسكرية في الإقليم تحفظاً على جرِّه إلى دائرة الحرب الباردة المشتعلة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي أقامت إسرائيل على أرض فلسطين كاحتياطي لخططها وحماية للبترول وشوكة في ظهر الاتحاد السوفياتي.

للتأريخ لهذه الحقبة إذاً، يتعين اعتبار خط الحركة السياسية الوطنية في مصر عقب الحرب العالمية الثانية، وقد كانت متعددة الاتجاهات وقوية بعدد كافٍ، كما يتعين إعطاء الاعتبار لكون الضباط الأحرار لثورة يوليو 1952 إنما كانوا تعبيراً عادياً عن المؤسسة العسكرية المعروفة كمؤسسة وطنية (إن جاز التعبير) على صعيد الوطن العربي في مجمله، ومن ثم فهم إحدى قوى السياسة الوطنية التي كانت آخذة في تبلور دورها المعادي للاستعمار.

أولاً: الالتحاق

على القارئ أن يتخيل تفاعلات ذلك في نفس شاب مثلي من مواليد 1935؛ قادم من الدراسة الثانوية إلى جامعة القاهرة مشحوناً بمواقف عاشها مع الوفديين والإخوان المسلمين، مقبـلاً على دراسات السوسيولوجيا والفلسفة وسط محيط يساري في الجامعة، وفي دراسات وعمل ميداني في عالم الفولكلور أتاح له جولات داخل مصر لا ينساها كما كانت تدفعه قوة ضخ إعلامية هائلة من قبل نظام الضباط الأحرار. كل ذلك دفع الشاب إلى مبنى «الرابطة الأفريقية» (African Association) في «خمسة أحمد حشمت» بالزمالك شتاء 1956 حيث شباب البعوث الإسلامية من أنحاء القارة، ممن اندفعوا مع القوى الشعبية لحماية قناة السويس من العدوان الثلاثي الوحشي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) عقاباً لمصر على تأميم القناة في تموز/يوليو 1956، بل وعقاباً لثورة يوليو على تفكيرها التحرري تجاه مناطق أفريقية وعربية ظهرت بوادره في صلابة المفاوضة على جلاء الإنكليز من مصر والسودان، ورفض مصر لاحتكار الغرب للتسلح، وما يتيحه ذلك من تفوق إسرائيلي على قوى المنطقة كافة.

روى لي محمد فايق في جلساتنا الحوارية (2002) كيف وجهه ناصر أثناء مفاوضاته مع بريطانيا عام 1953 بشأن وضع السودان أولاً – وقد كان التاج المصري لملك مصر والسودان حتى 1954 – للعمل ضد النفوذ البريطاني والأمريكي في حوض النيل المحيط بالسودان، الذي يمتد إلى القرن الأفريقي وبلدان شرق القارة، وأنه بهذا التوجيه أنشئت عام 1954 الإذاعة الموجهة (التيجرينية لإثيوبيا وإريتريا) والسواحيلية لبقية شرق أفريقيا، وأن البرامج الموجهة من مصر قد امتدت لتصير برامج لنحو ثلاثين لغة أفريقية في منتصف الستينيات.

كان الطلبة من أنحاء أفريقيا يلتفون حول شخصية تربوية معروفة في ذلك الوقت هو المرحوم محمد عبد العزيز إسحق، كما كانوا يلتقون محمد فايق، الذي كان قريباً من مواقع الشباب الأفريقي ومعظمهم حتى ذلك الوقت في الأزهر، وبعضهم في الجامعات المصرية، وكان لقائي بجميع هؤلاء انفتاحاً على عالم جديد وثقافة جديدة، بحكم حماسة هؤلاء الشباب جميعاً للعمل الوطني استعداداً للعودة إلى بلادهم، ولم يكن الزخم الإعلامي الناصري في هذا الاتجاه متواضعاً.

من هنا أشير دائماً إلى أن صدور فلسفة الثورة عن جمال عبد الناصر سنة 1955 وما ذكره عن الدوائر الثلاث بأولوية للدائرة العربية، ثم الأفريقية، ثم الإسلامية ليس معبراً عن تطور حقيقي للعلاقة ذات الأولوية للدائرة الأفريقية كمجال للعمل الوطني. والحقيقة أن عبد الناصر حتى 1955 كان يكتشف آسيا من خلال حضوره لمؤتمر باندونغ (نيسان/أبريل 1955) ولقائه بقيادات الهند والصين وإندونيسيا إلى جانب بعض القيادات الأفريقية من إثيوبيا وغانا وليبيريا… إلخ.

كان اهتمام عبد الناصر بأفريقيا حتى ذلك الحين في حدود تأمين وضع السودان الذي اختار الاستقلال عن مصر، فكان عليه أن يؤمن حوض النيل بالوقوف إلى جانب حركات الاستقلال في كينيا وأوغندا والكونغو وإريتريا، إضافة إلى الصومال بدرجات وأشكال مختلفة. كانت إدارة الثورة قد أنشأت دار «التحرير» الصحافية، لإصدار صحيفة تعبر عن الضباط الأحرار فخرجت عنها الجمهورية ومجلة التحرير التي قرأنا فيها عن القواعد الأمريكية وثورة الماوماو وزعامة جوموكنياتا. وبين 1956 و1958 حدثت تطورات أفريقية، وأفروآسيوية كبيرة قبل أن يأتي السوريون لطلب الوحدة مع مصر، معززين بموقف الشعب السوري أثناء عدوان 1956 ومن ثم وضعت الدائرة العربية في الواجهة بدورها.

أريد من ذلك القول إن تفاعل «دائرة التحرر الوطني» في مصر مع شعوب حوض النيل وسائر بلدان القارة قد سبق فكرة «الدوائر الثلاث». ويبدو لي الآن أن فكرة الدوائر الثلاث كانت نتاج مثقفي البرجوازية الصغيرة المصرية، الذين كانوا يرددون أفكار المجال الحيوي، و«رسالة مصر» أو الدور المصري هنا وهنالك، بينما كانت الإقطاعية المصرية تسمي تسليم ثورة يوليو بحق تقرير المصير للشعب السوداني، استسلاماً أمام الإنكليز «وبيعاً للسودان» لتحقيق نجاح سريع بجلاء الإنكليز عن مصر.

كانت الفترة بالنسبة إلى شباب في جامعة القاهرة غنية بالأحداث المؤثرة في حياته وحياة مصر نفسها. شهد وسط مجموعة الشباب الأفريقي الأزهرية في الغالب انتصار مصر على العدوان الثلاثي 1956، وكانت مجموعة الشباب الأفريقي تتدرب مع الحرس الوطني المصري. ولم يمضِ عام حتى اجتمعت شعوب باندونغ في مؤتمر الشعوب الأفريقية والآسيوية بالقاهرة في الأسبوع الأخير من 1957 والأول من كانون الثاني/يناير 1958. كانت مئات الشخصيات الأفريقية والآسيوية الشابة تجوب في ردهات الجامعة حيث الاجتماع في قاعة المؤتمرات الكبرى بها.

وكنت بفضل معرفتي ببعض رفاق القاهرة من الشباب الأفريقي، ضمن المرافقين للوفود الأفريقية، على معرفة سطحية بواقع بلادهم رغم دراستي للاجتماع والأنثروبولوجيا! قد يكون ذلك هو المحفز لاندماجي في «الرابطة الأفريقية» واستجابتي لعدد من الأساتذة والدبلوماسيين المصريين المهتمين بأفريقيا؛ بل لأن أكتب في المجلة التي صدرت باسم نهضة أفريقيا 1957، مقالات متواضعة بالطبع عن الصحافة الأفريقية وفنون النحت والموسيقى بنت المعتقد الأفريقي! وهي أشهر الأعمال الدورية في مصر عن أفريقيا حتى هذا الوقت، حيث إنها سرعان ما صدرت بالإنكليزية أيضاً لتصل إلى مساحة أكبر من أبناء القارة‏[1]. كان يغلب على الحركة في الزمالك أول الأمر الاحتفاء بذكرى كمال الدين صلاح شهيد مصر في الصومال وعائلته والدور المصري لتحرير الصومال. ثم كان بعض شباب جنوب السودان ممن التفوا حول بعض الضباط الأحرار وشخصية عبد العزيز إسحق.

كانت الفترة 1956 – 1960 غنية ومفجرة لطاقات شعبية في مصر وأفريقيا استعداداً لمرحلة الاستقلال السياسي الكامل، شملت انفتاح مصر وحركات التحرير على القطب الاشتراكي، السوفياتي والصيني في مواجهة الاستعمار بمختلف أشكاله، فعقد في طشقند سنة 1957 مهرجان الشباب العالمي الذي ضم كثيراً من الشباب الأفريقي، ومعظمهم ممن يعيشون في مصر، بسبب صعوبة خروج الشباب من المستعمرات إلى موسكو. ثم كان المؤتمر الشعبي الأفروآسيوى في مصر حيث جاء إليه المئات من القيادات الأفريقية الشابة ممن يعيشون في منافٍ اختيارية أو وسط جماهيرهم؛ بعضهم تخلف في القاهرة لفترة، وكُثُر تركوا مندوبيهم لتمثيلهم في القاهرة، منفذ حركات التحرير الرئيسي إلى العالم في ذلك الوقت. كانت القاعدة أن يستقر القائد أو ممثله بعد مقابلته لعبد الناصر شخصياً، عندئذ يؤذن له بمكتب بمقر في الرابطة الأفريقية، ليعمل أعضاؤه في الإذاعة الموجهة، ويعمل البعض الآخر لتمثيل الحركة في سكرتارية التضامن الأفريقي – الآسيوي بالقاهرة، حتى ازدحم حي الزمالك بالعدد الكبير منهم وكنا نسميه تفكهاً «المستعمرة الأفريقية»… وهي التي أصبحت ملجأ للثوار، وهدفاً للشباب من الدارسين في مصر؛ بل وجذبت عدداً متزايداً من الشباب المصري والصحافيين، حيث كان يوجد أحياناً شخصيات مصرية وطنية قيادية من قامة فتحي رضوان وحلمي مراد أصدقاء عائلة كمال الدين صلاح شهيد مصر في الصومال مما منحني زخماً وطنياً محلياً!

ثانياً: الانخراط

ضمن من قابلهم عبد الناصر مبكراً (1957 – 1958) كان الشيخ علي محسن البرواني زعيم الحزب الوطني في زنجبار ZNP الذي يبدو أنه شرح للزعيم المصري مأزق الحزب هناك بين العرب والأفارقة، واتهامه بالعروبية فقط، بينما يحرص على صيغته الوطنية. واستجابة لتحقيق هذا التوازن كان الأمر باستضافة بعثة طلابية تزيد على الأربعين من زنجبار وسائر أقاليم شرق أفريقيا، يخصص لها بيت ضيافة عُرف باسم «بيت شرق أفريقيا» في منشية البكري؛ وكُلِّفتُ بالإشراف على هذه البعثة (1958) بمجرد تخرجي من الجامعة لكوني درست علم الاجتماع من جهة، أو للظن بما تكَوَّن لي من خبرة من وجودي بالرابطة الأفريقية. وكانت التجربة مفيدة بالتأكيد لعامين بين 1958 و1960.

كانت إعلانات الحكم الذاتي أو ما شابهه تترى من أقاليم الاستعمار الفرنسي تمهيداً للاستقلال عام 1960، لكن الثورة الجزائرية ضد فرنسا كانت تستعر بمساعدة قوية من مصر وغيرها، فيما بدا كأن مصر تنتقم من غزو فرنسا للأراضي المصرية مع بريطانيا وإسرائيل (1956)، لكن الأساس كان رفضاً للسلوك الفرنسي الذي يتعامل بصلف مع الجزائر بوصفها أرضاً فرنسية! بالمثل كان الموقف من بريطانيا، الذي كان لا بد من مواجهتها في كينيا وأوغندا وروديسيا، ولا يحتاج الأمر لتفسير معاونة الصوماليين والإريتريين بالطبع لصلتهم الوشيجة بالشأن المصري مباشرة… تأكدت من أن الأمر لم يكن بسيطاً هكذا، عندما سافر عبد الناصر لنيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة (أيلول/سبتمبر 1960) مع عشرات من زعماء العالم، في مقدمتهم خروتشيف ونهرو وسوكارنو وكاسترو لمحاصرة الدول الاستعمارية. وهناك تم الإعداد للإعلان العالمي لتصفية الاستعمار الصادر في كانون الأول/ديسمبر 1960، وهو الإعلان الذي ظللنا نحتفي بصدوره كثيراً قبل الاحتفالات المعروفة بمواثيق حقوق الإنسان.

كانت المواجهة مع قواعد الاستعمار الفرنسي وغيره قد بدأت منذ أواخر 1958. ففي بضعة أشهر وجدت فيلكس مومي رئيس حزب اتحاد شعب الكمرون UPC ومساعديه في أحد مكاتب الرابطة الأفريقية وتبعه مباشرة حضور موسازي زعيم مكتب حزب مؤتمر أوغندا UNC الذي ترك المكتب للشاب اللامع جون كالي، ثم جاء أوجنغا أودنغا نائب كنياتا لافتتاح مكتب KANU باسم حزب الاتحاد الوطني الأفريقي بكينيا، ثم حضر أوليفر تامبو وميزواندل بيليسو لافتتاح مكتب ANC المؤتمر الوطني الأفريقي بجنوب أفريقيا… وهكذا تباعاً.

في نفس الفترة بل وقبلها كان قد وصل ولدآب ولد ماريام الزعيم العمالي للإقليم الإريتري ليدير الإذاعة التجريبية، وسرعان ما جاء آدم محمد آدم والشيخ إبراهيم سلطان، قادة جبهة التحرر التي ستطلق أول رصاصة في الأراضي الإريترية بعد ذلك، وإنما جاؤوا أولاً ليتصلوا بالأمم المتحدة دفاعاً عن فدرالية إريتريا مع إثيوبيا. أما الحاج محمد حسين زعيم «الليجا» الصومالية: «رابطة الصومال الكبير»، فقد كان من الامتداد الصومالي في إثيوبيا (الأوغادين) متطلعاً لجمع أقسام الصومال جميعاً، ومستحثاً مصر أن تطور دورها في المنطقة بعد اغتيال كمال الدين صلاح ممثل مصر في مجلس الوصاية على الصومال في منتصف الخمسينيات، كذلك كان هناك زعماء جيبوتي (حربي وزملاؤه) مع اعترافهم بوحدة الصومال. واكتمل الحشد الأول لحركات التحرير بالقاهرة بوصول قادة المؤتمر الوطني بروديسيا (نكومو وزملاؤه). وكذا زعماء روديسيا الشمالية بقيادة كاوندا زعيم اليونيب UNIP. شعرت في لحظة شبابية بإرهاق حقيقي من متابعة البعثة الطلابية في بيت شرق أفريقيا، وكذا المشاركة في إدارة الرابطة الأفريقية بهذا الحشد من القيادات الوطنية.

لم تكن الثقافة السياسية حول أفريقيا في مصر وقتها بالقدر الكافي للتعبئة الشعبية حولها، أو لتغذية عقول شابة متطلعة للعمل في مجال التحرر الوطني الواسع. اكتشفت من حديثي مع محمد فايق أن مصادره الأولية في الخمسينيات لم تزد على كتاب Inside Africa لجون غنتر وبعض الكتيبات الأخرى البسيطة بالعربية؛ وإذ بي أكتشف أني كنت أقرأ في نفس الكتاب مع بحثي الأول لمعرفة حقائق القارة الواسعة. لذلك رحبت بتكليفي مبكراً بترجمة صحف استطاع محمد فايق الاشتراك فيها من مكتبه بجوار عبد الناصر ومع تأسيسه لمكتب الشؤون الأفريقية، وأصبحت بذلك أقرأ دورياً صحف نيجيرية وكينية بل ومن جنوب أفريقيا وروديسيا وأوغندا (وهو ما لا يتوافر الآن تقريباً لأي باحث متخصص في مصر). وبكثافة هذا النشاط الأفريقي من حولنا توافر كتاب لورد هيلي الضخم An African Survey, Revised 1956‏[2]، وهو الذي تطور شكـلاً في كتب كولين ليغوم الجامعة أوائل الستينيات. بعدها انطلقت الترجمات لكتب كنياتا ونكروما في هيئة الاستعلامات وتحول معهد الدراسات السودانية إلى معهد البحوث الأفريقية.

شعرنا منذ البداية أن إسرائيل تريد الالتفاف على مصر في حوض النيل وشعرت أننا نواجهها بدورنا بتضامن عميق مع حركة التحرر الوطني في هذه المنطقة. كان حلف إسرائيل مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا يلفت نظر مصر عبد الناصر إلى خطورة استقرار نظام الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا مثله في فلسطين، وهكذا بدأت أفهم معنى تعدد أشكال الاستعمار.

كنت قد بدأت انغمس في التيار اليساري في مصر، وكدت أفهم أن حركات التحرر الأفريقية في معظمها ذات اتجاه يسارى، لذلك لم أسعد باللقاء بجورج بادمور في الرابطة الأفريقية (1958 أو 1959 لا أذكر تماماً)، وهو القادم كمستشار للرئيس نكروما، صاحب السمعة الوطنية العالية في مصر، بينما «بادمور» نفسه صاحب كتاب الوحدة الأفريقية أو الشيوعية (Pan Africanism or Communism)، المكتوب بروح عدائية صارخة للأممية الشيوعية. دهشت لأني كنت أقرأ وأتابع مع الأصدقاء من قيادات التحرر الوطني عن مشروع نكروما التحرري الوحدوي بدوره مثله مثل عبد الناصر وكنياتا… إلخ. من هنا كانت دهشتنا. ولم يلق «بادمور» ترحيباً كبيراً ولأن السوفيات والصينيين كانوا يدعمون علاقاتهم بقوة مع حركات التحرير، فقد أصبحت سكرتارية التضامن الأفريقي – الآسيوي بالقاهرة وبوجود تمثيل سوفياتي وصيني بها كأنها همزة الوصل بالأممية الشيوعية وسآتي لاحقاً على ما لقيته من متاعب الصراع السوفياتي – الصيني حول قضايا التحرر وممثليها.

فيما بعد فهمت لماذا كان تركيز إدارتنا المصرية على مقر حركات التحرير بالزمالك وكأن عليّ أن أبرز تميُّز العون المصري عن عون الدول الشيوعية أو غيرها. لذلك لم يرتح لوضعى الكثيرون في مصر نفسها مع معرفتهم باتجاهاتي اليسارية، إلا أني كنت شديد الحماسة للزعامة الناصرية في القارة. ولم أرتح بعد ذلك من هذا الارتباك إلا عندما قابلت دايفيد ديبويس ووالدته شيرلي غراهام ديبويس، وأدمجوني في يسار النكرومية أيضاً! بل ومع يساريين مصريين متطرفين! وذلك عندما جاؤوا إلى مصر بعد وفاة المفكر الكبير في أكرا عام 1963، وقرأت معهم قصيدة وليم ديبويس نفسه عن «السويس وفرعون النيل» المنتصر على الأسد الاستعماري خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956. كما ذهبت مناقشاتنا بعيداً عن فلسفة ديبويس حول الوحدة الأفريقية، والشيوعية وكيف قاوم جورج «بادمور» مكانته لدى الرئيس نكروما لأن وليم ديبويس كان في وضع معلِّم ووالد الجميع، وهو ماركسي أممي بطبعه وليس له تحفظات على العلاقة بالسوفيات. وقد لفت نظري – وما زال – ضعف مركز هذا المفكر عند معظم مثقفي القارة مع أنه المؤسس الحقيقي لفكر الوحدة الأفريقية؛ بل وذهب «بادمور» بعيداً في ما يشبه إثارة الخلاف مع ناصر نفسه حول حركة التضامن الأفرو آسيوية، والمبادرة بعقد مؤتمر جميع الشعوب الأفريقية AAPC في أكرا بعد عام تقريباً على مرور انعقاد المؤتمر الأول (1958) بالقاهرة.

كانت مفاجأة لي ما ذكره العائدون من أكرا عن فلسفة اللاعنف المعلنة التي تعرَّض لها «فرانز فانون» بالهجوم، كان عليّ أن أدرس أثر الفانونية في أفريقيا واحتمال تأثير الجالية الآسيوية في نشر الغاندية، وقدمت دراسة في ذلك. وأذكر أننا كنا في مصر قلقين من بعض المحيطين بالرئيس نكروما الذين يدفعونه إلى تصور منافسته لعبد الناصر، أو الاعتقاد أن عبد الناصر يعمل على الحد من نفوذه في القارة لصالح العرب وليس الوحدة الأفريقية التي يدعو إليها الرئيس نكروما. وكان القلق قد وصلني من خطاب جورج «بادمور» وما كتبه عن الصهيونية السوداء، ضمن فكر العودة إلى أفريقيا من الدياسبورا الأمريكية خاصة، كذلك كان القلق من أفكار «كوجوبوتسيو» – مستشار نكروما – الرافضة لما يسميه النفوذ العربي. وكنا في ذلك الوقت نعتقد أن كل من يهاجم العرب في أفريقيا إنما يصدر عن نفوذ إسرائيلي من خلفه.

لكن الرئيس نكروما نفسه فاجأ الجميع بطلب الزواج من مصرية بطريقة – رواها لي محمد فايق نفسه – بحكم أنه مدير مكتب الرئيس – أنها كانت مثيرة وودية حقاً، وضد كل التوقعات الملغومة في ما عرضته عن موقف «بادمور» و«بوتسيو». بل وكنا أحياناً نقول إنه زواج «بان أفريكانزم» «مع بان أرابزم»! وبعد ذلك أيضاً عرفت أن حرم ديبويس قد اختارت مصر – بعد الانقلاب على نكروما – لتقيم فيها معظم شهور العام، بل وإنها بعد إقامة لعدة شهور من عام 1966 طلبت مني السعي لشراء شقة في موقع على النيل الذي أحبه الدكتور وليم ديبويس وكان من حظها أن وجدنا شقة جميلة في عمارة تقابل فندق شبرد الذي نزل فيه ديبويس 1958 وعلى نفس المساحة من النيل، فكان فرحها غامراً إلى درجة أشعرتني بأني فرد في هذه العائلة. وظل فيها دايفيد ديبويس إبنها حتى وهبها لأحد المصريين – قبل وفاته منذ خمس سنوات تقريباً.

لم تكن الثقافة السياسية في مصر قاصرة على أيديولوجيا التحرر ومقاومة الاستعمار فقط في عهد عبد الناصر، كما قد يتصور البعض؛ بل إن المؤسسات المحافظة كانت تبدو أقوى أحياناً بشكل مؤثر، كان ذلك يستند أيضاً إلى التديُّن الشعبي واسع النطاق في مصر، الذي حال دون تطوير ناصر لنظام الأزهر التعليمي، كتطوير للممارسة الدينية وإيقاع شعائرها في المجتمع، لذلك ظل قطاع كبير من المسؤولين وعامة مثقفي المؤسسات يعتقدون أن علاقاتنا الوثيقة بأفريقيا ناتجة من تأثير الإسلام ونفوذ رجال الأزهر في أكثر من دولة. وكان هناك توسع فعلي في قبول أبناء القطاع المسلم من معظم المجتمعات الأفريقية بحيث بلغ عدد الوافدين للتعليم الديني أكثر من عشرين ألف طالب في منتصف الستينيات. ولم تنجح معظم مكاتب حركات التحرير من بلاد غير إسلامية في إلحاق أعداد مناسبة بالتعليم في مصر. ومع شكوى بعض سفراء الدول المستقلة من عدم قدرة الوافدين من بلادهم على الدراسة بمصر إلا في الأزهر بينما لا يحتاجون هم إلى التعليم الديني، وجه عبد الناصر بفتح معاهد عليا خاصة بغير المصريين وباللغات الأجنبية، بل والتعليم بالإنكليزية والفرنسية بدروس خاصة في كليات الجامعات الحديثة التي يريد الوافدون الأفارقة التعلم فيها.

كانت البيروقراطية بالمثل عقبة أمام اندماج أبناء حركات التحرير في المجتمع المصري نتيجة صعوبات إلحاقهم في مواقع مختلفة رغم رغبة المسؤولين أحياناً في تسهيل الاتصال. ولولا نجاح مكتب الشؤون الأفريقية، في عمله المركزي، لما أتيح لنا في هذا الموقع تيسير وانتشار حركات التحرر الأفريقية في المجتمع على النحو الذي تم، ذلك أن وضع الشؤون الأفريقية كان يجد الدفع المباشر من رئيس الدولة. ولم تتح الظروف أي منافسة سياسية على هذا الموقع خلافاً للتصارع على الشؤون العربية وشؤون السودان بوجه خاص. فقد كان الضباط أركان ثورة يوليو يقتسمونها بشكل أصابها – في اعتقادي – بالضرر الواضح بين أعوام 1960 و1967. وقد كادت الشؤون الأفريقية في لحظات تتعرض لهذا التقسيم. كان هناك مركز نفوذ لرعاية المبعوثين بالتعليم العام والأزهر، وآخر في سكرتارية تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية، وثالث في اتحاد العمال، ورابع في شركة النصر للاستيراد والتصدير، وخامس في المجلس الأعلى الإسلامي، وسادس وسابع، في البرلمان والاتحاد الاشتراكي أو مكاتب نواب الرئيس أو في الصحافة، بما جعل شاب مثلي يدور حول نفسه حين يتعلق الأمر بمسألة تحتاج فيها إلى النفوذ وسط هذه المكاتب جميعاً، وبخاصة أن هيئة الشؤون الأفريقية نفسها في الرئاسة كانت تتعرض لبعض الاختلافات الداخلية بين إداراتها إلى حد الحاجة أحياناً إلى تأشيرات مباشرة من رئيس الدولة.

ربما تكون الصورة السابقة نوعاً من النقد الذاتي لفترة غنية بالحركة، وقد كانت الأهداف دائماً أكبر من الحركة نفسها، لكني بدأت ذلك النقد في علاقته بتكوين الثقافة السياسية بالمجتمع المصري ومؤسساته ذات الصلة بموضوعنا؛ ولكن دعوني أوجه النقد أيضاً إلى قيادات حركات التحرير التي لم تُعنَ جيداً بالتثقيف السياسي بين كوادرها. وأنا أذكر تجربتي خلال ما يقارب عشرين عاماً معهم أستطيع القول إنه نادراً ما وجدت كادراً شاباً يتطلع إلى معرفة جديدة بالمجتمع المصري نفسه، أو أنه يحمل تأثير برامج تثقيف مبكرة تجعله يقدم صورة جيدة عن مجتمعه الثائر على الاستعمار. قليل من خرجت بصداقات قوية معهم نتيجة الحوار الثقافي المعمق إلا مع شخصيات مثل أرشي مافيجي، أو جون كالي أوبيليسو، وإن كانت العلاقة توثقت كثيراً على المستوى الإنساني الشخصي لأن بيتي كان مفتوحاً طول الوقت لضيافة الكثيرين. كما كان لزوجتي وأبنائي أُلفة كبيرة بمعظم قادة التحرير. وأظن أن هذه الملاحظة الخاصة بنقد الثقافة السياسية لدى كوادر حركات التحرير جديرة بالتأمل الدقيق الآن، بعد نكسة كثير من البلدان التي قادتها حركات تحرير معروفة، ومع ذلك بلغ الصراع العرقي والفئوي فيها مبلغاً نتيجة التخلف الفكرى ناهيك بالاجتماعي بما حار فيه المتابعون والأصدقاء المخلصون لحركة التحرر الوطني أمثال دايفيدسون وجيرارشاليان وهذا مجال لدراسة ليس هنا موضعها. وكان أهم أوجهها تقدم العمل العسكري على السياسي في عملية التحرر.

كانت قوة أو ضعف حركة التحرير تبدو في تمثيلها بالقاهرة، بل كانت قوة وضعف هذا التمثيل تكشف لنا عن مدى أهمية المكتب لهذا الحزب أو ذاك. كان «دكتور مومي» يمثل حزبه بنفسه كرئيس لحزب اتحاد شعب الكاميرون UPC، وهو من الشخصيات المعروفة عالمياً في مناهضة السياسة الفرنسية التي اتهمناها باغتياله. وكان «جون كالي» نائب رئيس حزب مؤتمر أوغندا، بل وانتخب روبين كامنجا نائباً لرئيس حزب استقلال زامبيا في مؤتمر الحزب الذي عقد «وكامنجا» في القاهرة، وهو نفسه الذي صار نائباً للرئيس كاوندا بعد الاستقلال. كذلك حدث الأمر نفسه مع «الفريد نزو» الذي انتُخب أمين عام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC، وهو ممثل الحزب في القاهرة حتى أواخر السبعينيات، وأصبح وزيراً لخارجية جنوب أفريقيا في أول وزارة برئاسة مانديلا مع التحول الديمقراطي. أذكر هنا أيضاً حالة باسوتولاند حيث كان رئيس الحزب موخيخلي وممثله شاكيلا يظهران كثيراً في القاهرة. ومع ذلك فوجئنا بحزب مؤتمر باسوتو يكتسح البرلمان في أول انتخابات عامة بها، وأصبح موخيخلي وصحبه مطلوبين لتأليف الوزارة. وهذا ما جعلنا – وأنا بوجه خاص – شديدي الفخر بعلاقاتنا – حتى الشخصية – بهؤلاء القادة.

وكان هؤلاء جميعاً في مكاتب بالرابطة الأفريقية بجوار مكتبي المتواضع؛ بل وإن مكاتبهم نفسها كانت متواضعة أيضاً وإن كانت تعج بالنشاط والحيوية. ولم يكن الحزب الممثل في القاهرة والقوي بهذا الشكل أو ذاك يحصل على مساعدات كبيرة من مصر. (أذكر أن مصر دفعت 25 ألف دولار لكاوندا أو ما يعادل ثمانية آلاف جنيه مصري ليكسب معركته الانتخابية عام 1964 على نطاق واسع). لكن الصورة لم تكن دائماً زاهية بهذا الشكل، فثمة حالات أخرى كانت مثيرة بدورها في اتجاه آخر. لقد كان زعيم مؤتمر سوازيلاند «كيكوي» دائم الوجود في القاهرة وعالي الصوت ضد الاستعمار البريطاني والملكية في بلاده، بحيث كنا نتصوره زعيماً خطيراً؛ وإذ بالانتخابات العامة تجري في بلاده فلا يحصل على مقعد واحد في البرلمان. ولن أنسى يومها أنه عقد مؤتمراً صحافياً ليعلن أنه من القوة بحيث تصدى له بعنف ممثلو الاستعمار الخبيث!

أما مفاجأة جوشوا نكومو في زيمبابوي أمام الرئيس موغابي رغم قوة تمثيل الطرفين، واستبعاد نكومو من المعركة السياسية بأقل تمثيل أمام «زانو»، فما زالت أسبابها غامضة حتى الآن ما لم يفسر الأمر بعلل القبلية وهو الأمر الذي لا أحبه.

لكن الموضوع لا يزال يسمح بالتساؤل عن مفهوم التحرر الوطني في تلك الفترة أو ما سمي الموجة الأولى للاستقلال السياسي، لأني لم أحضر أي جدل حقيقي طوال السنين الخمس عشرة أو العشرين سنة الأولى (1955 – 1975) من تجربتي الشابة حول الغاندية أو الفانونية أو الغيفارية؛ بل لم يتبلور الحديث عن نكرومية أو ناصرية إلا متأخراً أيضاً. وأعني بالجدل هنا، الجدل الفكري والمنهجي والعملي في مضمون هذه التيارات. كنت مع مجمل كوادر حركات التحرير نناقش العمل اليومي أو مدى التقدم العسكري فقط لحركة التمرد التحرري في هذه المستعمرة أو تلك، أو نناقش توجهات الزعماء المباشرة وصعوبات التعاون فيما بينهم، أو نستحضر سيرة «فانون» أو «غيفارا» «كأبطال وطنيين» بدورهم لا كمفكرين اجتماعيين نجادل أفكارهم. أما جناية الصراع الصيني – السوفياتي على معارك التحرر الوطني، الفكرية أو الحركية فحدِّث عنها ولا حرج. وسنأتي إليها حالاً.

ما أريد استخلاصه في هذا الجزء هو أن التحرر السياسي بالعمل العسكري أو وسائل العنف المضاد التقليدية والحرص على قيادته العملية إلى حد التقاتل في الميدان أو خارجه بين الوطنيين كان هو السمة البارزة، ورغم وجود بعض ملامح التفكير الاجتماعي عند بعض القادة أو طرح أفكارهم لهذا الغرض كما في حالة جنوب أفريقيا بسبب الخلاف بين الوطني والطبقي أو الماركسي، وكذا أفكار أميلكار كابرال وغيره القليل فإن جدل الفكر الاجتماعي أو التحولات الاجتماعية الضرورية لما بعد الاستقلال أو الكفاح المسلح كان محدوداً، ذلك أن الذي لا يُبنى في فترة الكفاح المسلح لا أتصور بناءه مع استرخاء الاستقلال. وأذكر عند مقابلتي للراحل «نكروما» في مهجعه في كوناكري في 20/12/1970 أنه تحدث معي كثيراً عن مراجعته لهذا الموقف، وأنه لذلك، ألف كتابه عن الصراع الطبقي في أفريقيا، وأهداه لي لتعميق تفكيري معه عن الطبقات والمثقفين في الواقع الأفريقي؛ بل إنه كتب أيضاً عن حرب العصابات في أفريقيا ومتطلباته الاجتماعية.

ثالثاً: التأطير

يمثل عام 1960 بالنسبة إلى التحرير الوطني الأفريقي نقلة جوهرية، بل تكاد تكون جذرية، وبخاصة بعد أن صدر في آخره إعلان الأمم المتحدة عن تصفية الاستعمار. ولم يكن ذلك فقط بل في توجهات عملية التحرير نفسها بقدر ما تتعلق بدرجة الوضوح عند أطراف مختلفة بين معنى الاستقلال ومعنى التحرر الوطني في موجته الأولى. ففي عام 1960 كانت الثورة الجزائرية تشق طريق التقدم لإثبات مسألة بدت مثيرة، وهي أن الجزائر جزائرية! كانت الإدارة الاستعمارية الفرنسية تنفي ذلك بقوة وتعبئ لذلك الأصوات في الأمم المتحدة كل عام. لكن مع بداية 1960 أصبح الموقف مختلفاً. كانت ثورة الجزائر قد أعلنت بقوة عن «حكومة» مؤقتة، وممثلة في مصر بشكل قوي ويتعامل معها جمال عبد الناصر كدولة مستقلة. وكان على الدول الأفريقية المستقلة أن تحدد موقفها من هذه المسألة التي سبقت في الدبلوماسية المصرية وقتها – في تقديري – مسألة فلسطين، وكان واضحاً أن ذلك بسبب الموقف من فرنسا التي هاجمت مصر عسكرياً في حرب السويس 1956. وبدا أن عبد الناصر قد نجح في تعبئة جناح الوطنيين الأفارقة إلى جانب الجزائر كقضية أفريقية عربية. وكان الجيش الفرنسي يخوض واحدة من أقوى معاركه بعد هزيمته في الهند الصينية، بينما الرأي العام العالمي يتطور بسرعة في اتجاه النظر إلى الجزائر كإقليم له حق الاستقلال، وليس إقليماً فرنسياً. وكانت فرنسا ملوثة من قبل ذلك بعنف تعاملها مع غينيا والزعيم سيكوتوري حول رفضها للدستور الفرنسي 1958 وإعلانها خيار الاستقلال وكأنه من جانب واحد. وهذا ما رفع نغمة التحرر الوطني التقدمي عالية لأن «توري» كان زعيماً عمالياً بالأساس. أذكر أن مقالات الكاتب «أحمد بهاء الدين» بعد عودته من احتفالات استقلال غينيا كانت ذات تأثير هائل في جيلنا، وجعلت المسائل «الأفريقية» تتسلل إلى عقل المواطن المصري الذي لم تشحنه «حوارات» أفريقية منذ «الماو ماو» الكينية بشكلها البدائي الذي عرضت به. فوجئت القيادة السياسية لدول التحرر الوطني بإعطاء فرنسا «الاستقلال» في صيف 1960 لأكثر من عشرة أقاليم أفريقية، بحيث بلغ عدد من حصلوا على هذه الصيغة من أنحاء القارة ما يقرب من عشرين إقليماً، هيأتهم فرنسا وبريطانيا للتصويت في كل المواقع ولبعض الوقت إلى جانب الموقف الفرنسي باعتبار الجزائر فرنسية.

بدت دول التحرر الوطني محاصرة في غانا وغينيا ومالي، من جنوب الصحراء ومصر والمغرب من الشمال مضافاً إليهم حكومة الجزائر المؤقتة كدولة مستقلة. وفي هذا الإطار واجهت دول التحرر «أزمة الكونغو» بدءاً من الاعتراف بتمثيل الأطراف في الأمم المتحدة «لومومبا» أو «كازافوبو وتشومبي». أذكر أن تظاهرات الطلاب والعمال في مصر سارت وسط المدينة إلى السفارة البلجيكية وأشعلت فيها النيران، وأن اسم تشومبي كان لعنة سلبية على لسان العامة، وأن لومومبا قد استقطب من مصر بقدر ما استقطبه «بن بللا» ورفاقه عندما اختطفتهم فرنسا.

أما الذي يعنينا هنا هو معايشتي وآخرين مصاعب عملية التحرير، وأنها ليست خطاباً حول الاستعمار والصهيونية مثل الخطابات التقليدية في الوطن العربي؛ وإنما هي مسؤولية عُبئت لها القوات المسلحة في لحظة التوتر في الكونغو، كما تعرض الدبلوماسيون المصريون للمخاطر، وبخاصة مع هروب أحدهم مع زوجة وأبناء «لومومبا» من ليوبولدفيل لإنقاذهم من يد موبوتو وتشومبي اللذين قتلا الوالد من دون أي مبالاة بما يسمى «الرأي العام الدولي». كان مجيء عائلة لومومبا مع المرحوم محمد عبد العزيز إسحق رئيس الرابطة الأفريقية بالزمالك ورعاية مكتب الرئيس المباشرة لهم، ومعايشتي لهم فترة من خلال عملية ترتيب إقامة آمنة لهم من جانب أمن رئاسة الجمهورية؛ فضـلاً عن تعليمهم الذي تم في القاهرة، كان كل ذلك حاضراً في الذهن المصري استعداداً لأي تضحية في مجال العمل الأفريقي. ولذا كان عبد الناصر كثير الاستشهاد في خطبه بالمثال الكونغولي لتصوير تعنُّت المستعمرين في أنحاء مختلفة من العالم «ودور مصر» الذي تلتزم به «أمام العالم كله». وبالمثل كانت الحكايات الشعبية عن سجن تشومبي في القصر الجمهورى بمصر مع انعقاد القمة الأفريقية عام 1964. من هنا كانت قوة مجموعة «الدار البيضاء» التي بدأت بالانحياز لتثبيت «لومومبا» في ذهن الجماهير الأفريقية. وقد يدهش القارئ أنني طوال العام الأخير (2009 – 2010) وأنا أسمع عن السباق المحموم «حول كأس» أفريقيا أو «المونديال» كمعارك شعبية مصيرية! لا أستطيع إلا أن أقارن ذلك بأجواء الستينيات وبخاصة في شطرها الأول، والمشاعر الثائرة من أجل «لومومبا» وبن بللا ومانديلا. وأترك البحث هنا لأهله.

ربما كان وقع الحدث اللومومبي في الذهن المصري دفاعاً عن الثروة القومية لبلاده مثل وقع استشهاد المصريين في معركة السويس دفاعاً عن «القناة»، لأني لاحظت مثل هذا التشابه في بعض الأدبيات حول الحدثين، والتقييم الاقتصادي دائماً لقيمة القناة للغربيين ومعادن الكونغو للقوى الاستعمارية، من هنا جاءت صور لومومبا قتيـلاً، وصورة أسرته المغادرة لوطنها لجوءاً في مصر، موضوع حكي شعبي دائم لم تحدثه أقوى الخطب السياسية للزعماء.

بلور الحدث الكونغولي موقف الدول الأفريقية حديثة الاستقلال، بين اختيار التحرر الوطني الذي مثلته كتلة الدار البيضاء، أو موقف مجموعة منروفيا التي جمعت الدول التي حصلت على الاستقلال الصوري. وقد أخذت مجموعة الدار البيضاء اسمها من الاجتماع الحاسم في ضيافة الملك محمد الخامس بالمغرب أول كانون الثاني/يناير 1961 وقرار حماية لومومبا ولو بإرسال قوات عسكرية خاصة، هذا بينما كان عدد كبير من الدول الأخرى – ومعظمها فرنكفونية بالطبع تحت اسم الأوكام، لكن بقيادة دولة قديمة في الاستقلال ومحافظة هي ليبريا، فسميت مجموعة منروفيا. كان لمجموعة الدار البيضاء دلالة قوية لجيلنا، فهي أولاً تضم الشمال الأفريقي العربي، مع مجموعة متنوعة من جنوب الصحراء بين الفرنكفونية والأنغلوفونية، وهي ثانياً تضم ملك المغرب المعروف بوطنيته إلى جانب ثوريين مثل جمال عبد الناصر وبن بللا. وكانت مملكة ليبيا تحضر أحياناً مع الدار البيضاء والصومال يحضر أحياناً أخرى في منروفيا. وهي ثالثاً تحسم خيار التحرر ولو بالقوة، أي أنها تمثل العنف الثوري الذي تحدث عنه فانون، ويتجاوز فيها الرئيس نكروما نظريته السابقة عن المقاومة الإيجابية السلمية (Positive Action) أو اللاعنف. وكان من حضروا اجتماع مؤتمر الشعوب الأفريقية الأول 1958 قد حكوا لنا كيف ثار فرانز فانون في وجه المسؤولين الغانيين حينما وجد لافتات الترحيب والإعلام متضمنة فقرات من أحاديث نكروما عن اللاعنف، وصمم فانون على رفع هذه اللافتات من مقر المؤتمر.

كنا في القاهرة نقرأ الترجمة العربية عن معذبو الأرض لفرانز فانون، ونشتعل بفلسفة العنف الثوري، وكانت أنباء الثورة على السفينة البرتغالية من جانب المسجونين السياسيين الأنغوليين تأخذ خيالنا مثلما فعلت فرنسا في اختطاف الزعماء الخمسة الجزائريين، كما كان قرب الإفراج عن جوموكنياتا زعيم «الماو ماو» مثيراً أيضاً.

وقد أتيح لي أن أكون عضو الوفد المصري بمناسبة استقلال «تنجانيقا» (Uhuru Day) في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 1961 (وقد حضرت عقب ذلك احتفالات استقلال كينيا وزنجبار في كانون الثاني/يناير 1963). وفي مثل هذه المناسبات يتساءل شاب مثلي عن دلالة هذا الاستقلال لبلد بالنسبة إلى شعوب القارة، أو عن الدور المنتظر لهذه القيادة أو تلك. ولم يكن ما نقرأه عن فلسفة الرئيس جوليوس نيريري حتى ذلك الوقت مطمئناً. كان مشغولاً فقط باتحاد شرق أفريقيا، بينما يطالب الرئيس نكروما بالولايات الأفريقية المتحدة. وبدت تنجانيقا قلقة من تعبئة نكروما لحركات التحرير وأغلبها محيط بدار السلام. كما كان الرئيس نيريري قلقاً في الوقت نفسه من نفوذ عبد الناصر لدى الزنجباريين ومعظم مدن الساحل الشرقي ذات الصلة القديمة بالعرب، ومن ثم لم نكن في القاهرة نرتاح لزعامة بهذه التوجهات حتى تمت تغييرات تنزانيا المعروفة بدءاً من إعلان أروشا 1966.

كنت أشعر بحرج ممثلي حركات التحرير الأفريقية من الحديث عن تنجانيقا. وكنت أعرف شخصياً عبد الرحمن بابو كوجهٍ تقدمي من زنجبار، كما كنت أعرف علي محسن المتهم بالعروبية في زنجبار. وكان «بابو» دائم الحديث عن ضرورة التغيير في كل المنطقة. لم تكن مصادفة أن قاد انقساماً في الحزب الوطني بزنجبار ومعه سالم أحمد سالم بما كان تمهيداً للثورة الدامية في هذه الجزيرة الصغيرة ذات التأثير الكبير في المنطقة. ولا أنكر أنني كنت لفترة مأخوذاً – نتيجة حضوري احتفالات الاستقلال – بلحظة في منتصف الليل ينزل فيها العلم البريطاني ويرفع علم تنجانيقا أو زنجبار أو كينيا، كانت لحظة انبهار بالاستقلال مهما كانت حدوده، وأن الاستقلال السياسي لا بد أنه خطوة تسبق التحولات الاجتماعية الضرورية، لكن الأمور لم تمضِ على هذا النحو دائماً. فلم أسعد بدموية أحداث زنجبار وأنا أعرف أهالي 45 طالباً كنت أشرف عليهم من قبل «في بيت شرق أفريقيا»، ولم أشعر بتوجه ثوري في فلسفة نيريري حتى عن «الأوجاماعا» (الجماعية الأفريقية). ولأنه لم يكن يشجع دعوة نكروما للوحدة مكتفياً بضرورة اتحاد شرق أفريقيا بنفوذ تنزاني فقط! أما الأسى فكان على تطورات فكر كنياتا بعد خروجه من السجن! وأذكر أني قابلت «عبد الرحمن بابو» في مقهى في دار السلام، وأظن أن ذلك كان شتاء عام 1964؛ كان يجلس وحده، يبدو مهموماً، وجدته مبعداً من النظام الجديد في زنجبار، ولا أمل كبير عنده في دار السلام، لذا اختار منفاه الاختياري بعد ذلك في إنكلترا، تحررياً أممياً يكتب عن الاشتراكية في أفريقيا. لم يكن وحده المهموم؛ بل لقد شعر رؤساء مجموعة الدار البيضاء بالهزيمة في الكونغو، بعد استيلاء تشومبي وموبوتو وكازافوبو على السلطة، ولجوء جيزنغا ومجموعته أمثال موليلي وكانزا إلى أقاليم شرق الكونغو، واتجه الرئيس نكروما راضياً بسياسة التوافق إلى حشد دول المجموعتين تحت لواء الوحدة الأفريقية. ولم تمضِ الفكرة بسهولة وسط حشد المحافظين والمعتدلين المتخوفين من نفوذ نكروما أو عبد الناصر، فاستقر الرأي على حل وسط بالاجتماع في أديس أبابا. كان ذلك مفيداً لحركات التحرر الأفريقية للحصول على مواقف أفريقية جماعية في التصويت أو أشكال الدعم والتأييد.

وشعرت أيضاً أن عبد الناصر يؤيد الاتجاه نحو حل وسط في أديس أبابا… وقبل نكروما ذلك على مضض، وتمت ترضيته باسم «منظمة الوحدة الأفريقية» «OAU»، رغم أنها تعني «منظمة» من أجل العمل للوحدة الأفريقية. ومر الاجتماع بسلام معتبراً يوم 25 أيار/مايو 1963 عيداً للوحدة، موجهاً الهموم كلها ضد الاستعمار. راضين جميعاً بالوجه السياسي للمنظمة دون إثارة للأبعاد الاجتماعية.

كان همنا في مصر كيف سنضع مسألة إسرائيل ودورها مع الاستعمار في أفريقيا، بينما الدعاية الإسرائيلية قوية، وسندها الفرنسي والبريطاني قوي أيضاً في القارة وسط مجموعة من «الدول الرجعية» حسب مصطلحات ذلك العصر. وكانت تؤلمنا العلاقة القائمة بين غانا وإسرائيل ولا نود أن يقترن اسم مثل «نكروما» بالنشاط الإسرائيلي، وكان الإسرائيليون يتعمدون إظهار علاقاتهم ونشاطهم في بلاد ذات وزن مثل غانا وإثيوبيا وتنزانيا… إلخ.

كانت إسرائيل تعاني حتى ذلك الوقت من قرارات مؤتمرات الشعوب الأفريقية – الآسيوية، وحتى مجموعة الدار البيضاء – بأنها أحد أوجه «الاستعمار الجديد» بينما تضع نفسها بين الدول النامية، كما كان بعض المتحذلقين يعمِّق الخلاف بالتفرقة بين «Neo or New colonialism».

لكل ذلك اتبع عبد الناصر أسلوباً خاصاً، وهو ما جاء في خطابه بأديس أبابا في إشارة مقتضبة إلى أنه لن يطلب تحديد موقف في الاجتماع من إسرائيل، ولكنه سيدعو الزعماء الأفارقة لمعرفة حقيقتها بأنفسهم كجزء من مخططات الاستعمار التي تقف ضده. ونجح عبد الناصر في كسب تقدير «الرؤساء» القادمين لمعركة أخرى حول إقامة منظمة للوحدة الأفريقية. وتمت صياغة بيانات المنظمة في إطار الاعتدال وليس التطرف، وبموازنة دقيقة بين نكروما ونيريري، وساحل العاج بأنماطهم الثلاثة، بما جعل عبد الناصر وهيلاسيلاسي في وضع الإخوة الكبار. حضر الكثيرون بعدها إلى القاهرة وطلبوا دعمها، وبخاصة أنهم اختاروا القاهرة لتكون العاصمة التالية لاجتماع وُصف بأنه القمة الأولى لمنظمة الوحدة الأفريقية في أيار/مايو 1964. وتأكيداً لدور المنظمة في مواجهة الاستعمار شكلت القمة «لجنة التنسيق لتحرير المستعمرات» ومقرها في دار السلام أقرب نقطة للمناطق المستعمرة والاستعمار الاستيطاني. وأصبحت القاهرة إذاً في موقع وسط بين غانا وتنزانيا وزعمائهما، بل وسطاً أيضاً بين السنغال وساحل العاج كعواصم كبرى – ومتنافسة – في التعبير عن الاتجاه الخاص «بالأوكام» المنظمة المحلية للفرنكوفونية، وكان الميل في منظمة الوحدة الأفريقية لحل هذه التنظيمات الإقليمية أو النوعية، فتوقف أصحاب الدار البيضاء ولكن لم يتوقف أصحاب منروفيا، وبخاصة من كانوا في إطار الأوكام حتى بعد ضعف إطار منروفيا نفسه.

كانت هذه الأيام أمجد أيام النشاط «الأفريقي» في القاهرة، وأصبحت مكاتب حركات التحرير الأفريقية بالزمالك في قلب الإعلام المصري. وأصبحنا في القاهرة نتحدث عن الكفاح المسلح. «على المكشوف» لا نخشى من اتهام بالتدخل هنا أو هنالك، ولا سيَّما أن القاهرة قد مرت بنجاح من حرج منع تشومبي من حضور مؤتمر القمة فيها، بل واحتجزناه في أحد قصور الرئاسة هو وكوكبة من الحسناوات البلجيكيات، وهذا ما جعله عرضة لتندُّر شعبي أعطى تغطية إعلامية أكبر للحدث الأفريقي، وأحرج المجموعة الفرنكوفونية التي رتبت لحضوره بهذا الشكل المحرج للقاهرة.

بدت حركات التحرر وخاصة الجديدة من المستعمرات البرتغالية ساعية إلى القاهرة على نطاق واسع، وكنت أرقب بفخر سعادة الزعماء الثوريين بعد مقابلاتهم لعبد الناصر. وقد أدار محمد فايق وجوقة العاملين في الرئاسة «الشؤون الأفريقية» في هذه الفترة باقتدار ظل يذكر لنا، حيث كانت التعليمات هي تيسير المقابلات والنشاط للجميع، وترك تقييمات قوتهم «للجنة تحرير المستعمرات» كما كنا نسميها. وأدى ذلك أن أصبح في القاهرة أكثر من عشرين مكتباً بسبب إمكانات تعدد المنظمات من بلد واحد، وهنا كان مأزقي الشخصي، إذ كان عليّ التنسيق بدوري بين هذه المنظمات في مطالبهم من القاهرة وتقديم صورة يستطيع مكتب السيد محمد فايق وأجهزة الرئاسة المختلفة التعامل معها بوضوح في شأن المساعدات المقدمة، وتيسير تحرك هذه المنظمات في القاهرة حيث التمثيل الدبلوماسى الواسع لدول العالم، والبرامج الإذاعية الموجهة، وإمكانات التدريب العسكري، أو المنح الدراسية في مختلف مراحل التعليم. كنت شخصياً في حالة تردد بين سعادتي بتقديم القاهرة للمساعدة والتمثيل لكل من يطلبها وبين ضرورة حسم الموقف لصالح الأجدر؛ لكن تعدد وسائل النضال كانت بدورها إغراء بتأييد الجميع. ويبدو أن القاهرة كانت سعيدة بوسطيتها لأسباب أخرى كانت تتضح لي تدريجياً، وبخاصة أنها كانت من العواصم القليلة التي تقبل بالرضا أكثر من منظمة من البلد الواحد.

صار هناك تمثيل لثلاث منظمات أحياناً من بلد واحد مثل جنوب أفريقيا وأنغولا، وتمثيل لمنظمات هي انشقاق من المنظمة الأصل، مثل زانو وزابو وسوابو وسوانو، بل ولمنظمات غير ذات وزن بالمرة مثل كوريمو في موزمبيق، أو «فلنج» في غينيا بيساو. لذلك وجدت عدداً من المنظمات تجتمع وحدها تحت شعار الأصليين (Authenitic) وتضم Zapu - Paigc - Swapo - Frelimo - MPLA - ANC بينما لا يستطيع الآخرون الاجتماع أو تصنيف أنفسهم إلا أننا نصنفهم كموالين للصين! كانت «الحرب الباردة» في الرابطة الأفريقية مباشرة أكثر منها في العاصمة الكبيرة، حيث تتنافس الدول الاشتراكية على كسب هذا وإغراء ذاك، وعبرت معسكرات حركات التحرير عن الصراع الصيني – السوفياتي بوجه أقوى منه بين السفارات المعنية.

أذكر كيف كانت مثل هذه الحرب الباردة ساخنة تماماً عند انعقاد أحد مؤتمرات التضامن الأفريقي الآسيوي. كان للسوفيات الباع الطولى في هذه المؤتمرات حيث يوفرون تذاكر السفر ونفقات الإقامة للجميع، وغالباً ما تكون الاجتماعات في عاصمة موالية، فيظهر انحياز مثير لهم. كان الموالون لموسكو يبدون في موقع القوة «والأصالة» بينما يعاني الآخرون.

وكان موقفي دقيقاً ومحرجاً. كنت من قراء فرانز فانون وماوتسي تونغ، والأكثر مع مقال لين بياو الشهير عن المركز والأطراف حيث يرفض الريف نفوذ المدينة، والريف هنا بقيادة الصين لدول ما يسمى العالم الثالث، والمدينة تضم البرجوازية الغربية والاشتراكيين الإمبرياليين الذين يمضون على نمطها!

وأي «فانونيست» لا بد أن تستهويه هذه الصياغة الحصينة. لكن المجموعة «الصينية» نفسها في القاهرة لم تكن تمثل لي قيمة فكرية كما لم يكن نضالها في الميدان ذا قيمة، بينما النقاش دائماً أعمق مع قادة وممثلي «المجموعة الأصيلة» ذات الفكر الواضح والدبلوماسية النشطة. وبخاصة أن أخبار «الثورة الثقافية» الصينية والكتاب الأحمر كانت تثير السخرية في القاهرة أحياناً كثيرة، إذ إن الحركة اليسارية في مصر لم توجه اهتماماً مبكراً بثورة الصين الآسيوية. وقد وضعني ذلك في حرج شديد. كان الحكم الناصري ومعظم المثقفين في مصر يقبل الصيغة السوفياتية عن «التطور اللارأسمالي»، و«الثوريون الديمقراطيون» – و«البلدان الآخذة في التحرر».. إلى آخر هذه الصيغ الوسطية المرضية لمعظم قادة العالم الثالث ومثقفيه، ولكنها ليست مرضية لأى تيارات أكثر راديكالية بين الشباب، والتي وصلت بهم لأحداث 1968.

لم يكن الصراع الصيني – السوفياتي هو محور القلق الوحيد في القاهرة طوال الستينيات، بل إن «المجموعة الماوية» سرعان ما انعزلت من دون قدرة على التنظيم الخاص فبدوا كأنهم مجرد مشاغبين في الاجتماعات العامة لتعرية منافسيهم من «الأصلاء» بينما لا يحملون دلائل التقدم في مناطق «كفاحهم». وفي الوقت نفسه اشتد نفوذ الأصلاء بسبب تقدمهم النضالي في أنغولا وغينيا وموزمبيق. من هنا اشتدت مقاومتهم لهؤلاء الماويين «المزعومين». وأذكر أن الرئيس «نيتو» كان لا يقبل أي دعوة لي لحضوره داخل مبنى «الرابطة الأفريقية» بسبب وجود مكتب «غراي» و«يونيتا» فيه، بينما اختار هو مكتبه ومسكن ممثليه خارج مبنى الرابطة. استعدت بعمق معنى ذلك حين رفض نيتو الذهاب إلى لشبونه لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار استعداداً للاستقلال، وصمم على أن يأتي البرتغاليون إلى أنغولا وفي منطقة انطلاق الكفاح المسلح للتوقيع. أما الرئيس سام نيوما فكان أكثر تسامحاً لأنه كان مسنوداً بقرار الأمم المتحدة لصالح «سوابو» وكان معهد ناميبيا في لوساكا يمثل دعماً خاصاً له بحيث تمت تصفية «سوانو» المنافس في أسرع وقت حيث كانت سمعة قادته لا تساعد على استمراره.

بدا لي أحياناً أن ثمة تنافساً بين منهجنا في القاهرة وسلوك الجزائر مع حركات التحرر. كنا في القاهرة أكثر اعتماداً على السياسة العامة للتحرر، وتوفير خدمات الاتصال الدبلوماسي والتواصل الإعلامي مع الخارج بالنسبة إلى حركات التحرير، بينما راحت الجزائر تعتمد على التدريب العسكري، وتوصيل السلاح إلى لجنة تحرير المستعمرات.

وقد سألت متأخراً الرئيس أحمد بن بللا في باماكو 2003 عمّا كان بينه وبين عبد الناصر من اتفاقات حول مساندة حركات التحرير الأفريقية، وهل صحيح أنه كان ثمة «اتفاق جنتلمان بين الزعيمين»؟ أكد بن بللا أن عبد الناصر كان يسلم للجزائر بدور خاص في ما يشبه ما وصفته من اختلاف بين التجربتين على نحو ما.

كنت أشعر أن إقامة منظمة الوحدة الأفريقية، قد حجبت أو حاصرت أنشطة التحرر الوطني لصالح البيروقراطيات الحاكمة، وبعضها مستبد صارخ، بدا هذا الأمر بالنسبة إلى قضايا عديدة مثل السكوت على سلوك إثيوبيا تجاه إريتريا، أو في مناطق النزاع مع الصومال أو جزر الكومور والسلوك الفرنسي تجاه دول الفرنكوفون. ورغم تحفظنا السابق عن السياسات الفرنسية أول الستينيات إلا أننا بتنا نحافظ على مشاعر فرنسا الديغولية وأصدقائها إلى حد الصداقة مع سنغور وتجاهل منافسة التقدمي المعجب بالحضارة المصرية، شيخ انتا ديوب. لم أرتح لاستقبال مصر الدافئ لسنغور سنة 1966 بينما أقرأ عن كتب «ديوب» عن مصر وقد اعتذرت له بنفسي عندما قابلته في معمله بجامعة داكار أوائل الثمانينيات، فابتسم لأحزاننا المشتركة في تلك الفترة! ولم أتسامح مع سنغور إلا بعد تسمية جامعة داكار باسم شيخ أنتا ديوب! كما كانت زامبيا تتراوح دائماً بين دور دولة المواجهة، وبين الرضا بدرجة ما بسياسة الوفاق مع النظم العنصرية في الجنوب الأفريقي. وكانت القاهرة ودودة مع كاوندا دائماً مقدرةً وطنيته ومأزقه في حصاره بالمنطقة وتشبيهه بمأزقها مع إسرائيل. ولذا كنا نقابل الرئيس كاوندا في مصر بترحاب أعلى من سمعته «الوفاقية»، وكانت الناصرية هادئة تجاه مثل هذه المواقف بينما كانت أكرا ملحّة على إثارة هذه القضايا، رغم استبعاد نفوذها في منظمة الوحدة حيث المقر في أحضان الإمبراطور هيلا سلاسي، ولجنة التحرير في أحضان جوليوس نيريري. وكانت حركات التحرر الأفريقية تشعر باعتدال القاهرة ذاك، لذا راحت تعمّق علاقتها المباشرة بالسوفيات ودول الشمال الأوروبي الاسكندنافية. وساعد على سيادة الاعتدال مجموعة الانقلابات العسكرية التي وقعت تباعاً في الكونغو ثم غانا وبلاد الفرنكوفون المتعددة.

كادت النظم الوطنية تترهل بسبب هذه الموجة من انتكاسات الستينيات، لكن الكفاح المسلح في المستعمرات البرتغالية كان يتقدم بفضل صلابة زعماء أمثال كابرال ونيتو وموندلاني وقد عمقوا صلاتهم بدول العون الخارجي.

أذكر حديثاً لي مع الراحل العظيم كابرال في أكرا قبل اغتياله بأسبوعين (كانون الثاني/يناير 1973) وأسرَّ لي ساعتها أنهم بصدد الحصول على مدافع مضادة للطائرات من السوفيات، وأن في ذلك رسالة لقوى الأطلسي أن الحرب ستصعب عليهم في بيساو مثلما كانت في فيتنام مع تساقط الطائرات تحديداً. وقد تذكرت هذا الحديث جيداً عندما قرر الأطلسي – على ما يبدو – التخلص من النظام البرتغالي عقب ذلك مباشرة ليأتي سبنيولا زعيم الانقلاب ببُشرى التفاوض مع قيادات «الأقاليم البرتغالية» في منتصف السبعينيات.

أما الرئيس سام نيوما، فقد تشدد بدوره مع مؤسسات الأمم المتحدة ورغب في تكثيف التعاون مع أنغولا بعد استقلالها لتمرير السلاح الوفير لديه وخصوصاً أن القوات الكوبية كانت درعاً قويةً لقوى الكفاح المسلح في المنطقة كلها. وأذكر هنا أن الرئيس نيوما حدثني بألم عن مشكلة وجود «يونيتا» قرب حدود ناميبيا ومع مشكلة شريط كابريفي بين دول المنطقة وهو ما خشيت معه على علاقات قوى التحرر الوطني في هذه الفترة الحرجة في مواجهة النظام العنصري بالمنطقة. ولكن مقابلتي للرئيس نيتو خلال احتفالات ذكرى الاستقلال عام 1976، وكانت تربطني به علاقة مودّة أثناء زياراته للقاهرة فلم اتحرّج من عرض قلقي عليه وهو رئيس الدولة الجديدة وقد جعلتني ردوده أفهم الكثير من عناصر سياسة التفرقة في الجنوب الأفريقي ومناورات النظم الاستيطانية العنصرية في المنطقة، في الوقت الذي تشعر حركات التحرير أنها وحدها في الميدان مع تراضي معظم الدول الأفريقية مع العنصريين لولا دعم بعض البلدان الاشتراكية، ومع ذلك لاحظت أثر تراخيها أحياناً قبيل الاستقلال مع «نيتو»، لذا اتجه إلى التلويح للسوفيات بالتقارب مع الصين، فراحوا يكثفون المساعدات له.

كانت سنيّ السبعينيات قاسية على عملي الشخصي، وعلى شعوري بانسحاب مصر السادات من دورها التحريرى السابق، بل واتجاه السادات للتعامل الواسع مع الأمريكيين ضد ما أسماه نفوذ الشيوعية في أفريقيا، ملمّحاً دائماً إلى الحضور الكوبي وخطره في بعض البلدان مثل إثيوبيا وأنغولا وموزمبيق.

أصبحت القوى التقدمية في مصر ومعظم بلدان التحرر الوطني في مأزق. واستحضرت دائماً أجواء الستينيات التي لم تكن تلقى كل قبولنا على أنها معتدلة أو وسطية! كانت حركات التحرير في عواصم التحرر ذات سند من قوى شعبية في هذه البلدان، وكسرتها موجة الانقلابات العسكرية. كانت القاعدة الشعبية تضم اتحادات العمال في مصر والمغرب وغانا وتنزانيا والسودان وكينيا، وكان التنافس يعطل العمل أحياناً بين أحمد فهيم في مصر والصديقي في المغرب وتتيجا في أكرا وكمبونا ورفاقه في دار السلام والشفيع في السودان؛ وذلك في مواجهة معتدلين مثل توم مبويا كينيا وعاشور (تونس) وغيرهما، كان هؤلاء يتوسطون لحركات التحرير في مطالبهم لدى «الزعيم»، ودخلت أحياناً على الخط قيادات طلابية مثل معسكر جامعة دار السلام، أو عناصر ثورة أكتوبر من المثقفين في السودان، لكني في النهاية لا بد أن أعترف وفق تجربتي أن الأمور كانت تظل دائماً في يد الزعيم، وبحدوث الانكسار في وضع هؤلاء نتيجة الانقلابات وتغيرات السبعينيات المتلاحقة، سقط علم كثير من قوى الأمان. ربما يصور الفرق في سلوك القيادات والقوى الوطنية، وقائع مثل مواجهة النظام الاستيطاني في روديسيا عام 1965، والموقف من الحوار مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا أواخر السبعينيات.

في تجربة روديسيا أذكر أني تلقيت مثل غيري أنباء إعلان إيان سميث للاستقلال من جانب واحد UDI للنظام الاستيطاني في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1965، وكانت تلك فترة ازدهار موجة التحرر والتحول الاشتراكي في مصر، ومثلها في غانا ببناء سد الفولتا، وقريب منها في تنزانيا بنجاح عمل لجنة تحرير المستعمرات فوق أرض تنزانيا… إلخ؛ لذا بدا إعلان روديسيا تحدياً خطيراً لإرادة التحرير. أذكر أنني كباحث في موقع مهم كالذي كنت فيه استقبلت التعليمات بجمع كل العناصر المؤثرة في الموضوع، وكانت مسؤولية بريطانيا هي الأساس وراء هذا العمل أو إمكاناتها في الحد من تأثيره في السياسة الأفريقية. ولم ينقضِ اليوم حتى شعرت أن كل المصادر من وزارة الخارجية إلى مكتب الرئيس يبدون نفس الاهتمام والقلق. ولا أنكر أنه كان هناك شعور بأن انتصار النظام الاستيطاني في ذلك الوقت يُعد إضافة للنظام الإسرائيلي الاستيطاني في فلسطين، بينما كان النضال الفلسطيني يتصاعد وتحديات الدول العربية التحررية تتصاعد أيضاً (مصر/وسورية/الجزائر) وشعرت أن مثل هذا الشعور سوف يدفع رد فعل قوياً ومناسباً لم أقدِّر كنهه إلا حين خرج السيد محمد فايق بمذكرة موجهة إلى الخارجية وبتأشيرة من الرئيس عبد الناصر بأن يتم البحث مع غانا والجزائر ودول الدار البيضاء وآخرين حول إمكان قطع العلاقات السياسية مع بريطانيا بحكم مسؤوليتها عن مستعمرتها «روديسيا» ولا يترك نظام إيان سميث يحقق شرعيته بهذه الطريقة. وأذكر أن الاتفاق تم بالفعل ولم يمضِ أسبوعان إلا وبريطانيا تواجه حركة قطع العلاقات بها مع إحدى عشرة دولة أفريقية. كان هذا الخبر عيداً في الرابطة الأفريقية مقر مكاتب حركات التحرير، كما كان الخبر لافتاً للمراقبين للسياسة المصرية، حيث كانت بريطانيا تشن في هذه الفترة أقسى الضربات على الوطنيين في عدن وتواجه القوات المصرية التي تدعم الثورة اليمنية في الوقت نفسه. مع ذلك لم تقطع مصر العلاقة مع بريطانيا. لكن ها هي تشعر بخطر استقرار النظام العنصري في روديسيا بدعم بريطانيا مثلما فعلت قبـلاً بإقامة إسرائيل في مستعمرتها بفلسطين. للأسف إني شعرت بثقل المقارنة، عندما وقع العدوان الإسرائيلي على مصر في حزيران/يونيو 1967 فقطعت غينيا فقط علاقتها بإسرائيل، كما أن موقف المندوبين الأفارقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة للخروج بقرار قوي حول انسحاب إسرائيل من الأراضي المصرية والعربية، لم يكن مشرفاً بالقدر الكافي، وإن قيل الكثير عن الضغط الأمريكي والغربي عموماً وقتها؛ إلا أن ضعف النظم الحاكمة تجاه قضايا التحرر بعد انقلابات 1965 – 1966 كان واضحاً أنه السبب الرئيسي. وكنا في دوائر الشؤون الأفريقية نشعر بالخزي بدرجة أو بأخرى، وكأننا في مأساة تصفية التحرر الوطني، بعد فشلنا في تصفية قوى الاستعمار.

أذكر أن نكسة أو هزيمة مصر 1967 بعد الحرب العربية – الإسرائيلية، جاءت وكأنها قمة النكسة الأفريقية عقب الانقلابات التي مثلت ضربات لنظم التحرر الوطني في غانا ومالي وأوغندا والكونغو ناهيك بمنطقة الفرنكوفون عموماً… إلخ. وكنا نشعر بالحسرة فعـلاً أمام تراجعات النظم العسكرية الجديدة عن سياسات التحرر، وخشينا كثيراً على مستقبل حركات التحرير الأفريقية بل ومصير لجنة تحرير المستعمرات… وكنت أبدو مبتئساً كثيراً أمام القوى الوطنية المصرية المصممة على القتال حتى التحرير الشامل… إلخ، وتمسكنا وقتها بشعار أطلقه بعض قادة المستعمرات البرتغالية، يقول «النضال مستمر والنصر أكيد» (Lutta Continua, Victoria Certe)، حتى كنا نردده في احتفالاتنا مرة لتشجيع أنفسنا ومرة للسخرية منها!

لكن حدث أن حركة الكفاح المسلح كانت تتقدم وتنجز فعـلاً في مختلف المستعمرات وبخاصة الباقية تحت السلطة البرتغالية، حتى ظهور «البوليزاريو» أوائل السبعينيات في الصحراء الغربية. وإلى جانبها كان تقدم نفس الاتجاه في حركة الكفاح الفلسطينية، وهذا رفع روحنا المعنوية إلى حد كبير… أذكر أن التساؤل عن بعد التحولات الاجتماعية والديمقراطية في هذه الأقاليم الأفريقية المناضلة، لم يكن يختلف عما كنا نشعر به في مصر، حول الديمقرطية المطلوبة في نظام عبد الناصر، وطبيعة التحولات الاجتماعية الضرورية. كنت أفاخر بزهو من «موقعي الأفريقي» أمام بعض الأصدقاء من اليساريين المصريين والعرب عموماً؛ إما دفاعاً عن النضال الوطني المستمر أو عن العلاقات السوفياتية – المصرية… إلخ. وكانت أطراف يسارية تسخر من محاولات عبد الناصر الذي يريد الحرب ثانية بمثل هذا الجيش. ولكنها تلك المحاولات نفسها التي بنى بها جيش حرب 1973، وأظن أن عبد الناصر أدرك قيمة الحريات الديمقراطية أيضاً للدفاع الوطني، فراح يعالج بعض أشكالها. تولى اليساريون قيادة عدد من المؤسسات الإعلامية ونشطت المجلات والمسارح والسينما اليسارية بما مثّل بعض التوازن في الموقف الداخلي والعسكري معاً.

لم يستمر هذا الشعور كثيراً، لأن المفاجأة الفعلية جاءت من تطور أعمال الكفاح المسلح في المستعمرات بعون من لجنة تحرير المستعمرات والدول الاشتراكية، بل وتقدم أعمال العنف الوطني المسلح في آسيا وأمريكا اللاتينية. كنت أشعر بزهو ممثلي حركات التحرير مع أنباء تحرير قرى ومدن جديدة بحيث أصبح تعبير «المناطق المحررة» ذا معنى، وكنت أسعد كثيراً برؤية من كانوا في زيارة أجزاء من بلادهم، وسعدت كثيراً بترشيحي من مصر في سكريتارية لجنة تحرير المستعمرات لولا أن تدخـلاً شخصياً من «أحدهم» قد حجب عني الوظيفة التي كنت أتوق لها. كنت أعتقد أنها منفذ جيد يتيح لي زيارة المناطق المحررة، ولم أرتح نفسياً من هذه الرغبة الملحة إلا حين زرت المناطق المحررة مع ثوار إريتريا أواخر السبعينيات.

قلت إنا نحن الشباب المحيط بقوى التحرر الوطني وقيمها كدنا نشعر بالإحباط الكامل لولا التقدم الذي كانت تحرزه بعض – بل معظم – حركات التحرر الوطني من فيتنام وفلسطين، حتى بيساو ولواندا ومابوتو. وكثرت الوفود الممثلة لهؤلاء جميعاً للقاهرة، عقب نكسة 1967 أمام إسرائيل، وكانت القاهرة نفسها ترفع شعاراً ذا قيمة معنوية عالية وهو أنه ما ضاع بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وتوثقت العلاقة بين مصر وكل حركات التحرير، مع السوفيات بوجه خاص، حيث بدت الصين منشغلة بتصفية آثار الثورة الثقافية.

لاحظت تلك الأيام بين 1967 حتى أوائل السبعينيات، أن بعض قوى التحرر لم تنهزم تماماً، وأرجعت ذلك إلى طبيعة علاقتها بمناطق الكفاح المسلح، بل كنا نقول إن كل منطقة تكافح مثل هذا الكفاح تحتاج بجوارها إلى «هانوي» مساندة لها، معنى ذلك تبني سياسات معينة تجعلها صلبة مثل «هانوي» وهي سياسة اشتراكية حقيقية. لم يكن ذلك واقعاً مطلقاً، أو وفق نمط فيتنامي حقيقي، لأن هانوي نفسها كان وراءها الصين والاتحاد السوفياتي، وهذا قد لا يتوافر للدول الأفريقية. لكن من راقب التطورات النسبية في جمهورية غينيا (بجوار بيساو) أو تنزانيا بجوار موزمبيق، أو الكونغو برازافيل؛ بل وثوار الكونغو كنشاسا بجوار أنغولا، كان يدرك صدقية نسبية لهذا الاستنتاج، على أساس أن نمط العلاقات في عملية الكفاح المسلح يقدم نمطاً للبلد المجاور جديراً بالتأمل، كما أن أعباء معاونة تجربة كفاح مسلح تفرض مزيداً من الإجراءات الاجتماعية التقدمية. وهذا ما لاحظناه.

لا بد أن أسجل هنا أننا كنا نبالغ في حقائق ما يجري في المناطق المحررة ومدى التزامها ببرامج حقيقية للتحول الاجتماعي تكون سنداً قوياً لعملية التحرير أو للاستقلال بعد التحرير. لم أكن أعرف إلا نصوص كابرال في النظرية الثورية، والتحرير الثقافي، لكني كنت أسمع أيضاً ما يأتي سلبياً عن المناطق القاحلة في موزمبيق أو صراعات الحركة في جنوب أفريقيا رغم التنظير العالى هناك… إلخ.

وكنا في مصر نفسها نأسف أحياناً لمقاومة النظام الناصري فكرة الحرب الشعبية لصالح أفكار البرجوازية عن الحرب النظامية التي تعتمد على إجبار السوفيات على تقديم السلاح المتقدم، وأن هذا الأسلوب لن يطور العمل الاجتماعي الشعبي، بقدر ما يخدم استمرار سلطة البرجوازية البيروقراطية. لكن قيادة وشخصية عبد الناصر، كانت تتجاوز كثيراً من الملاحظات على أسلوب عمله، رغم أنه لم يستطع أن يُخلص الثقافة السياسية الرائجة من الالتحاف بالدين تارة وبالتراتبية العسكرية تارة أخرى بما لم يتح رواجاً لفكر الحرب الشعبية وأبعادها الاجتماعية.

لم يستمر هذا الجدل كثيراً داخل الدوائر الثقافية والديمقراطية في مصر، فبوصول الرئيس السادات للحكم مع وفاة عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970، بدأت سياسة مختلفة تماماً بتصفيته لرفاق عبد الناصر في أيار/مايو 1971، وإعلانه سياسة انفتاح اقتصادية ليبرالية تماماً. ولست هنا في مجال مقارنات سياسية، ولكن الرجل وفر علينا ذلك بإعلانه عقب استقراره أن 99 بالمئة من أوراق الموقف في يد الولايات المتحدة، لذا طرد الروس من مصر، ورتب لاستثمار حرب 1973 التي كان نجاحها المعروف يوفر لإدارة ناصرية الشيء الكثير والمختلف. لكن السادات راح في اتجاه آخر يعلن أنه يمكن أن يدخل حرباً ضد النظام الشيوعي في إثيوبيا بحجة تهديدهم مياه النيل، كما دعم موقف موبوتو ضد ثورة شرق وجنوب الكونغو (حرب شابا) ووقف إلى جانب حركة يونيتا وقيادة سافمبي في أنغولا، وتاجر في الدخان مع نظام أيان سميث في روديسيا. وكل هذه السياسات هي نقيض المواقف الناصرية تماماً.

انفرط عقد هيئة الشؤون الأفريقية في رئاسة الجمهورية باعتقال والحكم بالسجن على محمد فايق لعشر سنين، وذهبت كوادره موظفين في أجهزة الدولة المختلفة وتمت إحالتي على المعاش أو التقاعد عقب حرب أكتوبر في حركة تنقية «الأجهزة المسؤولة» من الناصريين والماركسيين…

بدأت رحلة فردية مختلفة في عالم الثقافة والبحث العلمي بعد 1975، قادتني إلى «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» وإلى جمعية العلوم السياسية AAPS والمجلس الأفريقي لتنمية العلوم الاجتماعية (كوديسريا) وإلى التدريس في جامعة جوبا بجنوب السودان، مروراً بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) في تونس ثم إنشاء مركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة عام 1987.