شهد العالم ابتداءً من النصف الأخير من القرن العشرين تغيراً سياسياً غير مسبوق، فجميع البدائل الرئيسية للديمقراطية كانت قد اختفت أو تحولت لما يصفه «روبير دال» بـ «البقايا الشاذة»[1]. كما أن الدول غير الديمقراطية إما انهارت من الداخل أو هي معرَّضة لذلك، وحتى تلك التي استطاعت الاستمرار والبقاء فقد اتخذت غالباً واجهة ديمقراطية زائفة أو مقنَّعة. وعلى الرغم من هذا التوسع، فقد وصل الانتشار الشامل للديمقراطية إلى التوقف وظهرت علامات على تآكلها[2].

شهد مفهوم الحكم الديمقراطي الكلاسيكي صعوبات[3] حثت الفلاسفة على محاولة إيجاد إجابات عن الإشكاليات التي باتت مطروحة. لقد كان للنظريات المنبعثة في القرنين 17 و18 دور تأسيسي للديمقراطية المحدثة[4] فعملوا على إيجاد توافق بين ما اعتبروه مسلَّمة وهي إرادة الشعب العليا مع الأنظمة السياسية الموجودة آنذاك. فجاءت عقود متخيلة للخضوع والتي من خلالها أعطى الشعب السيد للأمير الحق في التصرف (العقد الاجتماعي عند هوبز)، ثم جاء بعد ذلك افتراض تفويض سلطات الشعب بعضه لبعض بصفتهم ممثلين منتخبين. غير أن هذه العقود – حسب شومبيتر – هي عقود غير محمية من وجهة نظر شرعية (légitime)، أي ليس لها أساس من الصحة تتأسس عليه. لذلك فهو يرى أن التمثيل أو التفويض كليهما أمران بدون معنى. فماذا يعني إذاً البرلمان؟ إنه جزء من الدولة كما الحال بالنسبة إلى المحاكم وغيرها من المؤسسات. من هنا ظهرت الحاجة إلى طرح جديد فكان «الجسم الاجتماعي» ومن بعده «الجسم الانتخابي» هو الحل. لكن ما قيل في العقود يمكن أن يسري على هذا الجسم: فمن جهة هو جسم مفترض، فالأفراد المكوِّنون لهذا الجسم غير متجانسين، ولا يمكن أن يكونوا كذلك، فلكل أهدافه وتصوراته وبالتالي فلكل تمثيليته التي تخدمه، أو يرى أنها تخدمه.

إن «حكم الأغلبية» تصدَّع في إثر الموجة الثالثة فلم يعد قادراً على تحمل آثارها. إن الأقلية هي التي أصبحت تحظى بالشرف والسلطة، لذا تحتم على أنظمة الحكم السياسية أن تترجم هذا الواقع، وهذا ما لاحظه «باريتو» الذي كان يرى أن الديمقراطية طريقة للحكم تقوم على أن سلطة وضع القوانين هي ملك فئة منتخبة من قسم من المواطنين بحيث إنه في النموذج الديمقراطي تنتقل «السلطة» من يد الكثرة إلى القلة وكان قد قدَّم نماذج من عصره من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

ما يكاد يُجمع عليه الدارسون هو أنه حتى الدول التي قامت فيها الديمقراطية منذ زمن بعيد، والتي تظهر على أنها مستقرة، فإنها تمر بأزمة[5] أو على الأقل تعاني الإجهاد الشديد وذلك لعدة أسباب[6]:

- تراجع ثقة المواطنين في القيادات المنتخبة والأحزاب السياسية والموظفين الحكوميين؛

- تزايد المعضلات التي أصبحت تؤرق المجتمع كالبطالة المزمنة والهيكلية، الفقر، الجريمة، برامج الخدمة الاجتماعية، الهجرة، الفساد، الضرائب وغيرها.

غير أن هناك من يرى أن الأزمة تتعدى أزمة النتائج والمؤشرات، بل هي أزمة معنى وقيم ووعي[7]، فلم يعد وجود مؤسسات منتخبة يعني تحقيق الديمقراطية الكاملة، من هنا شرع المفكرون الغربيون من أمثال روبير دال في طرح السؤال التالي: «هل يمكن العثور على طرق تجعل الدول ‹الديمقراطية› أكثر ‹ديمقراطية›، فإذا كانت الدول الديمقراطية نفسها ليست ديمقراطية بشكل كامل، فماذا يمكن أن نقول عن دول تفتقر إلى بعض أو كل المؤسسات السياسية الديمقراطية الحديثة – أي الدول غير الديمقراطية؟ كيف يمكن أن نجعلها أكثر ديمقراطية؟ أو حتى ديمقراطية فقط؟»[8]. إن الديمقراطية اليوم عليها أن تلبي نداء الإصلاح كما كان الحال بالنسبة إلى الملكيات ما قبل القرن 16 وإلا فهي مهددة بالزوال[9].

إن الإشكالية الأساسية التي نسعى إلى الإجابة عنها هي كيف تستطيع الديمقراطية الاستمرار؟

وبصيغة أخرى كيف تحقق الديمقراطية استمراريتها اليوم على الرغم من عديد الأزمات التي تعيشها؟

إننا إزاء دراسة محاولة انبعاث الديمقراطية جراء أزمتها النيابية قصد الاستمرار والتجديد من خلال التركيز على نموذجي الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التوافقية.

ننطلق في هذه الدراسة من فرضية أساسية هي أن حياة الديمقراطية وقدرتها على الاستمرار نابعة من قدرتها على التجدد.

أولاً: الديمقراطية التشاركية: المفهوم وأزمة التطبيق

لقد حصلت تغيرات عميقة في الديمقراطية نفسها، فنظراً إلى أن من «يمثل الشعب» في المجالس المنتخبة قد يكون أبعد ما يكون عن مصالح الشعب الحقيقية، وكان الشكل الانتخابي يعني عملية التفويض الممنوحة للممثلين، فإن الهيئات المنتخبة تبقى خارج إطار النقد والرقابة إلا من خلال صناديق الاقتراع.

يؤدي هذا النوع من التمثيل، إلى انتشار أشكال مختلفة من الفساد بعضها مقنن ومغلف كما في علاقة اللوبيات مع الجسم السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية أو علاقة البنوك والشركات مع السياسيين في أوروبا.

كل ذلك جعل الديمقراطية تعمل على تكييف نفسها مع الواقع الجديد – واقع الأزمة – وإعادة تحديد مبادئها وأولوياتها من أجل إعادة الثقة في نفوس الشعوب[10].

1 – مفهوم الديمقراطية التشاركية

لاستيفاء معيار المشاركة الفعالة صار لزاماً على الدولة، ضمان حق المشاركة وحق التعبير عن الآراء السياسية: أي أن يسمعوا ما يريده المواطنون مباشرة وحق دراسة البدائل وحق المشاركة في تقرير ما يدرج في جدول الأعمال وكيفية إدراجه[11]، فـ «لاستيفاء متطلبات الديمقراطية فإن الحقوق المتأصلة فيها يجب أن تكون متاحة فعلاً للمواطنين والوعد بالحقوق الديمقراطية كتابة أو في القانون أو في وثيقة الدستور ليس كافياً. بل يجب أن تطبق الحقوق وتكون متاحة بفعالية للمواطنين عند التطبيق، وإذا لم تكن كذلك، يكون النظام السياسي غير ديمقراطي بنفس القدر، برغم ما يزعمه حكامه والتزيُّن بلباس الديمقراطية ليس إلا واجهة لحكمهم الغير ديمقراطي»[12].

من أجل ذلك فإن التركيز الرئيسي تحول إلى:

- الانتقال من ممارسة السيادة باعتبارها المعبر عن الإرادة الموحدة لمجموع المواطنين إلى الاهتمام بحماية حقوق الفرد[13]؛

- وصار الهم الأساسي يتمثل بالقدرة على تأمين الفعالية الحكومية ضد العجز السياسي وتقادم النظام التمثيلي؛

- الاهتمام أكثر فأكثر بوسائل حماية الأقليات بدل الاهتمام بوسائل حكم الأكثرية؛

- التفكير في ابتكار آليات ووسائل للرقابة على الشرعية؛

- الانتقال من الحرص على مشاركة المواطنين في السلطة إلى الانخراط الفعلي في ممارسة السلطة؛

في ستينيات القرن الماضي، وبعدما تراءى لعلماء السياسة الأمريكيين أن نموذج الديمقراطية التمثيلية النيابية يقلص دور المواطن في الحياة السياسية وعملية الإنتاج السياسي بعد إدلائه بصوته في الانتخابات، بدأ التبشير بنموذج ديمقراطي آخر بديل هو «الديمقراطية التشاركية»[14] الذي يهدف، إلى إحداث قطيعة مع الرؤى التي تقلل من المشاركة وتحصر العمل السياسي في التصويت، وتتعامل مع الديمقراطية كمجرد طريقة لتشكيل حكومات.

ويمكن القول إن أهداف الديمقراطية التشاركية تتمثل بالأساس في[15]:

- جعل المؤسسات الديمقراطية أكثر إدماجية؛

- توسيع قاعدة المشاركة في العملية السياسية عبر تعظيم وتفعيل مشاركة كل المواطنين في صنع القرارات من دون الاعتماد الكلي على النواب المنتخبين أو اختزال الديمقراطية في عملية الاقتراع؛

جاء الأخذ بالديمقراطية التشاركية والدعوة إليها نتيجة الانتقادات المتكررة والمتزايدة للنظام النيابي الذي لم يعد يوفر للمواطنين مكانة لائقة في الحياة السياسية، سواء من الناحية المحلية أو البرلمانية، وبخاصة أن دور الناخب ينتهي بمجرد عملية الانتخاب. وكانت البرازيل من أول الدول تأسيساً لهذا النموذج خلال فترة السبعينيات، خاصة في مدينة «مونتو أليغري» البرازيلية التي تشكل أحد النماذج البارزة في الديمقراطية التشاركية، تبع ذلك اعتماده وتضمينه في الدستور البرازيلي عام 1988.

انتقلت عملية تطبيق هذا النموذج إلى الدول الأوروبية خلال فترة الثمانينيات، خاصة في بريطانيا، وأطلق عليها مصطلح الديمقراطية التداولية، وكذا ألمانيا من خلال مدينة برلين، أما في فرنسا فلقد استعملت مصطلح الديمقراطية «الجوارية» (de proximité) وأصدرت قانون سنة 2002‏[16] الذي جعل من الديمقراطية التشاركية ذا بعد محلي أي تُطبق على المستوى المحلي[17].

أما الديمقراطية التشاركية، فإنها ديمقراطية تحاول أن تتجاوز، وبشكل أساسي، مشكلة التمثيل في الديمقراطية الليبرالية، وتحاول أن تضمن المشاركة الشعبية دون الانزلاق بها في مطبات سابقتها من خلال وضع مجموعة من الآليات الشعبية التي تضمن المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار[18].

2 – أسس الديمقراطية التشاركية

تتعدد أسس الديمقراطية التشاركية وسنعرض لنموذجين: النموذج الفنزويلي ثم النموذج البرازيلي.

أ – النموذج الفنزويلي

هناك العديد من الممارسات الأساسية التي تميز الديمقراطية التشاركية بحسب النموذج الفنزويلي[19]، ويمكن تحديد أهمها في:

الاستفتاء العام: يضمن الاستفتاء العام أن يقوم الشعب بتجاوز حكم الحزب بحيث يتمكن الشعب عند تحقيق شروط معينة (كأن ترفع عريضة موقعة من طرف عدد من المواطنين، أو يتم الخروج بتظاهرات ضد قرار اتخذته الحكومة) بحيث يتم الاستفتاء حول القرار إما لتثبيته أو إسقاطه[20].

المجالس المحلية[21]: هي نوع من البرلمانات المحلية تتشكل من رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي ورؤساء مجالس المناطق وممثلي مجموعات الأحياء وممثلي منظمات المجتمع المدني الأخرى في المنطقة والتي تمثل القطاعات المختلفة كالأندية الشبابية وممثلي قطاعات الصحة والتعليم والمواصلات وكبار السن والأعمال والمعوقين وغيرهم. وفي هذا البرلمان المحلي يجب أن يكون عدد الهيئات المنتخبة (رئيس البلدية والمجلس البلدي والمنظمات المدنية) أكثر من باقي أعضاء المجلس بصوت واحد على الأقل، بينما يكون الانتساب للمجالس طوعياً لمن يرغب من ممثلي القطاعات. وتقوم هذه المجالس بتخطيط ومراقبة كل ما يرتبط بالسياسات الخاصة بالمجال المحلي. وهي بالتالي تقوم بمراقبة وضمان أن الهيئات المنتخبة في المنطقة تقوم بواجبها على أكمل وجه وهي قادرة على محاسبة الهيئات المنتخبة، وإذا تم التلاعب بالتخطيط المتفق عليه أو البرامج التي تم انتخابهم على أساسها يمكنهم من حيث المبدأ عزلهم والتوجه نحو انتخابات جديدة لممثلين جدد.

المعضلة الأساسية في هذه البرلمانات كونها تتضخم بتضخم المنطقة التي تمثلها ويمكن أن يصل عددها إلى أعداد ضخمة تعيق عملها. لذلك تم اقتراح أن يتم تقسيم المجلس المحلي إلى مجالس مجتمعية أصغر تضم ما بين 200 و400 عائلة في كل مجلس مجتمعي وتشكل هذه المجالس المجتمعية الجسم التخطيطي الأولي للمجالس المحلية. وإذا تمكنت مجموعة من المجالس المجتمعية من الاتفاق حول قضية ما يمكن أن تتحول لتكون، بحسب القانون، ملزمة لرئيس البلدية أو الهيئات المنتخبة[22].

التدقيق المالي الاجتماعي: يحق بمقتضاه لأي مواطن أو مجموعة مواطنين، أن يطالب بتدقيق حسابات أي مؤسسة عامة، أو لبعض أو لجميع أنشطتها. وبهذا الشكل يتحول كل مواطن في الدولة إلى مراقب عام لعمل الهيئات العامة وبالتالي يتحول عمل هذه الهيئات إلى نوع من الشفافية المطلقة التي تضمن عدم تأثرها بعوامل الفساد[23].

جمعيات المواطن: وهي نوع من جمعيات مراقبة الأحياء التي تسعى إلى السهر على راحة من يسكنون بالحي ومتابعة قضاياهم في اللجان والمجالس الأعلى. ويعتبر الانضمام لهذه الجمعيات ملزماً لكل المواطنين، أي أن كل قاطني حي معيَّن لا بد لهم من أن ينتسبوا وينتظموا في جمعيات المواطن. يصبح كل مواطن في الدولة، من خلال هذا الشكل التنظيمي، جزءاً من تركيبة الدولة، فجمعيات المواطن تضمن أن كل مواطن ينتظم بتشكيل اجتماعي واحد على الأقل، بينما المجالس المجتمعية تأخذ على عاتقها التجمعات الأكبر وتساعد في التخطيط وتكون جزءاً من المجالس المحلية[24].

إشراك المجتمع المدني في الحكومة: يمكن لمنظمات المجتمع المدني في الدولة بالمشاركة في عمل الحكومة بحسب الاختصاص، أي يمكن لمنظمات الشباب المشاركة في التخطيط واتخاذ القرارات الخاصة بمصالح وقضايا المواطنين التي تهمهم[25].

وتشكل هذه الأنماط جميعها المساهمة في عملية مراقبة ومتابعة عمل المشرِّعين الذين يتم انتخابهم على مستوى الدولة بشكل عام لتشكيل البرلمان المركزي الذي يتم انتخابه على أسس سياسية وانطلاقاً من الانتماءات الحزبية والسياسية وبطريقة التمثيل النسبي وبعملية اقتراع مباشر وسرِّي. ويشكل البرلمان المركزي الرافعة السياسية للتشريع[26].

كما تقوم هذه الأنماط، أيضاً، بمراقبة ومتابعة عمل السلطة التنفيذية، أو الحكومة، التي يفترض أنها تقوم على تنفيذ السياسات والخطط العامة التي يتم اقتراحها إما من قبل المشرِّعين (البرلمان المركزي) أو من المجالس المحلية (البرلمانات المحلية). وفي الحالات العامة تشجع الدولة المواطنين لتشكيل المنظمات التي يمكنها أن تساعد عمل الحكومة وتضمن تنفيذ قراراتها بشكل يضمن الشفافية والنزاهة والعدل. ففي حالة توزيع الأراضي مثلاً شجعت الدولة الفنزويلية المواطنين لتشكيل منظمات ولجان أرض تضمن أن يكون التوزيع للأراضي قد تم بشكل عادل[27].

التعاونيات: تشكل التعاونيات ضمانة إضافية للمواطن للتمكن من تجاوز وضعه الاقتصادي والتأكد من ضمان حياة مناسبة. وتشجع الدولة التعاونيات وتمنحها القروض والمنح لضمان التكافل الاجتماعي بين المواطنين ولضمان إزالة الفقر والقضاء على البطالة. ويمكن أن تشكل التعاونيات شكلاً انتخابياً آخر يساهم في التشكيلات التمثيلية المناسبة للمواطن والتي قد تكون مكوناً من مكونات التشكيلات الأخرى كالمجالس المحلية (البرلمانات المحلية)[28].

 

ب – النموذج البرازيلي

تمثل تجربة الميزانية التشاركية لمدينة «بورتو أليغري»[29]، التي بموجبها تقرر لجان للأحياء سلم الأوليات المحلية لترفعها إلى المستوى البلدي العام.

عملت هذه التجربة على إثبات أن تقليص التفاوت بين الطبقات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة هما الأساس لاحترام حقوق الإنسان وتمتين أواصر التضامن بين الناس وبناء دولة متضامنة.

أعطت تجربة «الميزانية التشاركية» من خلال التعاون واللقاء والحوار والتصويت لسكان «بورتو أليغري»، شعوراً بالمساهمة في تسيير شؤونهم، وتحديد طبيعة حياتهم[30].

يعمل النموذج البرازيلي على النحو الآتي:

الاجتماعات الجماهيرية: مع بداية كل عام، يعود عمدة مدينة «بورتو أليغري» ومجلسها البلدي للوقوف على رأي عامة الناس، من خلال عقد اجتماعات جماهيرية يتم فيها تقديم تقارير عما أنجز في السنة الفائتة، ومن ثم الانتقال إلى دورة جديدة.

يعقد الناس اجتماعات في حلقات صغيرة جداً، على مستوى الشارع أو الحي، من أجل صياغة مطالبهم الأولى، ثم تُعقدُ اجتماعات رئيسية ضخمة تضمُ جميع مناطق المدينة لإقرار جزء من الميزانية المحلية وليس كلها، على اعتبار أن الميزانية تتضمن الرواتب والنفقات الثابتة والتعويضات وغير ذلك.

انتخاب مجلس الميزانية: تقوم هذه الاجتماعات الكبيرة والواسعة بانتخاب مجلس الميزانية، وهنا تكمن الخطوة الإبداعية لهذه التجربة.

إضافة إلى المجلس البلدي المنتخب، يتكون أيضاً مجلس للميزانية منبثق مباشرة من القاعدة الشعبية. ينتج من هذه العملية «الديمقراطية المحلية المباشرة» عدد من الوفود (40 وفداً) تقيم طوال فصل الصيف نقاشات حول الميزانية مع المجلس البلدي، وخصوصاً مع العمدة، بغية تحديد تفاصيل وأوَّليات ذلك القسم من الميزانية. ثم يعودون إلى حلقات اللقاء الصغيرة في الأحياء ليقدموا لها تقريراً عما توصلوا إليه. وفي نهاية هذه الدورة السنوية يتبنى العمدة القرارات التي تخرج من النقاش، ويجعل منها برنامجاً للمدينة يبدأ بتنفيذه فوراً.

تبدو الديمقراطية التشاركية على أنها جديد فعلي للديمقراطية، غير أنها تخفي في طياتها العديد من الإشكاليات:

أولها، أنها تُحدث القطيعة مع التجربة الديمقراطية الأوروبية فهي تجارب آتية من أمريكا اللاتينية، وربما لهذا السبب لم تلقَ القبول الكبير لدى الأوروبيين؛

ثانيها، أنها آتية من مرجعية، يمكن أن نقول عنها ديمقراطية اشتراكية، فسواء بالبرازيل أو فنزويلا فالنظامان الحاكمان هما اشتراكيان في الأصل؛

هناك ثمن مرتفع لديمقراطية المشاركة:

جدول

الثمن المرتفع لديمقراطية المشاركة

الوقت المطلوب إذا كان لكل شخص:
10 دقائق30 دقيقة
عدد الأشخاصدقائقساعات8 ساعات/يومدقائقساعات8 ساعات/يوم
1010023005
202003600101
50500811500253
500500083101500025031
100010000167213000050063
5000500008331031500002500313
1000010000016672083000005000625

المصدر: روبير دال، عن الديمقراطية، ترجمة أحمد أمين الجمل (القاهرة: الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، 2000)، ص 101.

على افتراض أن كل مواطن سيأخذ الكلمة فهذا سيحتاج إلى وقت طويل، غير أن المعتاد هو أن عدداً قليلاً هو من يتكلم، أما الباقون فيظلون مستمعين لسبب أو لآخر. إما لأنهم كانوا ينوون قول شيء قد قيل وشرح بشكل كافٍ، وإما لعدم وجود اهتمام قوي بالموضوع المطروح، أو لنقص في المعلومات، أو نتيجة الحرج وعدم القدرة على التحدث أمام الجموع… وعندما تقوم القلة بالمناقشة يستمع الآخرون أو لا يستمعون وعندما يحل وقت التصويت يدلون بأصواتهم أو يمتنعون. هذا المثال يجعلنا نخلص إلى أن:

– فرص المشاركة تتناقص بشدة كلما زاد عدد المواطنين؛

– على الرغم من أنه يستطيع المشاركة في اجتماع واحد عدد كبير إلا أن الحد الأقصى للذين لديهم فرصة فعلية للمشاركة لا يتعدى المئة؛

– هؤلاء الأشخاص ذوو المداخلات الكاملة يصيرون بقوة المشاركة نواباً عن الآخرين؛

– يمارس الأفراد أصحاب المشاركات تأثيراً في المشاركين المستمعين يظهر غالباً في مرحلة التصويت؛

ثانياً: الديمقراطية التوافقية وأزمة السياسة

وصفت الديمقراطية التوافقية للمجتمعات التي أخذت بتعدد الأحزاب. فبالنظر إلى النتائج التي تسفر عنها الانتخابات التشريعية وعدم استطاعة أحد الأحزاب تشكيل الحكومة بمفرده، وفق العملية الديمقراطية التقليدية، إضافة إلى حاجات بعض المجتمعات والدول الغربية التي توصف بأنها غير متجانسة من الناحية القومية كالنمسا، بلجيكا، هولندا، سويسرا وكندا، فبدأت مساعي بناء نموذج للتوافق والنهوض بالديمقراطية[31].

ظهر مفهوم الديمقراطية التوافقية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عقب الحرب العالمية الثانية ليجيب عن سؤال محوري: كيف نجعل النظام السياسي ديمقراطياً ومستقراً خاصة في المجتمعات التي تحفل بالصراعات على أسس عرقية وثقافية ودينية؟ وهي مفهوم جديد يطرح بديلاً للديمقراطية التقليدية التنافسية التي راجت في الدول الغربية.

بدأت الدول الغربية تعاني احتكار السلطة من طرف الأحزاب الكبيرة، وهي أحزاب تمتلك المال الذي يمكنها من تمويل الحملة الانتخابية المكلفة، والتنظيم القوي المنتشر في أنحاء البلاد، والآليات الانتخابية المحترفة.

اكتسبت هذه النظرية شكلها على يد آرند لايبهارت[32]، الذي استقى نظريته هاته من موضوع أطروحته حول النظام السياسي في هولندا التي تطبق قدراً من الديمقراطية التوافقية. وكان من أوائل كتبه في هذا المجال: سياسة الاحتواء 1968؛ الديمقراطية التوافقية 1969؛ الديمقراطية في المجتمعات المتنوعة[33] 1977. وهو يرى أن الديمقراطية التوافقية تعني النظام الذي تتعدد فيه مصادر السلطة، ويكون الأقرب إلى النظم الديمقراطية[34].

تنطلق الديمقراطية التوافقية من مقولة المجال العمومي بوصفه أرضية الفعل السياسي، وإطار المشاركة السياسية وهي مضمون المواطنة الفاعلة، مقابل النظريات الليبرالية التي تتصور البناء السياسي بحسب نموذج السوق الحرة في تنافسيتها ومنطقها الفردي النفعي.

إن الملاحظة التي تتبدى لدارس الديمقراطية التوافقية هي أنها وكما يدل عليها اسمها، تختلف عن الديمقراطية التمثيلية: فهي لا تستند إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، بل تعتمد على التحالف لضمان التمثيل والمشاركة لمختلف الأطراف وإن كان على حساب المساواة بين المواطنين[35].

تتميز الديمقراطية التوافقية بحكومة ائتلاف واسع، وهو ما يميِّز النموذج التوافقي عن النموذج التمثيلي البرلماني على النمط البريطاني الذي يقوم على حكومة في مقابل معارضة.

إن الأسس النظرية للديمقراطية التوافقية والتي تختلف عن نظيرتها التمثيلية تتحد في[36]:

- المشاركة الواسعة في الائتلاف الحكومي والتي هي ضمانة لحماية الأقليات في مقابل «استبداد» الأكثرية في الديمقراطية التمثيلية؛

- العمل بآلية الفيتو المتبادل لحماية الأقلية ضد قرارات الأغلبية. فالمشاركة وحدها لا تعطيها ضماناً لحقوقها، لذلك أعطيت هذه الأقليات حق النقض، على اعتبار أنه لا يوجد ضمان لعدم قهرها بواسطة الأغلبية[37].

يقول «باسكال سلان» في كتابه الليبرالية إن الاستبداد الديمقراطي يمثل خطراً قائماً باستمرار، ذلك أنه من المحتمل جداً أن تتعرض أقلية ما لهضم حقوقها من طرف أغلبية ما[38].

- نمط تدبير يستند إلى الإدارة الذاتية[39]، بحيث تمنح الثقافات والمكونات الاجتماعية الفرعية إدارة ذاتية في الميادين التي تخصها مباشرة؛

هذه الأسس المقدمة أعلاه تجعل الديمقراطيات الحديثة أمام إشكالات متعددة، منها:

الأغلبية المجتمعية والأغلبية السياسية: إن الأدبيات السياسية حين حديثها عن ميزة الديمقراطية تحيل على مسألة حكم الأغلبية، لكن الأغلبية هنا لها عدة معانٍ، خاصة مع تطورات المجتمعات وتطور العلوم، ومن ثم يقع التمييز بين الأغلبية المجتمعية والأغلبية السياسية. فالأغلبية السياسية توصف بأنها أغلبية أفقية تمتد على مساحة الدولة بكاملها، وهي قد تتخذ عدة أشكال: إما أغلبية لها قواعد ومناصرون من مختلف المجموعات البشرية على تراب الدولة، وإما أغلبية برامج سياسية أو أيديولوجية[40]. بينما يحيل مفهوم الأغلبية المجتمعية إلى أغلبية عمودية، تقوم على أساس العلاقات الأولية والانتماءات الطائفية والعرقية[41].

إن الأغلبية المجتمعية تناقض الأصول الفكرية للديمقراطية في جذورها اليونانية وامتداداتها في الديمقراطية الليبرالية، لذلك هناك من ذهب إلى أن الأغلبية المجتمعية هي «ضد الديمقراطية بشكلها الأصلي وليس التحريفي»[42].

صراع المرجعيات والهويات: إن الديمقراطية التوافقية ذات الاستقطاب المجتمعي العمودي والخطاب السياسي المحدود المتجه لشريحة بعينها، وعلى عكس الديمقراطية التمثيلية، تعمل على إعادة إحياء الروابط الأولية (دينية، عرقية، إثنية…) وتعظيمها على حساب الرابط الجمعي الوطني، وهو ما من شأنه – حسب نقاد هذا النموذج – أن يخلق حالة من التمزق العاطفي ويجعل الإنسان ممزقاً ما بين ولاءات متعددة[43]. فالأحزاب السياسية ذات الاستقطاب المجتمعي العمودي تزكي الخصوصية في الرموز والمناسبات والأهداف والتنشئة من خلال الإدارة الذاتية التي تمنحها الديمقراطية التوافقية للأنساق الفرعية في الميادين التي تَخُصها.

وعلى ذلك فهذا تراجع عن الديمقراطية التقليدية، فإذا كان باحثون كـ «روبير دال» يبحثون عن كيف تتحسن الدول الديمقراطية فإننا نرى أن «التجديد الديمقراطي التوافقي» يسير نحو مزيد من الانحسار والتراجع.

خاتمة

يجتمع في الديمقراطية الهدف والمثال، غير أن التبشير بالديمقراطية والدعوة إليها أمر يختلف عن تحقيقها وحقيقتها. فإذا كانت الديمقراطية طريقة سياسية في الترتيب المؤسساتي للوصول إلى قرارات سياسية: تشريعية وإدارية، فإنها اليوم تعرف إنهاكاً شديداً على العديد من المستويات.

يعمل المفكرون والباحثون السياسيون على إيجاد مخارج لأزمة الديمقراطية، وقدمت العديد من الحلول فالديمقراطية التشاركية الآتية رياحها من خارج المنابع التاريخية للديمقراطية تنقلنا من مستوى «الحكم» إلى مستوى «صنع القرار» لكن بتضخم شديد في المؤسسات الوسيطة والحفاظ على نخبوية القرارات مغلفة بطابع تشاركي عام.

أما الديمقراطية التوافقية فهي إلى قتل السياسة أقرب من إحيائها وبتفتيت مفهوم الدولة الوطنية أقرب إلى تجسيد مفهوم المواطنة كما سطرته التجربة التاريخية الديمقراطية.

بقي علينا أن نتساءل كيف استطاعت الديمقراطية النجاح؟ إنه سؤال ذكي طرحه جوزيف شومبيتر، كيف استطاع نظام مخالف للواقع أن يستمر في عقول الناس وفي البنى الحكومية الرسمية؟ إن الجواب بسيط، لقد تقمصت فكرة الديمقراطية ثياب الدين وحلت محله فتم بذلك تكريس الديمقراطية في النفوس والعادات، وحتى البعد التاريخي يؤكد ذلك؛ لقد كان الدين في بداية القرون الوسطى ما زال يحتل مكانته في نفوس الناس، وكان هو هدف الدولة، وكل مؤسساتها تنهل منه وتجد أساسها فيه وتخوض حروبها من أجله. لكن سرعان ما تغيرت الأمور، فلم يعد الدين غاية وإنما وسيلة تستعمل للوصول إلى الحكم. هذا التغير الذي طرأ على مستوى البنية العقدية والفكرية واكبه تغير من الدين نحو السياسة. هذه التغيرات العقدية البنيوية غيرت بعض المواقع: الديمقراطية محل الدين؛ سلطة الشعب محل سلطة الله؛ البرلمان محل الكنيسة وبصفة عامة حلت العقيدة الديمقراطية محل العقيدة النصرانية في الغرب.

 

قد يهمكم أيضاً  الديمقراطية في فكر محمد عابد الجابري في ضوء نظرية القيم السياسية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الديمقراطية #السياسة #الديمقراطية_التوافقية #الديمقراطية_التمثيلية #الدولة_الوطنية #الاقتراع #الاستفتاء #الديمقراطية_التشاركية #وجهة_نظر