مقدمة:

تعَد الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة للتدريس، وأداة للتعبير الأدبي والثقافي، وإحلالها محل اللغة العربية الفصحى، من أخطر الدعوات التي تعرّض لها اللسان العربي خلال تاريخه الطويل؛ وتعرضت فيها الأمة العربية لأعنف انقلاب ثقافي بعد الإسلام، حيث ظلت هذه الدعوة تتردد بيننا، تظهر حيناً وتختفي أخرى، والمثقفون العرب منقسمون بين مؤيد ومعارض، لا يكادون يصلون إلى رأي قاطع وحاسم في أمرها.

فما هي الدعوة إلى العامية؟ وما هي مظاهرها وتجلياتها؟ ومن يقف وراءها؟ وما هي أهدافها الخفية والمعلنة؟ وما هي نتائجها؟

أولاً: مفهوم العامية (الدارجة)

العامية أو الدارجة نمط لغوي يسميه الأوروبيون «العربية المحكية» (Spoken Arabic) أو «عربية اللهجة» (Dialect)، ويسميه فرجسون «النمط المنخفض» في اللغة (Low) ويرمز له بـ (L)، مقابل النمط الأعلى أو الرفيع (High) ويرمز له (H) والذي هو اللغة المعيارية.

فالعامية نمط لغوي، يتعلمه الإنسان العربي في مختلف أصقاع الوطن العربي، وهو يختلف من منطقة لأخرى، ومن قطر لآخر ومن فئة لأخرى، كما يتمايز بأصواته وكلماته وقواعده، يستعمله الإنسان في محيطه اليومي العادي مع محيطه، به يغني، يهمس، يناقش ويشتم.

والعامية نمط لغوي ازدهر بانتشار الأمية وغياب التعليم، وقد اتجه نحو التبسيط والبعد عن أي تعقيدات في الصوت، النطق، الصرف، النحو واختيار الكلمة‏[1].

ثانياً: الدعوة إلى العامية: تأطير تاريخي

1 – الدعوة إلى العامية في أوروبا

يؤكد كثير من الباحثين‏[2]، أن أول من حاول التنظير للدعوة إلى العامية والتأسيس لبرامج تدرسيها هم الأوروبيون؛ من خلال إنشاء بعض المدارس مثل: مدرسة نابولي للدروس الشرقية بإيطاليا سنة 1727، ومدرسة القناصل بالنمسا سنة 1747م، التي درس بها حسن المصري صاحب كتاب أحسن النجب في معرفة لسان العرب، ومدرسة باريس للغات الشرقية بفرنسا سنة 1759، التي درس بها مخائيل الصباغ صاحب كتاب الرسالة التامة في كلام العامة سنة، ومدرسة لازارف الإكليركية للغات الشرقية بروسيا، التي عمل بها الشيخ محمد عباد الطنطاوي، ومدارس أخرى في كل من ألمانيا وإنكلترا والمجر.

كما ألف أحمد فارس الشدياق، كتاباً في العامية بجامعة لندن، عنوانه أصول اللغة العربية المحكية سنة 1856م. وكان للعامية المصرية نصيب الأسد في هذا الاهتمام والدراسة، ذلك من خلال كتاب «قواعد العربية العامية في مصر للمهندس الإنكليزي «سبيتا»، وكتاب اللغة المحكية في مصر للقاضي الإنكليزي «ولمور»؛ وكتاب المقتضب في عربية مصر للقاضيين «داول» و»فيولت»‏[3]. الحقيقة أن الحماس الذي أبداه الأوروبيون للعاميات، وبخاصة العامية المصرية كان كبيراً ومستغرباً، وخصوصاً من طرف مهندس الري البريطاني وليام ولكسوس، الذي وفد إلى مصر عام 1883، ليقود حملة شرسة على اللغة العربية الفصحى باعتبارها لغة قديمة؛ عتيقة وجامدة، داعياً إلى إحلال العامية محلها‏[4].

2 – الدعوة إلى العامية في المشرق العربي

يذهب محمد شاكر في كتابه أباطيل وأسمار، إلى أن جذور الاهتمام الأوروبي بالعامية العربية تعود إلى سنة 1664م، حيث دعا البارون دي ويتز إلى تأسيس مدرسة جامعية لتعليم لغات الشرق، يناط بها أمر التبشير‏[5]. وقد ذكر كثيرون من دعاة العامية في الشرق العربي أمثال: ولهلم سبيتا الإنكليزي وكارل فولرس الألماني، والمبشر الإنكليزي (المهندس) وليم ويلكسوس مترجم الإنجيل إلى العامية، والمستشرق سلدنويلمور مؤلف كتاب العربية المحلية في مصر سنة 1901، بالإضافة إلى لويس عوض وأمين شميل وسلامة موسى.

كما كان رفاعة الطهطاوي (1801/1873) أحد رواد النهضة العلمية والفكرية في مصر، ومؤسس «مدرسة الألسن»، وصاحب مجلة روضة المدارس، من بين الدعاة الأوائل إلى العامية، حيث وظفها في كتاباته وفي الترجمة والصحافة، نتيجة إعجابه حد الانبهار بالفكر والثقافة الغربية أثناء مقامه الطويل بفرنسا. كما نهج سلامة موسى صاحب كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية، الذي دعا فيه إلى فرعنة الثقافة المصرية، وتبني عاميتها. وأيضا سعيد عقل الذي اشتهر بدعوته إلى لبننة اللغة في لبنان، وفَينقة أصولها وثقافتها، حيث أصدر ديوانه الشعري «يارا» بالحرف اللاتيني، واستهله ببعض الحروف الفينيقية، ومن تلامذته الأوفياء والمتحمسين لهذا الطرح نجد فرانك سلامة‏[6].

وعليه فإن الدعوة إلى العامية في المشرق العربي أنتجت كثيراً من الدراسات والأبحاث والتآليف، من أهمها أطروحة نفوسة زكريا سعيد، بجامعة الإسكندرية سنة 1964، بعنوان الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، التي أكدت فيها أن البدايات الأولى لاهتمام الأوروبيين بالعامية العربية، تعود إلى أوائل القرن 18، حينما تم تأسيس معاهد، ومراكز لدراسة العامية في العديد من الدول الأوروبية‏[7].

3 – الدعوة إلى العامية في الغرب الإسلامي

اقتصر كثير من الباحثين في تاريخ الدعوة إلى العامية، على إيراد الوقائع المرتبطة بالمشرق العربي، غير أن الاهتمام بالعامية/الدارجة بدأ مبكراً في الغرب الإسلامي، بحكم التماس والاتصال الجغرافي والحضاري بين المسلمين والمسيحيين على أرض الأندلس، وبحكم رغبة المسيحيين في تنفيذ مشروع الاسترداد والتنصير. ويعد محمد بنشريفة‏[8] أبرز من كتب في هذا المجال، خلال بحثه حول معاجم اللغة العامية المغربية الذي قدمه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الخامسة والستين سنة 1989، وتم نشره في العدد 89 من مجلة المجمع، إذ بين فيه بنشريفة أن بدايات الاهتمام بالعامية في الغرب الإسلامي، بدأت في الأندلس في القرن 7هـ، حينما وضع الراهب الكتالوني ريموند مرتين معجماً عربياً لاتينياً وآخر لاتينياً عربياً، اعتمد فيه عامية شرق الأندلس. كما نشر الراهب بيدرو دي ألكالا في غرناطة سنة 1505م معجماً عامياً بهدف الإعانة والمساعدة على تنصير المسلمين، الذين بقوا تحت الذمة، كما أعاد الراهب الطليطلي باتريك دولا توري الاشتغال على معجم بيدرو، وسماه السراج في اللغة المعجمية المنقولة من اللغة الإسبانيولية إلى العربية، وطبع في مدريد سنة 1805‏[9]؛ بالإضافة إلى رهبان آخرين اشتغلوا على ألفاظ العامية، كالراهب ليوشوندي من خلال المعجم الإسباني العربي المنشور سنة 1892، وألفونصو دالكاستيلو الذي ترجم الكثير من النقوش التي وجدت على جدران قصر الحمراء، ومراسلات أحمد المنصور الذهبي والملك فيليب الثاني‏[10].

4 – الدعوة إلى العامية في شمال أفريقيا

تمثلت الجذور الأولى للدعوة إلى العامية في شمال أفريقيا وبخاصة بلدان المغرب العربي، في إقامة «كرسي اللغة المغاربية» بمدرسة اللغات الشرقية بفرنسا ابتداءً من سنة 1920، إذ أدّى كل من وليم مارسي (1873/1956) وجورج كولن (1893/1977)، دوراً كبيراً في إدارته والدعاية له، حيث كانا ينشران الدعوة إلى العامية في الجزائر والمغرب من خلال وظيفتهما في الإدارة الاستعمارية بالبلدين، ومن خلال مهامها الأكاديمية في مجال التدريس والبحث العلمي، يقول برونو: «إذا قطعنا أي صلة باللغة المسماة كلاسيكية (يقصد اللغة العربية الفصحى) فلغة محلية مثل العربية المغربية (الدارجة) مستقلة عن الكلاسيكية، استقلال الإيطالية العصرية عن لاتينية شيشرون)‏[11].

كما أنشأت السلطات الاستعمارية أيضاً «معهد الأبحاث العليا المغربية»، الذي نشر الكتابة والتدريس بالعامية، اعتماداً على ما كتبه المستشرق الفرنسي جورج كولان، حول الازدواج اللغوي في اللغة العربية؛ باعتباره عائقاً كبيراً في التعليم والتعلم باللغة العربية الفصحى، وقد قدم لذلك ثلاث وصفات متكاملة:

أ – تغيير الفصحى وتبسيطها.

ب – تعليم العامية الدارجة باعتبارها اللغة التي يفهمها الجميع.

ج – الاستغناء عن الفصحى والدارجة معاً، والاعتماد على اللغة الفرنسية، وهذا هو الهدف الاستراتيجي لخطته‏[12].

وقد ذكر المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه ديوان السياسة، أن هنري لاوست‏(*) أخبره بأن إدارة الحماية الفرنسية كانت تنوي جعل الدارجة لغة رسمية للمغرب، واستدعت لذلك عدداً من المختصين في اللسانيات واللهجات، فأجمعوا لها على فشل هذا المشروع‏[13].

ثالثاً: مبررات الدعوة إلى العامية

تقوم الدعوة إلى العامية على مبررات وذرائع في معظمها غير علمية، كواجهة لحرب مبيتة وحقد دفين على اللغة العربية الفصحى، ذلك أن قياس اللغة العربية على اللاتينية من حيث المصير والمآل هو قياس خاطئ، بدليل أن اللغة العربية استوعبت النص القرآني وأدت معانيه بكل كفاءة واقتدار وإبداع، وهو النص الديني الوحيد الذي حافظ على اللغة التي نزل بها، بينما النصوص الدينية السابقة كتبت بلغات مغايرة للغات التي نزلت بها، فإنجيل «متى» الذي يُعتبر أقدم الأناجيل، مترجم من الآرامية – المحدثة التي تكلم بها عيسى عليه السلام – إلى اللاتينية، بينما حافظ النص القرآني العربي – بالتواتر – على حروفه، وآياته، وسوره، وأساليبه، ومعانيه.

كما تعتبر اللغة العربية من أطول اللغات عمراً، إذ تعود كثير من كلماتها إلى العصر الجاهلي القديم، وإلى عصر نزول القرآن والزمن الذي بعده‏[14].

أما الادعاء بكون اللغة العربية الفصحى لغة جامدة، ولم تعد صالحة لمواكبة التطور، وأنها مشحونة بالمقدس الديني، فهي ادعاءات لا تصمد أمام العلم، والمنطق، والتاريخ، لأن من يصنعونها يجهلون أن لكل لغة مقدساً بما فيها اللغة الفرنسية التي يتمسحون بها، فاللغة العربية بقدر ما هي لغة المقدّس الديني، بقدر ما هي لغة الكائن البشري، بما أنتجته من حضارة عريقة وعلوم، وآداب غزيرة، كانت هي البدايات الأولى للنهضة العلمية والفكرية التي عرفها العالم بداية القرن 17.

أما الادعاءات بكونها ليست اللغة الأم للإنسان العربي، وتعوق النمو الفكري والوجداني للطفل العربي لكونها ليست لغته الأم‏[15]، فإن التاريخ يؤكد أن ذلك مجرد فرضية عادة ما تتحول إلى مرجع وحيد في الثقافات المتخلفة، أما في الثقافات الكبرى المتقدمة، فإن ذلك ليس بالمرجع الوحيد في المنظومة الثقافية والتربوية‏[16]، وفي هذا الإطار نتساءل جميعاً، هل غيَّر اليابانيون والصينيون، والأتراك والإيرانيون، واليهود لغتهم أو دينهم، أو تخلوا عن حضارتهم، وثقافتهم عندما أصبحوا ينافسون أمريكا وأوروبا في كل مجالات العلوم التقنية، والصناعية، والأدبية والفنية؟

إن الدعوة إلى العامية تحركها دوافع استعمارية لا علاقة لها بالعلم والفكر والمنطق، ولا يتبناها إلا من يناصب العداء والكراهية لتراثنا حضارة، وثقافة وديناً ولغة. يقول سلامة موسى متحدثاً عن الهدف من الدعوة إلى العامية وكتابتها بالأحرف اللاتينية: «لن يفاجأ الكاتب إن طالب العرب في يوم من الأيام بالأحرف اللاتينية لكتابة لغتهم، هذا الانتقال إن تحقق، فلن يؤثر في حياتنا الثقافية والأدبية وحسب، ولكنه سيكون علامة تغيير في اتجاهاتنا النفسية، سنرحب بالحضارة الصناعية الحديثة، بقيمها الأخلاقية والثقافية والروحية، ولن نرفض استعمال الكلمات الأوروبية، ولن نتعلق حينها بتراثنا الماضي وكأنه الدعم الوحيد لحياتنا»‏[17].

1 – الدعوة إلى العامية والحركة الاستعمارية

إن الدعوة إلى العامية ليست فكرة ولا حركة جديدة، بل كانت منذ بداية القرن 7هـ/13م بدوافع دينية تبشيرية هدفها تنصير المسلمين في الأندلس، وبقيت حاضرة منذ ذلك التاريخ يخفت صوتها حينا ويرتفع أخرى، إلى أن عادت بشكل جديد في نهاية القرن 19، على يد بعض المفكرين والمثقفين، كصدى لأفكار وطروحات روّجها بعض المستشرقين الذين كانت لهم ارتباطات بالدوائر الاستعمارية، وبخاصة في بعده الثقافي واللغوي، وهي كما يبدو دعوة إلى استعادة الطموح الاستعماري الذي فشل المستعمرون في فرضه بأنفسهم فأوجدوا من يعمل على تحقيقه بالوكالة‏[18]. والأكيد أن هذه الدعوة هي محاولة لطمس كل معالم الحضارة العربية والإسلامية، والقضاء على إحدى مقوماتها الأساسية وهي اللغة العربية، وهي محاولة لعزل الإنسان العربي المسلم عن أمته، وحضارته، وثقافته ولغته، ليسهل إلحاقه بأي نموذج حضاري وثقافي آخر‏[19]. ففي المغرب، مثـلاً: اكتشف المغاربة أن بلادهم قبل احتلالها، كانت مرتعاً للمبشرين المسيحيين الذين كانوا يبلغون رسالتهم التنصيرية بالدارجة المغربية، التي تعلموها في مدرسة المبشر شارل دوفوكو. ويذكر قيدوم الصحافيين المغاربة مصطفى العلوي في عموده الأسبوعي بجريدة الأسبوع الصحفي، أن هناك مغاربة كانوا يدعمون اعتماد الدارجة لغة رسمية في التعليم، ومن بينهم مفكر مغربي من أصول يهودية اسمه عيوش‏[20].

2 – الدعوة إلى العامية ووظائف اللغات

يزعم دعاة العامية، أن اللغة العربية الفصحى لا تصلح للتواصل، ولا تعبِّر عن وجدان الإنسان العربي، وهذه المزاعم في الحقيقة تدل على ضحالة في الفكر وتسطيح في الفهم، وجهل واضح بسمات الازدواج اللغوي (Diglossia) في كل بلدان العالم المتقدمة منها والمتخلفة، والمتمثلة بارتباط كل من الفصحى والعاميات بمجالات وظيفية متمايزة، حيث يتم استعمال الشكل اللغوي المناسب للوظيفة المناسبة.

كما أن القول بأن الاختلاف الجذري للعامية عن اللغة العربية الفصحى، قول مردود، لأن كثيراً مما يستعمله الناس بعفوية وتلقائية لغة عربية فصيحة، بالإضافة الى أن الأرقام العالية التي تحققها العربية الفصحى في الإذاعات، والقنوات التلفزية، والصحف، والجرائد والمواقع الإلكترونية؛ تدل بوضوح على أنها لغة تواصل بامتياز، في حين لا نجد ولا جريدة واحدة واسعة الانتشار بالعامية رغم الدعم المالي، والإعلامي والسياسي الكبير الذي تحظى به كل المشاريع المرتبطة بالدعوة إلى العامية. أما بخصوص زعمهم بكون الفصحى ليست لغة الإحساس والوجدان، فإننا نتساءل مستغربين: أليس التراث الشعري العربي دليـلاً قاطعاً على أن اللغة العربية لغة التعبير عن أدق الأحاسيس وأنبلها، بل وأكثرها التصاقاً بالنفس الإنسانية؟‏[21].

وعليه، فإن لكل من الفصحى والعامية أدواراً محددة ومتمايزة، يمكن تلخيصها فيما يلي:

– الفصحى لها مكانها، والدارجة لها مكانها.

– الدارجة لغة عربية يتم فيها التساهل مع القواعد، نظراً إلى سرعة وبساطة أوجه الاستعمال.

– الدارجة مشتقة من الفصحى، وهي لا تقتصر على التعبير عن الحاجات البسيطة والعابرة، بل لها مكانها في المسرح والسينما والغناء، وتفرض نفسها في مختلف التعابير الفنية المقدمة للجمهور، والمشروطة بمراعاة مقتضيات التواصل.

– لكل مجال لغة، ففي مجال الأدب والعلم والتدريس والبحث العلمي، لا يمكن استعمال غير اللغة العربية الفصحى. وفي مجال التواصل اليومي البسيط لا يمكن استعمال غير العامية‏[22]. والذين يزعمون أن اللهجات العامية صالحة للتعليم والبحث العلمي، إنما زعمهم مردود ومرفوض ليس من الناحية القومية فحسب، بل من الناحية العلمية والحضارية، ذلك أن هذه العاميات متعددة ومتنوعة بتنوع البيئات، والثقافات، والحرف؛ والصنائع والمهن‏[23]، كما أن وجوه الاختلاف والاختراق بينهما كثيرة وعميقة، تجعل من الصعب، بل من المستحيل تطويعها بعضها مع بعض لتصبح لساناً عاماً، لأنها لغة قوم أو جماعة جغرافية، أو إثنية محدودة، في حين أن اللغة العربية لغة يتعلم ويبدع بها ما يزيد على 400 مليون إنسان.

3 – الدعوة إلى العامية والوحدة الوطنية

إن الدعوة إلى العامية لغة عامة ورسمية في مختلف المجالات، وبخاصة في مجال التعليم والبحث العلمي، هي محاولة لإغلاق آفاق التعليم والإبقاء على الجهل والانغلاق، وإلزام الشعوب الاكتفاء باللغة الزنقاوية بتعبير علال الفاسي‏[24]، أو ما يسميه الفرنسيون بـ «الدياليكت»، والتي يصفها كثير من الفلاسفة بأوصاف هي أقرب إلى الفوضى منها، إلى أي شيء آخر. فدعاة العامية أو التدريج، يريدون أن ينقلوا الشعوب العربية – ومن ضمنهم المغاربة – من شعوب معتزة بأصالتها وانتمائها، وانفتاحها على مختلف اللغات والحضارات، إلى مجتمعات منغلقة على ذاتها، ومنقسمة على نفسها، لأن العاميات أو الدوارج لغات التعدد غير المنظم، ولغات الانغلاق على الذات، ولغات الكيانات المناطقية والإثنية، التي يستحيل معها إيجاد لغة مشتركة بين أفراد البلد الواحد، فبالأحرى أفراد وشعوب البلدان العربية. ففي تونس، مثـلاً: أهل سوسة لا يتحدثون لغة أهل الجنوب ولا لغة أهل الساحل، وفي المغرب تختلف لغة أهل تافيلالت عن لغة أهل وجدة، والأمثلة تتعدد بتعدد المناطق والإثنيات والدول‏[25]، في حين أن اللغة العربية ماضياً وحاضراً أثبتت أنها اللغة المشتركة والموحدة، ولغة الانفتاح على مختلف اللغات والثقافات، والحضارات والأمم‏[26]، ويكفي أن نشير إلى ما أنتجته من علوم وآداب، وفلسفة بعد اتصالها وتلاقحها مع الحضارات، والثقافات واللغات الأخرى، من خلال مشروع الترجمة أيام العباسيين وما بعدهم.

ومن ثمة، فإن الدعوة إلى العامية، واعتمادها في التعليم بالأساس تتطلب بعض الحقائق:

أ – أنها دعوة لا تقف عند حدود شعارات التعدد اللغوي والثقافي والخصوصية، بل لها أصول وارتباطات بدوائر خارجية كبرى، تتجلى في:

– ترسيم الدارجة لغة ثانية بعد اللغة الإسبانية في سبتة ومليلية المحتلتين.

– الاهتمام المتزايد في الغرب بالدارجة وتدرسيها والتدريس بها، حيث أدرجت فرنسا في الميثاق الأوروبي حول اللغات الإقليمية ولغات الأقليات العربية، العامية ضمن لغات فرنسا.

– مراجعة المعيار الترتيبي لمركز اللغات في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، وإقامة ترتيب نهائي كالآتي:

(1) قسم اللغة العبرية؛ (2) قسم اللغة البربرية؛ (3) قسم اللغة العربية.

– إعادة ترتيب فروع قسم اللغة العربية، ليصبح مشتملا على أربعة أقسام هي:

(أ) قسم العربية الفصحى؛ (ب) قسم العربية المصرية؛ (ج) العربية المغاربية؛ (د) العربية الشرقية.

وهذا الأمر يرتبط بأجندات خارجية، ودوائر سياسية وأكاديمية كبرى، تهدف إلى التفتيت والتقسيم؛ عوض الجمع والتوحيد.

ب – أن العامية لهجة عربية، وقد أثبت البحث اللساني العلمي الرصين ذلك ضمن الازدواج اللغوي الذي ينطبق على كثير من لغات العالم، فيضطرها إلى التعايش مع لهجات التداول اليومي‏[27].

4 – الدعوة إلى العامية واللغة العربية

إن الدعوة إلى العامية ومحاولة معيرتها، وتشجيع الكتابة بها في أفق إحلالها التدريجي محل اللغة العربية الفصحى، هو مخطط للقضاء على اللغة العربية، وإبعادها عن كل مراكز القرار والتأثير في المجتمع. فدعاة العامية الذين يرتبطون بالحركة الفرنكفونية، يتبنون ما حدث للغة اللاتينية في أوروبا، وبخاصة في إيطاليا وفرنسا، وألمانيا وإسبانيا، لكنهم لا يدركون أن أوروبا عرفت ثورات استهدفت بناء قومية قطرية على أساس اللغة باعتبارها اللحام الحاسم، أما في البلاد العربية فلم تقم ثورات على هذا الأساس وربما لن تقوم أبداً، حتى لا يتم تقسيمها إلى كيانات لغوية صغيرة‏[28]، تنضاف إلى الكيانات السياسية والدول القطرية التي أنتجتها معاهدة فرساي وسايكس بيكو.

إن اللغة العربية بدأت تعاني ويتراجع دورها منذ أواخر الحكم العثماني؛ نتيجة عوامل حضارية وسياسية، مثل: محاولات التتريك، والاستعمار الغربي للدول العربية والإسلامية، وبخاصة الاستعمار الفرنسي والإنكليزي، اللذان عملا بكل الوسائل على تجزئة الأمة وتقسيمها، كخطوة أولى للقضاء على أحد الأسس التي كانت توحدها وهي اللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن والإسلام‏[29]. ومن مظاهر الحرب على اللغة العربية في الوطن العربي:

أ – في مصر

ظهرت حركة تدعو إلى مصرنة وفرعنة مصر، من خلال استعمال العامية المصرية كوسيط في الفن والأدب، حيث دعا أحمد لطفي السيد في ما أسماه بـ «التسامح اللغوي»، والذي يعني به إصلاح الفصحى باستعمال ألفاظ من العامية، والألفاظ المستعارة من اللغات الأخرى في الكتابة، وقد نشر أفكاره في صحيفة الجريدة في تسع مقالات. بينما دعا محمد تيمور وسلامة موسى، إلى النهوض بالعامية لتكون لغة قومية، وفي سنة 1943 فاجأ عبد العزيز فهمي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، باقتراح كتابة العربية بالحروف اللاتينية.

ب – في بلاد الشام

قاد الحملة ضد اللغة العربية مارون الخوري صاحب كتاب حياة اللغة وموتها: اللغة العامية، وسعيد عقل الذي أصدر كتاباً بالحروف اللاتينية سنة 1961؛ وأنيس الخوري فريحة الذي أصدر سنة 1947، كتاباً تحت عنوان الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية.

ج – في المغرب

عانت اللغة العربية كثيراً من منافسة اللغة الفرنسية، منذ دخول الاستعمار إلى البلاد، وحتى الآن، إلى درجة أنه يمكن القول إن المغرب يسير في اتجاه الانتقال من بلد ثنائي اللغة (فرنسية/عربية)، إلى بلد يستغني شيئاً فشيئاً عن اللغة العربية لمصلحة اللغة الفرنسية، وهذا يحدث بدعم قوي من ذوي القرار السياسي والاقتصادي، والإعلامي، والتربوي والأكاديمي في البلاد‏[30].

كما يلاحظ أن الدارجة المستعملة في وسائل الإعلام (الإذاعات والقنوات) الخاصة بالأساس، تتميز بالهجانة والارتباك، والخلط المتعمد بين العربية والفرنسية، وهي آلية ضمن سياسة تمرين أذن الإنسان العربي عموماً والمغربي خصوصاً، على تقبل لغة هجينة، تقيم جسراً نحو اللغة الفرنسية، وهو في نهاية المطاف مظهر من مظاهر الحملة المنظمة، والمؤسسة والمتنوعة الأشكال، والوسائط على اللغة العربية الفصيحة، بدوافع أيديولوجية وسياسية ودينية، هدفها الأسمى، فك الارتباط بين المشرق والمغرب العربيين، وتمهيد الطريق للتخلي عن اللغة العربية، في أفق الفصل بينها وبين القرآن الكريم والدين الإسلامي، أو كما يقولون قطع الطريق على الأصولية‏[31].

رابعاً: مخاطر الدعوة إلى العامية

إن الدعوة إلى العامية لم تكن دعوة علمية ولا بريئة، وإنما هي دعوة استعمارية وأيديولوجية وسياسية، هدفها اقتلاع الإنسان العربي المسلم من لغته وثقافته وحضارته، وعزله شعورياً وفكرياً عن تاريخه وواقعه، في أفق إلحاقه بأي نموذج ثقافي وحضاري ولغوي آخر، لأنه ليس هناك شيء أخطر على أمة من الأمم من أن تستعمل لغة وثقافة الغير‏[32]، وعليه فإن لهذه الدعوة مخاطر كثيرة أهمها:

1 – تهديد وحدة البلدان العربية واستقلالها

إن اللغة العربية رمز وحدة البلدان العربية وسيادتها، وجزء أصيل من كينونتها وأصالتها، وأي تفريط فيها بدعاوى مختلفة ومتعددة من قبيل الدعوة إلى العامية، هو خطر يهدد وحدة الكيانات الوطنية والقومية، وهو كما يقول المفكر المغربي عبد الله ساعف: نهاية فكرة المغرب الموحد والمستقل‏[33]، كما يقول محمد راجي الزغول في كتابه دراسات في اللسانيات العربية والاجتماعية: «أي دعوة انفصالية إقليمية ستتسلح بسلاح تجزئة اللغة العربية بالدعوة إلى العامية… إن أولائك الذين يطمحون للانفصال يدعون للعامية، وأولائك الذين يدعون للوحدة والتماسك يتمسكون بالعربية ووحدتها»‏[34].

2 – إهدار تاريخ وتراث اللغة العربية

إن الدعوة إلى العامية دعوة غير وجيهة، ولا مقبولة علمياً ومعرفياً وواقعياً، لأن الهدف من ورائها، إهدار التاريخ العربي والتراث الضخم والغني للغة العربية، وكل المضامين والأفكار التي تحملها أو تتضمنها. وعليه فإن اعتماد العامية كلغة رسمية، وبخاصة في مجال التعليم والبحث العلمي، هو عين العبث بأمور أساسية كثيرة معرفية وسياسية، واقتصادية وثقافية، وحضارية، وجيوستراتيجية.

3 – خلط المفاهيم اللغوية

يعمد دعاة الدارجة إلى خلط كثير من المفاهيم في المسألة اللغوية، وبخاصة في مسألة اللغة الأم، لأسباب أيديولوجية بالأساس، لأن العامية ليست لغة أما بالمفهوم العلمي للمصطلح، بل اللغات الأم هي الجبلية والحسانية والفاسية والبيضاوية‏[35]، وفي اللغة الأمازيغية هي: تاريفيت وتاشلحيت وتمازيغت، إلى جانب لغات فئات الحرفيين والشباب، وبعض الفئات الاجتماعية والفنية.

إن سهولة التعامل والتواصل بالعامية وسعة انتشارها، لا يعني أنها مؤهلة لأن تكون لغة علم وأدب وفكر، وهاتان الخاصيتان لا تسوغان تبني الأشياء إذا عارضت هدفاً قومياً، أو حالت دون تحقيق مصلحة الأمة في وحدة اللغة والثقافة‏[36]، يقول محمد راجي الزغول: «ما أثبتته النظرية اللغوية الحديثة يجعلنا نتمسك باللغة العربية الفصحى، وتضييق الشقة بينها وبين العامية، وإلا كتب لها التفرق والضياع»‏[37]، وعليه فإن الدعوة إلى العامية في أصلها وهدفها دعوة أيديولوجية، تتوخى تمرير مفاهيم خاطئة ومغلوطة ومغرضة، لا تمت بأي صلة للعلم، ولا للطروحات السياسية والاجتماعية التي تراعي المواقف والآراء، والاختيارات اللغوية للشعوب والأمم‏[38].

4 – تبسيط مشكل لغوي معقد في أصله

لا شك في أن الدعوة إلى العامية في التعليم بالأساس، هي تبسيط للإشكالية اللغوية التي تتسم على المستوى العالمي بالتعقيد، والتي يعتبرها كثير من الباحثين والمفكرين، قضية سياسية، وتربوية، ومجتمعية، ووطنية وقومية، تحتاج إلى توافق وطني كبير، وإلى إرادة سياسية قوية وحاسمة، وإلى كثير من الجدية والرزانة، والحكمة والهدوء، والعلمية في اتخاذ القرارات اللغوية، لأن لغات التدريس هي اختيارات مجتمعية، وقومية استراتيجية، لا تعالج ولا تحل بالتسرع والغوغائية، والطابع الأيديولوجي، ولا بقرارات فوقية، وأبراجية ذات طبيعة كولونيالية، لأن قضية لغة التعليم وما يرتبط بها من إشكاليات، تحتاج إلى استقلال القرار ووطنيته، وإلى البيئة العالمة وإلى الرزانة، لكونها تؤدي وظائف النهوض الحضاري للأمة، وتحافظ على القيم الجماعية، والتعايش الاجتماعي، بالإضافة إلى التربية على تكافؤ الفرص. ومن ثم فإن اختيار لغة التعليم والتعلم من صميم إصلاح التعليم في الكلام، وهو ما يفرض طرحه وفق مقاربة أساسها العلمية والاختصاص والتوافق والاستقلالية والتداول الديمقراطي‏[39].

خامساً: الدعوة إلى العامية والتعليم

يتطلب استعمال العامية في التعليم، تهيئة لغوية قصد توحيدها ومعيرتها، حتى تصبح قابلة للاستعمال في التدريس والبحث العلمي، عقوداً طويلة من الجهد والبحث والدراسة العلمية، بل واستراتيجيات تربوية ستكلف البلدان العربية إمكانات مادية وبشرية ضخمة، وكتّاباً ومؤلفين كباراً، فالفرنسية مثـلاً أصبحت لغة فرنسا الوحيدة بفضل كتّاب ومفكرين كبار مثل بودلير ورامبو‏[40]، الأمر الذي يطرح أسئلة حقيقية ودالة من قبيل:

– لماذا يصر البعض على التخلي عن لغة جاهزة ومعبِّرة، ومجرَّبة وذات تاريخ وحضارة، وإنتاج علمي وأدبي ضخم، من أجل لغة تحتاج إلى كل هذه الجهود والإمكانات العلمية والبشرية والمادية؟

– مَن المستفيد من هذا الإصرار على تضييع وإهدار كل هذا الجهد العلمي، والحضاري والفكري، والأدبي للغة العربية الفصحى، الذي راكمته عبر قرون طويلة من الزمن؟

1 – الاهتمام بالعامية واللغة العربية

إن الاهتمام بالعامية لا يجب أن يكون على حساب اللغة العربية الفصحى، ولا أن يكون بهدف إضعافها والقضاء عليها قصد إحلالها محلها، لأن الأمر غير ممكن من جهة، ومن جهة ثانية، لأن كثيراً ممن اهتموا بالعامية علمياً، هم من رجال العربية الفصحى المجيدين لها والمدافعين عنها، والمؤمنين بدورها، وأهميتها التاريخية، والحضارية، والاستراتيجية، بل إنهم من الواعين والمدركين لدور كل من الفصحى والعامية في المجتمع، في إطار تكامل الوظائف بينهما؛ فقد كتب العلامة عبد الله كنون، بحثاً بعنوان «عاميتنا والمعجمية» وقدمه إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، واشتغل عبد العزيز الأهواني على أمثال عوام الأندلس، ودرس عبد الحميد يونس الأدب الشعبي، كما أنجز محمد بن شريفة بحثاً قيما حول «معاجم اللغة العامية المغربية»، واشتغل عباس الجيراري في أطروحته على الشعر الملحون المغربي، ومن السهل ملاحظة واستخلاص أن العامية كوَّنت رصيدها المعرفي والمعجمي، من آداب وعلوم اللغة العربية الفصحى، وفي الشعر الملحون قصائد جيدة تتحدث عن أسماء الله الحسنى، والسيرة النبوية، والأمداح النبوية، وهي قصائد مفعمة بالحكمة والتوجيه؛ فالفرق واضح بين توظيف دراسة العامية لنقل القيم إلى أفراد المجتمع والأمة، وبين توظيفها خصماً ومنافساً للفصحى‏[41]. كما إن هناك من اقترح إدراج العامية في الجامعات كمادة دراسية للطلبة الأجانب، أو كمسلك أو وحدة بحث تعنى بدراسة العامية من الجوانب اللسانية، والأنتروبولوجية والثقافية، أما المطالبة باعتماد العامية لغة للتعليم والبحث العلمي، فهذا أمر لا يعتمد على أسس علمية، باعتبار أنه لا يمكن لأي لغة أن تصبح لغة العلم والتعلم إلا إذا كانت لغة التفكير وإنتاج المعرفة، ومهيأة لسانياً ومعجمياً للقيام بمختلف العمليات الفكرية المجردة‏[42].

إن اللغة العربية الفصحى عنصر مركزي في الهوية الوطنية، ولا يمكن لواقع التعدد اللغوي والثقافي أن يغير هذا الوضع، كما لا يمكن للمغاربة الابتعاد عن اللغة العربية، وإحداث قطيعة معها، وكذلك لا يمكن لأحد أن يحرم المجتمعات العربية والإسلامية منها، أو يعزلها عنها مهما حاول، لكونها تشكل جزءاً أصيـلاً من كينونة هذه الأمة وتاريخها ومستقبلها‏[43].

2 – فشل الدعوة إلى العامية: الأسباب والمظاهر

أ – الأسباب

رغم شراسة الحرب التي تعرضت لها اللغة العربية منذ قرون خلت؛ ورغم اعتمادها على جميع الوسائل والآليات، وتوظيفها لكل نقط الضعف لديها الداخلية منها والخارجية؛ ورغم تكالب الجميع عليها من أعداء الخارج وعملاء الداخل، فإن الدعوة إلى العامية لقيت فشـلاً ذريعاً في الشرق قبل 100 عام، وفي المغرب الإسلامي ماضياً وحاضراً، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:

(1) قوة وصمود اللغة العربية: يؤكد العديد من علماء اللغة أن سر صمود اللغة العربية أمام كل حروب الإبادة التي تتعرض لها، هو ارتباطها العضوي بالدين الإسلامي والقرآن الكريم، فهي التي قدمته إلى الناس وحملت وحيه وكلماته، وامتزجت به، وهي مظهر من مظاهر إعجازها البياني، كما أن القرآن الكريم أغدق عليها من المضامين والدلالات الجديدة، كما نشأت من القرآن والسنة علوم كثيرة (علم التفسير، علم الحديث، علم الأصول، علم الفقه…) مما منحها دلالات ثلاثية: لغوية واصطلاحية وشرعية‏[44].

(2) اللاتكافؤ بين الفصحى والعامية: تتأسس الدعوة إلى العامية كبديل للغة العربية الفصحى على خطأ معرفي كبير؛ يتمثل بتوهم التكافؤ بين الفصحى والعامية، وتساويهما في القدرة على التعبير والإفصاح عن كل المعاني والأفكار من غير الإخلال بشيء منها، والحقيقة أن نسبة العامية إلى الفصحى هي نسبة اللهجة المحلية المحدودة في مكان التداول، وفي الأغراض المعبَّر عنها، فهي لغة واسعة في مادتها، دقيقة في معانيها، تقيم الفروق بين الكلمات، ولا تسمح باستعمال كلمة بدلاً من غيرها في الغالب؛ فالمقارنة بين الفصحى والعامية غير صحيحة وغير مقبولة من حيث المبدأ، لأنه ليس هناك لغة لم تخدم ولم يشتغل عليها، بمثل ما حظيت به العربية الفصحى، كما لم تجمع مادة لغة كما جمعت مادة الفصحى، ولم يكتب عن نحو وصرف وتركيب أي لغة، مثل ما كتبه النحاة واللغويون العرب، أمثال: سيبويه، وأبو بكر الزبيدي، وابن خالويه، وابن القوطية، وابن القطاع السعدي‏[45]؛ عن اللغة العربية.

إن توهم تكافؤ الفصحى والعامية وتساويهما، وإمكان تفريغ معاني ودلالات ألفاظ الفصحى في العامية، هو أشبه بمحاولة تفريغ بحر محيط في كأس صغير، ومن ثم فإن الدعوة إلى العامية هي دعوة مقصودة للتفريط في كل المعاني والمضامين الحضارية، والدينية والثقافية التي تحملها الكلمة العربية، مثلما تحمل البصمة الوراثية كل خصائص صاحبها‏[46].

أما من الناحية اللسانية الصرفة، فإن استعمال العامية لا يدخل ضمن التعدد اللغوي أو الثنائية اللغوية، لأن العامية ليست لغة بل لهجة، واللهجة حسب علماء اللغة مستوى من مستويات اللغة أو شكلاً من أشكالها، وهي تمثل نوعا له سمات لغوية خاصة في منطقة جغرافية معينة، كما أن اللهجة لا ترقى وظيفياً إلى مصاف اللغة الفصيحة والممعيرة، بسبب ضآلة مفرداتها، وفقر بنيتها وتراكيبها، ومحدودية نطاقها الجغرافي، وعدم صلاحيتها للتفكير المنطقي التجريدي، وأيضاً على التعبير عن الأبحاث العلمية، فهي صالحة للاستخدام اليومي السريع‏[47].

(3) قابلية اللغة العربية للتطور والتجديد: تشكل اللغة العربية كغيرها من اللغات صيرورة لها منطقها الخاص، وقواعدها وشكلها، وقد تغيرت دوماً مع تغيُّر الزمن؛ فعربية العصر العباسي عندما أخذ العرب يترجمون تراث اليونان، والفرس والهند، هي بالتأكيد ليست عربية المعلقات أيام العصر الجاهلي، وليست عربية العصر النبوي والعصور التي تلته. فاللغة العربية تطورت كثيراً عبر الأزمان كما تطورت خلال عصر النهضة (القرن 19) وبخاصة في المجال الإعلامي‏[48].

كما تتوافر للغة العربية درجة جد محترمة من التنافسية في المشهد اللغوي الكوني، الذي يتشكل من حوالى أربعة آلاف لغة، وهي من ضمن 14 لغة المتصدرة لترتيب اللغات العالمية لاعتبارات عديدة أهمها‏[49]:

– الموقع الاستراتيجي للوطن العربي، وغناه الاقتصادي والتجاري.

– الدينامية التواصلية للغة العربية، وبخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي.

ب – المظاهر

أما مظاهر فشل الدعوة إلى العامية فتتمثل بـ‏[50]:

– إقبال الجمهور على البرامج المعدَّة باللغة العربية الفصحى في القنوات التلفزية، حيث بلغت نسبة مشاهدة هذه البرامج في القنوات المغربية الرسمية 39.7 بالمئة خلال الفترة ما بين 12 آب/أغسطس و9 أيلول/سبتمبر 2010.

– ظهور قنوات عربية ودولية باللغة العربية الفصحى، لها صيت عالمي مثل قناة الجزيرة، BBC، فرانس 24، العربية، الحرة.

– ارتفاع نسب مشاهدة الجمهور العربي للقنوات العربية، حيث وصلت نسبة مشاهدة الجمهور المغربي مثـلاً إلى 63 بالمئة.

– تراجع ترتيب القنوات الفرنسية على وجه الخصوص إلى المرتبة 12 بنسبة مشاهدة لا تتعدى 0.5 بالمئة.

خاتمة

إن الدعوة إلى إحلال اللغة العامية محل اللغة العربية الفصحى في التدريس، والأدب، والثقافة والفن، والتي أنتجت الكثير من الكلام، وأسالت الكثير من المداد بين المؤيدين والمعارضين، وأثارت العديد من المشاكل اللغوية، والثقافية، والأدبية، في الوطن العربي خلال القرن الماضي وما بعده، فشلت، حيث بدأت بالثورة على اللغة العربية الفصحى وانتهت بالثورة على العامية.