غايتي من هذه المقالة النظر إلى الفكر السياسي العربي المعاصر من منظور مُقارِن لفهم تنوّعه وغناه، على الضدّ من الآراء التي تصدح بها المجالات الإعلامية والأكاديمية وفحواها أنه يوجد «عقل عربي» جامد ومتحجّر صاغه حصراً، على ما زُعم، فكرٌ ديني إسلامي. يشيع تصوّر مفاده أن العرب والمسلمين بوجه عام لا يقبلون بالعلمانية ولا بفصل الدِّين عن الدولة والمجتمع. ولذلك كُتب على المجتمعات العربية أن تبقى منسلخة عن العالم المتحضّر أو غريبة عنه.

سنسعى هنا إلى إظهار تنوّع الفكر السياسي العربي وتعدّده ضمن الأفق الأعمّ للطرائق الكثيرة لتجلّي الثقافة العربية ذاتها. وسنحدّد أيضاً العوامل الرئيسة التي ساهمت في إخفاء هذا التنوّع العلماني تحديداً في العقود الأخيرة، وفي التركيز على الإسلام السياسي حصراً، كونه جوهر ما يسمى «العقل العربي».

أولاً: التشكيك في المفاهيم والمقاربات الأساسية تجاه الفكر العربي المعاصر

1 – السعي إلى فهم العقل العربي

كرّست الأوساطُ الأكاديمية جهوداً فكرية كثيرة في السنين الثلاثين الأخيرة لفهم العقل العربي. وكان تعريف التركيبة الدائمة المزعومة للعقل العربي و/أو الإسلامي، وكذلك محدّدات عمله، موضوع كتب كثيرة. اعتمد المؤلفون الأكاديميون في أغلب الحالات مقاربة أنثروبولوجية استثنت وَقْع الحوادث السياسية والجيوسياسية على عمل العقل العربي و/أو الإسلامي. قلّة هم الذين شكّكوا في صحّة مقاربة من هذا النوع كونها تفترض أن العرب و/أو المسلمين قبيلة ما وحيدة معزولة وتعيش بعيداً من تطوّر العالم بسبب عالم ديني خاص وقائم بذاته، أي العالم الإسلامي. وعرّف أندريه ميكيل، المستشرق الفرنسي الشهير، الدِّين الإسلامي بأنه «لا يتجزّأ»، بمعنى أنه مادّة لا يمكن تقسيمها أو تجزئتها.

هذه الظاهرة جعلتني في حيرة سنين طويلة. فهي غير مقصورة على تحليل العقل العربي و/أو الإسلامي، إذْ إنّ هذه المقاربة استُخدمت طوال القرن التاسع عشر وفي شطر كبير من القرن العشرين في وصف «عقل» الجماعات البشرية الأخرى أو «روحيتها». من هنا، نجد الإحالات الكثيرة في كثير من الكتب والمقالات إلى الروح الروسية أو إلى الذهنية الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية. على سبيل المثال، وجّه دوسْتويفْسكي، الكاتب والروائيّ الروسيّ الشهير، انتقاداً لاذعاً في كتابه يوميات كاتب إلى محاولات المفكّرين الأوروبيين الغربيين العقيمة فهم الروح الروسية[1].

بلغت هذه المقاربة ذروتها في أعمال إرنست رينان، الباحث الأكاديمي الفرنسيّ الشهير والبالغ التأثير. طوّر رينان مقارنة دقيقة مفترَضة بين العقل الساميّ والعقل الآريّ وأسهب في تعريف كل منهما. عارض في كثير من مؤلفاته مقولةَ العقل الساميّ الغليظ أو المغلق أمام العقل الآريّ المصقول والمبدع. وهو يرى أن الإسلام يمثّل التجسيد الفعلي للعقل الساميّ؛ واستُثني العقل اليهودي لحقيقة أن العبرانيين القدامى اخترعوا الدِّين التوحيدي، لأنه يعتقد أن المسيحية لم تأخذ شكل هذا الدِّين «المصقول جداً» إلّا بعد أن أسبغت عليه أوروبا «الطابعَ الآريّ».

2 – الخلط بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية

ومّا زاد في حيرتي أيضاً الخلطُ الدائم بين العقل العربي والعقل الإسلامي. يُعزَى هذا الخلط إلى الباحثين الغربيين وكذلك إلى الباحثين العرب الذين اعتمدوا هذه المقاربة بدورهم. التونسي هشام جعيط أحد أكثر هؤلاء المفكّرين العرب تأثيراً في هذه الجبهة، وهو الذي أشاع تصوّر وجود فكر عربي إسلامي بالغ القدم لا يزال في نظره يصنّف سلوك العرب المعاصرين ويقيّمهم. كما أن محمّد عابد الجابري، وهو مفكّر عربي معروف بدوره، خلال إسهابه في الكتابة عن العقل العربي كان في الواقع يصف العقل الإسلامي، فخلط بذلك بين الثقافة العربية والديانة الإسلامية، كما لو أن ما يسمّى العقل العربي ليس له إلا طبيعة عقائدية لاهوتية الطابع حصراً.

لكنّ ألبرت حوراني، الباحث البريطاني الكبير اللبنانيّ الأصل، سبقهم إلى ذلك بميله إلى حصر العرب بهُويتهم الإسلامية وتمييزه العرب المسيحيين من العرب المسلمين. رأى في الفريق الأول مجموعة من الحداثيين العلمانيين الشجعان، في حين رأى أن تطلّعات العرب المسلمين الإصلاحيين مقيّدة بطبيعتها بتأثيرات الإسلام القوية وأحكامه الشرعية (أو ما يُعرف بالشريعة الإسلامية) في أذهانهم. بل إن الراحل هشام شرابي ذهب بهذه الأطروحة إلى أبعد حدّ في كتابه الشهير المثقفون العرب والغرب[2]. ولا تزال هذه النظرة الخاطئة بالغة التأثير إلى يومنا هذا.

ثانياً: تحرّر الغرب من أوهام فلسفة التنوير

يجوز القول إن المفاهيم المعاصرة المرتبطة بالدِّين والثقافة والإثنية والحضارة باتت متداخلة إلى حدّ بعيد. وكان لشيوع الدراسات الثقافية في الولايات المتّحدة خلال العقود السابقة دور في هذا الخلط. وينبغي أن نشير في هذا المقام إلى خيبة الأمل المريرة منذ سبعينيات القرن الماضي من الأيديولوجيات الإنسانوية الاتجاه التي نبعت من فلسفة التنوير. فقد ولّدت هذه الدراسات افتتاناً جديداً بما يسمّى «عودة الدِّين» كعامل سياسي وثقافي في العالم. وولّدت أيضاً افتتاناً جديداً بكلّ من الإسلام واليهودية، وبالتالي قادت إلى مزيد من الخلط بين الدِّين والثقافة. أضف إلى ذلك أن نشوء دول جديدة زعمت تمثيلها لهاتين الدِّيانتين التوحيديتين سهّل الجمع بين الثقافة والدِّين أو التعامل مع الدِّين كظاهرة إثنية تُملي على المسلمين واليهود على السواء ذهنيتهم وسلوكهم.

هذا ما أتاح الفرصة لمزيد من الخلط في حالة العرب، ذلك بأن الإسلام بوصفه ديناً توحيدياً جديداً ظهر في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي وأن القرآن نزل على النبيّ محمّد (ﷺ) باللغة العربية. وبات للعرب ذكر في التاريخ لنزول الرسالة الجديدة فيهم وبنائهم خلافتين دينيتين متتاليتين متعددتَي الإثنيات، هما الخلافة الأموية وبعدها الخلافة العبّاسية. لكنهما لم تعمّرا مدّة زمنية طويلة لدخول الخلافة العبّاسية طور الانحطاط في النصف الثاني من القرن التاسع عقب ولاية الخليفة اللامع هارون الرشيد (786 – 806) وبعده ولاية الخليفة المأمون (814 – 833) حين شرع الأتراك والفرس في تقطيع أوصال الخلافة العبّاسية وبناء كيانات سياسية منفصلة. فقد احتلّ السلاجقةُ الأتراك بغداد في سنة 1055، وتلاهم المغول الذين احتلّوا المدينة ودمّروها في سنة 1258. وحدها الخلافة الفاطمية (909 – 1171) استطاعت المحافظة على كيان سياسي عربي في مصر. ومع أن الكيانات السياسية العربية/البربرية في الأندلس وشمال أفريقيا عمّرت وقتاً أطول، فقد كان مصيرها الزوال (كما في حالة الأندلس) أو الانحطاط في نهاية القرن الخامس عشر، وهو ما عبّد الطريق أمام الهيمنة العثمانية على المنطقة خلا المغرب.

السبب الآخر لهذا الخلط، كما سنرى، كان في بدء عصر النهضة الحديث في بلاد العرب عقب حملة نابليون بونابرت واحتلاله مصر، وقد ركّز جلّ المفكّرين الجدد اهتمامهم على الحاجة إلى تجديد الفكر الإسلامي ليتكيّف مع مقتضيات العالم المعاصر الذي بلورته أوروبا. وفي هذا الصدد، استحوذت قضايا رئيسية ثلاث على الاهتمام، وهي التعليم، ومكانة المرأة، وإصلاح الدولة. افتُرض آنذاك أن تدهور القوانين والقيم الإسلامية وتحجّرها كانا سبب تفسّخ المجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية عموماً خارج العالم العربي. لكن كان لهذه المقاربة الحصرية القائمة على التخلّف والذبول التاريخي، المدفوعة بالحاجة إلى الإصلاح الدِّيني، عواقب شديدة الوطأة، لأن الدِّين أضحى النقطة المركزية للمناقشات الدائرة بين مختلف المفكّرين العرب.

لكن أياً تكن أسباب الخلط، سأحاول في هذا المقام إثبات أن الثقافة والعقل العربي يتجاوزان كثيراً عالماً دينياً أو هيكلية فكر لاهوتي. حجّتي الرئيسة هنا أن التعبيرات الثقافية التي تتجلّى على اختلاف أنواعها في العالم العربي أوسع كثيراً ممّا هو متصوَّر داخل هذا العالم وخارجه، وأنه لا يمكن تعريفها بحال من الأحوال بأنها ثقافة دينية حصراً برغم تركيز المجالات الإعلامية والأكاديمية على مكانة الإسلام المركزية في العالم العربي في العقود الأخيرة.

ثالثاً: الجذور المتعدّدة للثقافة العربية والتحقيقات المعاصرة في الفكر السياسي العربي

أودّ التذكير أولاً بأن جذور الثقافة العربية تكمن في الشعر العربي وفي ثراء اللغة العربية. ولا يزال الشعر نواة الثقافة العربية إلى يومنا هذا. ومشاهير الشعراء العرب القدامى والجدد يكرَّمون ويُحتفى بهم في كل مكان في المجتمعات العربية. وتنبغي الإشارة أيضاً إلى أن العرب كانوا تجّاراً لهم مكانتهم واتصالاتهم بالحضارتين الفارسية والبيزنطية. لم يقتصر حضور هؤلاء التجّار على شبه الجزيرة العربية، بل شمل سورية و بلاد ما بين النهرين. وهناك عدد من القبائل العربية التي تحوّلت إلى اليهودية أو النصرانية. لكنّ الفتوحات العربية في القرن السابع تحت راية الدِّين الإسلامي التوحيدي الجديد استطاعت «تعريب» بلاد المشرق حيث حافظت شرائح سكانية كبيرة على انتماءاتها المسيحية واليهودية والزرادشتية ولم تعتنق الإسلام. ومع أنّ الفاتحين العرب نشروا الإسلام في شمال أفريقيا، فقد حافظت قبائل بربرية كثيرة على لغتها الخاصة وبالتالي لم تستعرب. بعبارة أدقّ، لم يكن العرب مجموعة منغلقة تميّزت بنمط حياة بدوية على سبيل الحصر، بل كانوا أناساً ملمّين بالعالم الكبير الذي عشوا فيه.

حين أقيمت الخلافتان المتتاليتان الأموية (661 – 750) والعبّاسية (750 – 1258)، شرّع الخلفاءُ العرب أبوابهما أمام التأثيرات الثقافية الرئيسية التي وُجدت حولهما، ودمجوا المسيحيين واليهود في المجتمع الإسلامي الجديد الذي كان في طور النشوء. بل إنّهم شّرعوا أبواب الخلافتين أمام التأثيرات الهندية والصينية من خلال توسّع التجارة العربية. والأمر الذي يمكننا وصفه بالحضارة العربية – الإسلامية التي ازدهرت فيها العلومُ الطبيعية والفلسفة والتاريخ وعلوم الفلك والجغرافيا والأنثروبولوجيا إنما كان نتاج تفاعل عميق بين النخبة العربية والواقع المعرفي القائم في الحضارات العظيمة الأخرى. وأضحت العربيةُ «اللغةَ المشتركة» لجميع المفكّرين على اختلاف أصولهم الإثنية، ورجال الدِّين، إضافة إلى العلماء. وكان العرب على إلمام قوي باللغة الآرامية السريانية وبخاصّة وبالمعارف السائدة في أغلب بلاد المشرق وبلاد ما بين النهرين.

بناء على هذا الدليل التاريخي، كيف يمكننا تفسير وصول النهضة الفكرية العربية التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر إلى ما هي عليه الآن حيث الجدالات والمشاحنات والعنف الدِّيني تزعزع إلى حدّ بعيد استقرار كثير من المجتمعات العربية؟ يوجد عوامل سياسية وعسكرية واقتصادية كثيرة تفسّر هذا التطوّر المشؤوم، داخلياً وخارجياً، وسأحاول تلخيصها هنا. لكنّ همّي الرئيسي هو إثبات أن الفكر السياسي العربي لا يزال شديد التنوّع والدِّينامية. وعلى الضدّ من الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام والبحوث الأكاديمية، ليس هذا الفكر حبيس ما أسمّيه عقلاً لاهوتياً حصرياً، بل يظلّ علمانياً بدرجة كبيرة.

سأتطرّق إلى كتاب مايكل هادسون المهم حول بحث العرب عن الشرعية[3]. في الواقع، لا يزال هذا البحث مادّة محورية تستحوذ على اهتمام جلّ المفكّرين العرب. يرجع ذلك إلى المشكلات البالغة التعقيد التي واجهها المفكّرون منذ انحطاط السلطنة العثمانية الذي بلغ ذروته في نهاية القرن التاسع عشر وانتهى بسقوطها مع نهاية الحرب العالمية الأولى. منذ ذلك الحين يركّز رجال الفكر على القضايا الرئيسية التالية: (1) ما هو سبب تخلّف المجتمعات العربية وضعفها؟ (2) ما هي هُويتنا؟ (3) لماذا نحن متفرّقون وعاجزون عن بناء أمّة عصرية متماسكة تحظى باحترام الأمم الأخرى؟ لا تزال هذه الأسئلة الرئيسية الثلاثة، التي ميّزت كلّ المؤلّفات السياسية منذ بداية القرن التاسع عشر، موضوع البحث عن الذات إلى يومنا هذا. وقد زادت الحوادث التي وقعت مؤخّراً منذ بداية سنة 2011 الموضوع إلحاحاً. لكن بقي الردّ على تلك القضايا السياسية والثقافية الرئيسية الثلاث المذكورة هنا سبب انقسام حادّ في الحياة الفكرية العربية في الوقت عينه.

أرى أن الحوادث الجيوسياسية الدولية التي شهدها النصفُ الأخير من القرن الماضي جعلت المجالات الإعلامية والأكاديمية العربية والغربية تتغاضى بدرجة كبيرة عن الأعمال الغنية للمفكّرين العلمانيين العرب. لكنّ الحال لم تكن كذلك حين كان الفكرُ الثقافي في العالم قاطبة منفتحاً إلى حدّ بعيد على الطريقة «التقدّمية» للتفكير في مشكلات العالم الثالث، أي مشكلات الدول النامية التي خرجت من رِبقة الحكم الاستعماري. لم يكن الدِّين والعقيدة في الواجهة، بل هيمن على المشهد العالمي طرائقُ التفكير العلمانية، الليبرالية أو الاشتراكية أو المحافِظة. واعتمد المفكّرون في دول العالم الثالث، وكذلك رؤساء هذه الدول المنتمية إلى حركة عدم الانحياز، مقاربةً علمانية حصرية في محاربة التخلف. كان شغلهم الشاغل التأكيد على مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصادية الدولية بين الأمم بغرض تضييق الفجوة الهائلة في الثروة بين الدول الصناعية القديمة والدول الفقيرة المستقلّة حديثاً والتخلّص من الهيمنة الغربية المباشرة على العالم.

ماذا حصل منذ ذلك الحين وجعل المشهدَ السياسي والفكري العربي أشبه بمشهد ديني إسلامي شبه حصري يتقاسمه الإسلامُ المعتدل والإسلام المتطرّف، وهو ما يُظهر العرب كما لو أنهم كائنات بشرية إسلامية على نحو شبه حصري؟ هذه هي النقطة التي نحتاج فيها إلى تفصيل التيارات المتنوّعة في الفكر السياسي العربي منذ أيام محمّد علي في مصر في مستهلّ القرن التاسع عشر. سنعرض هذه التيارات في سياق مناقشة القضايا الرئيسية الثلاث التي تقدّم ذكرها. ومن شأن ذلك إظهار مدى تشابك هذه القضايا.

رابعاً: التوجّهات المتوالية الثلاثة للفكر السياسي العربي

يمكن تمييز ثلاثة توجهات متوالية مختلفة للفكر العربي، وهي:

1 – رغبة الإصلاحيين الدِّينيين في اللحاق بركْب الحداثة

يبدأ التوجه الأول بآراء رفاعة الطهطاوي بعدما أقام في فرنسا أربع سنوات. نوقشت آراؤه تلك في كتاب شهير بعنوان Paris Gold هو بمنزلة وصف لما اكتشفه إبّان إقامته في فرنسا أربع سنوات متوالية بين عامي 1826 و1830. المعروف أن الطهطاوي كان شيخاً تلقّى علومه في جامعة الأزهر الشريف في القاهرة. أدهشه كلّ ما رآه إبّان إقامته في فرنسا. وقد عزى تقدّم الفرنسيين وتطوّرهم بصورة رئيسية إلى نظام سياسي ليبرالي منفتح (الملكية الدستورية)، وكذلك إلى الجهود التي بُذلت في تعليم الناس، والمكانة الرفيعة التي تتمتّع بها المرأة، والشغف بالعلوم. وخلَص إلى أنه وإن لم يكن للإسلام وجود في فرنسا، فإن أغلب الناس يتصرّفون كمسلمين ملتزمين. وفي المقابل، لم يرَ في مصر التي يهيمن عليها الدِّين الإسلامي مسلمين حقيقيين. اضطلع الطهطاوي عقب عودته من فرنسا بدور بارز في مشروع تحديث مصر، الذي انطلق في عهد محمّد علي.

في الواقع، نشر الطهطاوي ما أسمّيه «الرغبة في الحداثة» في سائر المجتمعات العربية وليس في مصر فقط، فأسّس مدرسة فكر حداثي تجسّدت في الحاجة إلى إصلاحات شاملة، بدءاً بالمعاهد والممارسات الدِّينية. خلفه في مصر علماء بارزون بدأ تكوينهم الفكري في الأزهر الشريف، من أمثال محمّد عبده الذي أصبح مفتي مصر في وقت لاحق؛ وأحمد أمين، والشيخ الشجاع علي عبد الرّازق الذي قال إنه ليس لنظام الخلافة مستند في أي آية قرآنية؛ وطه حسين الذي بذل الكثير من أجل التعليم في مصر. لم يرَ أيٌّ من هؤلاء المفكّرين العظام تناقضاً بين الحداثة والإسلام بوصفه الدِّين المهيمن على المجتمعات العربية. وكذلك كانت حال كثير من رجال الدِّين في المجتمعات العربية الأخرى من أمثال خير الدِّين التونسي والأمير عبد القادر الجزائري الذي حارب الاحتلال الفرنسي بشجاعة قبل نفيه من الجزائر. ثم ذاع صيته بعد أن حطّ رحاله في دمشق بسبب تدخله المؤثّر لحماية المسيحيين السوريين من المجازر؛ وأخيراً المناضل الوطني ورجل الدِّين الجزائري عبد الحميد بن باديس.

وجدت هذه الحركة الحداثية الكثير من الأتباع في المجتمع، ممّن لم يتلقّ تعليماً دينياً من المسلمين والمسيحيين على السواء، كما في مصر وسورية ولبنان والعراق. وفي هذا الصدد، يمكن المرء الاستدلال بشخصيات مؤثّرة مثل المفكر المصري أحمد لطفي السيّد، الذي أدخل تحسينات جوهرية على الصحافة المصرية، وكان بالغ التأثير بتطلّعاته الحداثية والعلمانية. لكن ذاع صيت كثير من المفكّرين الآخرين، من المسلمين والمسيحيين، في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين. غير أنّ ألبرت حوراني ميّز في كتابه الشهير الفكر العربي في عصر النهضة المفكّرين المسيحيين من المفكّرين المسلمين[4]. رأى أن الفريق الأول أكثر علمانية، كون الفريق الثاني مقيَّداً بالتقاليد الإسلامية التي ترى أن الدِّينَ ركن أساسي في الدولة والمجتمع. وكرّس عدة صفحات من كتابه للجدال الذي دار حول العلمانية بين الشيخ محمّد عبده وفرح أنطون. وقد أضحى زعمُ حوراني لاحقاً خطاباً معيارياً في الكثير من المؤلفات الأخرى التي ناقشت الفكر السياسي العربي. ونشير على الخصوص إلى هشام شرابي الذي كرّس كتابه الشهير الآخر المثقفون العرب والغرب لهذه المسألة، حيث عمّم هذه المقاربة الجوهرية بناءً على الجذور الدينية للمفكّرين العرب[5].

2 – القوميون والحداثيون العلمانيون العرب

يمتاز التوجّه الثاني للفكر العربي بهيمنة الأفكار القومية العربية العلمانية الطابع إلى حدّ بعيد، التي تبنّاها ناشطون مفكّرون مسلمون ومسيحيون أيضاً. برزت هذه المدرسة الفكرية السياسية ووطّدت نفسها زمن سقوط السلطنة العثمانية والقضاء على نظام الخلافة في الدولة التركية الحديثة. كان المفكّرون العرب منقسمين قبل هذا الحدث التاريخي الكبير إلى فريقين دافع أولهما عن الروابط الإسلامية للمحافظة على الولاء للسلطنة العثمانية (برز في هذه المدرسة الفكرية شخصيات مؤثّرة مثل جمال الدِّين الأفغاني وشكيب أرسلان)، بينما دافع الفريقُ الثاني عن حقوق العرب القومية في الانفصال عن السلطنة. رأى المفكّرون العرب الموالون للسلطنة العثمانية أن تطلّعات أوروبا الاستعمارية في بداية القرن العشرين تهديد عالمي لجميع القوميات التي تعيش في كنف السلطنة، لذلك تستوجب رداً عالمياً مشتركاً مبنياً على التضامن الإسلامي من جانب كل من العرب والأتراك. في المقابل، اتّهمت المدرسة الفكرية الثانية السلطنةَ العثمانية بالعجز عن إصلاح ذاتها لكي يمكنها التصدّي لجشع الدول الأوروبية القوية. رأى المنتمون إلى هذه المدرسة أنّ الأتراك يتحمّلون مسؤولية تردّي وضع العرب والإسلام بوصفه عاملاً إيجابياً دينامياً. سقطت السلطنة وأُلغيت الخلافة، وباتت الطريق مشرّعة أمام قومية عربية حداثية تجسّدت في شخصية عبد الناصر القوية، وفي نشوء أحزاب سياسية قومية عربية كبيرة، مثل حزب البعث وحركة القوميين العرب.

3 – تطوّر فكر نقدي عربي في مواجهة إخفاقات العرب

برزت المدرسة الفكرية الثانية بقوة عقب إخفاقَين عربيَّين مدوّيَين، أولهما إخفاق أولى تجارب الوحدة التي لم تدم طويلاً بين مصر وسورية (1958 – 1961) التي عُدَّت بدايةً لحركة وحدة عربية كبرى تزيل الحدود التي فرضتها اتّفاقية سايكس – بيكو. وتمثّل الإخفاق الثاني في الهزيمة العسكرية النكراء التي نزلت بالعرب في حربهم ضد إسرائيل سنة 1967 والتي أفضت إلى استيلائها على شبه جزيرة سيناء المصرية، وعلى مرتفعات الجولان السورية، وعلى الضفة الغربية الفلسطينية التي كانت خاضعة للإدارة الأردنية. أفسح هذان الحدثان المأساويان المجال أمام توجيه انتقادات حادّة من جانب عدد من المفكّرين العرب، بعضهم منتمٍ إلى الفكر الماركسي والفكر القومي. أعدّ هؤلاء دراسات وكتباً كثيرة قيّموا فيها الأسباب الرئيسية لعجز العرب عن تحقيق الوحدة أمام تحدّيات كثيرة واجهتها المنطقة العربية. حدّدوا تلك التحدّيات بأنها الإخفاق في مواجهة احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، وفي مساعدة الفلسطينيين على استرجاع ولو جزء من الأراضي التي خسروها في حرب العام 1967، والفشل في مواجهة سياسات الاستعماريين الجدد التي انتهجتها الولاياتُ المتّحدة وحلفاؤها، والفشل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متسارعة.

شجبت هذه المدرسةُ على صعيد عالمي السياساتِ الفاشلة التي انتهجتها الثورات العسكرية كما حصل في مصر وسورية والعراق والتي عُلّقت عليها آمال كبيرة. إضافة إلى ذلك هذه المدرسة اتّهمت النظمَ الملكية العربية بالتواطؤ مع الولايات المتّحدة في سياساتها تجاه العالم العربي. رأى بعض هؤلاء، من أمثال المفكر السوري صادق جلال العظم، أن المشكلة الرئيسية تكمن في الدور السلبي الذي بقي الدِّين يضطلع به في البلدان العربية وهو ما يحول دون نموّ الطاقات والقدرات العربية ومساهمتها في مكافحة التخلّف.

ورأى آخرون، من أمثال المفكر السوري ياسين الحافظ، ، والمفكر اللبناني مهدي عامل، الذي اغتيل في سنة 1987، أنّ العامل الرئيسي الذي أدّى إلى إخفاق المجتمعات العربية كان إخضاع «البرجوازية الصغيرة» الحديثة للبرجوازية المحلّية الأعلى مقاماً بسبب الثورات التي قادها ضبّاط عسكريون. رأى هؤلاء أن هدف «البرجوازية الكبيرة» كان مهادنة هيمنة المستعمرين الجدد في المنطقة عبر إقامة حلف مع طبقة ملّاك الأراضي الكبار. حظيت البرجوازية الصغيرة الجديدة بدعم أجهزة الدولة عقب وقوع انقلابات عسكرية وبعد تبنّي إجراءات اشتراكية في سياق الخطاب الثوري الداعي إلى التغيير الاجتماعي. غير أن هذه الطبقة الاجتماعية الحديثة النشأة حلمت بالارتقاء الاجتماعي المتواصل بأن تصبح جزءاً من طبقة البرجوازية الأعلى مقاماً.

يظهر أن ياسين الحافظ ومهدي عامل تأثّرا بمؤلفات فرانز فانون، الطبيب وعالم النفس من جزر الأنتيل التي استعمرها الفرنسيون، الذي التحق بجبهة التحرير الوطني الجزائرية. أسهب فانون في كتابه معذبو الأرض في وصف أخطار ما بعد التحرّر والحصول على الاستقلال[6]. تكهّن بأن القيادات الجديدة في تلك الدول ستستسلم لإغراء تقليد سلوك أسيادها المستعمِرين السابقين وتتحوّل بسهولة إلى حلفاء لهم. لذلك أوصى ببقاء تلك القيادات الجديدة قريبة من الجماهير الشعبية، وبخاصّة سكان المناطق الريفية كونهم الخزّان الأمثل للسير في الطريق المؤدّي إلى الاستقلال الحقيقي والتغيير الاجتماعي ونصرة المحرومين. وحذّر من سوء استغلال التقاليد المتحجّرة لإبقاء الجماهير تحت السيطرة وهو ما يجعلها تعبيراً فولكلورياً للهُويّة.

سبق أن حذّر ياسين الحافظ في سنة 1965 من تعاظم الميل إلى «الماكارثية» الدِّينية في المجتمعات العربية لمواجهة الميول الثورية والوطنية. من ناحية أخرى، انتقد مهدي عامل بشدّة الأهداف السياسية والثقافية والاقتصادية التي اعتمدتها هذه «البرجوازية الصغيرة»، ووصف سعيها الدائم إلى تثبيت رجحان التركة والميراث الثقافي بأنه أساس لتوحيد الوعي الوطني. وشجب بشجاعة أيضاً العقلية الجوهرانية لدى كثير من المفكّرين العرب الذين اعتقدوا أنه لا يمكن تجاهل التراث القديم الذي ينبغي أن يكون المصدر الأساس للحداثة كونه يشكّل جوهر ما يسمّى «العقل العربي»، وبذلك تغاضوا عن حقيقة انقضاء قرون منذ الأيام المجيدة للحضارة العربية – الإسلامية.

يمكن الإتيان على ذكر عدد من المفكّرين العلمانيين هنا، ولا سيّما الشاعر أدونيس (الذي انتقده مهدي عامل لمقاربته الجوهرانية تجاه الدِّين الإسلامي)، وسمير أمين، وكثير من الحداثيين العرب غير الماركسيين، مثل عبد الله عبد الدايم وقسطنطين زريق. كما لا يمكن أن ينسى المرء الإشارة في هذا المقام إلى جورج طرابيشي الذي شرع في انتقاد مسهب لمؤلفات محمّد عابد الجابري وهو الموضوع الذي سنأتي عليه لاحقاً؛ وعبد الله العروي المجاهر بماركسيته الذي حلّل بذكاء الفجوة الذاتية الاستدامة بين التغيّرات التي تشهدها الحياة الفكرية الغربية والتغيّرات اللاحقة التي شهدها الفكر العربي ونظرته إلى العالم، بحيث لا يمكن فهم الدولة وتطوّر الحداثة في العالم العربي. ويرى العروي أنه لا يمكن للحياة الفكرية العربية أن تقضي على هذا التخلف على النحو المناسب على صعيد الحداثة إلّا باعتماد نظرة عالمية مبنية على النزعة التأريخية الماركسية.

بالعودة إلى موضوع إخفاق المجتمعات العربية في الانخراط في تنمية اقتصادية متسارعة في سبعينيات القرن الماضي، شكّك عدد من الخبراء الاقتصاديين العرب في اعتماد الاقتصادات العربية المتعاظم على ريع النفط. كما شكّكوا في تصدير القوة العاملة الماهرة وغير الماهرة، والميل إلى زيادة استهلاك الكماليات وإهمال سكّان المناطق الريفية والقدرة الزراعية على إنتاج الغذاء للاستهلاك المحلّي، إضافة إلى الإخفاق في تحصيل العلوم والتقانة، وبالتالي شدّة الاعتماد على الواردات من المكائن والمعدات الصناعية. نشير في هذا السياق إلى يوسف الصايغ، أحد أشهر الخبراء الاقتصاديين العرب، الذي ألّف كتاب مقررات التنمية الاقتصادية العربية في سنة 1978. وهو كتاب لا يزال فيه أبلغ وأسهب وصف لإخفاقات السياسات الحكومية في العالم العربي[7]. كما ألّف صايغ كتيّباً قيّماً في سنة 1961 بعنوان الخبز مع الكرامة لخّص فيه القضايا الاجتماعية الاقتصادية الأساسية في المجتمعات العربية[8]. وفي ضوء التظاهرات الشعبية العارمة التي شهدها معظم المجتمعات العربية في سنة 2011 التي طالبت بتوفير الوظائف، والعدالة الاجتماعية، والحرّيات السياسية ومحاربة الفساد، تُظهر مقالة يوسف صايغ التي نُشرت قبل سنين كثيرة من حدوث الاضطرابات الاجتماعية مدى بُعْد نظر الكاتب. وحلّل العالم الفيزيائي والخبير الاقتصادي أنطوان زحلان، بكثير من التفصيل الأسباب الكثيرة لإخفاق المجتمعات العربية وحكوماتها في فهم القضايا المتصلة بالاستحواذ على العلوم والتكنولوجيا وتوطينها محلياً.

خامساً: الاتّجاه المناوئ للحداثة في الفكر العربي: «الإسلام هو الحلّ»

تكلّمنا على ميل الغرب إلى التحرّر من «سحر» فلسفة التنوير. إنه ميل ازداد وضوحاً مع أفول الأيديولوجيات الاشتراكية عقب سقوط الاتحاد السوفياتي. ترافق هذا الميل مع تحوّل كثير من المفكّرين الماركسيين إلى الأيديولوجيات المحافِظة وأيديولوجيات الليبراليين الجدد التي تضمنت عودة إلى القيم الدِّينية في الميدان السياسي. كان الفيلسوف ليو شتراوس الشخصيةَ البارزة في هذا الميل، الذي جادل بأن المجتمعات المبنية على الدِّين ربما تتلافى الاستبداد الذي انبثق عن الأيديولوجيات العلمانية التي أنتجت بحسب كُلاً من النازية والشيوعية. وهو له مؤلفات كثيرة من أشهرها Athens or Jerusalem أي ما يعني الخيار بين أنظمة ديمقراطية وأنظمة دينية الطابع.

1 – النشوء التاريخي للإسلام السياسي العربي

قُدّر لهذا الميل الغربي في الفلسفة السياسية أن يؤثّر ويُساهم بدرجة كبيرة في ميل قائم أصلاً في الفكر العربي، وهو الإسلام السياسي الذي يتحدّث عن زيف القيم العلمانية الحديثة ويدعو بالتالي إلى العودة إلى أسس القيم و«القوانين» الدِّينية التقليدية الإسلامية (الشريعة). تجلّى هذا الميل بعد الحرب العالمية الأولى بتأسيس المملكة العربية السعودية واعتمادها المذهب الدِّيني الوهّابي الشديد التزمّت وبتأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر. تزامن الحدثان في عشرينيات القرن الماضي، وأنا أرى أنهما متشابكان وإن كان هذا الرأي بحاجة إلى مزيد من التوثيق.

في الواقع، ذاع صيت الإخوان المسلمين في مصر بعد الحرب العالمية الثانية. عارضت الحركةُ بشراسة هيمنة الناصرية على الساحة الأيديولوجية والسياسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. كما تأثّرت الحركة بالمفكّر الراديكالي الهندي أبي أعلى المودودي الذي تحدّث عن وجوب ألّا يعيش المسلمون في غير مجتمعات تحكمها القوانين الإسلامية بطريقة راديكالية لتحافظ على نقائها. كان للمودودي الأثر البالغ أيضاً في الحركة الانفصالية الإسلامية الهندية التي نجحت في إقامة دولة باكستان (أي بلد «الأطهار» أو «الأنقياء»). عُدَّت حركة الإخوان المسلمين قوّة معادية للثورة ولا سيّما أن الحكومات الغربية آزرتها وشجبت قمعها. واستطاع أعضاء الحركة العثور على ملاذات بسهولة في العواصم الغربية هرباً من القمع المحلّي.

مع أفول نجم الأيديولوجيات الاشتراكية في العالم قاطبة، وانفراط عقد الاتحاد السوفياتي بعد ذلك، سار بعض المفكّرين العرب الماركسيين سابقاً على درب المفكّرين الغربيين في التحوّل إلى أيديولوجيات محافِظة مختلفة، أشهرها التيارات الجديدة في الفكر الإسلامي. شكّلت هذه التيارات نقيض التيارات التي وصفتُها أعلاه، وأعني تيارات الإصلاحيين الإسلاميين. اتُّهم هؤلاء بالانقياد الفكري لأفكار التنوير الأوروبية ومجافاة مجتمعهم على صعيد ميراثه المجيد.

2 – العوامل المحفِّزة وتحوّل كثير من المفكّرين الماركسيين العرب إلى الإسلام السياسي

كان الباعثَ على التيارات الإسلامية الحديثة المناوئة للحداثيين عاملان مهمّان: الأول مرتبط بالحرب الباردة واستخدام الدِّين في محاربة توسّع الشيوعية في كثير من بلدان العالم الثالث، ومنها البلدان العربية والإسلامية. ونشير إلى أن زبيغنيو بيريجنسكي أحد دعاة توظيف الدِّين في السياسات الدولية لمنع توسّع الشيوعية وتسريع سقوط الاتحاد السوفياتي. ومن التطبيقات الرئيسية لهذه الدعوة تقديم التدريب العسكري والتجذير الأيديولوجي الداعي إلى تبنّي أقصى التشدد الديني الإسلامي الراديكالي إلى الآلاف من الشبان العرب في السعودية وباكستان. وبعد ذلك أُرسل هؤلاء الشبان إلى أفغانستان لمقاتلة الجيش السوفياتي الذي احتلّ ذلك البلد في سنة 1979، وهو ما أتاح للولايات المتحدة عدم إرسال جيشها إلى هذا البلد، وبخاصة بعد فشله الذريع في حرب فييتنام. تلك كانت نشأة تنظيم القاعدة ونظام طالبان الإسلامي.

العامل الثاني كان انتصار الثورة الإيرانية في سنة 1979 نفسها، وفي إثْرها نجح قسم من المؤسّسة الدِّينية في بناء نظام سياسي جديد عُرف باسم ولاية الفقيه، أي سيطرة رجال الدِّين على وظائف المؤسّسات السياسية الجديدة. وقد أعطى هذا النظام الجديد الأولويةَ للتصدّي لمسألة الفقر والأفراد المهمَّشين، إضافة إلى قضية فلسطين الواجب تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي. من ناحية أخرى، أطلقت النظم الملكية المحافِظة في شبه الجزيرة العربية في الوقت عينه حملة «الصحوة الإسلامية» التي أريد منها التعويض من الإخفاقات المُخزية كافّة للأيديولوجيا القومية العلمانية العربية وللنظم العربية التي ساندتها.

شكّلت هذه الحوادث الجيوسياسية الحافزَ للتيار المناوئ للحداثة في المؤلفات الفكرية. ركّزت هذه المؤلفات على الخصوص على تشويه العلمانية بوصفها أداة بالغة الخطورة في سلخ المسلمين والمجتمعات الإسلامية عن شخصيتها التاريخية. وأثيرت في هذا السياق حجّتان أساسيتان. ركّزت الأولى على حقيقة أنه لا يمكن فصل الدِّين عن الدولة في المجتمعات الإسلامية على الضدّ من أوروبا. ويرى هؤلاء أن الدولة والدِّين مترابطان من حيث الجوهر في سائر المجتمعات الإسلامية، لذلك فإن أي مسعى إلى الفصل بينهما سيثير انزعاجاً وسخطاً عارمين. والحجّة الثانية مستمَدّة من المؤلفات الغربية المناوئة للعلمانية التي تناصر الرأي القائل إن العلمانية جلبت المادّية إلى المجتمعات الغربية وسمحت بنشوء الدكتاتورية والاستبداد.

ساند كثير من المفكّرين العرب الماركسيين أو اليساريين السابقين وجهتي النظر هاتين، كما هي حال عادل حسين وعبد الوهّاب المسيري وحسن حنفي ومحمّد عمارة وطارق البشري، وجميعهم مفكّرون مصريون مرموقون. وتحت تأثيرهم طوى النسيانُ بالكامل تقريباً المؤلفاتِ الكثيرة التي أعدّها الإصلاحيون الحداثيون الإسلاميون السابقون الذين تكلّمنا عليهم. والحجّة التي يجري استخدامها هي أن الأجيال الأولى للإصلاحيين الإسلاميين العرب (الطهطاوي ومحمّد عبده وأحمد أمين وغيرهم) ليسوا سوى وكلاء للتأثير والفساد الفكري الغربي. وقد كان لهذا الانتشار الواسع لهذا الرأي المنحرف مساهمة كبيرة في انحسار «التنوير» الإسلامي لمصلحة الراديكالية الإسلامية بصورها المتنوّعة.

أضحى تيار الانبعاث الإسلامي الجديد الذي روّج له هؤلاء المفكّرون مجالاً أكاديمياً جديداً في الوقت عينه في المجتمعات الغربية. وعلاوة على الترويج لأعمال الجيل الجديد من «الباحثين» الإسلاميين، ركّزت الأوساط الأكاديمية الغربية على أعمال سيّد قطب، المرجع الراديكالي في جماعة الإخوان المسلمين، الذي كفّر جميع النظم السياسية في العالم الإسلامي لعدم امتثالها القاطع للشريعة. ولذلك فالثورة لإسقاطها واجبة. وقد اضطلع باحثون فرنسيون من أمثال جيل كيبيل وأوليفييه روا وبرونو إتيين وفرانسوا بورغات، بدور كبير في الترويج لجميع الآراء الإسلامية الراديكالية، بما في ذلك آراء أبي الأعلى المودودي وابن تيمية، الذي دعا إلى قتل جميع المسلمين المتمسّكين بتفسير «غير قويم» للدِّين، مثل الشيعة الدروز، وإلى فرض نظام رقابة صارم على المسيحيين واليهود.

وفي الولايات المتّحدة، شرح بعض أعضاء المؤسسة الأكاديمية مثل جون إسبوزيتو وجون فول بإسهاب أيضاً الأيديولوجيا الإسلامية الجديدة بأنها ردّ طبيعي على عملية تحديث فاشلة وعلى هيمنة طريقة الحياة والتفكير الغربي على المجتمعات الإسلامية التي استاءت من هذا «العدوان الثقافي» الذي دعمته وفرضته عليهم النظمُ القومية العربية العلمانية الاستبدادية بعد الاستقلال. وغدا ذلك سردية معيارية عن العالم العربي اكتسحت المجالات الإعلامية والأكاديمية في العالم قاطبة. إضافة إلى ما تقدّم، سعى ليونارد بايندر في كتابه، وهو باحث أمريكي مرموق، إلى تبيان أنّ الوصول إلى الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن أن يتحقّق إلّا عبر بوّابة الإسلام التي ينبغي للغرب استيعابها وتصحيح تجاوزاتها القليلة بمرور الوقت[9]. إنه تيار عالمي في الأوساط الأكاديمية الغربية يؤكّده أيضاً كتاب العربي صديقي[10].

أضف إلى ما تقدّم أنه كان للأعمال الفكرية الغزيرة لمحمّد عابد الجابري، الذي سعى إلى تحليل آلية العقل العربي، تأثير كبير في العالم العربي. امتُدحت كتبه، ورُوِّج لها ونوقشت مطوّلاً. وقد ركّزت في الأساس على مقاربة أنثروبولوجية لفهم العقل العربي على سبيل الحصر تقريباً من خلال تطوّر علوم العقيدة الإسلامية وتكوينها، كما لو لم يكن يوجد سمة علمانية أخرى للثقافة العربية خارج إطار العقيدة والفقه الإسلاميين.

وصف الجابري الطرائق اللاهوتية المختلفة التي أدّت إلى تكوين العقل العربي للذهنية في صوغ القانون الإسلامي، التي أوجدت انقساماً عميقاً بين عقل تأويلي وصوفي ميّز في نظره العقلَ العربي الشرقي (أي العقل الشيعي) من ناحية، وبين عقل ذي نزعة أكثر عقلانية ميّز العقل العربي الغربي (كما في الأندلس وشمال أفريقيا أو المجتمعات المغربية) من ناحية أخرى. يسمّى العقل العربي من النوع الأول «العقل المستقيل» أو غير العقلاني، في حين يُعد النوع الثاني منفتحاً على العقلانية. لكن بموجب وجهة نظره هذه، العقل العربي من النوع الثاني لم يكن قادراً على مواصلة إنتاج فلسفة وفلاسفة كون الفلسفة معادية للعقل اللاهوتي العربي. وهو يرى أن ابن رشد حالة معزولة. لكنّ هذا العقل العقلاني النزعة يمكن أن يتطوّر في يومنا هذا بالتواصل مع أوروبا.

ساهم عمل الجابري بدرجة كبيرة في الرأي القائل إن العقل العربي عقل لاهوتي عقائدي بامتياز، وأنه ذاتيّ البناء ومن دون أي تأثير خارجي. فهو يبدو في كتاباته منغلقلاً على نفسه إضافة إلى كونه مكتفياً ذاتياً. هذا هو رأي أغلب الباحثين المستشرقين الغربيين الذين انتقدهم الراحل إدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق (Orientalism). المفترض أن الإسلام مدوّنة شريعة دينية الطابع وأحكام ثابتة وغير قابلة للتجزئة تفرض السلوك الاجتماعي والسياسي بحسب ما جادل كثير من الباحثين الغربيين. وقد أضحى هذا الموقف موقف كثيرين من المفكّرين العرب الذين جادلوا بأنه من خلال الإسلام فقط يمكن تحديث المجتمعات العربية بشكل شامل.

سادساً: تفكيك الإسلام السياسي

فكّك بعضُ المفكّرين العرب اللامعين والمتمتعين بثقافة واسعة الإسلامَ السياسي وأظهروا بوضوح ما مثّلته هذه الأيديولوجيا بالنسبة إلى المجتمعات العربية من عقبة عملاقة وسد للأفق أمام التقدم والاستقلال والاستقرار. اللافت للنظر أن أعمالهم لم تلقَ اهتماماً إلى حدّ بعيد من جانب التيارات الأكاديمية السياسية في الجامعات الغربية، مقارنة بالتركيز الشديد على المفكّرين العرب الذين انضمّوا إلى حملة الترويج للإسلام السياسي كونه الحلّ لمآسي المجتمعات العربية.

في مقدّم هؤلاء عزيز العظمة الذي ألّف كتاباً مفصّلاً عن العلمانية من منظور مختلف، وأظهر فيه مستوى العلمنة الذي بلغته المجتمعات العربية منذ أيام محمّد علي في مصر[11]. شجب العظمة محاولات الحكومات والمفكّرين إعادة الصور الجامدة لإبداء التمسّك بالمظهر والسلوك الدِّيني في المجتمعات العربية كونها اتّجاهاً خطراً يمنع من التبنّي الكامل للحداثة التي لا مهرب منها. أرادت الحكومات العربية إظهار إخلاصها للتراث والاقتصار على تبنّي المظهر المادّي للحداثة وليس مضمونها على صعيد السلوك الاجتماعي والسياسي.

انخرط العظمة أيضاً في حوار نابض بالحيوية مع عبد الوهّاب المسيري، وهو حوار منشور في كتاب بعنوان العلمانية تحت المجهر حيث عرض كل من المؤلفَين آراءه وعلّق على آراء الطرف الآخر[12].

أضف إلى ذلك الكثير من المفكّرين المصريين الشجعان الذين تحدثوا وكتبوا بصراحة عن أخطار الإسلام السياسي كونه يخنق حرّية التعبير والتفكير الحرّ الذي من دونه تتردّى ثقافة أي مجتمع واقتصاده وأداؤه العلمي والتقنيّ على نحو حادّ، وهو ما يُبقي على التخلّف والاستبداد. تلك كانت حال نصر حامد أبو زيد، وهو أستاذ جامعي جُمّدت أستاذيّته واضطر إلى الفرار من مصر ومعه زوجته التي أمرتها المحكمة بالافتراق عنه لارتداده عن الدِّين. بل إن حالة فرج فودة أكثر مأساوية، وهو مهندس زراعي انتقد بشدّة الإسلامَ السياسي وحركة الإخوان المسلمين لتشويههما التاريخ والتعاليم الإسلامية وفرضهما أسلوب عيش استبدادياً على المجتمعات العربية. بيّن فرج فودة أن العلمانية لا تتعارض مع طبيعة الإسلام على الإطلاق؛ فاغتيل في القاهرة سنة 1992. وعلينا ألّا ننسى أيضاً الروائيّ الشهير نجيب محفوظ الذي ندّدت به أيضاً حركةُ الإخوان المسلمين لارتداده عن الدِّين. لكنّه نجا من محاولة اغتيال في سنة 1994.

ألّف زياد حافظ، وهو باحث لبناني متضلِّع من القضايا الدِّينية، كتاباً في غاية التفصيل والإلهام[13]، بيّن مدى استمرارية الاتّجاهات في التفكير الإصلاحي الحداثي الإسلامي بلا هوادة على الرغم من مناخ الخوف الذي أشاعه الإسلام السياسي في أغلب المجتمعات العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي. ركّز حافظ في كتابه على استمرار اتجاه الفكر الإسلامي العربي الإصلاحي الناقد في مجال الدِّين، وعرض وصفاً حيّاً لأعمال كثير من الباحثين الذين لا يزالون متمسّكين بتقليد التطلّع الحداثي بإصلاح الطريقة الجامدة والتقليدية في فهم الدِّين الإسلامي وممارسته.

يمكن الإشارة هنا أيضاً إلى كتب كثيرة مشوّقة ومدهشة لعبد الإله بلقزيز الذي ركّز على تحليل تاريخي مفصَّل للعلاقات بين الإسلام والنظم السياسية منذ وفاة النبي محمد (ﷺ)[14]. أثبت بلقزيز من خلال معرفته المعمَّقة بتاريخ الكيانات السياسية الإسلامية أنه كان لاستغلال الحكام للدِّين دوافع دنيوية دائماً لا دوافع دينية أو عقائدية. وانتقد بلقزيز أيضاً المفكّرين العرب الذين تحوّلوا إلى الإسلام السياسي في العقود الأخيرة، ومنهم معاصره الجابري.

لقيت أعمال الجابري المتعددة، حول العقل العربي، انتقادات لاذعة من جورج طرابيشي الذي ألّف عدّة كتب أظهرت محدودية عمل الجابري ومقاربته الجوهرانية في دراسة «العقل العربي» الذي عدّه ثمرة تأثير الاستشراق الغربي في طريقة الجابري في فهم العقل العربي. لكن على الرغم من الأهمية المركزية لمناظرة الجابري – الطرابيشي وغناها، فهي فلم تلقَ اهتماماً أكاديمياً يُذكَر؛ فلم يُكتَب عنها شيء ذو شأن سوى أطروحة جيدة لكاثرين لويز رايت التي وضعت هذا الجدال في سياق مناظرة أقدم كثيراً بين الإمام الغزالي وابن رشد حول العداوة بين الدِّين والفلسفة.

كتب عالمان سياسيّان عربيّان آخران نقداً في غاية التفصيل للإسلام السياسي كونه يعارض الاتّجاهات العلمانية في العالم العربي. شجب كل منهما الإسلام السياسي لإنتاجه ثقافة عداء للحداثة والحدّ من القدرة على الخروج من التخلّف. أحدهما محمّد جابر الأنصاري، الذي ينتقد خجل المفكّرين العلمانيين العرب والذي يجعلهم عاجزين عن مواجهة الإسلام السياسي على النحو المناسب. وهو يعتقد أن الكثير من المفكّرين العرب سعوا إلى التوفيق بين المقاربة العلمانية في الحياة وبين القيم الإسلامية التقليدية التي استند إليها المفكّرون العرب الذين التحقوا بالإسلام السياسي. وهو يرى أن مستقبل المجتمعات العربية يعتمد على نجاح المقاربة العلمانية في دحر المقاربة الإسلاموية والتفوق عليها.

والآخر هو محمّد ضاهر الذي ألّف كتاباً مفصَّلاً ومعمّقاً عن المواجهة بين العلمانيين والإسلاميين منذ أيام محمّد علي في مستهلّ القرن التاسع عشر. بيّن بالتفصيل إنجازات محمّد علي في النمط العلماني للحداثة وكذلك سياسات عبد الناصر العلمانية وإنجازاته كنموذجين للمستقبل.

غير أن الأوساط الأكاديمية الغربية تغاضت بدرجة كبيرة عن هذين الكتابين المهمّين، كما تغاضت عن المناظرات المعمقة بين العظمة والمسيري أو بين الجابري والطرابيشي.

خلاصة: الخروج من الفخ الذي حُبست الثقافةُ العربية فيه

كيف يمكن المرء أن يتصوّر كسر الدائرة المفرغة الحالية التي علق فيها الفكرُ السياسي العربي، بل قطاعات واسعة من أهل الفكر الغربيين المنهمكين في مناقشة النظريات المتّصلة بـ «صدام الحضارات» وبالتالي الحاجة إلى حوار ديني وثقافي بين الأمم؟ كيف يمكننا صرف التركيز شبه الحصري في مجال الدراسات الاجتماعية والثقافية والسياسية عن العقائد الإسلامية الراديكالية في العالم العربي؟ يتقوّى هذا الاتجاه بالطبع بتضاعف أعداد الأحزاب السياسية التي تدعو إلى الإسلام في العالم العربي بوصفه أيديولوجيتها المركزية، والأدهى من ذلك أن منظمات إرهابية كثيرة تؤكّد شرعيتها برفع شعارات إسلامية. لذلك نحن في دائرة مفرغة ينبغي كسرها بأسرع ما يمكن.

عرضنا هنا كل العوامل السياسية والجيوسياسية التي تضافرت على حجب تنوّع الثقافة العلمانية العربية وغناها في ميادين الموسيقى والشعر والرواية والرسم بما يصبّ حصراً في مصلحة تجدد الدراسات التي تتناول الإسلام السياسي. وعلى الرغم من ذلك، فاللافت للنظر أن الثقافة العلمانية العربية لا تزال نابضة بالحياة ومتنوّعة. فلا يزال الفنّانون والشعراء والموسيقيون ومشاهير المغنّين والمغنّيات ومشاهير الروائيين والممثّلين العرب يتمتّعون بشعبية كبيرة في جميع المجتمعات العربية. بل إن كتابات المفكّرين العرب المعارضين للإسلام السياسي تُقرأ على نطاق واسع، مع أن أعمالهم لا تخضع لمراجعات في المجلات أو الصحف الأكاديمية إلّا نادراً. والأرجح أن كبار الشخصيات في عالم الشعر والرواية والفن بأنواعه هم عملياً أكثر شعبية على الأرض من الدعاة الذين يدعون إلى الإسلام الراديكالي عبر المحطّات التلفزيونية الفضائية مثل محطّة الجزيرة ومحطة العربية، أو في المحطّات المكرَّسة للدِّين والوعظ الراديكاليّ الطابع.

نحن نعتقد في هذا الخصوص أن الوقت قد حان لتغيير الأجندة الأكاديمية المتصلة بمشاهدة المجتمعات العربية. ليس هناك أي قيمة فكرية في أن نواصل حتى الملل مناقشة الصور والتفسيرات المتنوّعة للإسلام التي تروّج لها الحركاتُ السياسية أو الحركات المسلّحة التي تعتنق أيديولوجيا وحيدة فحواها «الإسلام هو الحلّ» والتي تمارس الإرهاب بصور مختلفة في حالات كثيرة ضدّ مسلمين آخرين. لا ينبغي أن ننسى أن ممارسة الإسلام شهدت أصلاً إصلاحات على يد شيوخ ومفكّرين عرب بارزين ممّن أتينا على ذكرهم. وهذا سبب غرابة الدعوة إلى حركة إصلاحية إسلامية جديدة. إن ما نحتاج إليه في هذا الخصوص تحديد وقطع تمويل تلك الجماعات المختلفة التي تدافع تحت راية إسلامية عما يسمى تفسير وممارسة «راديكالية» أو «متطرّفة». لكنّها مهمة يصعب إنجازها كون الإسلام الراديكالي مطبَّقاً بشكل رسمي في نظامَين سياسيَّين رئيسَين، وأعني نظام المملكة العربية السعودية ونظام باكستان، وكلاهما حليف مقرّب من الولايات المتّحدة، من غير أن ننسى النظامَ الإسلامي الإيراني بالطبع. وعلاوة على ذلك، فإن زعم إسرائيل أنها دولة يهودية يقوّي «شرعية» تلك الحركات التي تبرّر الحاجة إلى إقامة دول إسلامية.

في هذا السياق، آن الأوان للالتفات إلى القضايا المتّصلة بتعاظم الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية في أغلب البلدان العربية على صعيد استيعاب العلوم والتقانة، والتصنيع والأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية، واشتمال أفقر الطبقات السكانية وتمكينها. إن الملايين من الشباب العرب العاطلين من العمل والمهمَّشين في مجتمعاتهم يشكّلون بيئة محلية سلبية يمكن أن تتيح للمنظمات العنيفة والإرهابية تجنيدهم. تعاني المنطقة العربية من أسوأ معدلات البطالة من بين سكّان سائر المناطق في العالم، وبخاصّة وسط الشباب. وعلى الرغم من ثراء بعض الدول العربية، لم يُبذَل شيء لتصحيح أوضاع اختلال التوازن الاجتماعي وتأمين فرص عمل لائقة وبأعداد كافية. وبوجود عدد كبير من العرب من أصحاب الملايين، يصبح الوضع أشدّ خزياً.

هذا هو سبب وجوب إيلاء القضايا المتّصلة بهذه الإخفاقات اهتماماً فكرياً أكبر، وبخاصة مقارنة بالنجاحات في مناطق أخرى في العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وآسيا. عانت بلدان أخرى غير عربية عدوانَ القوى الاستعمارية الغربية، لكنها نجحت في استيعاب العلوم والتقانة الحديثة وأضحت اقتصادات دينامية ومبتكِرة (كوريا الجنوبية، تايوان، الصين، سنغافورة، بل واليابان في القرن التاسع عشر). كما أنها تخلّت عن علاقات الحبّ/الكراهية الملتبسة بالعالم الغربي، وتكاملت مع الحداثة العالمية التي أشاعتها المجتمعات الغربية في سياق ديناميات العولمة الاقتصادية.

لذلك، ينبغي أن يصبح التحقيق في أسباب وكيفية إخفاء غنى وتعدد الثقافة والفكر العلماني العربي ولجم النزعة الحداثوية في المجتمعات العربية قضيةً مركزية في الدراسات الأكاديمية عن العالم العربي. القضية الأخرى هي ضرورة قيام الباحثين العرب بالتقليل من اهتمامهم بالعلاقات بين العرب والمجتمعات والثقافات الغربية ليتسنّى لهم التركيز على دراسة عملية التحديث الناجحة للمجتمعات الآسيوية والأمريكية اللاتينية الأكثر دينامية. وهناك بالتأكيد دروس كثيرة يمكن تعلّمها من تجاربهم. غير أن قلّة قليلة من المفكّرين درستها حتى هذه الساعة. أرى أن الوقت قد حان لتعديل الأجندة الأكاديمية المتّصلة بالعالم العربي للخروج من المناقشات العقيمة التي تركّز على الإسلام. الدِّين وتفسيراته المتنوّعة ليست ظاهرة جامدة. الدِّين هو ما ينهل منه الناس، وبخاصّة القادة السياسيون ورجال الدِّين. ولا يمكن أن يكون الدِّين بديلاً من النسيج المعقّد للفكر والثقافة.

لذلك، «العقل العربي» ليس عقلاً لاهوتياً إقصائياً. وهو شهد على مرّ التاريخ تغيّرات كثيرة؛ وثقافته سواء الإسلامية أو التي سبقت الإسلام مبنية على طرائق متنوّعة للتعبير عن الذات، بدءاً بالشعر وانتهاءً بالفلسفة والموسيقى والرسم والأدب بأوجهه كافّةً، واختزاله بعقل ديني لاهوتي صرف، مجرّد سخافة.