– 1 –

ثمة سؤال مشروع، كثيراً ما يطرحه بعض الأكاديميين العرب، وبخاصة أولئك الذين ليسوا على وفاق مع الرياضيات، وهم كثر؛ وهو: لماذا يجب أن تشكّل الرياضيات جزءاً من المناهج الجامعية في معظم الحقول المعرفية، إن لم نقل كلها؟ لأنه، عموماً، ليس من الضروري أن يكون هناك علاقة بين كل العلوم على اختلاف أنواعها. حتى وإن وجدت هذه العلاقة، فتكون بسيطة، أو تغطي بعض الجوانب. في حين أن علاقة الرياضيات بالعلوم الأخرى متداخلة، وأحياناً عضوية، لا يمكن الاستغناء عنها، بسبب التماهي الحاصل بينها. بل وكثيراً ما نجد أن تقدم بعض العلوم مرهون بتقدم الرياضيات ذاتها، أو بحسن الاستفادة منها. ويمكن القول بأن الرياضيات أضحت رافعة التعليم العالي في الدول المتقدمة. وهذا يظهر، على نحو خاص، في العلوم الأساسية المختلفة، وفي الاختصاصات الهندسية جميعها، وفي الاقتصاد، وغيرها كثير. وحتى العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، أضحى جزء من تطورها، في تلك البلدان، يعتمد على مدى استفادتها من التطبيقات الرياضية. وعندما يدخل أحد الحقول المعرفية في بنية علم آخر مختلف عنه، فهو ليس من الضروري أن يدخل في بقية العلوم الأخرى، كما هو حال الرياضيات، التي أصبح خيرها يعم معظم العلوم المعاصرة تقريباً، لما تقدمه من خدمات معرفية جليلة.

ولمعرفة ما تستبطنه طبيعة الرياضيات لا بد من الوقوف عند تلك الطبيعة المفارقة لماهية معظم العلوم الأخرى. ففيها تكمن قوة الرياضيات، وسحرها الأبدي. فالرياضيات تختلف عن غيرها من العلوم، في أنه من الصعب فهم كنهها، إلّا بعد أناة، ومكابدة كبيرة؛ فضـلاً عن ذلك لا نستطيع أن نتوقع إلى أين تصل تخومها. ورؤيتنا هذه متجهة صوب دور العلوم الرياضية في مناهج غير المختصين في الرياضيات، لأن مناهج المختصين لا خلاف عليها، ومعني بها المختصون فقط، وهي خارج اهتمام هذا الإطار.

من المعروف أن ثمة تقسيمات عديدة للعلوم، ولكن الأكثر انتشاراً هو أن العلوم تقسم إلى نوعين: الأول، العلوم الصورية (الشكلية) (Formal Science)، وتشمل الرياضيات، والمنطق، وبعضهم يضيف أحياناً إليها ما كان منها مدانياً، مثل علوم الحاسوب النظرية (Theoretical Computer Science)، ونظرية المبارزة (المباراة ((Game Theory)، ونظرية القرار (Decision Theory)، وجزء من علم اللسانيات (اللغويات) (Linguistics)، كون أن جزءاً من قوام هذه العلوم هو الفكر الرياضي، على الرغم من تناولها مواضيع مختلفة عن الرياضيات. والنوع الثاني من العلوم يشمل ما يسمى العلوم الإخبارية (Informative Science)، ويتضمن بقية العلوم الأخرى التطبيقية (الطبيات، والهندسات، وغيرها)، والإنسانية، والاجتماعية دون استثناء. وهذا التقسيم له أهميته الخاصة لأنه يُبرز طبيعة الرياضيات الصورية (المجردة)، التي ترشحها لأن تقوم بدور مميز، وأساسي، في حياة الإنسان العقلية، والعملية. لذلك تحظى الرياضيات بمكانة خاصة في المناهج الجامعية في عديد من الجامعات، وعلى نحو خاص في الجامعات النخبة في العالم.

وهذه الميزة «الصورية» الفريدة منحت الرياضيات، كأداة، قوة خاصة تتميز بها عن غيرها من العلوم. يشير الفيزيائي وفيلسوف العلم الفرنسي رولان أومنيس (Roland Omnes) في كتابه فلسفة الكوانتم إلى حقيقة مفادها أن: «الرياضيات أيضاً أداة لاكتساب المعرفة. ولكن يبدو أنه لا يوجد بين المؤيدين لهذا الوضع رأي عام مشترك حول أسباب الكفاءة المذهلة التي تظهرها الرياضيات عندما تستخدم في علوم أخرى»‏[1]. إضافة إلى ذلك، فإن الدقة المتناهية التي تتسم بها الرياضيات تساعد دارسي العلوم الأخرى على بلوغ أعلى درجات الصرامة العقلية، ومن ثم على قرع أبواب الإبداع. يقول رولان أمنيس: «وغاوس على أي حال جدير بكل تقدير، لأنه أعلن أن الصرامة هي أم الإبداع»‏[2]. ويقصد الرياضي والفيزيائي الألماني كارل فريدريك غاوس (C. F. Gauss) (1777 – 1855)، والرياضيات هي أم العلوم التي تتبنى الصرامة في التفكير.

لذلك بدأ كثير من الجامعات في العالم يعي أهمية الرياضيات في أمرين؛ الأول منهما تعليمها كمتطلب جامعي (University Requirement) لكل طلاب الجامعة، بغض النظر عن اختصاصاتهم الجامعية، وذلك في الجامعات التي تتبنى نظام الساعات المعتمدة (Credit Hour System). وهذا كثيراً ما نجده في الجامعات المتميزة في العالم. وهدفها من ذلك هو تزويد خريجيها بمهارات عقلية خاصة تمنحهم القدرة على المحاكمة العقلية السليمة، واكتساب القدرة على التفكير المنطقي، والتحليلي، والاستدلال الكمي، والتفكير النقدي، الذي أضحى من أهم مواصفات خريج الجامعة في هذا العصر. فضـلاً عن ذلك، فإن الرياضيات تمنح دارسها القدرة على التجريد، التي تساعده على «رؤية» أشياء يصعب أن يراها غيره. لأن قوام عملية التجريد، ببساطة، هي التخلّص من كل ما ليس له قيمة في السياق، والتركيز على «العلاقات» التي تتحكم بهذا السياق، وصولاً إلى التفكير المفاهيمي الذي يعد ضرورياً في بعض الدراسات. لذلك يقول الرياضي البريطاني – الأمريكي المعاصر كيث ديفلن (Keith Devlin) في كتابه مدخل إلى التفكير الرياضي (Introduction to Mathematical Thinking): «إن الرياضيات تجعل غير المرئي مرئياً». ويصعب تحقيق كل تلك المواصفات، للخريج الجامعي، بعيداً من تدريس الرياضيات، التي تساعد طبيعتها في نمو هذه المواصفات، إن أُحسنَ تدريسها.

والأمر الثاني الذي بدأت تهتم به عديد من الجامعات في العالم المتقدم هو في زيادة جرعة الرياضيات في معظم الاختصاصات العلمية، والنظرية، على حد سواء. فلم يعد هناك حقل معرفي يستطيع أن ينأى بنفسه عن تأثير الرياضيات. بل أضحى كثير من الجامعات المتميزة يعتمد مناهج الرياضيات نفسها للمختصين لتدريسها لغير المختصين. لأنه من المعروف أن عديداً من الجامعات (ومنها معظم الجامعات العربية) تدرّس مناهج الرياضيات لغير المختصين على نحو مختلف كثيراً عن مناهج المختصين. حيث تركّز مناهج غير المختصين على تدريس نصوص المبرهنات (النظريات) الرياضية، والنتائج، وتطبيقاتها، دون الخوض في الجوانب النظرية، التي تعد من النوافل، وأنها تثقل كاهل الطالب، من وجهة نظر هؤلاء. أي أن هذه المناهج تكون مجتزأة، وذات طابع «خدمي» بحت، ولا يدخل هذا الطالب في عمق المفاهيم الرياضية، بل يبقى عائماً عند هوامشها. لذلك يبقى الطالب (غير المختص)، في هذه الحالة، غريباً عن تلك المفاهيم، ويفتقد المرونة العقلية اللازمة لتطبيق الرياضيات في مجال اختصاصه العلمي، لأنه لا يعي، تماماً، أواصر قرابتها مع اختصاصه، وأنها اللغة التي يمكن أن نستعملها للتعبير عما تعجز عنه اللغات الأخرى لفهم ما يجري في عديد من الحقول المعرفية. فضـلاً عن أن هذا يلغي دور الرياضيات التربوي.

وهذه القوة الساحرة للرياضيات المعاصرة نابعة مما تستبطنه من تجريد كبير، وهذا على خلاف ما يتوقعه بعضهم. فصحيح أنها أصبحت أكثر تجريداً مع تزايد تطورها، بيد أنها أضحت أكثر «تعبيراً» عن الواقع، من الرياضيات التقليدية التي كانت تركّز على إجراء «الحسابات» على اختلاف أنواعها. لأن «الشحنة الفكرية» التي أصبحت تحملها الرياضيات الحديثة، وبخاصة الرياضيات المعاصرة، كانت على حساب تراجع العمليات الحسابية، وضمورها، حيث أصبح الحاسوب (الكومبيوتر) يقوم بجزء كبير منها. وهذه «الشحنة الفكرية» سهّلت على الرياضيات الحديثة الاهتمام بمجالات رحبة جديدة، ذات طبيعة فكرية. كما أهّلتها لأن تتناول أموراً كان يصعب على الرياضيات التقليدية الولوج إليها، أو حتى مقاربتها. وصحيح أن هذا أضفى عليها نوعاً من الصعوبة، وتتطلب مكابدة ذهنية خاصة، وهذا شيء طبيعي، بسبب تجريدها العالي، بيد أن ذلك منحها سمة غير متوقعة، وتبدو، للوهلة الأولى، أنها متناقضة ذاتياً. وهي أنها تكون أكثر تعبيراً عن الواقع، كلما كانت أكثر تجريداً، على الرغم من أن ذلك يجعلها أكثر تعقيداً. في حين أن تعبير الرياضيات البسيطة عن الواقع يكون ضعيفاً، وتزداد وتيرته مع زيادة تجريدها. وربما أوضح مثال على ذلك، يعرفه الجميع، هو أن مبرهنة (نظرية) فيثاغورث المعروفة (في الرياضيات المدرسية) التي تنص على أنه: «في المثلث القائم الزاوية، يكون مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين»، تعبيرها عن الواقع محدود جداً، ومن ثم تطبيقاتها ليست واسعة، ومحصورة في حالات المثلثات القائمة فقط. في حين أن التطبيقات العملية للمنطق الضبابي (العائم) Fuzzy Logic، مثـلاً، عديدة جداً، يصعب حصرها، لأنها في نمو دائم، وطيفها واسع جداً، وفي عديد من الحقول المعرفية المتباعدة. بدءاً من الذكاء الصنعي(Artificial Intelligence)  في علوم الحاسوب (Computer Science)، ومروراً بتطبيقاته في علم الدلالة (Semantics) (وهو فرع من اللسانيات والمنطق يهتم بدراسة المعنى في اللغات)، وفي أنظمة الامتحانات الجامعية التي تعتمد النظام النسبي (الذي يعتمد على معالجة الدرجات الخام، وترتيب الطلاب بالنسبة إلى بعضهم)، بدلاً من النظام المطلق (الذي يستخدم الدرجات الخام كما هي، والشائع استخدامه في بلادنا العربية). وصولاً إلى دراسة تقارير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA). أي أن الرياضيات الحديثة بدأت تعالج طيفاً واسعاً من المواضيع الشائكة ذات الطابع الفكري، وتقدم حلولاً ناجعة في هذا الخصوص، بسبب طبيعتها الصورية المتقدمة جداً.

– 2 –

أضحت إحدى السمات الواضحة للجامعات المتطورة في العالم هي تدريس حقلين معرفيين، أو أكثر، في آن واحد، وهو ما أصبح يطلق عليه «Studies Interdisciplinary» وذلك لأنه قد تبيّن أن تقاطع العلوم المختلفة، وانفتاحها على بعضها، بدأ يثمر معارف جديدة، كان يصعب وجودها لولا هذا الانفتاح. بيد أن ما نتحدث عنه، بضرورة حضور الرياضيات في تدريس العلوم الأخرى، هو أمر مختلف تماماً عن ذلك. لأن توظيف العلوم في خدمة بعضها، في تلك الجامعات، هو لحاجات اقتصادية، أو اجتماعية، أوغير ذلك، وليس لأن أحدهما يدخل، بالضرورة، في صلب الآخر. في حين أن ما نعني به هو دور الرياضيات في المساهمة في بناء العلوم الأخرى، وفي تقدمها، حيث الضرورة العلمية اقتضت ذلك. وهذا يكون جلياً، على نحو خاص، في بعض العلوم التي يكون فيها عقل الإنسان ذاته مهماً جداً، ومحورياً في دراستها، كما في الدراسات السياسية، وفي الدراسات الاقتصادية، على سبيل الذكر لا الحصر. لأن طبيعتيهما تعتمد على ما يملكه الإنسان ذاته من مقدرات ذهنية، وليس على المعطيات التكنولوجية المختلفة، كما في العلوم الطبية، والهندسية، وغيرها. حيث يعتمد الإنسان في هذه العلوم على توظيف الأمرين معاً. ففي العلوم السياسية، والاقتصادية، أصبح للطريقة الرياضية في التفكير دور مهم فيهما. أي أصبح قوام التفكير الرياضي الروح التي تسترشد بها تلك العلوم في بحثها الدؤوب عن حلول المشاكل التي تصادفها. وتكفي الإشارة إلى أن ما يسمى «الطريقة الموضوعاتية» (Axiomatic Method) (نسبة إلى موضوعة = مسلَّمة «Axiom») في التفكير الرياضي أصبحت تقوم بدور أساسي في الاقتصاد، وإلى حد ما في العلوم السياسية. وهي بناء قضايا علم من العلوم على نحو تُجعل فيه بعض القضايا موضوعات (مسلّمات، أو مصادرات)، وسائر القضايا نتائج، أو نظريات مستمدة، بعمليات منطقية ملزمة، من المقدمات – المسلَّمات.

ويشير عديد من الباحثين في العلوم الاقتصادية إلى أن الدراسات الاقتصادية، في العالم المتقدم، وصلت إلى طريق شبه مسدود، لأنها أصبحت مثقلة بالدراسات الوصفية، التي لم تعد تغني شيئاً لاقتصاد تلك الدول، ولا تقدم حلولاً ناجعة لمشاكلها الاقتصادية، بسبب تخمتها من اللغة الإنشائية التي لم تعد تجدي نفعاً. بل لا بد من التوجه نحو الدراسات الكمية التي بدأت تتضح أهميتها من خلال ما تقدمه من صور واضحة عن الحالة الاقتصادية، والحلول اللازمة لذلك، كما تقلل من اختلاف وجهات النظر بين الاقتصاديين حول عديد من المسائل الخلافية. وقد عرف الغرب أهمية الرياضيات في الاقتصاد منذ فترة بعيدة نسبياً، من القرن التاسع عشر الميلادي، وربما قبل ذلك. لهذا كانت الرياضيات أحد العوامل الأساسية في نمو اقتصاد الغرب. فقد بدأ ببناء الاقتصاد على أسس رياضية عام 1838 عندما بدأ أوغستن كورنت (Augustin Cournot) بنشر أبحاثه حول ترييض الاقتصاد، حيث بنى نماذج رياضية يشرح فيها الظواهر الاقتصادية. وقد كانت هناك محاولات قبل ذلك، بيد أنها لم تكن ناضجة بعد. والآن أضحت الرياضيات المتقدمة نسبياً، ولا سيَّما البحتة منها (التبولوجيا، ونظرية القياس، والتحليل الدالي)، جزءاً أساسياً من دراسة الاقتصاد في عديد من الجامعات العالمية.

وللوقوف على تاريخ توظيف الرياضيات في الدراسات الاقتصادية انظر، مثـلاً، المحاضرة التي ألقاها الرياضي والاقتصادي الأمريكي (الفرنسي الأصل) جيرارد ديبرو (Gerard Debreu) الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1983، والتي كانت بعنوان: «النظرية الاقتصادية باللباس الرياضي» (Economic Theory in the Mathematical Mode)، وذلك أثناء استلامه الجائزة. وهو أحد الاقتصاديين الكبار في أمريكا في القرن العشرين، وكانت خلفيته الرياضية تبزّ الرياضيين أنفسهم، وهذا كان ظاهراً من خلال أبحاثه الاقتصادية المشبعة بالأفكار الرياضية. هذا مع العلم أن عديداً من الحاصلين على جائزة نوبل في الاقتصاد ذو خلفية رياضية متقدمة، وربما كان أشهرهم الرياضي الأمريكي جون ناش (John Nash) (1928 – 2015) الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 نتيجة أبحاثه عن تطبيقات مبرهنة بروور (Brouwer) للنقطة الثابتة في الاقتصاد، ونظرية المبارزة.

– 3 –

وما يسترعي الانتباه أنه حتى في مناهج عديد من أقسام الفلسفة في الجامعات العربية لا تدرّس الرياضيات كمقرر مساعد. والأكثر من ذلك، فإن بعضهم لا يقبل في هذه الأقسام إلّا حاملي الثانوية العامة – الفرع الأدبي. فدارسو الفلسفة هؤلاء يتطرقون، في مناهجهم، إلى الحديث «عن» الرياضيات، وليس إلى دراسة الرياضيات نفسها. والرياضيات من العلوم الممتنعة على هذه الطريقة من التعليم، لأنه لا يمكن تحصيلها، أو تحصيل جزء منها، بالحديث عنها. فكيف يمكن لطلاب هذه الأقسام، مثـلاً، دراسة «البرهان الرياضي» في مقررات مناهج البحث في العلوم الطبيعية (وهو أحد مقررات أقسام الفلسفة)، أو مقاربة طبيعته، أو أنواعه، دون التعرض لبعض الأمثلة «الحية» من البراهين من الرياضيات. لأنه لا يمكن تعلّم الرياضيات، أو حتى فهمها، بمجرد قراءة مواضيع يدور رحاها حولها. بل لا بد لهذا الدارس، أن يخوض غمار الرياضيات ذاتها.

ومن الأبحاث التي تدرّس في أقسام الفلسفة هذه ما يطلقون عليه، في كتب الفلسفة العربية، الطريقة «الأكسيوماطيقية» (الموضوعاتية)، أو «الأكسمة». ومن الصعب على هذا الدارس فهم فحوى هذا العنوان بدقة، وماذا يعني، دون التعرض إلى دراسة «جملة موضوعات» أحد الأنظمة الرياضية، التي منها، على سبيل الذكر لا الحصر، موضوعات إقليدس في الهندسة المستوية، أو موضوعات بيانو (Peano) (نسبة إلى الرياضي الإيطالي غيوزيب بيانو) في نظرية الأعداد، أو موضوعات زرميلو – فرانكل (Zermelo-Fraenkel) في نظرية المجموعات، أو غير ذلك. والأكثر من ذلك، فإن دارس الفلسفة عندما يتطرق إلى دراسة بعض المعاني الفلسفية للجوانب الرياضية، دون معرفة حقيقية بهذه الجوانب، فإنه في واقع الأمر يلج من باب «الإيمان»، لما يقوم به من تسليم، وليس من باب «المعرفة»، دون أن يشعر هو بذلك. وبهذا يكون الهدف الأساسي من تعلم الفلسفة قد تلاشى، أو اضمحل، من وجهة نظر الفلسفة ذاتها، لأن هذا النمط من التعليم يحمل في طياته تعطيـلاً لإعمال العقل.

هذا مع العلم أن موقع الرياضيات في صدارة الحضارة العربية – الإسلامية كان غير ذلك تماماً. فقد كانت الرياضيات عند يعقوب بن اسحاق أبو يوسف الكندي (ولد في الكوفة أواخر القرن الثامن الميلادي، أي حوالي 185 هجري) من أساسيات الفلسفة. وله رسالة في أن الفلسفة لا تُنال إلّا بالرياضيات‏[3]. وهو من أوائل العرب الذين خاضوا غمار «علوم الأوائل»، أو «العلوم القديمة»، كما كانت تسمى. فقد خاض غمار الطب، والهندسة، والحساب، والهيئة، والفلسفة، بعد أن كانت وقفاً على السريان والصابئة. لذلك يعد من أوائل الرياضيين العرب على الرغم من أن شهرته كانت أساساً في مجالَي الفلسفة، والفلك، بسبب ضياع كثير من رسائله الرياضية. بيد أن رسائله الفلسفية (التي حققها محمد عبد الهادي أبوريدة) تدل على حضور الفكر الرياضي في تلك الرسائل، وتثمينه ذلك الفكر. ومن المحتمل أن يكون الكندي أول من أطلق كلمة «رياضيات» على هذا العلم. وما يعزز هذا الظن أن حاجي خليفة (1017هـ – 1067هـ) يقول في معرض حديثه عن العلوم الرياضية: «الرياضي قسم من أقسام الحكمة النظرية، وهو علم باحث عن أمور مادية يمكن تجريدها عن المادة في البحث سمي به لأن من عادات الحكماء أن يرتاضوا به في مبدأ تعاليمهم إلى صبيانهم ولذا يسمى علماً تعليمياً أيضاً…»‏[4]. وبالعودة إلى رسائل الكندي الفلسفية نجد أن هذا التعريف لحاجي خليفة مأخوذ من تلك الرسائل، من أكثر من موضع. فالكندي أول من قسم الفلسفة إلى ثلاثة علوم: علم الربوبية، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي‏[5]. ومن ثم فهو يعد الرياضيات من أقسام الحكمة النظرية. كذلك يقول: «وإنما كانت العلوم الثلاثة لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس. وهو ذوات الهيولى. وإما علم ما ليس بذي هيولى: إما أن يكون لا يتصل بالهيولى البتة، وإما أن يكون قد يتصل بها. فأما ذات الهيولى فهي: المحسوسات، وعلمها في العلم الطبيعي. وإما أن يتصل بالهيولى وأن له انفراداً بذاته. كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف. وإما لا يتصل بالهيولى البتة وهو علم الربوبية»‏[6]. فالرياضيات كعلم ليس بذي هيولى، ولكن من الممكن أن يكون متصـلاً بها. وفي تلك الحالة يكون له انفراد بذاته. وهذا ما يقصده حاجي خليفة بقوله: «… وهو علم باحث عن أمور مادية يمكن تجريدها عن المادة في البحث …». وأما بيت القصيد في هذا التعريف، والذي منه أتت كلمة الرياضيات، هو أن من عادات الحكماء أن يرتاضوا به إلى تلاميذهم حين شروعهم في العلم، وذلك قبل انتقالهم إلى العلوم الأخرى. وهذا ما يؤكده الكندي في إحدى رسائله: «فإن عدم أحد علم الرياضيات التي هي علم العدد والهندسة والتنجيم والتأليف، ثم استعمل هذه دهره لم يستتم معرفة شيء من هذه، ولم يكن سعيه فيها مكسبه شيئاً إلّا الرواية إن كان حافظاً. فأما علمها على كنهها وتحصيله فليس بموجود إن عدم الرياضيات البتة»‏[7]. فالرياضيات من وجهة نظره، هي المدخل إلى الفلسفة، كما أنها مقدمة لدراسة العلوم الأخرى. كما أن شرح الكندي بأن: «الرياضيات هي علم العدد والهندسة والتنجيم والتأليف»، يشير إلى حداثة عهد هذه الكلمة. وخاصة أنه يقرن هذا الشرح كلما ذكر كلمة الرياضيات. لذلك من المرجح أنه أول القائلين بها لأنه لم يُعرف أحد من العرب قبل الكندي عمل في مجال العلوم القديمة ترجمة، وتأليفاً، وإيجاداً للمصطلحات العلمية. وخاصةً أن هذه الكلمة غير شائعة، وبقيت كذلك حتى فترة متأخرة نسبياً، لأنه من المعروف أن الكلمة الأكثر شيوعاً للتعبير عن الرياضيات هي علم التعاليم. وقد استمر استخدامها إلى فترة ابن خلدون (732 هـ – 1332م – 808 هـ – 1406م) وما بعدها‏[8]، وإصرار الكندي على استخدامها الدائم يشير إلى أنه صاحب هذه الكلمة. هذا وقد أحسن اختيارها، إن صح توقعنا.

– 4 –

وقبل الختام نشير إلى أن الرياضيات، وفق أدبيات وكالة ضمان جودة التعليم العالي البريطانية (The Quality Assurance Agency for Higher Education (q.a.a)) (وهي أول وكالة ضمان جودة تعليم عالٍ في العالم)، التي تتحدث عن ما يسمى المقارنات المرجعية (Subject Benchmark Statement)، تُعَدّ حرفة عقلية (Intellectual Pursuit)، أو مهارة عقلية (Intellectual Skills)، وذلك أثناء حديثهم عن المخرجات التعلّمية (Learning Outcomes) للرياضيات www.qaa.ac.uk)). وهذا المفهوم الجديد للرياضيات لم يزل بعيداً عن شريحة كبيرة من الأكاديميين العرب، باستثناء القلة منهم. ومن هؤلاء القلة، أن جامعة الأخوين المعروفة في المغرب (وهي جامعة متميزة، ذات طبيعة خاصة، ولغة التعليم فيها اللغة الإنكليزية، وتتبنى النموذج الأمريكي في التعليم) تدرّس مقرر الرياضيات لكل طلابها، كمتطلب جامعة. كما تدرّس طلاب العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، مقرراً حول «التفكير الرياضي التمهيدي (الأولي) «(Introductory Mathematical Thinking)، أو مقرر الرياضيات المتقطعة (Discrete Mathematics) (وهو مقرر في الرياضيات يختلف عن غيره، في كثير من مواضيعه، وأنه يتطلب تفكيراً ليس نمطياً). وذلك لأن هذه الجامعة تشير في رسالتها إلى أهمية أن يكون طالب هذه الاختصاصات (النظرية) مطلعاً على كيف يفكّر العاملون العلميون (Scientists)، والرياضيون، وكيف يقيّم هؤلاء الظواهر المختلفة. فضـلاً عن أن الجامعة تشير أيضاً إلى تزويد خريجيها بالقدرة على التفكير النقدي (Critical Thinking)، وأن يكونوا منفتحين على طرق جديدة من التفكير، وهذا يصعب تحقيقه بعيداً من الرياضيات، وبخاصة من تلك المقررات التي تتطلب تفكيراً غير نمطي‏[9].

– 5 –

وإذا سرنا على خطى ما يقوله عالم الأنتروبولوجيا (Anthropology) (علم الإناسة) الفرنسي كلود ليفي شتراوس (Claude Levi-Strauss) (1908 – 2009) من أن: «أقصر السبل إلى فهم منطق تفكير شعب معيَّن هو دراسة لغته»‏[10]، نجد أنه حتى «استعارات (Metaphor) تلك الأمم المتقدمة تمتح من الفكر الرياضي. فلنأخذ، مثـلاً، الاستعارة المعروفة في اللغة الإنكليزية: «تربيع الدائرة» (Squaring the Circle)، التي تعد من وجهة نظرهم عبارة اصطلاحية (Idiom)‏[11]، تدل على الأمر المستحيل وقوعه، أو الصعب جداً تحقيقه. فإذا أردت أن تشير إلى استحالة تحقيق أمر ما فإنك تشبّهه بتربيع الدائرة. لأنه من المعروف، رياضياً، أنك إذا حاولت تربيع الدائرة، فأنت تحاول أن تقوم بشيء مستحيل. ونعني بتربيع الدائرة، أن ننشئ مربعاً مساوياً في المساحة لدائرة معطاة‏[12]. وللإشارة إلى مدى شيوع هذه العبارة، في اللغة الإنكليزية، يكفي أن نشير إلى أن محرك البحث المعروف غوغل يعطي مئات ألوف المواقع التي تتحدث عنها في الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت). وهذه العبارة نظير ما هوشائع على لسان بعضنا، في اللغة العربية، من أن المستحيلات الثلاث، هي: «الغول، والعنقاء، والخل الوفي»، فالغول حيوان خرافي، والعنقاء طائر أسطوري. أي أنه حتى التعبيرات المجازية لتلك الأمم مستمدة من حقيقة علمية في الرياضيات، وليست من أشياء خرافية. هذا مع العلم أن بعضهم (الكتب المعروفة عن بناء القدرات الذاتية self-help) يشير إلى أن «الاستعارات» اللغوية التي نستخدمها في حياتنا، على نحو عفوي، تصوغ ثقافياً، إدراكنا، وفعاليتنا، وحتى يمكن أن تسهم في تراجع هذه الفعاليات.

والاهتمام بالشأن العلمي في الغرب، وتأثرهم به، لا يتوقف عند اللغة، واستعاراتها، فحسب، بل يطاول معظم جوانب حياتهم الثقافية، والفنية. لذلك تنتشر لديهم كتب تبسيط العلوم على نطاق واسع، بما فيها تلك التي تتناول الأعمال الرياضية. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. وحتى الأعمال الفنية، التي تكون مادتها ذات محتوى علمي، أو رياضي، أو تسلط الضوء على من قاموا بها، تجد قبولاً كبيراً لدى جمهورهم. ويكفي الإشارة إلى الفيلم الشهير «العقل الجميل» (Beautiful Mind)، ويتحدث عن حياة جون ناش الشخصية، والعلمية، الذي أنتج عام 2001. كذلك فيلم «نظرية كل شيء» (The Theory of Everything)، ويروي حياة الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking) (1942 – )، الذي أنتج عام 2014. وقد أنتجت القناة العالمية هيئة الإذاعة البريطانية (BBC World) منذ بضع سنوات أربع حلقات وثائقية عن حياة أربعة من الرياضيين الكبار في العالم بعنوان: (Dangerous Knowledge) استعرضت فيها أفكارهم، وسيرتهم الذاتية.

لذلك بقي التعليم في الحضارة العربية بعيداً تماماً من تأثير الرياضيات، إلى يومنا هذا، ومن ثم بقي دورها معدوماً في تشكيل العقل العربي، حيث يمكن أن تقوم بدور مركزي في هذا الإطار. وقد أولى المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936 – 2010) في دراساته دور العلم، عموماً، في تشكيل العقل العربي. يقول في كتابه تكوين العقل العربي عن هذه المسألة: «أما العلم,…فلم تتح له الفرصة ليساهم في تكوين العقل العربي ككل»‏[13]. ويضيف: «فاللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم، وإنما كانت تحددها السياسة»‏[14]. كما يقول: «لقد ظل العلم العربي، علم الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم، خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية فَلَمْ يشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه وفحص قبلياته ومسبقاته…»‏[15]. لهذا لم يكن للمنجزات العلمية، التي أثرى بها العلماء في الحضارة العربية الإسلامية مسيرة العلم، أي أثر يذكر في الحياة العقلية للإنسان العربي. وهذا كان حال الرياضيات، أمّ العلوم، مع أن دورها في تشكيل العقل العربي أوضح، وأكثر مضاءً، نتيجة طبيعتها الفريدة. ويتحدث الجابري‏[16] عن الحسن بن الهيثم المتوفي سنة 430 هجري، وعن نظرياته في علم الضوء (=المناظر، البصريات) التي كانت الأساس الذي بنى عليه غاليليو وغيره من ثورة في العلم التجريبي. ثم يضيف: «لم تجد آراء ابن الهيثم ولا منهجيته العلمية «قابلة» في الثقافة العربية، فلم يتردد لها صدى ولا كان لها أي أثر في تكوين العقل العربي…»‏[17]. وربما كانت هذه أكبر «آفة» عقلية مزمنة تعاني منها الأمة إلى يومنا هذا، وذلك بتغليب الجانب الإيديولوجي، والسياسي، على الجانب العلمي، في تشكيل العقل العربي. لذلك نلاحظ من عقابيل هذه «الآفة» أن بعضنا شرع بتسييس العلم، بدلاً من «علمنة» السياسة التي بدأت تنتشر في الغرب.

– 6 –

وفي الختام، ليس من باب المبالغة القول، إنه إذا أردنا أن نختصر سبب تقدم الغرب، وسبب تخلفنا، نجد أن جزءاً كبيراً منه يتجسد في الفرق بيننا وبينهم بالاهتمام بالعلوم الرياضية، وبموقعها في المناهج الدراسية الجامعية، وحتى في المناهج المدرسية، وإن كان هذا خارج اهتمام هذه الدراسة. حيث تدخل الرياضيات في جميع مسامات تلك المناهج، وحتى في الدراسات الأدبية منها (حيث يُعَدّ النقد الأدبي الحديث بحلته «البنيوية» صدىً للبنيوية الرياضية)، وفي دراسات الفنون، حيث بدأت تعتمد كثيراً على تدريس الهندسة الكسورية (Fractal Geometry) في الرياضيات، وفي الدراسات اللسانية (العلوم اللغوية)، وبخاصة في الجانب النظري منها.

وهذه ليست أول صيحة في هذا المجال، لكنها الأعلى، والأشمل، لأنها أتت على لسان أحد المختصين في الرياضيات. فقد كتب اللغوي، وأستاذ الفلسفة، اللبناني المعروف الدكتور عمر فروخ (1906 – 1987) في كتابه عبقرية اللغة العربية، منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، عن ضرورة اعتماد دراساتنا الأدبية، والفلسفية، على العلوم الرياضية والطبيعية، وأشار إلى أن سبب تخلفها يكمن في هذا القصور. يقول: «إذا كان من غير الممكن أن نبني دراساتنا في الأدب والفلسفة على أسس المنطق وقواعد العلم بناءً تاماً، فإن من غير المعقول أن نجانب هذه الأسس والقواعد في دراسة الأدب والفلسفة مجانبة تامة. إن العرب لم يألفوا بعد في تاريخهم الحديث معاناة العلوم الرياضية والطبيعية»‏[18]. ويقول في موضع آخر: «إن الدراسات الأدبية والفلسفية التي لا تزال في الشرق العربي متأخرة جداً عما وصلت إليه مثيلاتها في الغرب الأوروبي والأميركي بعاملين أساسيين لا حيلة لنا نحن اليوم فيهما. إن الدراسة الأدبية والفلسفية في الغرب بدأت بعد أن خطا الغرب خُطىً واسعة في العلوم الرياضية والطبيعية والنفسية، فاستفاد الدارسون الغربيون عند معالجة الموضوعات الأدبية والفلسفية من الجهود التي كان علماؤهم قد بذلوها في ميادين العلم الخالص. أما نحن فلم يتح لنا بعد مثل ذلك. من أجل ذلك ترانا نتكئ في دراستنا الأدبية والفلسفية على العنصر الشخصي والأسلوب الإنشائي إلّا قليـلاً»‏[19].