تكتسب الذكرى السادسة والستّون لثورة 23 يوليو 1952 أهمية خاصة في هذه الظروف العربية والإقليمية والدولية الراهنة.

فهي تأتي في إطار الذكرى المئوية لميلاد الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن عبّرت الاحتفالات بها، سواء في مصر أو في العديد من الأقطار العربية، عن مكانة الرجل وموقع الذكرى في وجدان الأمة العربية وضمير أحرار العالم الذين ما زال أبرز قادتهم يتباهون بعلاقتهم بعبد الناصر وبإعجابهم بثورته المجيدة.

وهي تأتي أيضاً في ظل حراك شعبي هادر يقوم به شعب فلسطين في عموم الأرض الفلسطينية، بدءاً من تخوم غزة وصولاً إلى القدس ومدن الضفة وتكاملاً مع أبناء فلسطين المغتصبة عام 1948.

ولعل رمزية هذا الحراك أنه يتصاعد منذ يوم الأرض في 30 آذار/مارس على أرض قريبة من «الفالوجة» التي حوصر فيها جمال عبد الناصر خلال حرب 1948، وهو الحصار الذي خرجت منه فكرة الثورة في مصر، كما قال عبد الناصر نفسه، مؤكداً عمق العلاقة بين النضال الوطني داخل القطر والنضال القومي في فلسطين.

كما تأتي هذه الذكرى في ظل هجمة غير مسبوقة يشهدها الوطن العربي من المحيط إلى الخليج تحت مسميات وعناوين مختلفة، آخرها «صفقة القرن» التي جاءت لتتوج قرناً من الصفقات التي شهدتها الأمة وناضلت لإسقاطها قوى المقاومة والتحرر، وفي مقدمها جمال عبد الناصر.

وتأتي هذه الذكرى أيضاً في ظل افتقار الجماهير العربية إلى قيادة كالقيادة الناصرية، وإلى تجربة كتجربة يوليو. وقد تميزت تلك القيادة – كما التجربة – بعنوانين كبيرين، هما: الاستقلال والكرامة؛ حيث لا استقلال حقيقياً من دون كرامة إنسانية، سياسية (الديمقراطية) واقتصادية (التنمية المستقلة) واجتماعية (العدالة الاجتماعية)، ولا كرامة إنسانية من دون استقلال وطني حقيقي على كل الصعد…

وأيّاً يكنْ تباين التقييمات المحلية والعربية والعالمية لتجربة ثورة 23 يوليو وقائدها، فإن أحداً لا يستطيع أن ينكر أنها أطلقت مرحلة جديدة في حياة العرب والعالم ما زال صداها يتردد في كل حراك شعبي محلي أو عربي أو عالمي يتخذ لنفسه عناوين «الاستقلال» بكل مضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، و«الكرامة الإنسانية» بكل تجلياتها وتعابيرها انطلاقاً من معادلة رسمتها ثورة يوليو؛ وهي أن الاستقلال هو كرامة وطن، وأن الكرامة هي استقلال مواطن وحريته.

وإذا كان المجال لا يتسع في هذه العُجالة لتقييمٍ موضوعي شامل لتجربة ثورة 23 يوليو بإيجابياتها، وهي كثيرة؛ وبسلبياتها وقد باتت معروفة؛ فلا بد من التذكير هنا بأن ندوة كبرى حول الثورة انعقدت عام 1986 في القاهرة بدعوة من «دار المستقبل» وتم خلالها تقييم موضوعي شارك فيه ممثلو عدة تيارات بعضها لم يكن على وفاق مع الثورة وقادتها…

لكن إحياء ذكرى الثورة المصرية المعاصرة اليوم مسألة تتجاوز النهج الاحتفالي على أهميته، وتتعدى تعداد إيجابيات تجربة تركت آثارها الطيبة على مستوى لقمة عيش المواطن، كما على مستوى كرامة الأمة واستقلالها، لتصبح مسؤولية كبرى تقع على عاتق كل فرد أو جماعة أو جهة ترى نفسها حاملة للمشروع النهضوي العربي الذي كانت ثورة يوليو أحد أبرز التجارب المسكونة بعناوينه الكبرى…

1 – أول ما يترتب على حَمَلة هذه المسؤولية، من قوى وأحزاب ومؤسسات وهيئات وشخصيات، هو أن تسعى إلى إبقاء جذوة هذه الثورة وتعاليم قائدها حاضرة في الأجيال العربية الجديدة التي وصفها جمال عبد الناصر يوماً بأنها «نصف الحاضر وكل المستقبل…»

إن وسائل عديدة يمكن استخدامها في هذا الإطار، ولا سيَّما مع تطور سبل التواصل جيل مع الشباب التي وفرتها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، والتي يسعى البعض في مصر وخارجها، وفي طليعتهم هدى جمال عبد الناصر، إلى الإفادة منها في تعميم تراث هذه التجربة وتعاليم قائدها…

من الوسائل المطلوبة أيضاً استخدام السينما والتلفزيون والمسرح والغناء والرواية والشعر في إيصال الجوانب المشرقة من هذه التجربة للأجيال الجديدة، وخصوصاً أن تجربة بعض الأفلام الخاصة، السينمائية والتلفزيونية، بناصر قد لاقت رواجاً قياسياً لدى المشاهد العربي.

ومن الوسائل الفعّالة هي الاهتمام برعاية وتنظيم مؤسسات التفاعل وسط جيل الشباب في الأمة، التي كانت ثورة يوليو تعطيها أهمية خاصة. من هنا فإن أهم ما أنجزه المؤتمر القومي العربي منذ تأسيسه قبل 30 عاماً هو تنظيم مخيمات سنوية للشباب القومي العربي انعقدت في العديد من أقطار الأمة من مغربها إلى مشرقها، وضمت آلافاً من الشبان والشابات العرب الذين برز منهم عدد كبير في العديد من مجالات الحياة العامة والخاصة وشكلوا بيئة شبابية قومية متشبِّعة بعروبتها، منفتحة في رؤيتها، ويحتل قادة الأمة كجمال عبد الناصر موقعاً بارزاً في وجدانها…

2 – كما يترتب على هذا الشعور بالمسؤولية إيلاء القضية الفكرية والثقافية اهتماماً خاصاً، كون الفكر يحصِّن النضال بقدر ما تحصّن تجارب النضال بالمقابل فكر الشعوب وثقافتها…

لقد شكّل مركز دراسات الوحدة العربية، الذي انطلق قبل أكثر من أربعين عاماً، صرحاً ثقافياً وبحثياً رئيسياً في الحياة العربية المعاصرة، وبات منارة نهضوية متميّزة اقتدت بها مؤسسات ومراكز أخرى. لكن أهم إنجازات المركز تبقى في أنه حافظ على استقلاليته على مدى عقود أربعة رغم كل أشكال الحصار التي واجهها؛ كما تبقى في أنه شكّل البيئة المناسبة لإطلاق العديد من المؤسسات والجمعيات العربية المتخصصة التي تشكِّل، إذا توافر لها الاحتضان اللازم، بيئة حقيقية لتطبيق آليات المشروع النهضوي العربي.

3 – وكما كانت ثورة يوليو تجربة مقاومة بكل ما في كلمة مقاومة من معانٍ، سواء في مواجهة الهيمنة والاحتلال الأجنبي، أو في مواجهة التخلف والفقر والجوع والظلم والاستبداد؛ فإن الإخلاص لها، وتحمُّل المسؤوليات المترتبة على الوفاء لها، يقتضيان ارتباط المشروع القومي المعاصر بالمقاومة، كفكر ونهج وثقافة وأسلوب عمل، ولا سيَّما أن من أبرز مقولات جمال عبد الناصر الخالدة هي «إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، و«إن المقاومة وجدت لتبقى وستبقى»…

ويذكِّرنا التركيز المشبوه، سياسياً وإعلامياً وثقافياً، على المقاومة في كل ساحاتها وميادين نضالها، وعلى الجهات الداعمة والحاضنة لها، بذلك التركيز المشبوه ضد تجربة ثورة يوليو وقائدها؛ وهو تركيز ما زال مستمراً حتى اليوم رغم مرور أكثر من 48 عاماً على رحيل جمال عبد الناصر والانقلاب على إنجازات ثورة يوليو على كل صعيد…

من المسؤوليات المترتبة على الوفاء لثورة يوليو ونهج قائدها هي العمل على إعادة الاعتبار لمجموعة الثوابت التي قامت عليها تلك التجربة وأبرزها تلك المتعلقة بالصراع العربي – الصهيوني، حيث كانت لاءات الخرطوم الثلاث عام 1967 (لا صلح ، لا تفاوض، لا اعتراف) أبرز عناوينها…

وتتضح أهمية هذه الثوابت في زمن الهرولة نحو التطبيع والتحالف مع العدو الصهيوني لتنبِّه إلى حقيقة خطيرة هي أن زمن النكوص عن المبادئ والترويج للنهج الاستسلامي في الصراع مع العدو، قد بدأ منذ الانقضاض على تجربة 23 يوليو؛ بدءاً من بُعدها الوحدوي في جريمة الانفصال عام 1961، وصولاً إلى حرب حزيران/يونيو عام 1967…

صحيح أن في تجربة ثورة 23 يوليو محطات من المرونة في التعامل السياسي والدبلوماسي مع هذا الصراع الوجودي، لكن كان لمرونة عبد الناصر دائماً سقف لا يتجاوزه على الإطلاق، وهو السقف الذي حددته لاءات الخرطوم التي لم يتم مرة التساهل مع إحداها إلا وانزلق المتساهلون إلى التفريط المريع والتعثر الشديد…

4 – والمقاومة، كما فهمها عبد الناصر ومارسها، لم تكن فعل كفاح مستمر ضد الأعداء الطامعين في بلادنا فحسب، بل كانت أيضاً نضالاً دائماً من أجل تحصين مجتمعاتنا نفسها من كل أشكال الانزلاق إلى حروب بينية بين أقطار الأمة أو صراعات أهلية داخل كل قطر فيها.

وكل المتابعين يذكرون لثورة 23 يوليو وقائدها جمال عبد الناصر الدور الذي مارسوه في إطفاء العديد من الحرائق بين الأقطار وداخل كل منها؛ وهو دور أدى انغماس جمال عبد الناصر فيه إلى رحيله المبكر في 28 أيلول/سبتمبر 1970، وهو يسعى لإطفاء الحريق بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية…

وبالتأكيد، لو أن جمال عبد الناصر كان موجوداً في السنوات الأخيرة، كان سيؤدي دوراً في منع الحروب على العراق واحتلاله، وفي الحؤول دون غزو الكويت عام 1990، ودون الحصار وما تلاه على العراق، ودون تدمير سورية وليبيا واليمن ودون تقسيم السودان. بل دون أن يسمح بكل هذا التآمر الدموي على مصر نفسها وصولاً إلى التحضير لفتن متنقلة من المحيط إلى الخليج…

وفي الختام، ربما لا يكون سهلاً على الأمة أن تُنجب بين يوم وآخر قائداً كجمال عبد الناصر، أو تجربة كثورة يوليو، لكن ليس مستحيلاً على أمة أنجبت في أواسط القرن الماضي تجربة، كتجربة يوليو وقائداً كجمال عبد الناصر، أن تحشد قواها لاستكمال مسار يوليو وتحمل مبادئ قائدها جمال عبد الناصر، ولا سيَّما إذا أكبَّت على دراسة التجربة بعلمية وبموضوعية ومسؤولية لتطوير إيجابياتها وللتخلص من سلبياتها، وهي دراسة بدأها جمال عبد الناصر نفسه بعد حرب حزيران/يونيو 1967…

وفي هذا الإطار، لا يمكن تحقيق ذلك أيضاً إلا إذا نجحت قوى التحرر في الأمة، أيّاً كانت خلفياتها الفكرية، قومية ديمقراطية، أو يسارية وحدوية، أو إسلامية مستنيرة، أو ليبرالية عروبية، في إقامة صيغ تفاعل وتواصل وتكامل بينها مترفعة في ذلك عن الأنانيات الذاتية أو الشخصية أو الفئوية، وعن العصبيات المريضة المدمرة التي لم يكن ممكناً لها أن تخرج إلى العلن في زمن ثورة يوليو وأفكارها الجامعة والعابرة للعصبيات على أنواعها…

 

قد يهمكم أيضاً  نقاط ارتكاز في رؤية عبد الناصر لمواجهة التحديات الراهنة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ثورة_يوليو #الضباط_الأحرار #جمال_عبد_الناصر