ليس من قبيل الصدفة أن تنعقد الدورة الثلاثون للمؤتمر القومي العربي بالتزامن مع الملتقى الشعبي العربي الثاني ” متحدون ضد صفقة القرن”، تماماً كما أنه لم يكن من قبيل المصادفة أنه جرى انعقاد عدة دورات من المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين بالتزامن مع دورات المؤتمر القومي العربي في السنوات السابقة.

فاذا كانت فلسطين ومقاومتها وقضاياها هي بوصلة العروبة والحركات الملتزمة بمضمونها التقدمي التحرري الديمقراطي الانساني، وكان استهدافها أساساً بالاغتصاب والاحتلال مدخلاً لتمزيق وحدة العرب وتكريس الهيمنة الاستعمارية على أقطارهم، فإن العروبة، كهوية تنطوي على مشروع نهوض، وتتكامل فيها خصوصيات متنوعة، هي أيضاً ضمانة بوجه أي تلاعب بالحق الفلسطيني منذ انطلاق المشروع الصهيوني قبل أكثر من مئة عام…

ولقد كان القرن الماضي بأسره، وامتداداته في هذا القرن، مسرح عمليات لذلك الصدام التاريخي – حسب المفكر اللبناني نجيب عازوري – بين حركتين، هما الحركة القومية العربية والحركة الصهيونية، وهو صدام مستمر حتى الساعة من خلال “صفقة القرن” التي لا تستهدف تكريس الاحتلال الصهيوني على القدس وفلسطين والجولان العربي السوري ومزارع شبعا وكفرشوبا اللبنانية فحسب، بل تستهدف الأمة العربية بأسرها في هويتها ووحدتها ومواردها واستقلالها وسيادتها…

من هنا يكتسب انعقاد المؤتمر القومي العربي اليوم، كما انعقاد العديد من الاجتماعات واللقاءات العابرة لحدود سايكس – بيكو، أهمية خاصة في تعبئة الطاقات وتوحيد الجهود وتجاوز الصراعات البينية بين الأفكار والأقطار التي ما تراجع النضال العربي وقضاياه يوماً إلا حين نجح أعداء الأمة في جعل الصراعات الثانوية، والفتن الأهلية، تحجب الصراع الرئيسي بين الأمة وأعدائها الحقيقيين…

وإذا كان من تفسير لأحد أهم أسباب استمرار المؤتمر القومي العربي في الانعقاد على مدى ثلاثين عاماً، رغم كل ما مرّ بالأمة من أعاصير وزلازل وعواصف، وما واجه المؤتمر ذاته من حملات تشهير واتهامات متناقضة، وحصار مادي واعلامي وسياسي خانق، فهو أن هذا المؤتمر بقي مشدوداً الى متطلبات الصراع الرئيسي والوجودي الذي تخوضه الأمة في مواجهة المشروع الصهيو – استعماري وأدواته المحلية وفي مقاومة مناخات التجزئة والتفتيت والفتنة المرتبطة به.

وتمسك العروبيين الأحرار بأولوية الصراع الرئيسي مع العدو على كل تناقض فرعي أو خلاف ثانوي ليس مرده فقط الإدراك الواعي بأن الأمة العربية ما زالت تعيش في مرحلة تحررها القومي واستقلالها الوطني والتي تفرض تعالياً على كل الصراعات الثانوية، بل مرده كذلك هو ادراكهم أيضا أن المؤامرة الحقيقية على العروبة، كما هي على كل الهويات الجامعة والأفكار الموحدة، إنما تكمن في محاولة مصادرة العروبة، كهوية وكتوجه وكاتجاه، واستخدام بعض الأبواق والأوساط لجعلها سلاحا آخراً في جعبة أعداء الأمة في معارك غير معاركها الحقيقية، وفي مواجهات غير المواجهات المرتبطة بمشروعها النهضوي….

فالحرب على العروبة اليوم، كهوية ثقافية جامعة، تأخذ مسارين مرتبطين ببعضهما البعض، المسار الأول هو تحميل كل قطر من أقطار العروبة، بدءاً من فلسطين، من الأعباء والأثقال والمواجع والجراح، ما يجعله يشعر أنه وحيد في مواجهة ظروفه الصعبة ليحمّل أبناء أمته مسؤولية هذه  المواجع والجراح، رافضاً التميز بين جماهير الأمة التي تواجه الوجع ذاته في أقطارها وبين العديد من حكام الأمة الذين يعتقدون  أن بقائهم في سدة الحكم رهن برضى المستعمر وامتداده الصهيوني، وأن ما عليهم سوى السعي للحصول على “رضاه” بكل الوسائل بما فيها التنكر لحقوق الأمة بل والتواطؤ عليها كما نشهد اليوم في “صفقة القرن” و”ورشة البحرين”، وكما نشهد كل يوم في الحروب التي تشن، والفتن التي تشتعل في هذا القطر أو ذاك…

أما المسار الثاني فهو صرف الأنظار عن العدو الحقيقي للأمة، وهو التحالف الاستعماري – الصهيوني، وتحويلها الى مواجهة اعداء ” افتراضيين” تجمعهم مع أمتنا العربية روابط الجوار والعقيدة والحضارة والمصير المشترك، بل والتهويل بالمخاطر التي يشكلها هذا “العدو” المفترض لدرجة الاستقواء بالعدو الحقيقي للأمة من اجل محاربته ومواجهته أيّاً تكن كلفة هذه المواجهة.

فالعروبة الحقيقية، المتكاملة في جوهرها مع رسالة الاسلام والمدركة بتجربتها دور المسيحيين العرب في إرساء نهضتها، والمنفتحة على روح العصر مع تشبثها بتراثها الروحي والحضاري للأمة، والمدافعة عن وحدة كل قطر عربي واستقلاله وإعلاء قيم الحرية والعدالة والتقدم فيه، وتفاعلها الواثق بالنفس مع دول الجوار كما مع كل الدول الصديقة في كل أرجاء المعمورة، هي التي أعطت للمؤتمر القومي العربي، ولكل ما انبثق عنه من تشكيلات كمخيمات الشباب وندواتهم الفكرية، وكملتقيات عربية ودولية من أجل فلسطين والمقاومة، وكمبادرات إطلاق حوار لمواجهة التوترات والحروب الدائرة في أكثر من قطر، مصداقية تجعل من أعضائه يتحملون كل عام أعباء السفر وتكاليفه من أقطارهم الى حيث ينعقد المؤتمر ليؤكدوا باجتماعهم انه ما زال في الأمة أطر تجمع، وهيئات للحوار والتشاور، وقضايا تستحق بذل التضحيات من أجلها…..

ولعل أفضل ما تعتز به الدورة الثلاثون للمؤتمر انعقادها في بيروت في 5-6 تموز/ يوليو القادم هو أولئك الشباب من أعضاء المؤتمر وأجوائه الذين تضمهم معتقلات بعض الأنظمة، لا لتهمة إلا لأنهم ارادوا أن يعطوا العروبة معناها الحقيقي ومعناها المقاوم لكل مشاريع الهيمنة والاحتلال والاستعمار على بلادهم…

أما الذين شككوا، ويشككون، بهذا المؤتمر وبكل تجربة وحدوية مماثلة، فالرد عليهم يأتي من دخول هذه التجربة عامها الثلاثين وهي مستمرة في مواقفها السليمة، واستقلاليتها المشرفة، ومبادراتها المضيئة رغم الحصار الذي بات خانقاً…

بالتأكيد نقرّ بأن لهذه التجربة القومية الرائدة ثغراتها وأخطاؤها، ولبعض أعضائها “انزياحاتهم” غير المبررة، لكن الخيار الرئيسي لهذه التجربة كان ولا يزال الانتصار لقضايا الأمة، وفي مقدمها قضية فلسطين، ولمشروعها النهضوي الذي نعتز أنه وليد واحدة من كبرى المؤسسات القومية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية الذي يختنق هو الآخر يوماً بعد يوم لأنه متمسك بشعاره الذي رفعه منذ تأسيسه قبل أكثر من 40 عاماً وهو شعار “الخبز مع الكرامة”.