تحتل إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلمانية حيزاً مهماً وكبيراً في الساحة السياسية والفضاء الفكري العربي والإسلامي، وقد احتدم النقاش والسجال – ولا يزال – بين مختلف التيارات والتوجهات المختلفة إثباتاً ونفياً وتوفيقاً لهذه العلاقة، حتى بات الأمر أشبه بـ «عقدة تاريخية» تسم العلاقة بين كل من الإسلام والعلمانية.

أولاً: خلفية تاريخية

كانت البداية الرسمية لحركة علمنة المجتمع في الدولة العثمانية إثر صعود مصطفى كمال أتاتورك إلى الحكم، حيث عمل على تثوير أسس النظام القديم، وتركيز أسس الدولة الليبرالية العَلمانية الحديثة، التي تأثر بها أثناء دراسته بفرنسا[1]. فقد ألغى نظام «الخلافة الإسلاميّة» سنة 1924، وأعلن عن قيام الجمهورية التركية، وسط استنكار المسلمين في تركيا وبقية العالم الإسلامي، وخاصة في مصر، حيث عقد مؤتمر إسلامي عام سنة 1926، لإحياء منصب الخلافة أشرف على انعقاده محمد رشيد رضا، الذي رأى في سعي أتاتورك لتركيز أسس الدولة العَلمانية الحديثة «محض كفر، وارتداد عن الإسلام لا شبهة فيه»[2].

وتحت شعار (المهمة التحضيرية للشعوب المتخلفة)، قامت الدولة الاستعمارية في البلدان العربية ببعض الإصلاحات، إلا أنها لم تكن ترى في الإصلاح إلا وسيلة لمزيد إحكام سيطرتها الاقتصادية على البلدان الخاضعة لها، فكان تقويضها للبنى السياسية والثقافية التقليدية، ودفعها للنخب السياسية المحلية نحو تقديم تنازلات سياسية وثقافية، فعملت الدولة الاستعمارية «بصفة منهجية على إضعاف العقائد الدينية التي كانت منطلقاً لمقاومة المستعمر، وخاصة بعد مساندة الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني لفكرة الجامعة الإسلامية في مواجهة القوى الاستعمارية التي أخذت تهدد بجدية الأجزاء المتبقية من الإمبراطورية العثمانية»[3].

لقد ساهمت جملة ما أحدثت الدولة الاستعمارية – وفقاً لعزيز العظمة – «في بروز مثقف حديث، متشبّع بالقيم الثقافية الحديثة، وغير ملتفت إلى الثقافة الدينية، التي لم تعد تواكب المشاغل التي أصبحت تشغل فكره. في حين أُجبر (الدينيون) على الخروج عن حركة التاريخ والمجتمع، بفعل قصور أيديولوجيتهم على استيعاب مستجدات العصر، فظهرت المحاولات الأولى لدراسة الدين الإسلامي في ضوء العقلانية الحديثة، فنُزع غشاء القداسة الذي كان يحول دون عقلنة النظر في النصوص التأسيسية، وأصبح القرآن شأنه في ذلك شأن السُنَّة نصوصاً لغوية تاريخية، لا تختلف عن غيرها من النصوص اللغوية، وتبقى أعمال طه حسين، وعلي عبد الرازق في دراسة التراث الديني أكبر أثر، وإن لم تكن بالضرورة الأكثر جذرية»[4].

ونظراً إلى عنف ردة فعل المؤسسة الدينية على هذين المفكرين، فقد ذهب طه حسين (في الشعر الجاهلي) إلى أن «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذيـن الاسمين فـي التـوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها». ثم يقول: «ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى»[5].

كما حاول علي عبد الرازق، البحث في أصول الحكم في الإسلام، من منظور دينـي منفتـح، من خلال كتابه: الإسلام وأصول الحكم؛ الذي صدر في عام 1925، أي بعد عام من إطاحة منصب الخلافــة. وبصرف النظر عن الغايات التي هدف إليها المؤلف من وراء إصدار الكتاب، ومدى صلته بمحاولة إقصاء الملك فؤاد عن منصب الخلافة[6]، فإن عبد الرازق حاول – انطلاقاً من تحليل النصـوص التأسيسية، ودراسة الفترة النبويـة وما تلاها – إثبات كون الرسول (ﷺ) لم يكن مؤسس الدولة الإسلامية، وأن زعامته زعامة دينية خالصة، فالإسلام عند علي عبد الرازق «دين لا سياسة، ورسالة لا حكم، وروحانية لا دولة، وبلاغ مجرد عن التنفيذ»[7]؛ بمعنى الفصل الواضح بين الإسلام كـ (دين)، وبين الدولة كـ (شأن بشري) ليس لها علاقة بالإسلام، ولعل ما يميز مقاربة علي عبد الرازق «انطلاقها من منطلقات إيمانيـة دينيـة، وهـذا ما يدل على أن الدراسات التراثيّة قد بدأت تعضد الفكر العلماني بمدها صلاحيته ومرجعيته إلـى المادة التي يُعمّي عليها الدينيون ويخرجونها من نطاق عمل العقل»[8].

في تلك الأثناء ظهر شعار (الإسلام دين ودولة)[9]، ليؤكد أن فصل الدين عن الدولة مناقض لروح الإسلام ونصوصه التأسيسية. استمر هذا الشعار تتداوله الأجيال، وخصوصاً أن من تبنّاه حركة الإخوان المسلمين.

كما أن عدم نجاح الدولة الحديثة القائمة على الفلسفة العلمانية، في تغيير المجتمع وفقاً لأهدافها، أو تغيير نمط تفكيره؛ ساعد – ذلك الفشل وفقاً لهشام شاربي – على صعود تيار إسلامي جماهيري، يدعو إلى الربط بين الدين والدولة، إذ إن هذا الصعود هو حصيلة الانفصال بين الدولة والأمة، فكانت الحركة الإسلامية المعبِّر القوي عن مشاعر الجماهير المحرومة، بشكل لم تحققه أي أيديولوجية قومية كانت أو اشتراكية[10]. أما عن السبب، فيقول برهان غليون «بقدر ما ارتبطت العلمانية بالسلطة، هذه السلطة التي بقدر علمانيتها كانت ترتبط أيضاً بالأجنبي، نزلت النزعة الدينية إلى المعارضة، وبقدر ما ارتفعت الأوساط الاجتماعية التي تتبنى العلمانية في المرتبة الطبقية، نزل الدين إلى الشارع»[11]. فظهور المد الإسلامي كان نتيجة طبيعية لإخفاق الدولة الحديثة التي قادها التيار العلماني[12].

ثانياً: جوهر المشكلة بين الإسلاميين والعلمانيين

ينطلق الخطاب الإسلامي في مساجلته مع العلمانية، من اعتبار العلمانية فلسفة خاصة بالغرب، معبِّرة عن خصائص تجربته التاريخية والدينية، وأنها لذلك السبب غير قابلة للاستدعاء أو التوظيف… وأن النظم القائمة على أساسها غير قابلة للتطبيق على واقع الاجتماع السياسي في البلاد الإسلامية، والبديل هو تطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة والحكم والتي تصلح لكل زمان ومكان.

زاد من ظهور وقوة هذا الخطاب، ظهور مصطلح «الحاكمية»، الذي صكه أبو الأعلى المودودي، وتلقفه سيد قطب. فقد أكد المودودي أنه «ليس من مهمة الدولة الإسلامية، أن تعمل على إقامة الأمن والدفاع عن حدود البلاد، أو رفع مستوى معيشة الأهالي، فما هذا هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإسلامية. فإن الميزة التي تميزها من سائر الدول غير المسلمة، هي أن تعمل على ترقية الحسنات التي تريد الإسلام أن يحلي بها الإنسانية، وتستنفد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر منها الإنسانية»[13].

إلا أن الإسلاميين يختلفون فيما بينهم في اعتماد الوسائل الممكنة للوصول إلى تطبيق الشريعة، بين من يتمسَّك بالديمقراطية ويقبل بنهاياتها ونتائجها، وأن تكون خياراً شعبياً لا خياراً سلطوياً نازلاً من أعلى مواقع الحكم، وبين من لا يقبل بأن تكون مسألة تحكيم الشريعة مكاناً للمساومة والخيار؛ لأن الأمة لا تعرف مصالحها.

المنطق الأول تنزع إليه حركة الإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس، وحركة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب العدالة والتنمية في المغرب وتركيا، والتجمع اليمني للإصلاح في اليمن،… إلخ. بينما ينزع إلى المنطق الثاني، معظم الحركات الجهادية والسلفية. ولا شك في أن النخب العلمانية المستفيدة من السلطة، كانت دوماً تستثمر توجهات أصحاب المنطق الثاني للانقلاب على الديمقراطية، أو حرمان الإسلاميين الاستفادة منها، وقد أثبت التاريخ السياسي لكثير من الحركات الإسلامية والإسلاميين المستقلين، وعلى الرغم من إيمانهم بحاكمية الشريعة، إلا أنهم كانوا ملتزمين بالعمل الديمقراطي حتى نهايته، لا بل إنه في بعض الأحيان كان الإسلاميون يمارسون السياسة تحت مظلة أحزاب علمانية، كما الحال في تونس، ودخول حزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن بشراكة حقيقة مع أحزاب ذات توجهات يسارية وقومية.

من جهة أخرى، ينطلق الخطاب العلماني، باعتبار أن الدين هوية للدولة يقود إلى إشكالات اجتماعية وسياسية، فإن الوصاية الدينية على مؤسسات الدولة تقود إلى إشكالات على صعيد نظام الحكم، فلا يمكن تصور نظام حكم ديمقراطي مع وجود وصاية دينية على المؤسسات، أو في فرض مظاهر التدين قسرياً على أفراد المجتمع، ويبدو النموذج الإيراني والسعودي واضحين في شرح هذه الإشكالية. وبالرغم من وجود مؤسسات دولة منتخبة في إيران، إلا أن هذه المؤسسات خاضعة بحكم الدستور لوصاية الفقيه وولايته عليها، وهو ما يعني تعارضاً واضحاً بين الإرادة الشعبية وإرادة الفقيه، الذي يُقَدَّم على أنه ممثل الإرادة الدينية، ويؤثر هذا الوضع الديني في مسألة الحقوق والحريات، إذ إنها تخضع في النهاية للتفسير الديني الذي تتبناه المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران، وبالتالي نصبح أمام نظام حكم غير ديمقراطي، وإن كان يتمتع بشرعية انتخابية وشعبية.

ثالثاً: فض الاشتباك

تكمن الإشكالية الرئيسة في بحث العلاقة بين الإسلام والعلمانية، في ذلك الربط القسري بين العلمانية كأداة إجرائية، وبين الحداثة كفلسفة ومنهج للحياة والتفكير. بحيث بات الأمر كما لو أن العلمانية صورة واحدة لا صوراً متعددة، ويصبح على من يريد الحداثة ابتداءً، أو بالأحرى الانخراط في موجة من العقلنة والتنوير الفكري، أن يمتطي جواد العلمانية أولاً.

من جهة أخرى، فالإسلام ديانة سماوية، تستند في جوهرها إلى معنى الإيمان والاعتقاد، كما أنه منهج للحياة وفق شريعة محددة، بحيث يصبح استبدال منهج عقائدي بآخر وضعي، أمراً غير منطقي، ولن يكتب له النجاح ابتداءً، خاصة في ظل مجتمعات تؤمن – فطرة أو يقيناً – بنجاعة المنهج الإسلامي.

ظلت هذه الإشكالية بين الإسلام والعلمانية فترات طويلة تعج بها الساحة الفكرية والسياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اللحظة الراهنة. والمؤسف حقاً أنه خلال هذه المدة الطويلة، جرى تجديد طرح الإشكالية بالأدوات نفسها والأسئلة نفسها، وربما المناهج أيضاً، مع تغيّر الشخوص الحاملين لها فحسب. ومن خلال استعراض الخارطة الفكرية يمكن القول إن ثمة تيارين رئيسيين، تعرضا لهذه الإشكالية منذ نشأتها وحتى الآن:

1 – تيار القطيعة بشقيه الإسلامي والعلماني

ينطلق هذا التيار ابتداءً من فرضية القطيعة بين الإسلام والعلمانية واستحالة التعايش والتوفيق بينهما، بحيث يُعَدّ وجود أحدهما نفياً للآخر. وهو ما يمكن ملاحظته في أطروحات محمد عبده (1849م – 1905م)، ممثلاً للتيار الإسلامي، وفرح أنطون (1874 – 1922) ممثلاً لنظيره العلماني. وما هي إلا سنوات قليلة حتى تطوّع لحمل جينات هذا هذه الإشكالية شخوص جدد على كلا الجبهتين، حيث ظهر أمين الريحاني (1876 – 1940)، ونقولا حداد (1878 – 1954)، وقاسم أمين (1863 – 1908)، وطه حسين (1889 – 1973)، وأحمد لطفي السيد (1872 – 1963)، وسلامة موسى (1887 – 1958)، وكامل كيلاني (1897 – 1959)، وعلي عبد الرازق (1888 – 1966)، وإسماعيل مظهر (1891 – 1962)،… إلخ كممثلين للتيار العلماني «الإقصائي»، وإنْ تراجع بعضهم عن أطروحاته فيما بعد، في مقابل ظهور رشيد رضا (1865 – 1935)، ومحمود شلتوت (1893 – 1963)، ومحمد الخضر حسين (1876 – 1958)، وعبد الحليم محمود (1910 – 1978)، ومن بعدهم حسن البنا (1906 – 1949)، كممثلين للتيار الإسلامي الذي رأى في العلمانية خطراً يهدد جوهر العقيدة الإسلامية ما يتطلب الحذر منها.

وهكذا توالت الأسماء والمحاولات على كلا الصعيدين، تكراراً للإشكالية نفسها، حتى جاءت حقبة: مالك بن نبي (1905 – 1973)، وحسن حنفي (1935 – )، في مقابل غالي شكري (1935 – 1998)، وفؤاد زكريا (1927 – 2010)، وفرج فودة (1945 – 1992)، ونديم البيطار (1924 – 2014)، ومحمود أمين العالم (1922 – 2009)، ومحمد أركون (1928 – 2010)، وصادق جلال العظم (1934 – )، وعزيز العظمة (1947 – )، جورج طرابيشي (1939 – ). ولا تزال دوائر الاستقطاب تفعل مفعولها في الحلقات الأصغر بين ممثلي كلا التيارين: نصر حامد أبو زيد (1943 – 2010)، والعفيف الأخضر (1934 – 2013)، وجابر عصفور (1944 – )، والسيد يس (1919 – )، وشاكر النابلسي (1940 – 2014)، وعزمي بشارة (1956 – )، عن التيار العلماني، في مقابل يوسف القرضاوي (1924 – )، وطارق البشري (1933 – )، ومحمد عمارة (1931 – )، ومحمد سليم العوا (1942 – )، وراشد الغنوشي (1941 – )، عن التيار الإسلامي، ولا يبدو أنها ستتوقف في الأمد المنظور.

2 – تيار التوفيق بين الإسلام والعلمانية

هذا التيار سعى ولا يزال بهدف التوفيق بين العلمانية والإسلام، وهو ينطلق من فرضية مناقضة تماماً للتيار الأول، باعتبار عدم وجود تعارض بين كلا الأمرين. وبالتالي فمن الأجدى، وفقاً لهذه الرؤية، البحث عما هو مفيد من تفاعل هذه العلاقة. وقد بدأت بواكير هذا التيار أو المدرسة في كتابات محمد حسين هيكل (1888 – 1956)، بعد عودته من العلمانية إلى الوسطية التوفيقية في «الإيمان والمعرفة والفلسفة، وفي منزل الوحي»، ومصطفى عبد الرازق (1885 – 1947)، وأحمد أمين (1886 – 1954)، وعباس العقاد (1889 – 1964)، وتوفيق الحكيم (1898 – 1987)، مروراً بمحمد البهي (1905 – 1982)، وزكي نجيب محمود (1905 – 1993)، وصولاً إلى طه عبد الرحمن (1944 - )، ومحمد جابر الأنصاري (1939 - )، ومحمد الشرفي (1936 – 2008)، ومحمد عابد الجابري (1936 – 2010)، في نظرته الاعتبارية لظروف البيئة والمجتمع، وأخيراً، عبد الوهاب المسيري (1938 – 2008)، في نظريته عن العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة.

أمام هذا السجال التاريخي والمتجدد في الساحة الفكرية، يعتقد الكتاب أن الوقت قد حان لتجاوز طرح مسألة العلاقة بين العلمانية والإسلام وفق منهج «التجاذب التاريخي»، حتى لا تستمر حالة (مع أو ضد) فاعلة في عقول الأجيال الناشئة.

في هذا السياق، يمكن تقديم محاولة أولية، لفض الاشتباك الفكري الناجم عن اختلاف الرؤى والأطروحات المتعلقة بمعالجة هذه الإشكالية، والذي فاق حدود المعقول، وأجَّج حالاً من التناحر الفكري، شغلت العقل العربي طوال أكثر من قرن تقريباً، ولم تفضِ في النهاية إلى حل ناجع للمسألة. وهو ما لا يأتي إلا من خلال إعادة توصيف منبع الخلاف، الذي تاه وسط غابة من التحيّزات والمواقف المتناقضة يميناً ويساراً.

يؤكد محمد المختار الشنقيطي، أن «العلمانيين جعلوا الوحي ظاهرة تاريخية، وهذا مستحيل أن يُقبل في الإسلام، أما الإسلاميون – وتحديداً السلفيين – فقد جعلوا التاريخ وحياً، وألزموا أنفسهم والمجتمعات المسلمة بما لا يلزم، وهذا مستحيل أن يقبل به إنسانياً»[14]، وهذان الأمران (الوحي والتاريخ)، أوجدا قطيعة بين الطرفين (الإسلاميين والعلمانيين). فالشريعة هي «إلهية في الأصل والمبتدأ، لكنها تؤول عند التفسير والتطبيق أناسية دنيوية، لأن المجتهد أياً كان مبلغ علمه وفهمه، يصدر عن ظن في ما يراه، أو يستنبطه، ولا يمكن له أن يبلغ اليقين»[15].

مع أن الإسلام والعلمانية، قد لا يختلفان بالضرورة في الأهداف الاجتماعية التي يسعيان إليها. فإذا كان الإسلامي يراها من منظورات عقيدية وحضارية، وأن الإسلام لا بد أن يقود مسيرته، فإن العلماني يريدها علاقة فردية بين الخالق والمخلوق، لكنه يريد للحياة أن تتأسس وفق معايير العدالة، والتضامن الاجتماعي، والمساواة والحريات.

إن الخلاف هنا، حول المنهج والوسيلة التي تحقق النظام الأمثل، بما في ذلك النظام السياسي. فالإسلامي يراه في الإسلام، أما العلماني فإنه يتكئ على فلسفة الغرب ونموذجه الحضاري، ويرى أن التقنين الغربي (حديث)، فيما تقنين الإسلام (تراث)، ليس من ضرورة لإعادة العمل به بعد أن تجاوزته حركة التاريخ!!

إذاً على الإسلاميين الانطلاق من حقيقة الإسلام ومبادئه العامة، ومقاصده الكلية التي جاء بها؛ لتحقيق الأمن والسعادة للبشرية، وتحرير العقل من الكهنوت والتبعية، وعليهم الاتكاء في ما يتعلق بالقضايا السياسية والدنيوية على قاعدة حديث (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)[16]. وكان ذلك يتعلق بمسألة فنية زراعية، فلم يُرسل الأنبياء (p) ليعلّموا الناس فنون الزراعة والمواصلات والحروب، وتنظيم المحاكم وفنون إدارات الدول، وحتى إن حدث أن مارسوها فليس ذلك من جوهر رسالتهم. وانطلاقاً من هذه القاعدة فـ «إن السياسة في الإسلام من أمور الدنيا»[17].

وبالطرف الأخر، على العلمانيين الوعي بأن «كل دعاء بأن لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، يقصد به عزل الدين عن السياسة حتى يأمن المتسلط من أي حركة معارضة باسم الدين تقضي عليه، وعزل السياسة عن الدين حتى يفعل النظام السياسي ما يشاء طبقاً لمصلحة النخبة السياسية، دون مراعاة لشريعة أو قانون. فهو قول سياسي أيضاً على نحو سلبي ضد الصلة الطبيعية بين الدين والسياسة، فالدين وسيلة لتحرير البشر، والسياسة أداة لتنفيذ شرائعه. إن فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين – كما تريد العلمانية المعاصرة – هو فعل ديني سياسي في آن معاً، على نحو سلبي كذلك. فالسياسي يريد أن يتفرد بالحكم دون مزاحمة الديني له، كما هي الحال في بعض النظم العربية المعاصرة، والديني الذي يريد إقصاء السياسي، إنما يريد جعل الدين حكراً عليه، وعالماً مغلقاً ملكوته الخاص دون أن ينافسه فيه رجال السياسة»[18].

فالإسلام – بقواعده وكلياته وروحه – دين إنساني عالمي، الأمر الذي جعل المفكر المصري حسن حنفي يؤكد أن «الإسلام دين علماني في جوهره، ومن ثم لا حاجة له لعلمانية زائدة عليه، مستمدة من الحضارة الغربية. إنما تخلفنا عن الآخر هو الذي حوَّل الإسلام إلى كهنوت وسلطة دينية، ومراسم وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود، حتى زهق الناس واتجهوا نحو العلمانية الغربية، بما تمثله من عقلانية وليبرالية وحرية وديمقراطية وتقدم. فالعيب فينا وليس في غيرنا، وفي تقليدنا للغير، وليس في إبداعنا الذاتي»[19].

رابعاً: تحرير مصطلح العلمانية

الاشتباك الإسلامي العلماني حجب الأسئلة الحقيقية التي تطرحها المسألة الدينية والسياسية في الدول الحديثة. فهل تعني العلمانية فصل الدين عن الدولة، أم فصل السياسة عن الدين، أم إقصاء الدين من المجال العام؟ وكيف يمكن النظر إلى تفصيلات هذه العلاقة بحسب تباين وتنوع السياقات التي طبقت فيها النظم العلمانية؟

(العلمانية) ترجمة لكلمة (Secularism) الإنكليزية، وحسب قاموس أكسفورد فإن معناها: «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد من أن تكون لمصلحة البشر في هذه الحياة، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله، أو الحياة الأخرى»[20]. وقد قسمت دائرة المعارف البريطانية الإلحاد إلى قسمين: نظري، وعملي. وأدخلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي باعتبارها: «حركة اجتماعية؛ تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدنيا فحسب»[21].

ويلاحظ من خلال ما سبق، خطأ بعض المعاجم العربية حين حاولت تعريب هذا المصطلح، حيث اقتصرت على معنى جزئي وصورة واحدة للعلمانية، الأمر الذي جعل عبد الوهاب المسيري في مشروعه الضخم يقسم العلمانية إلى جزئية وشاملة. فالجزئية هي: «فصل الدين عن الدولة، أو بعبارة أدق، فصل الدين عن الدولة، مع التزام الصمت بخصوص القضايا النهائية»[22]. أما الشاملة فهي: «فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها: العام والخاص»[23].

إذاً هناك علمانية جزئية، تعني فصل الدين عن الدولة، مع التزام حيادية الدولة تجاه الأديان. وعلمانية شاملة، تعني فصل الدين عن الحياة. وهنا يمكن تجاوز العلمانية الشاملة على اعتبار أن فكرتها مرفوضة دينياً وواقعاً خصوصاً في المجتمع العربي، أما العلمانية الجزئية، فقد تبناها الكثيرون، منهم كما سبق عبد الوهاب المسيري، ومحمد الشرفي في كتابه: الإسلام والحرية. والفكرة الأساسية التي يدافع عنها الشرفي، هي الفصل في الإسلام بين الجانب العقدي التعبدي الثابت، والجانب التشريعي المؤسسي الذي يمثل البعد التاريخي المتغير، والذي يحيل إلى سياق ماضوي لا قداسة له، وليس مرتبطاً عضوياً برسالة الإسلام. فيخلص الشرفي من استعراضه لتجربة الخلافة ونظام الدولة في السياق التاريخي الإسلامي، إلى أن التصور الإسلامي للحكم، قابل لاستيعاب النظام العلماني الذي لا يعني أكثر من الفصل الوظيفي بين الشأن الديني والشأن السياسي، أو ما يسميه «تحرير الدولة من الإسلام، والإسلام من الدولة»[24]. بيد أنه يُقر أن تخلي الدولة عن وظيفتها، في رعاية الدين وإقامته، غير مقبول في السياق الإسلامي، ولذا اقترح قيام سلطة دستورية رابعة، تدير شؤون الدين، على أن يكون الفصل محصوراً في صلب الدولة بين الوظيفة الدينية، والوظائف السياسية[25].

وفي الاتجاه العلماني، يُلاحَظ تأرجح العلمانيين، بين مقاربة «صلبة» تتوسع في إطلاق العلمنة لتشمل الفصل الكامل بين الدين والحياة، ومقاربة «مرنة» تحصر العلمانية في الفصل الوظيفي بين الدين والدولة. تتمثل المقاربة الثانية (المرنة) مع أطروحة علي عبد الرازق القائلة بأن الدولة ليست من مقتضيات الدين ولا شرائعه، ومع أطروحة برهان غليون باعتبار أن العلمانية هي: «حرية الاعتقاد والتعبير، أنها طالما اعتبرت مذهباً بحد ذاتها يفرض نفسه على الآخرين، فقدت جوهرها وأصبحت مناقضة في قيمها الأساسية لما تدعي هي نفسها التعبير عنه، وهذا يفسر أيضاً مأزقها في العالم العربي»[26].

والحال هكذا في الخطاب الإسلامي، حيث يمكن إدراك منطقين في تناول مفهوم العلمانية: الأول يرفض مقولة «الفصل بين الدين والدولة»، في حين ينادي الثانـي بـ «علمانية إسلامية»، لا تقوم على إلغاء الدين وإقصائه، بقدر ما تتأسس على قاعدة حماية التدين وحماية الأديان.

فالتصور الأول هو السائد لدى الكتَّاب الإسلاميين، الذين يذهبون إلى أن العلمانية جاءت كنتيجة من صراع الكنيسة والدولة في الغرب المسيحي، فكانت الحل الأمثل لهذا الصدام الذي لا يوجد أصلاً في المجال الإسلامي. إذاً فـ «العلمانية بمعيار الدين مرفوضة – بحسب القرضاوي – لأنها دعوة إلى حكم الجاهلية، أي إلى الحكم بما وضع للناس، لا بما أنزله الله»[27]. ووفقاً لأنور الجندي «أن أخطر ما تعارضه العلمانية: هو الدين»[28].

أما التصور الثاني، فيمكن ملاحظته عند عبد الوهاب المسيري الذي كتب أهم عمل فكري إسلامي حول العلمانية. ميَّز فيه بين «العلمانية الجزئية» التي تكتفي بالفصل بين الدين والدولة، و«العلمانية الشاملة» التي تتسع لتشمل كل ظواهر الحداثة الغربية في أبعادها المادية العقلانية[29].

فإذا كانت مقاربة القرضاوي قادت إلى نفي العلمانية باسم شمولية الدين، فإن مقاربة المسيري أفضت إلى نفي العلمانية باسم شموليتها، لعدم اكتفائها بفصل الدين عن الدولة بل القطيعة مع الدين واستبداله برؤية كونية ومغايرة.

لذلك، يطرح الاختلاف بين المنطقين أكثر من سؤال منهجي ومعرفي بخصوص تأصيل مفهوم العلمانية، وتوطينه في المجال السياسي العربي، بل إن الاجتهاد الأكبر يعود إلى الحركات الإسلامية نفسها، فهي المطالبة قبل غيرها، برفع اللبس عن مفهوم مفصلي في تشكُّل مجال سياسي مؤسس على التعددية، وحق الاختلاف، والتنافس، والتكافؤ في الفرص، وما إلى ذلك مما هو مندرج ضمن سقف الدولة المدنية.

خامساً: مقاربات وحلول من منظور إسلامي

من خلال تحرير مصطلح العلمانية، يمكن القول إن التمييز بين منظور علماني جزئي، وآخر شمولي، كالذي كشف عنه الدكتور المسيري تمييز نافع بهذا الصدد؛ لأنه يتيح تجنب إطلاق حكم عام على مفهوم يبدو لأول وهلة واحداً، ولكن عند فحصه يبرز تعدد سياقاته. وبناء على تفكيك هذا المصطلح، يمكن تقديم مقاربة تتمثل بالعلمانية التمايزية التي تقضي بالتمييز لا الفصل بين الدين والسياسة، وفقاً للمنظور الإسلامي.

1 – العلمانية التمايزية

يمكن أن تجد العلمانية التمايزية لنفسها مكاناً في تصور إسلامي اعترف بنوع من التمايز بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي، يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد، وبين المجال الديني وبالخصوص التعبدي، ما لا سبيل إليه في كلياته وجزئياته غير سبيل الوحي من عقائد وشعائر، وشأن هذا ومرجعه ما ثبت بنص يقيني الثبوت وروداً ودلالة، ولذلك ميَّز الفقهاء والأصوليون بين مجال العبادات، والأصل فيه التقيد بالنصوص الواردة، دون تعليل ولا تعطيل وبين مجال المعاملات، والأصل فيه البحث عن العلل والمقاصد والمآل، إذِ الحكمُ يدور مع العلة.

ومن هنا ميَّز الأصوليون في عمل الرسول (n) بين مهمته الرسالية التبليغية[30] وبين ما يخرج عن ذلك من نشاطه السلطاني قاضياً ومحارباً ومفتياً وزوجاً… إلخ. فالملزم للمسلمين يقتصر على الجانب الأول، أما الجانب الثاني فيندرج ضمن الاجتهاد، أو لنقل ضمن السياسة. وكان الصحابة عندما يلتبس عليهم الأمر يسألون: أهذا الأمر وحي أم رأي؟ أي سياسة. فإذا كان الأول قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا كان من الصنف الثاني أعملوا رأيهم حتى وإن خالف رأي النبي (m). فماذا يعني هذا التمييز بين المجالين؟ وما هي أهميته؟

– أولاً، ليس كل ما ورد في سيرة النبي (m) من الأعمال والأقوال والإقرار سنة تشريعية أي ملزمة للمسلمين، الملزم منها ما جاء بوصفه التبليغي.

– ثانياً، هذا التمييز سمح – عبر تاريخ الإسلام – بتبلور مؤسستين: الأولى، سياسية هي الدولة؛ والثانية، دينية يقوم عليها العلماء، تهتم بأمر تفسير النصوص والإفتاء والتعليم والوقف وما إلى ذلك.

– ثالثاً، قيام بعض أشكال حيادية الدولة، بمعنى دولة لا تتدخل في الشأن الديني تفسيراً عقدياً تفرضه على الناس، وكانت تلك خلفية انتفاضة الإمام أحمد ابن حنبل ضد ما أراده المأمون من فرض تصور عقدي على المسلمين، أو مذهب ديني وحيد تتبناه الدولة وتحارب غيره. فهذه الحادثة وفقاً لفهمي جدعان «لم تكن إلا وجهاً لجدلية الديني والسياسي»[31].

– رابعاً، لم يتح هذا التمييز فقط وجود مذاهب إسلامية متعددة داخل الدولة، وما يستتبع ذلك من وجود أنظمة ومحاكم قضائية متعددة، بل أتاح أيضاً تعايشاً خصيباً بين الإسلام بمذاهبه المختلفة، وبين الإسلام والديانات الأخرى على تنوعها.

– خامساً، أتاح التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي، إمكانية المعارضة للدولة في تاريخ الإسلام، باعتبار الدولة كياناً بشرياً يرد على سلوكه الصواب والخطأ. غير أن التقصير في التاريخ الإسلامي كان فادحاً في تنظيم هذا المجال الشوروي تنظيماً مدنياً يفسح مجالاً للاعتراض على الحاكم وتغييره دون الخروج المسلح. هذا التنظيم المدني للشورى هو ما أنجزه العقل الغربي عبر آليات الديمقراطية، ويمكن بل يجب الإفادة من قدراته التغييرية الهائلة التي نقلت الرجل الأسود من العبودية إلى قمة الهرم ودخوله البيت الأبيض دون إهراق قطرة دم واحدة. بينما التأخر في تنظيم عملية الشورى، منع الدولة الإسلامية من التحول إلى نظام سياسي مدني بعد عهد الراشدين. كما أثر التقصير في تنظيم عمليات الشورى كثيراً في مسارات الفكر السياسي الإسلامي خصوصاً عميات انتقال السلطة.

2 – العيش المشترك: (القرآن دستور المؤمنين، وصحيفة المدنية دستور الدولة)

كانت الصحيفة التي أصاغها رسول الله (ﷺ) بصفته الحاكم والقائد والقاضي، يعيش في ظلها المسلمون وأهل الكتاب على السواء، في ما يخص حقوق المواطنة. فأصبح المجتمع اليهودي جزءاً من المجتمع السياسي، وبالتالي ضرورة التزامهم بحكم رئيس هذه الدولة، لا باعتباره النبي المرسل، بل باعتبار مشروعيته السياسية المستمدة من الاتفاق نفسه. حيث إن قبول هذه الوثيقة من قبل اليهود لم يفضِ إلى اعترافهم بنبوة محمد (ﷺ)، بل بقبول مشروعيته السياسية كقائد وحاكم لتلك الدولة. يقول محمد عمارة: «فبينما كان القرآن الكريم هو الدستور الديني للجماعة المؤمنة بالإسلام، كان لجماعة المواطنين – أي للأمة بالمعنى السياسي – دستور سياسي سماه الرسول (ﷺ) في حينه، وكذلك سماه الناس والمؤرخون بالصحيفة وتارة بالكتاب»[32].

فالدولة في الإسلام وفقاً للفقيه وهبة الزحيلي «هي دولة حيادية علمانية، وقولنا حيادية علمانية، لا يعني أنها ضد الدين أو لا تأبه له، بل إنها لا تتعصب لدين مواطن ضد دين مواطن آخر، هي دولة مدنية إسلامية لا تستخدم الدين في خدمة السياسة، بل تحفظ الدين على المستوى الشخصي، كل مواطن يدين بما يشاء، وتحفظه على المستوى الجمعي كل جماعة تعتقد ما تريد، والدولة هي مسؤولة عن حماية الحريات وتنظيمها، ومراقبة خطوط التشابك، حتى لا تتحول الحريات إلى فوضى أو اعتداءات، وعليه فإن من يرغبون أو يتطلعون لحكم الأوطان الإسلامية، عليهم أن يدركوا أن الدولة هي جهاز إداري وسياسي، لمجتمع متعدد في الدين والمشرب السياسي والاجتماعي والثقافي، ولذلك فعليها أن تنظر لرعاياها على قدم المساواة..»[33]. وذهب حسن حنفي إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما أكد أن «الإسلام دين علماني منذ البداية، علمانيته معطاة من الداخل بوضع إلهي وليست مكتسبة من الخارج بجهد إنساني»[34]. فالعلمانية تعني عنده رفض سلطة رجال الدين»[35].

كما أن العلمانية نفسها وفقاً لبرهان غليون «لا تَفْتَرض ولم تُفْتَرض في أي مكان، فصل الدين عن السياسة، أو المعارضة في قيمها، فقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلا أصبحت السياسة نفياً لهويته الوطنية. إنها التمييز بين مهام رجال الدين ومهام رجال الدولة»[36].

3 – عبثية السباحة ضد تيار الأكثرية

إذا كانت هناك أكثرية عددية، تطالب بنظام سياسي معين، تعتقد بانسجامها معه، لتعيد بناء حياتها ودولتها وفق مضامينه الأساسية، فلماذا يحاول البعض السباحة ضد تيار الأكثرية، بشعارات الدفاع عن التوازن الاجتماعي، ومصلحة البلد، وقيم القوى الحديثة ومصالحها؟ إن ثمة تناقضاً واضحاً في موقف الداعين إلى الديمقراطية، يتمثل برفضهم رغبات الأكثرية المنادية بتطبيق النظام الإسلامي مثلاً. فـ «الالتزام بالشريعة الإسلامية كمرجعية عليا للاجتماع السياسي الإسلامي، ليس مجرد أمر ديني تحتمه العقيدة، بل وأيضاً موافق ومنسجم مع منطق الاجتماع السياسي»[37]. فمشروعية مبدأ الأغلبية عند الريسوني «ثابت من الناحية العقلية، وما ثبتت صحته من الناحية العقلية السليمة فهو يكتسب في نظرنا الشرعية الإسلامية؛ لأنه حين يختلف الناس فلا يكون أمامنا إلا واحد من أمرين: إما أن نأخذ برأي الأغلبية فنحكم به الأقلية، أو أن نحكم بالأقلية على الأغلبية، فلا بديل عن الحكم بالأغلبية إلا الحكم بالأقلية. وهنا نظن أن الرجحان واضح: إذا كان حق الأقلية هو حق 20 فلا شك في أن الآخرين لديهم حق 20 + الفارق العدد بينهما. فهاهنا تُرجح الأغلبية لأنه بديل عنها»[38].

ومن هنا، فإن مهمة المثقفين والداعين إلى الديمقراطية أن يخلقوا انسجاماً بينهم وبين رغباتهم وأطروحاتهم، وألا ينحازوا في مواقفهم انحيازاً أيديولوجياً، فما وافق مصالحهم تبنوه، وما لم يحقق أهدافهم، صمتوا عنه، أو عارضوه.

إن فرض العلمانية على مجتمع لا يقبلها، يعد – العلمانية – حينها مسألة مزيفة، بحسب تعبير الجابري، حيث يقول: «إن «مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلاً. إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضرورتها، بل ومشروعيتها، عندما يعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية»[39]. فالإلحاح على إقصاء الإسلام بحجة مدنية الدولة، لا يعيد إنتاج خطاب النظام الإقصائي فحسب، ولكنه يشكل تحدياً بل عدواناً صارخاً على إرادة الأغلبية الساحقة، الأمر الذي قد تكون عواقبه وخيمة على الاستقرار والسلم الأهليين[40].

سادساً: استنتاجات واستخلاصات

من خلال ما سبق، يمكن التأكيد أن تحقق العلمانية بمعناها الشامل غير وارد لا في مجتمعاتنا العربية ولا حتى الأوروبية، وهنا يمكن التأسيس على نمط جديد من أنماط العلمانية يمكن أن نطلق عليه (العلمانية التمايزية) التي تعمل على التمييز بين الدين والدولة، أو بين الفعل الديني والفعل السياسي، هذا النوع من العلمانية لا يتأسس على خلط الدين بالسياسة، كما أنه لا يُعادي الدين أو يرفضه، فالدين يظل عاملاً مهماً في بناء الأخلاق، وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم، إلا أن ما ترفضه (العلمانية التمايزية)، هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، الأمر الذي قد يحوِّل الدين إلى موضوع خلافي وجدلي، وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة، وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة، وهذا ما يمكن ملاحظته في الوقت الراهن في الوطن العربي، وحتى في بعض الدول الإسلامية.

في هذا السياق – والذي يقضي بعدم الدمج بين الدين والدولة، وأيضاً عدم الفصل بينهما – يتوجب التمييز بين الدين والدولة، أو بين الفعل الديني والفعل السياسي، وما يؤكد ذلك، كما مرّ سابقاً في (وثيقة المدينة) والتي ميّزت بين أمة السياسة (جميع ساكني المدينة)، وبين أمة الدين (المؤمنين من المهاجرين والأنصار)، كذلك ما يؤكد هذه الرؤية أفعال الرسول الكريم (ﷺ) فمنها ما كان طابعه ديني ومنها ما كان طابعه سياسي مدني، ومن أشهر الأصوليين الذين اعتنوا بهذا الموضوع، وقاموا بتحليل تصرفات النبي (ﷺ) تحليلاً فقهياً: العز بن عبد السلام (577ه – 660ه)، في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) [41]، وشهاب الدين القرافي (626ه – 684ه)، في (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي الإمام وكتابه الآخر المشهور بـ الفروق)[42]، والعلامة محمد الطاهر بن عاشور ( 1879 – 1973) في (مقاصد الشريعة الإسلامية)[43]، وعلّال الفاسي(1910 – 1974)، في (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكانتها)[44]، والدكتور سعد الدين العثماني في كتابه القَيّم: تصرفات الرسول بالإمامة.

إن القرارات والسياسات التي نهجها الرسول (ﷺ) في إطار الدولة التي أنشأها في المدينة، والتي يدخل معظمها في باب التصرفات بالإمامة، كانت تشريعاً خاصاً، بمعنى أنه «تشريع مرتبط بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليس عاماً للأمة كلها. والتصرفات النبوية التشريعية الخاصة ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم»[45]. وأهم سمات هذه التصرفات، أنها تصرفات تشريعية خاصة، مرتبطة «بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها»[46]. فالتمييز الأصولي بين تصرفات النبي (ﷺ) تعطي إمكانية كبيرة لبناء تصور فكري يؤصل للتعددية، ليس فقط السياسية منها، وإنما أيضاً التعددية الاجتماعية والفكرية.

هذا التمييز يؤكد أن الممارسة السياسية تدور بين الخطأ والصواب في التقدير، وليس بين الحق والباطل، إذ إن من مقتضى هذا الاعتبار، سحب مجموعة من المفردات العقدية من ساحة الممارسة السياسية، والتي من شأنها أن تقرِّب وجهات النظر المختلفة في علاقة الدين بالدولة. فهذا التمييز بين السياسة والدين يُؤسس لأرضية الاعتراف بالآخر، والاعتراف بحقه في النظر والتقدير المصلحي، والإسهام في تحريك الفعل السياسي، وتقديم المبادرة السياسية. فترك مجال التقدير في السياسة للنظر المصلحي، يعني أن كلاً من الإسلاميين والعلمانيين يملكون النظر في مكونات الواقع السياسي وبنيته، ويملكون إبداع ما يرونه مناسباً من وسائل وخطط وبرامج لمقاربة العدل والمصلحة والخير. فالإسلام – وفقاً للأنصاري – «وإن لم يفرق في نظامه الشامل بشكل قاطع بين الدنيا والآخرة، فإنه يميز قطعاً بين حقوق الله وحقوق الإنسان، بين حاكمية الله في الكون، وإمرة الإنسان في شؤون دنياه. وما لم يتأكد هذا الفصل المبدئي ومفهومه في الفكر واللغة، فإن الطريق المسدود للجدل العقيم بين الخوارج والفرق الإسلامية الأخرى سيتكرر في الحياة الإسلامية المعاصرة بمصطلحات مستحدثة لن يؤدي أي منها إلى تحديد طبيعة المسألة المتنازع عليها بل سيؤدي إلى مزيد من النزاع»[47].

 

قد يهمكم أيضاً  الفكر السياسي العربي المعاصر: علماني أم ديني؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العلمانية #الإسلام #الإسلام_والعلمانية #الدين_والدولة #الدين_والسياسة #فصل_الدين_عن_الدولة #أتاتورك #العلمانية_التمايزية