تعتبر المسؤولية الجنائية الدولية هي ذلك الأثر المترتب على خرق قاعدة تجريمية دولية، وما يترتب على ذلك من جزاء[1]، وقد تطور هذا المفهوم بتطور المراحل التاريخية التي عرفتها البشرية وتطور الظروف الدولية المؤثرة فيها، فقد تلخص مفهومها في البداية بأنها علاقة قانونية بين الجاني والضحية باعتبارها مسؤولية مدنية بين الدول تقوم على أساس التعويض[2].

ومع تأسيس عصبة الأمم ونزوع المجتمع الدولي إلى التقنين، وإبرام المعاهدات بين الدول، وتجريم الأفعال المهددة للسلم الدولي والعقاب عليها، تكونت المسؤولية الجنائية الدولية على أساس الجزاء والعقاب كأثر مماثل للفعل المجرّم دولياً، إضافة إلى التعويض أو جبر الضرر، وهو ما قام عليه كذلك الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بعد ذلك[3].

وتجب الإشارة هنا إلى أن موضوع المسؤولية الجنائية وجدلية تحمّلها من طرف الدولة باعتبارها صاحبة السلطة والسيادة على أرضها ومواطنيها، أو من جانب الفرد بصفته المخاطب الرئيسي بالقاعدة الجنائية والممثل الطبيعي للدولة، أو من هما معاً باعتبار الفرد ممثلاً للدولة، والدولة ممثلة للفرد، كانت «هذه الجدلية» موضوع خلاف فقهي كبير[4]، ليستقر فكر المحكمة الجنائية الدولية في الأخير على المسؤولية الجنائية الدولية للأفراد الطبيعيين. بغضّ النظر عن صفاتهم والمسؤوليات التي يتحمّلونها، سواء أكانوا رؤساء أم عسكريين أم مواطنين عاديين[5].

وبهذا تكون المحكمة الجنائية الدولية الدائمة قد سارت على المنهج الذي سارت عليه السوابق القضائية الأخرى، بحيث أكدت أنّه لا يمكن اعتبار الدولة مسؤولة جنائياً كالأفراد الطبيعيين، إذ ليس لها إرادة مشابهة لإرادة الأفراد، فهي شخص معنوي يباشر عمله عن طريق ممثلين، فالأشخاص الطبيعيون من قادة، ووزراء، وعسكريين، هم الذين تتوفر لديهم النوايا الإجرامية، وبالتالي إقامة المسؤولية الجنائية بحقّهم استناداً إلى المبدأ القائل «لا مسؤولية من دون إسناد»[6].

فكيف إذاً تطرق النظام الأساسي للمسؤولية الجنائية للأفراد وأسس لها؟ وما هي مجالات تطبيقها؟ ثمّ ما هي موانعها؟

كلها أسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها من خلال تقسيم هذه الدراسة إلى مبحثيْن أساسيين:

أولاً: المسؤولية الجنائية الدولية وأسسها في نظام روما الأساسي

يعدّ تقرير المسؤولية الجنائية للفرد عن الجرائم الدولية من أكبر التطورات التي عرفتها قواعد القانون الدولي عموماً، والقانون الدولي الجنائي على وجه الخصوص، بعدما كانت الدولة تتحمّل تبعات ارتكاب أحد أفرادها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وقد تأسس هذا التقرير على اعتبار أن الفرد أصبح من المواضيع المهمة للقانون الدولي، وأحد أشخاصه، بحيث أصبح انتهاك حقوقه مهدداً أساسياً من مهددات الأمن والسلم الدوليين[7]. لذلك أضيفت قواعد عديدة تعنى بالفرد وحقوقه، وترتب ضمانات قانونية لتلك الحقوق[8].

فمع الاعتراف للفرد بجملة من الحقوق التي تمّ اكتسابها في ظلّ القانون الدولي، فإن مبادئ وقواعد هذا القانون فرضت عليه، وكذلك تلقي عليه واجبات عديدة من بينها الالتزام باحترام مبادئ وقواعد القانون الدولي، بحيث تبدّلت النظرة التقليدية إلى الفرد ككائن يخاطبه القانون الدولي عبر الدول، وأصبح معنياً مباشرة بقواعد هذا القانون ومخاطباً بحكمها. وبالتالي، فالقانون الدولي ذهب إلى توسيع دائرة اختصاصه من حيث أشخاصه، فأصبحت المنظمات الدولية والأفراد مع نظرية وحدة القانون، وبات أشخاصه هم الذين يتوجه إليهم بالخطاب ويخضعون له، فيلتزمون بأحكامه بما توفره لهم من حقوق ومزايا، وما تلقيه على كاهلهم من التزامات[9].

لأجل ذلك، تمّ استبعاد الأشخاص الاعتباريين من نظام المساءلة الجنائية لصالح الأشخاص الطبيعيين، وهو ما قام عليه نظام روما الأساسي (الفقرة الأولى)، محدداً بذلك مجالاته ومبادئه العامة (الفقرة الثانية).

1 – أحكام المسؤولية الجنائية الفردية في نظام روما الأساسي

تعرّف المسؤولية الجنائية الفردية بأنها ذلك النظام القانوني الذي بمقتضاهُ يعاقب الأفراد عما ارتكبوه من أفعال جسيمة تمسّ الجماعة الدولية بأكملها، كما حدّدها نظام روما الأساسي المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية من المادة الرقم (25) إلى المادة الرقم (29) على التوالي[10].

فإذا كانت المسؤولية المدنية الدولية تقوم على الخطأ، أو العمل غير المشروع، أو الخطر[11]، فالمسؤولية الجنائية بهذا الشكل تقوم على أساس أن العمل غير المشروع دولياً ناتج من مخالفة اتفاق دولي. وإذا كان تحديد هذه المسؤولية يختلف من ناحية القيام بالعمل غير المشروع، فإنها في الجانب المدني ترتب التعويض، بينما ينصرف أثرها في الجانب الجنائي الدولي إلى العقاب[12].

إن الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية الفردية في نظام روما الأساسي، هو ارتكاب أحد الأفعال المجرمة بموجب المواد الأرقام (6) و(7) و(8) و(9) من نظام روما، حيث تضمّنت هذه المواد، على سبيل الحصر، جميع الأفعال غير المشروعة، والتي تشكّل الأساس القانوني لجرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية[13].

وهكذا نصّت المادة الرقم (25) من النظام الأساسي على أنَّ سلطان المحكمة الجنائية يقوم على الأشخاص الطبيعيين الذين ارتكبوا إحدى الجرائم الداخلة في اختصاصها بصفتهم الفردية، حيث إن الشخص يُساءل بصفته الفردية. وهذا لا ينفي مسؤولية الدولة المعنية بمنطوق المادة نفسها، الفقرة الرابعة، إذ لا تعارض بين نوعَي المساءلة الجنائية الفردية ومسؤولية الدولة التي تبقى قائمة، كذلك، بموجب قواعد القانون الدولي[14]. وقد نصّت المادة نفسها في فقرتها الثالثة على الشروط الموجبة للمسؤولية الجنائية الفردية، وهي:

- ارتكاب الشخص للفعل بنفسه أو بصفته مساهماً أصلياً، كأن يرتكب فعلاً من الأفعال المكوّنة للجريمة مع الآخرين أو عبر دفع شخص آخر إلى ارتكاب الجريمة، بغضّ النظر عن أهلية هذا الشخص جنائياً، وهو ما يعتبر هنا تساوياً بين الفعل الأصلي والفعل المعنوي لتكوين المسؤولية الجنائية[15].

- إصدار أوامر تفيد بارتكاب إحدى الجرائم المحدّدة في النظام الأساسي أو الحثّ على ارتكابها من طرف الغير، بما في ذلك الإغراء، بغضّ النظر عن وقوعها، فيكفي الشروع في التنفيذ ليرتّب ذلك مسؤولية جنائية فردية عن هذا الفعل[16].

- تقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل من الأشكال لغرض تسهيل ارتكاب الجريمة والشروع فيها[17].

- الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجريمة الممثل بالمساهمة في أية طريقة كانت بقيام جماعة من الأفراد يجمعهم قصد مشترك بارتكاب هذه الجريمة أو الشروع فيها، شرط أن يقوم الفاعل بنشاط مادي يعزّز النشاط الإجرامي أو الغرض الإجرامي لهذه الجماعة، مع علمه المسبق أن في نيّتهم الوصول إلى هذه النتيجة[18].

- الشروع في ارتكاب الجريمة عن طريق اتخاذ الفاعل إجراءً يبدأ بتنفيذه ولو لم تقع الجريمة[19].

وإذا كانت المادة الرقم (25) من نظام روما هي المادة الوحيدة المعنونة بالمسؤولية الجنائية الفردية، إلا أن هذا المبدأ وقواعده الأساسية جاءا وارديْن ضمن العديد من مواد هذا النظام الأساسي، وهو ما تمّ تأكيده في مستهل الديباجة بالحديث عن تعاون المجتمع الدولي في توقيع المسؤولية الجنائية على مرتكبي الجرائم الدولية الأكثر خطورة كلّ في مجال اختصاصه[20].

2 – مبادئ وخصائص أحكام المسؤولية الجنائية الفردية

اختصّت المسؤولية الجنائية الدولية الفردية في نظام روما بمجموعة من المبادئ العامة والخصائص الأساسية التي ميّزت عملها، وأسبغت عليه الصفة الجنائية. ولعل من أهمها:

أ – المسؤولية الجنائية للقادة والرؤساء

تعتبر ميزة المساواة في المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، والجزاء عن الجرم المرتكب، من أهم الخصائص التي امتاز بها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث ساوى هذا النظام بين الرؤساء والقادة العسكريين من جهة، والمرؤوسين والأشخاص العاديين من جهة أخرى، في تحمّل المسؤولية الجنائية، وهو ما تمّ التنصيص عليه في المادة الرقم (27) من النظام الأساسي، حيث تمّ التشديد من جديد من خلالها على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية لدفع المسؤولية الجنائية الدولية الفردية، أو حتّى تخفيف العقوبة التي تفرضها المحكمة الجنائية الدولية، سواء أكان الفاعل رئيساً لدولة أم حكومة، أم عضواً فيها، أم في البرلمان، وبصرف النظر عن مصدر الحصانة التي يتمتع بها دولياً أو وطنياً[21].

وتجدر الإشارة أن الاتهام الذي أدين فيه الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوزوفيتش كان قائماً على هذه الميزة، حيث شكّل أحد التطبيقات العملية للمحكمة في هذا المجال.

وتفادياً لاحتمالات تنفيذ الرئيس لجرائمه من خلال مرؤوسيه ومعاونيه، كوسيلة للتحايل على المحكمة، نصّ نظام روما الأساسي في مادته الرقم (28) على تحمله المسؤولية الجنائية الفردية بصفته مسؤولاً عنها، إذا كانت هذه القوات تحت إمرته وتخضع له فعلياً، بحسب الحالة، ونتيجة لعدم ممارسة القائد العسكري أو الشخص المسؤول سيطرته على هذه القوات ممارسة سليمة، وذلك في حالتين حدّدتهما الفقرة الأولى من هذه المادة، وهما:

- في العلم المسبق للرئيس أو من ينوب عنه أن القوات التابعة له والخاضعة لإمرته تقوم بأعمال تدخل ضمن اختصاص المحكمة.

- عدم اتخاذ التدابير اللازمة في حدود سلطته أو سلطة نائبه لمنع ارتكاب هذه الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق أو المقاضاة ومحاكمة مرتكبي هذه الجرائم[22].

وبذلك يكون القائد العسكري، أو الرئيس، مسؤولاً جنائياً مسؤولية كاملة مثله مثل الشخص العادي، عن الأفعال التي يرتكبها مرؤوسوه، في حالة توفر العلم لديه، أو التجاهل بسوء نية أن الأشخاص الخاضعين لسلطته أو سيطرته الفعلية، يرتكبون، أو على وشك ارتكاب، جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

ب – سنّ المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية

شدّد نصّ المادة الرقم (26) من نظام روما الأساسي على أن لا يكون للمحكمة اختصاص على أي شخص يقل عمره عن 18 سنة وقت ارتكاب الجريمة المنسوبة إليه، وبالتالي فإن أحكام هذا النصّ هي أحكام تتعلّق بالاختصاص وليس بالمسؤولية عن ارتكاب إحدى الجرائم الدولية التي توجب المساءلة الجنائية الفردية على أساس نظام روما، فالشخص الذي يرتكب إحدى هذه الجرائم، وإن كان لا تتم مقاضاته أمام المحكمة الجنائية الدولية، كونها غير مختصة بذلك، عملاً بنصّ المادة السابقة، إلا أنّه، بوصفه حدثاً يتحمل المسؤولية المخففة، قد يُقاضى عن جرائمه هذه أمام قضاء آخر مختص، كقضاء الدولة التي هو من رعاياها[23].

ج – عدم سقوط الجرائم بتقادم الزمن

نصّت المادة الرقم (29) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بعدم سقوط الجرائم المنصوص عليها فيه، والداخلة في اختصاصه، بتقادم الزمن. لذلك تبقى المسؤولية الجنائية قائمة، ولا يمسها تقادم الزمن مهما طالت المدّة[24].

وهكذا يمكن القول إن المسؤولية الجنائية الفردية هي من القيم المضافة التي جاء بها نظام روما، بحيث تراكمت في تجارب المحاكم الدولية السابقة وتوّجت بتضمينها كخاصية امتازت بها، لكن ما هي هذه الاستثناءات الواردة في مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية؟ وما هي موانعها ودواعي تخفيف العقوبة المترتبة عليها؟

ثانياً: استثناءات وموانع المسؤولية الجنائية الفردية في نظام المحكمة الجنائية الدولية

يعتبر انتفاء التميز وحرية الإرادة من الأسباب المسبّبة لموانع المسؤولية الجنائية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي أشير إليها في المادة الرقم (31) منه، دونما أنْ يفرّق هذا النظام بينها وبين أسباب الإباحة، عملاً بالمنهج القانوني الأنغلوسكسوني[25].

وموانع المسؤولية بهذا المعنى هي الأسباب التي تمسّ الإرادة، فتجعلها غير معتبرة في نظر القانون على أساس تجرّدها من التميّز أو انتفاء حرية الاختيار[26]، وقد أورد لها النظام الأساسي ثلاث مواد، هي المادة الرقم (31) التي عنونها بأسباب امتناع المسؤولية، والمادة الرقم (32) التي حملت عنوان الغلط في الوقائع أو الغلط في القانون، والمادة الرقم (33) التي سميّت أوامر الرؤساء ومقتضيات القانون. ولأجل ذلك سنتطرق إلى هذه الموانع بشيء من التفصيل، لأهميتها في إدانة مرتكبي الجرائم الدولية، من خلال:

1 – المادة الرقم (31) كأساس قانوني لتحديد موانع المسؤولية الجنائية

تطرقت المادة الرقم (31) من القانون الأساسي إلى تحديد موانع المسؤولية، حيث أشارت في بدايتها بوضوح إلى وجود أسباب أخرى لانتفاء المسؤولية الجنائية نصّ عليها هذا القانون، إضافة إلى الأسباب الأربعة التي تطرقت إليها بالتفصيل، وهي:

أ – المرض أو العاهة العقلية

نصت المادة الرقم 31/1/أ من النظام الأساسي للمحكمة على «أنّه لا يساءل الشخص جنائياً إذا كان وقت ارتكابه الجرم يعاني مرضاً، أو قصوراً عقلياً، يتمثل بعدم قدرته على إدراك مشروعية عمله أو طبيعة سلوكه، أو عدم قدرته على التحكّم في سلوكه، بما يتماشى مع مقتضيات القانون».

ويلاحظ أن نصّ هذه المادة لا يعني، بشكل مباشر، فقدان العقل أو المرض العقلي، بقدر ما يركّز على معيار الأثر المترتب على الإصابة بهذا المرض، بحيث يمكن الاعتداد به في منع قيام المسؤولية الجنائية إذا كان من شأنها أن تعدم القدرة على الإدراك أو حرية الاختيار لدى الفاعل، كما إنّه لم يبيّن الحكم عند إصابة الفاعل بالمرض العقلي الذي يؤدي إلى ضعف التركيز وحرية الاختيار، وليس فقدانهما، وبالتالي تركت الباب مفتوحاً لهيئة المحكمة لتقدير حجم الضعف، ومن خلاله حجم العقوبة[27].

والجدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا رفضت الدفع بالجنون المقدم من «سيليبيش»، أحد المتهمين، وذلك لإخفاقه في تشخيص المرض، رغم اضطرابه الواضح، لأنه كان بإمكانه السيطرة على أفعاله.

ب – السكر

نصّت المادة 31/1/ب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على «أنّه لا يساءل شخص جنائياً إذا كان وقت ارتكابه الجريمة في حالة سكر، مما يعدم قدرته على إدراك عدم مشروعية أو طبيعة سلوكه، أو قدرته على التحكم في سلوكه بما يتماشى مع مقتضيات القانون، ما لم يكن قد سكر باختياره في ظلّ ظروف كان يعلم فيها أنه يحتمل أن يصدر عنه نتيجة سلوك يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة أو تجاهل فيها هذا الاحتمال».

والملاحظ من هذه المادة أنها قيّدت مانع السكر، وفرّقت بين السكر الاختياري الذي لا يشكّل بمنطوقها مانعاً من موانع المسؤولية، والسكر غير الاختياري الذي هو مانع هذه المسؤولية، حيث عرف إقرار هذه المبدأ مناقشات واختلافات كثيرة بين الدول المساهمة في صياغة القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ورغم هذه القيود وغيرها، فإن هذا النصّ ما زال عرضة لانتقادات عديدة، من بينها أن مضمونه يحمل الادعاء العام أو المشتكي على إثبات مبدأ الاختيار من عدمه في نية الفاعل.

ج – الدفاع الشرعي

أشارت المادة 31/1/ج من النظام الأساسي للمحكمة إلى أنّه «لا يساءل الشخص جنائياً إذا كان وقت ارتكابه الجريمة على نحو معقول للدفاع عن نفسه، أو عن شخص آخر، أو يدافع في حالة جرائم الحرب عن ممتلكات لا غنى عنها لبقاء الشخص، أو شخص آخر، أو عن ممتلكات لا غنى عنها لإنجاز مهمة عسكرية ضدّ استخدام وشيك وغير مشروع للقوة، وذلك بطريقة تتناسب مع درجة الخطر الذي يهدد هذا الشخص، أو الشخص الآخر، أو الممتلكات المقصود حمايتها، أو اشتراك الشخص في عملية دفاعية تقوم بها قوات، لا يشكل في حدّ ذاته سبباً لامتناع المسؤولية الجنائية بموجب هذه الفقرة الفرعية». وهكذا، فالدفاع الشرعي بمنطوق هذا الفقرة، وهو سبب من أسباب سقوط المسؤولية الجنائية، يتطلب حصول فعلين، هما: الاعتداء بشرط أنْ يكون هذا الأخير على وشكّ الوقوع، أو وقع ولم ينته بعد، ثمّ أن يكون فعل الاعتداء هذا غير مشروع دولياً؛ وفعل الدفاع بشرط أن يكون هذا الدفاع متناسباً مع فعل الهجوم، وضرورياً لردّ الهجوم، وأن يشكّل هذا الدفاع في أصله جريمة من الجرائم التي تختص فيه المحكمة[28].

د – الإكراه

أقرّت المادة الرقم 31/1/د من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أنّه «لا يساءل الشخص جنائياً إذا كان السلوك المدعي أنّه يشكّل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد حدث تحت تأثير إكراه ناتج من تهديد بالموت الوشيك، أو بحدوث ضرر بدني جسيم مستمر أو وشيك ضدّ ذلك الشخص أو شخص آخر، وتصرّف الشخص تصرفاً لازماً ومعقولاً لتجنب هذا التهديد، شريطة أ لّا يقصد الشخص أن يتسبب في ضرر أكبر من الضرر المراد تجنبه، ويكون التهديد:

– صادراً عن أشخاص آخرين.

– تشكّل بفعل ظروف أخرى خارجة عن إرادة ذلك الشخص.

وما تجدر الإشارة إليه هنا أن النصّ اعتبر الإكراه، بنوعيه المادي والمعنوي، سبب من أسباب انتفاء المسؤولية الجنائية[29].

2 – الغلط وأوامر الرؤساء ودورهما في انتفاء المسؤولية الجنائية الفردية

نصّت المادتان الرقمان (32) و(33) على الغلط وأوامر الرؤساء كمسببات لانتفاء المسؤولية الجنائية الفردية في نظام روما الأساسي.

أ – الغلط

تطرَّق نظام روما الأساسي إلى الغلط كمانع من موانع المسؤولية، حيث يتم تعريفه في الغالب على أنه حالة عقلية يدرك من خلالها الشخص موضوعاً معيناً على خلاف حقيقته التي يظهر عليها في العالم الخارجي[30]، وقد قسمه النظام الأساسي للمحكمة إلى قسمين، هما:

(1) الغلط في الوقائع: نصّت المادة الرقم (32)، الفقرة الأولى، على أنّه «لا يشكّل الغلط في الوقائع سبباً لانتفاء المسؤولية الجنائية، إلا إذا نجم عنه انتفاء الركن المعنوي المطلوب لارتكاب الجريمة».

وبالتالي، فإن اعتبار الغلط في الوقائع سبباً من أسباب انتفاء المسؤولية الجنائية، رهين بانتفاء الركن المعنوي للجريمة، ولملزمية هذا الركن وأساسيته في تحديدها.

ومعنى ذلك أن الغلط الجوهري في الوقائع، أي الغلط الذي ينصبّ أو يقع على عنصر أو أكثر من العناصر المكوّنة للجريمة، هو الغلط الذي من شأنه نفي القصد الجنائي، ومن ثمّ انتفاء الركن المعنوي المطلوب لارتكاب الجريمة[31].

(2) الغلط في القانون: نصّت المادة الرقم (32)، الفقرة الثانية، من نظام روما الأساسي للمحكمة على أنّه «لا يشكل الغلط في القانون من حيث ما إذا كان نوع معيّن من أنواع السلوك يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة سبباً لامتناع المسؤولية الجنائية، ويجوز مع ذلك أن يكون الغلط في القانون سبباً لامتناع المسؤولية الجنائية، إذا نجم عن هذا الغلط انتفاء الركن المعنوي المطلوب لارتكاب تلك الجريمة، أو إذا كان الوضع على النحو المنصوص عليه في المادة الرقم (33)»[32].

وبهذا أوردت هذه المادة استثناء على القاعدة العامة التي ذكرتها، وهي أنَّ الغلط في القانون لا يعتبر سبباً لانتفاء المسؤولية الجنائية، إلا إذا كان ينصبّ على الركن المعنوي لهذه الجريمة تكريساً للمبدأ القائل: «لا يعذر أحد بجهله للقانون».

وبالتالي، فإن افتراض العلم بالقانون ليس مطلقاً، فإذا ثبت مثلاً أن الظروف التي أحاطت بالجاني عند ارتكابه فعله قد جعلت علمه بالقانون مستحيلاً، فإن اعتذاره بالجهل به ينفي عنه القصد الجنائي، والاستحالة هنا مطلقة بحيث تجرد الجاني من كلّ وسائل العلم بالقانون[33].

ب – أوامر الرؤساء

نصّت المادة الرقم (33) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنّه:

أ – في حالة ارتكاب أي شخص لجريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لا يعفى الشخص من مسؤوليته الجنائية إذا كان ارتكابه لها قد تمّ امتثالاً لأمر حكومته أو رئيس، عسكرياً أكان أم مدنياً، عدا الحالات التالية:

- إذا كان على الشخص التزام قانوني بطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني.

- إذا لم يكن الشخص على علم بأن الأمر غير مشروع.

- إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر ظاهرة.

ب – لأغراض هذه المادة، تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضدّ الإنسانية.

وبالتالي، فهذه المادة أقرّت قاعدة عامة أوردت عليها استثناءات ثلاثة، فهي أقرّت عدم جواز انتفاء من المسؤولية الجنائية عن جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، امتثالاً لأمر صادر إلى شخص عن حكومته أو رئيسه العسكري أو السياسي[34]، أي بمعنى أنّه لا يجوز الدفع أو الاحتجاج بطاعة الأوامر كسبب لانتفاء المسؤولية، إلا في الشروط التي عدّدتها، على سبيل الحصر والاستثناء هذه المادة[35].

وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن مسألة انطباق أسباب امتناع المسؤولية الجنائية التي نصّ عليها النظام الأساسي للمحكمة، على الدعوى المعروضة أمام المحكمة، يرجع البتّ فيها إلى هذه الأخيرة[36].

 

قد يهمكم أيضاً  الأونروا : بين الترويض السياسي والتقليص الخدماتي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المحكمة_الجنائية_الدولية #المسؤولية_الجنائية_الدولية #حقوق_الإنسان #القانون_الدولي