لا أجد ضرورة كبيرة إلى التذكير بسيرة أديب ومفكر مثل طه حسين، فأعيد أنه ولد من رحم حركة ثقافية وفكرية عميقة الأثر، بعيدة التأثير في واقع مجتمعه. فإذا ما عُدنا إلى بدايات الحراك النهضوي، سنجد الشيخ المســتنير رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873) ينقل لمجتمعه وناس عصره، ومن خلال كتابه الشهير تخليص الإبريز في تلخيص باريز (1834) ما سيشكل به المدخل التنويري للعصر. أعقبته شخصيات أخرى نذكر منها: جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897)، وعبد الرحمن الكواكبي (1848 – 1902)، ومحمد عبده (1849 – 1905)، وقاسم أمين (1865 – 1908)، وهم من وفروا بأطروحاتهم، على تباينها واختلافها موضوعاً، قاعدةً صلبةً لفكر جديد هو ما سيؤسس عليه جيل طه حسين (1889 – 1973) أطروحاته المركزية ذات البعد والمعنى التاريخيين، مركزاً، وفي مستويات ورؤى متباينة، على مفهوم الجديد، وضرورة التجديد، واضعين الوعي العربي في مواجهة تحديات عصره، وأمامه. مع هذا الجيل، ومن خلاله، تعرفنا إلى معانٍ وأفكار جديدة، مغايرة للسائد والمتداول، راحت تتبلور في معطيات شكلت إضافة ثقافية حقيقية، قائمة على تعريفات تحمل طابعاً حداثياً تجديدياً، بحسب ما سيعرف العصر من مفهومات.

ولعلّه وقد قرأ ابن خلدون، وكتب فيه رسالته الجامعية، قد مرَّ بقوله: «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال»، فـ «إذا تبدّلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلْق حاضر جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم مُحدَث»، وهو ما يرى فيه جورج قُرم تعريفاً للحداثة، «بمعنى مرور المراحل التاريخية وحصول التغيير»، ما يشكل، بحسب قُرم، «تعريفاً واقعياً موضوعياً».

وأحسب أن طه حسين، وقد عاد إلى بلده، مصر، من بعد استكمال دراساته التي ذهب من أجلها إلى فرنسا، كان أن عاد بكثير من الأسئلة التي أضمر فيها ما كان يراوده فكراً من مشروع ثقافي تحديثي، أراد له أن يخلق وعياً ثقافياً جديداً، لا يلتفتُ إلى الماضي قدر اهتمامه بالحاضر وتطلعه إلى المستقبل… وقد صاغ تلك التساؤلات، فوضعها في ما يمكن تحديده في ثلاثة محاور تمثّل بها اهتمامه الكليّ ثقافياً:

– هناك التساؤل الذي وضعه من خلال إعادة قراءة الماضي، تراثاً وتاريخاً، والذي نجده ينزع فيه ومن خلاله إلى تأكيد نظرة نقدية تعتمدها هذه القراءة التي لم يحالفه الواقع السائد على قبولها، أو التفاعل على نحو إيجابي معها. ففي حين ثار ذلك الواقع عليه متسلحاً بدوافعه الأصولية التي أدانت قراءته «في الشعر الجاهلي»، متهماً إياه بالمروق… صمتَ أغلب «النخبة» عن مناصرته، لأن الأمر، كما أثير من طرف خصومه، اتخذ بُعداً يتصل بالدين.

– وهناك أيضاً التساؤل الذي شكله وتشكل منه منظوره النقدي، وانبنى عليه، وهو سؤال قام على أساسين كانا المنطلق له، وهما: نبذ القراءات التقليدية ومفارقتها، وهي التي تذهب مذهباً أصولياً، أو تنحو منحىً تقليدياً. أما الأساس والمنطلق الآخر، فيتوجّه، داعياً، إلى ما أخذت به أوروبا نفسها في هذا المجال – وإن كان قد وقع تحت تأثير الأفكار والآراء الاستشراقية.

– وكذلك، هناك التساؤل الذي انبثق أو تشكل من خلال ما كتبه هو، وقد أراد أن يقول فيه: إننا نعيش في عصر جديد، وينبغي علينا أن نذهب في أدبنا وفكرنا، وفي الحصيلة في تفكيرنا، مذهب التجديد، لا التقليد.

وقد كان طه حسين في تساؤلاته هذه، حامـلاً فكراً أدبياً، ومشروعاً ثقافياً، عبّر عنهما بغير صيغة وموقف… فمنها ما اتخذ وجه الفن الأدبي، أو تقنّع بقناعه (كما في الأيام والأعمال الروائية على قلة عددها)، ومنها ما أخذ سبيل القراءة التي اتّبع منهجيتها قارئاً بعضاً من أعمال عصره، وظواهر حياة الثقافة فيه… وكان في الثالث منها ذا منظور نقدي جذري، في حدوده، وهو منظور قام عنده على التفكيك وإعادة التكوين (وهو ما تمثّل بقراءاته التراث العربي، والتاريخ العربي). أما ما ترجم، سواء ما كان عن اليونان والإغريق، أو عن الفرنسيين، فلا يخرج في شيء عن هذه الأطر الثلاثة.

وإذا كان من شأن تساؤلات كهذه أن تزحزح واقعاً قائماً، واضعةً الأسس لواقع ثقافي وفكري بديل، فإنها أثارت إشكالات كثيرة. فقد صدرت تساؤلاته هذه، عن وعي ثقافي فكري، ونقدي انبنى على معطيات، وتبلور بهذه المعطيات ومن خلالها، وحدد توجهاته بتأثيرها… ونقصد بهذه المعطيات الفكر الأوروبي، وما شاع فيه من نظرات استشراقية.

ولنعد إلى البدايات التي شكلت تلك التساؤلات…

أوّلاً: مواجهة التراث والتاريخ

إذا كان طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي (1926) قد أثار حفيظة الإسلاميين السلفيين، فإن كتابه الآخر مستقبل الثقافة في مصر (1938) سيثير حفيظة القوميين العروبيين في ما أخذ فيه من رؤية لبناء المستقبل ثقافياً بإضفاء طابع أوروبي واضح على المفهومات التي جاء بها، ومن تبنٍ للمعرفة، وما هو معرفي في أصولهما الأوروبية… إذ دعا بلده وقومه إلى التحوّل ليكونوا «شركاء متساوين في الحضارة مع الأوروبيين»… ورأى أن «علينا أن نتشارك الحضارة الراهنة معهم، بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، بدل الاكتفاء بالكلام أو المبادرات العابرة»، ويلاحظ في هذا المقام «أننا نميل بشكل غريب إلى تقليد الغرب في حياتنا اليومية». أما الهوية، التي يركز الفكر القومي الكلام عليها، فلم يرد الحديث عنها في أطروحته هذه، بل نجده يذهب إلى القول إن مصر المستقبلية تتحدد جذورها في مصر القديمة التي حافظت على روابط وثيقة ربطتها بالقارة الأوروبية – أي من خلال موقعها المتوسطي، مذكّراً بأن الإسكندرية المصرية كانت مركز الثقافة الإغريقية والهيلينية مدّة طويلة، وأن ما يجده اليوم من «فجوة راهنة» بين مصر وأوروبا يعود إلى عوامل تاريخية يخص بها الهيمنة العثمانية التي كانت، كما يرى، ذات انعكاسات سلبية على مصر. ولم يكن في هذا إلا مواجِهاً لذلك «التعليم الأصولي»، الذي تبناه الأزهر، بحقائق التعليم في الغرب الحديث، ما جعله يقدّم ما يمكن عدّه «تصوراً تابعاً»، وقد ربط كل تحديث أراده، أو دعا إليه، بالحداثة الغربية، مثالاً ومرجعاً. فهو في ما يوصي به، ويشدد عليه من إعادة نظر في العلاقة القائمة بين إنسان مجتمعه وأساليب التكوين المعرفي التي عليه أن يعتمدها، نجده ينحرف نحو الغرب، مشدداً على «متوسطية مصر»، وبالضرورة ينبغي لرياح التغيير أن تكون متوسطية الاندفاع.

على مثل هذه الأسس التي وضعها لما يرى من أن مصر الثقافية قامت عليها تاريخياً، ذهب في دعوته إلى وجوب اعتبارها بلداً ثقافياً غربياً أوروبياً، لا بلداً شرقياً، داعياً نفسه، والمصريين معه، إلى أن لا يفترضوا «وجود اختلافات ثقافية بيننا وبين الأوروبيين»، مؤكداً أن بلده «شكّل جزءاً من أوروبا على مستوى الحياة الفكرية والثقافية في جميع أشكالها وفروعها».

هنا، لا يقف طه حسين عند حدود القول بضرورة الاتصال بالعالم، أو التشديد على الأخذ في مبدأ الشك الديكارتي، إذ لا يقين يحمله شيء بذاته، وإنما يجب أن يكون الاحتكام إلى العقل، والأخذ في ما هو عقلاني.. والأخذ في مفهوم التقدم كما تبنته، أو أنتجته، الحضارة الغربية وثقافتها.

دعوة طه حسين هذه، حظيت بدعم وتأييد من منصور فهمي (1886 – 1959)، الذي عبّر أكثر ما عبّر عن نزعة تغريبية، ومن سلامة موسى (1887 – 1958)، الذي رفض رفضاً كلياً ما سمّاه «ادعاءات» قائلة بشخصية مصر العربية، أو الآسيوية، أو الشرقية… داعياً المصريين إلى أن «يقفوا وقفة حازمة ويعترفوا بهويتهم الأوروبية»… بل يذهب إلى ما هو أبعد حين ينظر إلى حملة نابليون الاستعمارية، وإلى البريطانيين، والحكام التابعين للعادات والأفكار الأوروبية على أنهم حرروا المصريين من كابوس هويتهم الشرقية… مغرياً قومه بأن لدى أوروبا كل ما هو نبيل لتقدمه: الفلسفة العالية المستوى، والأدب الراقي، والفن العريق، فضـلاً عن الإنجازات العلمية. وذهب في ما ذهب فيه طه حسين من دعوة المصريين إلى التحوّل إلى أوروبيين، وحتى من خلال الزواج المختلط… (وقد احتشد كتابه اليوم والغد (1929) بمثل هذه الأفكار).

وإذا كان سؤال التحديث الذي أثاره طه حسين قد استبعد الهوية، فإن ذلك هو ما جعل خصومه، ومعارضي أطروحاته في هذا المجال، يعدون التحديث الذي دعا إليه تغريباً… وخصوصاً أن الإنسان الذي توجه إليه بخطابه هذا، والواقع الذي هو فيه، يعيشان ثقل الوجود الاستعماري للغرب الأوروبي. وكان هذا في وقت ارتفعت فيه دعوة التيار القومي العربي إلى اعتماد التنمية المستقلة المعتمدة على الذات، من دون انغلاق عن «الآخر»… إذ رأى هذا التيار أن تخطي حال الضعف التي تنتاب الواقع العربي لا يكون من خلال التبعية لـ «الآخر – الغرب»، وإنما بروح التفاعل الحي الذي لا يقفز على الهوية أو يتجاهل مكوناتها التاريخية، فيتخطاها… فنحن، كما يرى هذا التيار، بحاجة إلى توجيه النظر في الذات… إذا ما توجهنا بالنقد إلى بعض مفاصل هذه الذات، أمام معطاها التاريخي، ينبغي أن يكون نقداً بنّاءً، لا حالة انسلاخ.

1 – من ديكارت إلى الاستشراق

قد يكون ما أخذ فيه طه حسين نفسه من منظور استشراقي، من جانب، ومن مبدأ الشك الديكارتي، من جانب آخر، فضـلاً عما وجده في القراءات السائدة للتراث من نظرة عاجزة عن إغنائه؛ فهي ليست قراءة مساءلة، بقدر ما هي قراءة تكتفي بالتفسير التقليدي… قد يكون هذا هو ما دفعه في اتجاه نظرته هذه الموصولة بمرجعياتها الغربية. ويتجلى منطق الاستشراق واضحاً في كتابه في الشعر الجاهلي؛ فهو لا يأخذ في «منطق النقض» الذي يتبناه في قراءته هذا الشعر الوقائعَ ليستخلص منها النتائج، وإنما يعتمد، أكثر ما يعتمد، الصياغات اللغوية البارعة، التي عادة ما توصف، نقدياً، إذا ما جاءت في سياق النظر الفكري – التاريخي، بأنها تغطية على ضرب من القصور الفكري الذي يعتور تحليلات الكاتب. فهو، في هذا الكتاب، يُنشئ ضرباً من التعارض مع ما ساد الدراسات التي تناولت هذا الشعر، كونه يمثّل حقيقة أدبية ذات بُعد تاريخي؛ فالشعر الجاهلي، سواء في بداياته وتطورات تلك البدايات، أم في الحقائق الإنسانية والاجتماعية لعصره، والتي أكدتها الكثير من الكتب التاريخية، (وتخصيصاً في ذلك السِفْر الضخم، والرائد في مجاله: المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام الذي وضعه د. جواد علي)، فإن ذلك الشعر، كما كان تمثيـلاً لروح مرحلة، فإنه كان شعراً يحفل بالحقائق الإنسانية والاجتماعية لتلك المرحلة ذات الأصول السحيقة، والعميقة التكوين في التاريخ العربي.

وعلى هذا، يمكن القول إن ما قدمه طه حسين في كتابه هذا لم يكن، في جانب كبير وأساسي منه، أكثر من آراء مقتبسة وأحكام مبتورة مما جاء به المستشرق الفرنسي مرجليوث في كتابه في الشعر الجاهلي (وقد ترجمه عبد الرحمن بدوي ونشره في وقت متأخر كثيراً عما كان قد دار حول كتاب طه حسين من جدل ونزاع نقديين). ونستطيع القول هنا، إن آراء مرجليوث، ومستشرقين آخرين ممن قرأوا التاريخ العربي، وما يتصل به من آداب «قراءة نفي» لهذا التاريخ والأصول المتفرعة منه، إنما أرادوا، وعمدوا إلى أن ينفوا عن هذا التاريخ تاريخيته، مجردين إياه من كثير من حقائقه الموضوعية والفنية، وفي المقدمة منها الشعر، لكي لا يكون هناك تاريخ يتقدم على التاريخ الأوروبي، أو على أصوله اليونانية والإغريقية. من هنا، يأتي ما ذهب فيه بعض نقاد الاستشراق (ومنهم صادق جلال العظم) من أن جانباً كبيراً منه ليس أكثر من عملية تشويه واقع الشرق، ومحاولة تحقير تاريخه، وتأكيد فكرة تفوّق الغرب.

إلا أنه ما لبث أن وجد واقعه يستقبل ثقافات أخرى، وفلسفات ستؤكد حضورها، وتُشيد وجودها بناءً على نماذج قادت بدورها إلى تحولات أكثر جذرية في الثقافة العربية الحديثة. ومع أنه نهج نهجاً ذا طرق متعددة المسالك لتكريس مشروعه الثقافي القائم على قراءة الأدب العربي، والقديم منه بخاصة، على أسس مغايرة، والنظر في ما للثقافة العربية من تاريخ، في ضوء العقل ومعطياته، فضـلاً عن الكتابة الإبداعية، وفن المقالة الذي سيقود من خلالها إلى عملية تحوّل أسلوبي في الكتابة، فإنه لم يكن في هذا كله، إلا في سياق التعبير عن/والتمثيل لما يمكن أن يكون من قبيل بناء عالم ثقافي بنماذج متحققة من خلال عملية الكتابة ذاتها. إلا أنه وجد «مشروعه» هذا أمام ثقافتين تمثلان حضارتين مختلفتين: ثقافة/حضارة غربية حديثة تحمل منطقها العصري الجديد تكويناً اتخذ منه مثالاً حياً على تقدم العقل وفاعليته الحضارية، وثقافة تُعوّل، في ما تبني، على ما كان لها من بناءات ثقافية/حضارية في الماضي العربي، وهو ما اختلف معه كلياً.

2 – المواجهة مع التيار القومي

إن أهم ما قام عليه التباعد/التناقض بين النظرتين، وأبرزه ما نجده يتعيّن في مفاصل جوهرية: بين نظرة طه حسين إلى التغيّر والتحوّل الذي رآه من خلال الارتباط بأوروبا والحذو حذو مسارها الثقافي، والأخذ عنها… ونظرة التيار التقدمي، بطرفيه الوطني والقومي، الذي يجد أن التحوّل والتغيّر لا يمكنهما أن يحصلا في الواقع العربي إلا من خلال التخلص من هيمنة الوجود الاستعماري على مقدرات الأمة. لذلك أطلق هذا التيار حالة الصراع العنيف، والجذري، ضدّ الإمبريالية العالمية، ليس في المجالات السياسية والاقتصادية وحدها، وإنما، إلى جانبها، في المجال الفكري والثقافي الذي وجد، هذا التيار، في توجهات الغرب به/ومن خلاله استعماراً ثقافياً، وبُعداً من أبعاد التبعية القائمة على إعادة بناء العقل العربي على أسس من توجهات الغرب الاستعماري.

لذلك، سيعمد التيار القومي التقدمي إلى أن يجعل للثقافة مكانتها ودورها في عملية الصراع هذه، وفي الوقت نفسه، العمل على تعزيز ثقافته القومية في ما لها من أطر ومكونات تاريخية… فنظر إلى الثقافة، وعمل على إعادة تكوينها من خلال ما جعل لها من دور في بناء المجتمع العربي المعاصر.

من هنا، كان لهذا التيار أن ركز على بُعدين أساسين في بناء هذه الثقافة العربية الجديدة التي دعا إليها، وفي ترصين مكوناتها… وهما: التراث، والتاريخ – بما يخلق النسيج الموحد لهذه الثقافة – وهما عنصران عمد طه حسين إلى إضعاف الأول منهما، والاستعاضة عن الثاني بالبديل الأوروبي في تأكيد تاريخ مصر. وبهذا، كان كمن يريد بنسيجه الثقافي هذا التوحد مع الفكر العقلي الأوروبي من دون التفات إلى مسألة الوجود الاستعماري القائم لأوروبا على أرض بلده؛ فالثقافة عنده لم تكن «ثقافة قومية»، وإنما هي «ثقافة تحديثية»… وإذ يُعيّنها بـ «التحديث» إنما يخص، من خلال هذا التعيين، ما كان قد أكد أن لها دوراً في البناء المجتمعي الجديد، وفاقاً لما حدد لهذا البناء من شروط التوجه وغاياته.

فإذا ما قلنا هنا: إن واقع المرحلة التاريخية هو ما يُحدد الاختيار، فإن اختيار طه حسين هذا، ظلّ محاطاً بعدة تساؤلات، ومآخذ من قبل أصحاب المنظور القومي في الفكر والثقافة، الذي حدّد مشكلته في أنه أراد التعرّف إلى ذاته والتعريف بها من خلال الآخر الأوروبي، داعياً ومتوجهاً إلى بناء ثقافة عصره المقبل برؤية أوروبية التكوين، وبعناصر مستمدة من ثقافة أوروبا.

من هنا، لم يُثر طه حسين قضية الأصالة والمعاصرة التي سينشغل بها النصف الثاني من القرن العشرين، بل مارسها تطبيقاً من خلال ما قدّم من قراءات في القديم، أدباً وتاريخاً، إلى جانب ما قدّم من منظور حديث. فإذا كانت قضية القديم هي ما أثار عليه حفيظة التقليديين والسلفيين الذين رموه بحجارة المروق، فإن ما قاله في المعاصرة، وما يتصل بها من اتجاهات تحديثية، له منظوره الخاص فيها، كان موضع معارضة التيار العربي بفكره القومي. نبذ طه حسين الموقف التقليدي والفكر التقليدي والرؤية التقليدية، وهو ما تبناه الفكر القومي الذي قال بالدعوة إلى غد أفضل من خلال التغيير الثوري للواقع العربي، وعصرنة فكر الإنسان العربي بإحكام توجهاته المستقبلية… ولم يكن مفكرو هذا التيار وأدباؤه انتقائيين، وإنما عبروا عن ذلك من خلال موقف نقدي جذري. وهو إذ واجه أطروحات طه حسين في هذا المجال مواجهة نقدية، فإنه واجهها في مستوييها الفكري والنظري، في ما حملته من نزوع ليبرالي كان يجد في الغرب «مرجع التغيير»، وفي الفكر الغربي مقدمات لكل بناء جديد… في حين كان التيار القومي، بنزوعه التاريخي ونزعته الحضارية بأصولها العربية، يميّز الغرب الاستعماري وثقافته الليبرالية، من الفكر النهضوي الأوروبي، بما كان له من مقومات تحديثية.

هذه النظرة الثنائية إلى الغرب، كان الغرب نفسه السبب في إحداثها:

من جهة، كان هذا الغرب مصدراً للتنوير والتحديث… ففيه نشأت أولى البوادر التحديثية، ومنه انطلق بناء مفهوم عصري لكل من الواقع وفكر الإنسان وتفكيره فيه.

لكنه، من جهة أخرى، غرب استعماري النزعة، بروح متسلطة على الآخر – غير الغربي – سالباً إرادته التاريخية…

هذا ما جعل الموقف منه من قبل التيار القومي مزدوجاً؛ فهناك القبول بالحداثة وتبني فكرة التحديث واقعاً يراد له التطور… وهناك الوجه الاستعماري البشع لهذا الغرب، وهو وجه مرفوض.

إلا أن طه حسين، في دعوته إلى التواصل مع الغرب، تجاهل/أو قفز على الوجه الاستعماري لهذا الغرب، مقدّماً إياه في صورة «البار التاريخي» الذي يحمل الحداثة إلينا، التي علينا قبولها والأخذ في مبادئها في صيغتها الأوروبية إذا ما أردنا لأنفسنا التقدم. ينبغي أن نلاحظ هنا، أن مثل هذه الكلية في أخذ الآخر، من شأنها أن تجمع فتخلط، لا أن تفرز فتعيّن، وهو ما سيجد فيه الطرفان، القومي والأصولي التقليدي، انفصالاً عن الماضي العربي، بكلية ذلك الماضي. كان التحدي الذي يمثله الغرب بالنسبة إلى طه حسين ثقافياً – حضارياً. أما بالنسبة إلى التيار القومي، فهو، بدرجة أساسية، تحدٍ استعماريّ.

ثانياً: شرعنة العلاقة بالغرب

سيحذو طه حسين حذو مفكري النهضة الأوروبيين في عودته إلى الماضي لشرعنة نقده. ولكن أيّ ماضٍ؟ إنه الماضي الذي عاد إليه الأوروبيون أنفسهم، المتمثل بالعصور اليونانية والإغريقية، مقدماً تلخيصات لمنظوراتها الفكرية والحضارية، ومعرّفاً بمنجزها الإبداعي، فأثار سؤال التحديث من خلاله، غير عابئ بالذات الثقافية العربية وبالهوية الحضارية، بما لها من أسس تاريخية… فضـلاً عن أن انفتاحه على «الغرب الثقافي» لم يكن نقدياً، وإنما انفتاح تقبّل هذا الغرب وقبول بأطروحاته، ما وجد فيه بعض نقاده «تغريباً ثقافياً»، وخصوصاً في ما حرص على تأكيده من أن التقدم غربي – أوروبي، وإذا ما أردنا التقدم، فعلينا أن نحذو حذوه، بما يعني تقليد هذا الغرب…

ولا غرابة في أن ينعطف طه حسين نحو الثقافة الغربية… فهو «المثقف العربي» الذي وجد نفسه بين ثقافتين: ثقافة ابتنى منها تكوينه الأول، وهي معنية بالجواب التقليدي عن أسئلة الماضي، وفي هذا الجواب إنما تنسخ، وتردِّد، بدلاً من أن تُبدع وتضيف. وثقافة غربية سيتعرف إليها في بيئتها المنتجة لها، وهي معنية بأسئلة الحاضر والمستقبل. لذلك، فإن إجاباتها عمّا تُثير من تساؤلات تتقدّم بالزمن، ولا تنكفئ بحاضره إلى ماضيه، كما وجد الثقافة العربية التقليدية تفعل. لذلك، كان حسين يروم البلوغ بثقافة عصره إلى أن تكون ثقافة جديدة، تستلهم الرؤى الحضارية للعصر. وقد جاءت محاولة التأسيس منه لذلك، في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، واضعاً أفكاره ورؤاه في التماهي مع «الآخر – الأوروبي» ثقافة وتجربة حضارية، مع ملاحظة مهمة تأتي في هذا السياق، وهي أنه، في توجهه هذا، كان «يُفكّر مصرياً»، وبواقع مصر التاريخية، بعيداً من أي تفكير عربي شامل ينظر إلى مصر في وجودها العربي. وقد أراد لرؤيته الثقافية أن تتعزز بهذا «الانتماء المتوسطي»، ليس أبعد… فإبداع الذات الثقافية الجديدة، كما أراد لجدّتها أن تكون، يتم عنده من خلال الاصطفاف مع الآخر، والأخذ عنه.

من هنا، جاءت حال «التضاد المتبادل» بينه وبين الأفكار والنظم المعرفية العربية التكوين والتوجّه، التي سيعطيها الفكر القومي العربي، من خلال تبلور أطروحاته في هذا المجال، بُعداً جديداً حضاري التكوين، كما من خلال «بُعد الصراع» مع «الآخر» في وجوده الكولونيالي، معززاً التكوين القائم على هوية تاريخية ذات عمق حضاري، وهو ما كان طه حسين قد حذفه مما لأطروحته من مكونات، وبخاصّة «مسألة الهوية» التي سيخالفها بـ «أطروحة» الانفتاح على الآخر ثقافياً وحضارياً، جاعـلاً لأطروحته هذه بناءيها: النقدي والموضوعي.

هنا، وقف التيار القومي العربي، فكرياً وثقافياً وسياسياً، موقفاً مغايراً لموقف طه حسين التغريبي هذا، كما هو موقف مختلف من/ومغاير للموقف الأصولي التقليدي… منخرطاً في الحداثة من موقف نقدي يضمن له المحافظة على شخصيته بهويتها العربية التاريخية، بما لها من عمق حضاري وبُعد ثقافي، داعياً إلى ثقافة عربية جديدة تتمثّل روح العصر، وتمثّل موقفاً فيه، وموقفاً منه.

كما كان لهذا التيار من انفتاح نقدي على تراثه، وعلى ثقافة الآخر، كانت له أسئلته التي هي أسئلة تواصل واعٍ، لا تساؤلات قطيعة (كما كانت الحداثة الأوروبية قد دعت). ولعل ما ميّز نظرة التيار القومي ونظريته هذه، هو مثول الحاضر فيها بطريقة تجمع الفعل إلى التفاعل؛ فقد قال بضرورة أن يُنجز العرب ثقافتهم الحاضرة بأنفسهم، ومن خلال عصرهم ورؤيتهم المستقبلية، ومن دون ارتداد أصولي إلى الماضي، أو توجّه تبعيّ للغرب… آخذاً في الخصوصية الحضارية لتاريخ الأمة. وفي هذا/ومن خلاله كان لهذا التيار أن أسس لفكر نقدي بنى، بدوره، وعياً نقدياً هو اليوم من السمات الأساسية في الفكر القومي. وقد اعتمد في الرد على طه حسين على ثلاث حقائق: الحقيقة التاريخية والحقيقة الحضارية والحقيقة الثقافية.

بهذا المنظور ومن خلاله، يمكن تعيين قراءة طه حسين للآخر – الغربي بكونها قراءة أصولية المنظور والتكوين؛ فهو في ما قدّم لنا من/وعن ثقافة الغرب، لم يخرج فيه عن الرؤية الأصولية وما تمليه من موقف، إذ إنه لم يمتلك ذلك التراث امتلاكاً نقدياً… بل نجده يُنزّه الآخر، منتج هذا التراث، ويستمد منه الحلول الجاهزة لمواجهة مشكلات حاضره العربي بها، والتخطيط لمستقبله في ضوئها، حاذياً حذو السلفي في ما يقع عليه من موقف ونظرة في التراث. فهو يتكئ على «الآخر»، ويستنجد به على حل مشكلات حاضره، ولا يرى من «نهضة» حقيقية له إلا بالتماهي مع نهضته. باختصار: لقد لجأ إلى الحلول الجاهزة. وهل فعل السلفي شيئاً غير هذا في موقفه من ماضيه؟

إلا أن طه حسين، والفكر القومي بتياره التجديدي هذا، يتفقان، في النهاية، في التساؤل عن جدوى «نُظم التفكير الراسخة» ذات البنية التقليدية، ويضعان السؤال واضحاً وصريحاً، وإن اختلفت الصيغة بينهما، عن سبب استمرارها في الزمن التاريخي والاجتماعي العربي وجدواها. أراد كلاهما للواقع العربي أن يكون واقعاً فاعـلاً يساعد على اكتشاف معاني التقدم والفكر الحضاري الجديد، ويعقد صلة الوصل بين العقل العربي والفكر العقلاني الذي أراده الفكر القومي العربي. وهنا موضع الافتراق، أن يكون فكراً تاريخياً له خصوصيته العربية، في حين نظر طه حسين إليه من خلال واقع الآخر – الغربي، وفي ضوء معطيات فكره التي ذهب، في ما تبنى من رؤية ثقافية، إلى أن العقل العربي إذا ما أراد أن يتكوّن تكوناً عصرياً، فإن عليه الأخذ فيها… فقد حصر إنجازات الفكر العقلاني بالغرب وحده، محدداً إمكاناته بما كان للغرب من تجربة في هذا المجال. ولعل دعوته إلى «النقل» و«التمثّل» جاءت متأثرة بآراء بعض المستشرقين، ومنهم أرنست رينان، في نظرته التي بثّها في ما كتب عن ابن رشد والرشدية (1852)، وقد ذهب إلى أن العرق السامي لم يتوافق مع التفكير العقلاني لهذا الفيلسوف، لأن السامية – بحسب ما يرى – وُجدت للشعر والدين، بينما الآريّة للعقل.

ثالثاً: المثقف السجالي… وإشكالياته

ينبغي أن لا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن طه حسين كان مثقفاً سجالياً. وبما أن السجال يستدعي الحرية، سنجده يمنح نفسه القدر اللازم من الحرية في ما خاض فيه من مجالات الفكر ومناحي التفكير. في هذا السياق، كان أن تحرك، أول ما تحرّك، بوعي غير مرتهن إلا لحريته العقلية… ما جعله يقول ما أراد أن يقوله، على مرحلة البدايات في الأقل، بجرأة فكرية هي جراة الوعي الممتلك حريته، وإن كان هذا الامتلاك ذاتياً؛ إذ كان في مستوى الواقع لا يمتلك، في أحسن الحالات، أكثر من «حرية نسبية» في الخروج على السنن السائدة.

إذا كان مبدأ الشك الديكارتي الذي سيغويه منطقاً فيأخذ نفسه به فكراً وتفكيراً، قد أكد له أن الفكر مقترن بالحرية، وهو بالحرية أو لا يكون، فإن أول صدمة حدثت له مع الواقع كانت استهدفت سؤاله: سؤال الحرية، وعملت على مصادرته… ليجد الواقع الذي هو فيه لا يرقى إلى المثال الذي كان يريد لسؤاله هذا أن يكون فيه؛ إذ صدرت وجهة النظر المضادة له بصيغة أقرب ما تكون إلى الفتوى الدينية منها إلى النقد، فجرى تكفير النظرية والنظرة الصادرة منها، وتسفيه المنظور الذي صدر منه في ما كتب وقال. هنا، كانت الصدمة الأولى له، هو العائد من الغرب الأوروبي بعدما درس فيه وتعلم من ثقافته ما تعلّم من أن حرية الفكر والتفكير فوق كل اعتبار آخر، وأن القول مفتوح أمام الفكر في ما يؤسس له من منظور، سواء إلى الواقع أو في الفكر نفسه… ليجد مجتمعه يسير، وينظر، ويرى بخلاف ذلك، وفيه من يُحصّن رأسه من أن يتلقى شيئاً مما يقول… بل وجد من يقول عنه إنه يهرف ما أخذ عن ذلك «الغرب الكافر» الذي يُفصح عن نفسه، وجوداً وحضوراً فكرياً، بطرائق تتقاطع كلياً وطرائق التفكير السائدة في ما سُمّيَ المجتمع الإسلامي. وقد اُتهمَ، حتى من قبل بعض المستنيرين نسبياً، بأنه إنما يكرر الغرب وأطروحاته في كثير مما يقوله…

أما هو، فواجه، بدايةً، هذا كله، بمنطق من لا يريد أن يحيد بنفسه عما تبنى من فكر وأخذ فيه من أفكار. هنا، كان لا بدّ له من أن يكتب المختلف ويقول به، من بعد أن وضع نفسه في إطاره: فكراً، وتفكيراً يبني بهما/ومن خلالهما رؤية المستقبل الذي ينشد. وحتى يوم حوكم على أفكاره هذه وما ذهب فيه من خلالها، كان يأمل أن يُحاكمَ محاكمة عقلية، لا فقهية، بحيث تجعل هذه المحاكمة لكل من فكره وتفكيره موقعهما في التاريخ الإنساني لمجتمعه. إلا أنه، بدلاً من ذلك، وجد من يدفع به وبأفكاره ورؤاه هذه خارج التاريخ! أما الذي كان واضحاً عنده، والمتيقن من قوله فيه، فهو أن السائد في مجتمعه لا يصنع المستقبل المرجو لإنسان يطمح إلى أن يكون عصرياً، موقناً أن المعاني الحقيقية لهذا المستقبل المنشود لا يمكن ابتناؤها إلا من خلال رفض ذلك الفكر وما يشيع من منطق، عَفَّى عليه الدهر…

إلا أن امتلاء نظرته هذه بـ أسئلة الآخر جعله يتبناها ويأخذ نفسه بها فكراً وتفكيراً، إذ وجدها تقدّم إليه ما يعينه على تعيين المشكلة الحقيقية لعصره وإنسان عصره… بما سيساعد خصومه ومناوئي نظريته على نقض ما حمل من معاني البناء الجديد إلى مجتمعه، بهدف تغيير نظرته التاريخية، وتالياً واقعه التاريخي بالانفتاح على كل ما هو غربي، ووضع مصر في إطار واقع جديد يقول بمتوسطيتها، لا بعروبتها.

إلا أننا ينبغي أن لا نقصر عامل الفكر الفاعل في عصر طه حسين هذا، على التقليد والتقليدية التي تصدت له بمثل هذا «الحزم التكفيري»… كانت هناك حركات تجديدية ظهرت في الحقبة نفسها، وإن كانت لم تُواجَه بما وُوجه به، كونها حركات تجديد تجاوزت التقليد، ولم تقم بالصدام المباشر معه، وإن صارعته المواقف والصدارة، ومن أبرزها الحركة الرومانسية التي فتحت مجالاً حياً وحيوياً لحرية الإبداع الشعري بخاصة، وقد أطلقت فيه ما فتحت للخيال الخلاق من مديات القول الجديد، مؤكدة أن بمقدور الإنسان، إذا ما توافرت له الإرادة والقدرة الذاتية على تحقيق ما يريد وإليه يصبو، أن يحقق ما حققت هذه الحركة التاريخية من قطيعة مع النظام الشعري السائد، وتقديم البديل الابداعي المتجاوز الأشكال والصيغ السائدة. في الوقت الذي أثارت هذه الحركة سؤال الشعر كونه إبداعاً جمالياً ورؤيوياً، كانت قد دعت الإنسان إلى أن يعقد الصلة بعصره من خلال تأكيد ما للذات المبدعة من قوّة على إحداث المغايرة والتغيير، وقد قرنت تجربتها بهما.

لم يخرج سؤال طه حسين التحديثي عن هذا السياق، إلا أنه في دعوته إلى قراءة التراث قراءة جديدة ومغايرة، تأخذ نفسها بمنظور نقدي واضح الغاية والهدف، تبنى/واعتمد من الأفكار ما مثّل للآخر «تغريباً» واضح التوجه… فقد نقض تراثه بمنظور رؤية من خارجه… هذا من طرف، ومن طرف آخر ما كان قد عمد إليه من إلحاق لـ الذات، ذاته وذات مجتمعه التاريخي، بالآخر – الغربي مشروعاً وتاريخاً. ولكنه في المسألتين لم يخرج على قارئه بما يمكن أن يشكل تحولاً معرفياً، حقيقياً وعميقاً، في ثقافة عصره. وهذا ما يجعلنا نرى فيه مثقفاً إشكالياً؛ ففي الوقت الذي دعا فيه حسين، ضمناً، إلى ما من شأنه التأسيس لثقافة عربية جديدة، كان له أن أكد أن مراجع هذه الثقافة وأساسيات بنائها، ينبغي أن تكون أوروبية، داعياً إلى جعل الصلة بالآخرـ الأوروبي، صلة تواشج، وترابط تاريخي.

خلاصة القول، إنّ طه حسين أراد أن يبني فكراً نقدياً جديداً في الثقافة العربية، فأقام هذا الفكر، أول ما أقامه، على قراءة التراث العربي قراءة أراد منها الانعتاق من مسلماته التي وجد فيها إعاقة لقيام فكر نقدي حقيقي، وهو ما شرع به في كتابه في الشعر الجاهلي، ليقف منه خصوم نظريته هذه، موقف الرفض والإدانة لما يقول وفيه يذهب، من رؤية ورأي.

إذا كان قد بدأ ذلك من الشعر الجاهلي، فلأن هذا الشعر، بمجموعه، يمثّل النص التأسيسي الأول للثقافة العربية بلغتها الحاضرة… فهو نص تاريخي الوجود والحضور، ومن خلال تاريخيته هذه تأكدت مجموعة من الحقائق التي وثّقها هذا الشعر، بما يتصل منها بالحياة العربية في العهد الذي قيل فيه، فضـلاً عن الأسس الإبداعية التي أرساها، والتي ستكون مثالاً يُحتذى.

وإذا كان ما اُخذَ عليه أنه أدخل المنظور الاستشراقي في نسيج نظرته النقدية هذه، فإن ما سيبرر به ذلك أنه إنما يريد الامتداد من زمن عقلانيّ الفكر والتفكير، فلجأ إلى ما وجده يوفّر ذلك، ويساعده على وضع الأسس التي يبني عليها مثل هذا التوجّه الذي اتخذه، وأراد له أن يكون توجهاً تأسيسياً لثقافة عربية جديدة تقوم على مغايرة المنظور السائد، والتغاير معه في ما تؤسس له.

إن كان قد أفاد، في هذا، من أفكار الآخر – الغربي ومن رؤيته الثقافية ومنظوره الحضاري، فإن إفادته تلك، لم تكن تعتمد، أو يعتمد فيها «النقل المجرّد»، إنما كان يفيد من تأسيساتها البنيوية لتطوير بنية مجتمعه وعصره بتغيير الرؤية المهيمنة على الحياة والفكر والتفكير فيه. إلا أن استزادته من فكر الآخر، وثقافته، ومن منظوره الحضاري جعلته يدعو إلى الحذو حذوه، والأخذ في ما أخذ فيه نفسه، فأفرط في ذلك حتى حسبت دعوته هذه عليه، وليست له، بما تطابقت به مع مفهوم التبعية والاستتباع.

من هنا، جاء إيمانه بقدرة الثقافة على إحداث التغيير والتحوّل في تفكير العصر، وفي بناء رؤية الإنسان الثقافية والحضارية فيه… إذا ما اُتيح لمثل هذا المثقف المؤمن بدوره، والقادر على أداء مثل هذا الدور. كما أراد لعصره أن يُبتنى بالأفكار فإنه أراد لهذا العصر أن يكون عصر بناء الأفكار.

أما السؤال الذي أثاره، ووجد فيه لازمة لتفعيل مثل هذا المسار، فهو سؤال العقل في ما تبنى من أساليب القراءة واعتمد من مفاتيحها، وسؤال الحرية في ما أراد لهذه القراءة من واقع، ومن توجهات في هذا الواقع.

هل نجح في هذا كلّه، أم أخفق؟.