مقدمة:

في البداية لا بد لنا من التأكيد أن الحوار المطلوب هو قرار استراتيجي عند مختلف المؤسسات العروبية الشعبية الخارجة عن إطار النظام الرسمي العربي. ونقصد هنا شبكة المؤتمرات الشعبية المستقلة، كالمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي – الإسلامي والمؤتمر العربي للأحزاب العربية والمؤتمر العام الذي يضم المؤتمرات الثلاثة السابقة. وقد ولدت هذه المؤتمرات بجهود ناشطين وباحثين ومثقفين معنيين بشؤون الأمة العربية وحرصاء على تكوين الكتلة التاريخية وتحصينها بين مختلف مكوّنات المجتمع العربي والإقليمي وفي مقدمهم مركز دراسات الوحدة العربية.

والعلاقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران هي جزء من رؤية استراتيجية متكاملة تسعى لتشكيل كتلة تاريخية في المنطقة تهدف إلى تشبيك مختلف محاور العلاقات بين كل من تركيا وإيران والكتلة العربية التي تضم بلاد الشام وبلاد الرافدين والجزيرة العربية وبلاد وادي النيل والقرن الأفريقي والمغرب العربي على قاعدة واضحة وهي أن الأتراك أتراك والإيرانيين إيرانيون والعرب عرب، وألّا يسعى أي طرف للهيمنة على الطرفين الآخرين، وأن تكون العلاقة بين أعضاء الكتل الثلاثة علاقة تكامل لا علاقة تنافس؛ فهذه الكتلة الثقافية الاقتصادية السياسية مع أبعادها الجيوسياسية كفيلة بحماية المنطقة من أطماع قد تأتي من الغرب أو من الشرق أو من الشمال أو من الجنوب. هذا هو مبدأ وموقف وقرار استراتيجي حكم سلوك ومكوّنات المؤتمرات الشعبية والمنتديات التي ذكرناها.

في هذا السياق نذكّر أن مركز دراسات الوحدة العربية قد بادر في هذا الاتجاه، فأقام ندوة هامة بالتعاون مع جامعة قطر عام 1995 حول العلاقات العربية – الإيرانية‏[1] شارك فيها مجموعة من النخب العربية والإيرانية وتناولت العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، مع محاولة – آنذاك – لاستشراف العلاقات العربية – الإيرانية. فقد نشرت محتويات الحوار بالعربية ومن بعدها بالإنكليزية لتعميم هذه الثقافة الحوارية. كما أقيم حوار آخر عام 2002 في طهران، لكن – لأسباب ما زالت غامضة – لم يصدر عن ذلك الحوار منشورات إلّا بعض الأبحاث التي نُشرت في الفارسية ولم ترسل لترجمتها إلى العربية. وفي اعتقادنا، إن أي حوار يقام لا بد من أن يبنى على ما تمّ بحثه في تلك الندوة، وأيضاً ندوات أخرى جرت في عدة دول خلال السنوات الماضية، وذلك تحفيزاً للعمل التراكمي المعرفي وتفادياً للبداية مجدّداً من نقطة الصفر. فهناك إرث حواري موجود وهام.

أما ورقتنا فتتناول مضمون الحوار الثقافي العربي – الإيراني، وبخاصة أننا وجدنا التباساً كبيراً ومتكرراً في العديد من المفاهيم، ما يحدّ من فعّالية الحوار المنشود. وبما أن العناوين المعروضة في الدعوة طابعها عريض بشكل عام، لذلك وجدنا من المفيد التدقيق في بعض المفاهيم التي يمكن أن تندرج ضمن المحور المعنون «الحوار الثقافي بين إيران والعالم العربي وضروراته ومتطلّباته». ففي الجزء الأول من هذه الورقة نتناول إشكالية المفاهيم والمضامين في المصطلحات المطروحة في الحوار وكأنها من المسلّمات التعريفية وهي في رأينا غير ذلك. على سبيل المثال وليس الحصر، هل من الممكن الفصل بين الثقافة والسياسة؟ أليس التفاهم السياسي مدخـلاً فإن الحوار المطروح هو بين «بلد» محدّد وهي إيران وبين «عالم» هو العالم العربي! فكيف يحاور بلد عالماً؟ نحن ننظر إلى أنفسنا كأمة لا كعالم، كما أننا موجودون على قارتين ومطلّون على محيطين وبحرين (المتوسط والأحمر) وخليج متنازع تسميته! فلماذا «الحساسية» في الاعتراف بعروبتنا؟ وعلى أي أساس وما هو الهدف؟ بالمقابل هناك سلسلة من القضايا نعتبرها أساسية في تعميق التفاهم بين نخب تهدف إلى تقارب وجهات النظر بدلاً من «تثبيت» أرجحية أو قوّامة طرف على طرف آخر! في الجزء الثاني نعرض القضايا التي يوجد فيها تباينات في وجهات النظر والتي قد تنعكس سلباً على التفاعل الثقافي بين العرب والإيرانيين وبخاصة في بعض القضايا الساخنة على الصعيد السياسي.

أولاً: إشكالية بعض المفاهيم والمضامين في المصطلحات المدرجة في «الحوار»

يوجد في رأينا التباس كبير في عدد من المفاهيم والمضامين في العنوان الرئيسي لهذه الندوة وكأنها من المسلّمات. فالالتباس الأول يعود إلى التعميم من جهة وإلى القبول بذلك التعميم. فنسأل من باب الفضول ما هو المقصود بـ «الحوار الثقافي بين إيران والعالم العربي»؟ كيف يكون الحوار ثقافياً؟ هل هناك من أطروحة ما تجرى مناقشتها أم هناك مجمل قضايا يطرحها المشاركون وفقاً لتقديرهم لمناقشتها وتنتهي الأمور عند هذا الحد؟ فما هو الهدف من طرح «المواضيع»، وأي «مواضيع»؟ وما هو المرتقب؟ وإذا كانت هناك توصيات فمن يقوم بتنفيذها؟ وبما أن المواضيع المطروحة هي بين نخب عربية وإيرانية فكيف يمكن تعميم نتائج النقاشات على الجمهور الأوسع في الساحتين العربية والإيرانية؟

أما في المفاهيم المطروحة كمسلّمات على ما يبدو فإن التعميم يأتي بنتائج غير مفيدة. أولاً، نطرح مسألة الثنائية العربية – الإيرانية وكأن أمة بكاملها، أي الأمة العربية بكل تشكيلاتها السياسية والفكرية، تحاور بلداً واحداً. أليس ذلك نوعاً من التعالي؟ في هذا السياق نسأل هل المطروح «العرب» كعرب كما جاء في مضمون العنوان مقابل إيران؟ فهل العرب كتلة متجانسة سياسياً تواجه دولة واحدة متجانسة سياسياً أيضاً؟ لسنا متأكدين من ذلك. كما أن الثنائية تعطي ضمناً أن هناك تناقضاً بين العرب والإيرانيين بوجه عام وهذا ما قد لا نوافق عليه. هناك عدد من القضايا الخلافية وهي سياسية بامتياز وهناك أيضاً قضايا نتفق عليها وهي سياسية أيضاً، وبخاصة قضية فلسطين ومواجهة الكيان الصهيوني ودول الاستكبار والاستعمار القديم والجديد.

أما الخلاف الثقافي الذي يستوجب حواراً فلا ندري أين هو؟! فما هي القضايا الخلافية الثقافية؟ فتراثنا مشترك إن لم نقل موحداً مع خصوصيات تعود لتاريخ حكمه التواصل والتوافق على مدى أكثر من 1400 سنة. فعلى ماذا نتحاور «ثقافياً»؟ ففي إيران أو في بلاد فارس كانت أئمة الفقه الإسلامي، كما كان شيوخ اللسان العربي، كما كان أعلام الفلسفة والطب وعلوم الفلك والرياضيات العربية، فنحن كعرب لا نميّز بين العرقيات التي تكوّن الحضارة العربية – الإسلامية. فهذه الأعلام برزت عندما نطقت وكتبت بالعربية وهذا ما نعتزّ به. فالحضارة العربية – الإسلامية لها عدة روافد منها عربية ومنها فارسية ومنها هندية ومنها يونانية ومنها فرعونية وهذا ما يميّزها في رأينا عن حضارات أخرى. ولا نشاطر رأي من يعتبر أن طرفاً واحداً كان أكثر وزناً في تكوين الثقافة – العربية الإسلامية التي ننتمي إليها معظمنا إن لم نقل جميعاً. ولكن إذا كان هناك من يعتبر أن هناك تراتبية في تكوين الحضارة الإسلامية فنذكر أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين وليس عبثاً! الحضارة العربية – الإسلامية تراجعت عندما تراجع المكوّن العربي للسلطة السياسية. هذا لا يعنى أننا ندعو إلى إعادة «القوّامة» العربية بل إلى الندّية في التعاطي والتعامل وليس في التنافس بل في التكامل.

أما إذا كانت المسألة في التوجّه الديني، أي التباين بين ما يطرحه بعض أهل السنّة والجماعة وبين ما يطرحه بعض الشيعة، فالقضية الفقيهة محسومة عند أهل السنّة على الأقل بالنسبة إلى قبول الأزهر خلال حكم القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر بالمدرسة الفقهية الجعفرية أسوة بالمدرسة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية. أما إذا كان هناك تباين بين الأخوة الشيعة حول نظرية ولاية الفقيه – التي قد لا يجمع عليها أخوتنا الشيعة – فليس هذا الملتقى الحواري الإطار المناسب لمقاربتها. وأما إذا كانت المسألة هي التنافس بين السنّة والشيعة على كسب عقل وقلب العالم الإسلامي فنعتبر أن التنافس يقسم الأمة ويضعفها. على أي حال هناك مراجع عربية إسلامية كالأزهر والزيتونة والقيروان والنجف يمكن للمراجع الدينية في إيران التحاور معها لإنهاء التباين الفقهي الذي يتم توظيفه سياسياً وبنتائج كارثية على كل من العرب والمسلمين. وإذا كان التنافس سياسياً أو اقتصادياً بين الجمهورية الإسلامية في إيران والعرب عموماً فما علينا إلّا معالجته وفق معايير المصالح المشتركة سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو حتى في الأمن.

ثانياً: متن الحوار المطلوب

بناء على ما ذكرناه فإن الحوار المطلوب يتعلّق بتعميق التفاهم السياسي والاقتصادي. والتفاهم السياسي يعني معالجة الهواجس والمخاوف السياسية عند الطرفين. فبالنسبة إلى العرب هناك عدة قضايا نعتبر معالجتها أولوية:

القضية الأولى تتعلّق بالملف العراقي حيث الفتنة التي تعم المنطقة العربية بدأت في العراق مع الاحتلال الأمريكي والعملية السياسية المبنية على قاعدة طائفية مذهبية تغذّي العصبيات الفئوية. والفتنة القائمة في المنطقة لن تنتهي إلّا عند القضاء عليها في العراق. لدى الجمهورية الإيرانية دور كبير التأثير في عملية لمِّ الشمل العراقي وإعادة تشكيل السلطة السياسية على قاعدة أكثر توازناً بين المكوّنات السياسية والاجتماعية في العراق. كما لا بد من تثبيت مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية العراقية كمساهمة في إعادة التوازن.

القضية الثانية هي اليمن التي أتت لتعزّز شعوراً عند العديد من النخب العربية وحتى الشعبية بأن لإيران «مطامع» في جنوب الجزيرة العربية. الجمهورية الإسلامية في إيران تستطيع أن تسهم بشكل فعّال في إنهاء القتال وإعادة المبادرة السياسية لإنهاء النزاع الداخلي في اليمن. نعتقد أن إقفال الملف اليمني يساعد على إقفال الملف العراقي والسوري واللبناني للتفرّغ لمواجهة الكيان الصهيوني الذي ما زال يشكّل التهديد الأول.

القضية الثالثة هي في ضرورة الحوار السياسي مع مصر ومع حكومات الجزيرة العربية. فبالنسبة إلى التفاهم مع مصر فهو ضرورة لاستقرار المنطقة وأمنها. والحوار مع حكومة بلاد الحرمين هو ضرورة لاستقرار الخليج وأمنه. نعي أن الوضع الداخلي في بلاد الحرمين لا يسمح في اللحظة الراهنة المباشرة بالتفاهم، ولكن نعتقد أن هناك بعض الخطوات من جانب الجمهورية الإسلامية في إيران قد تسهم في كسر الجليد، منها التفاهم حول الملف اليمني.

القضية الرابعة هي أمن الخليج الذي يقلق دول مجلس التعاون. فجميع الدول في منطقة الخليج بما فيها الجمهورية الإسلامية محكومة بالواقع الجغرافي والتاريخي الذي يحتم التفاهم على قاعدة الندّية لا على قاعدة القوّامة. فلا نرى أي مبرّر لاستمرار النزاع على الجزر. فهناك حلول دبلوماسية قد ترضي جميع الأطراف.

في المقابل هناك قضية القواعد العسكرية الأمريكية والأجنبية الأخرى – فرنسية وبريطانية وحتى تركية مؤخراً – في عدد من دول الخليج التي تشكّل حزاماً يهدّد الأمن القومي الإيراني وبالتالي الاستقرار في المنطقة. فلا بد من صيغة مشتركة بين دول مجلس التعاون من جهة، يساندها النظام الإقليمي العربي والجمهورية الإسلامية من جهة أخرى، حول أمن الخليج من دون الخضوع للابتزاز الأمريكي أو الغربي. فالأحداث الأخيرة تشير بوضوح إلى أن تلك القواعد الأمريكية موجودة لا لأمن الخليج واستقراره بل لمصلحة الولايات المتحدة التي قد تختلف مصالحها عن مصالح دول المنطقة.

القضية الخامسة هي سياسية ونفسية في آن واحد. نعلم أن بعض الإخوة في الجمهورية الإسلامية في إيران يعتبرون العروبة مصدر تهديد لأمنهم. طبعاً، لا نرى ذلك، ونعي أنه مهما قلنا فلن يختفي ذلك الشعور عندهم. لكن نعتقد أن هذا الهاجس هو ما يفسّر العديد من السياسات والمواقف الإيرانية تجاه العرب بوجه عام وبخاصة تجاه التيّار العروبي. نذكّر هنا أن مؤسس حزب البعث اعتبر أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران هو انتصار للقومية العربية، كما أن القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر هو من ناصر الإمام آية الله روح الله الخميني ونهجه الثوري. فرمزان أساسيان للفكر السياسي العروبي اعتبرا في مراحل مختلفة أن الثورة الإسلامية في إيران نصر للعروبة.

نفهم مخاوف الإخوة في الجمهورية الاسلامية الذين لحقهم الأذى الكبير من جرّاء الحرب العراقية التي نعتبرها عبثية وضرّت بكل من العراق وإيران والعلاقات بين العرب والإيرانيين، ولكن يجب ألّا تتحوّل تلك الحرب إلى حجة لتبرير مواقف سلبية تجاه العروبة. خلال الهجمة الكونية على الجمهورية الإسلامية فإن التيّار العروبي الذي يمثّله المؤتمر القومي العربي وشبكة المؤتمرات والمنتديات الشعبية العروبية هي التي وقفت دائماً إلى جانب الثورة والجمهورية الإسلامية، بينما تيّارات إسلامية كانت قد دعمتها إيران لم تقف بجانبها وقت الضيق والحصار السياسي والإعلامي عليها.

في هذا السياق نلفت النظر إلى أن الشعور بفائض القوة قد يؤدّي إلى سوء تقدير في الموقف عند البعض ويسيء بالعلاقات. فبعض التصريحات المنسوبة إلى شخصيات قريبة من صنع القرار ألحقت ضرراً كبيراً في الثقة بين العرب والإخوة في إيران فأثارت مخاوف وشكوكاً متبادلة. نسعى بكل ما لدينا لتبديد هذه المخاوف والشكوك ولكن كما يقال في العامية في لبنان: إيد واحدة ما بتزقِّف!

أما في ما يتعلق بالقضايا التي نتفق عليها فهي عديدة وفي رأينا أقوى من القضايا التي يمكن أن نختلف عليها. ففي طليعة القضايا التي نتفق عليها هي قضية فلسطين. ومنذ قيام الثورة في إيران كان الموقف عند الإخوة في إيران تجاه فلسطين ومواجهة الكيان الصهيوني موقفاً عملياً نعتزّ به حتى الساعة. وربما الهجوم على الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة في الوطن العربي هو بسبب الموقف من القضية الفلسطينية التي يريد تصفيتها الكيان الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة والغرب عموماً وللأسف بعض الأطراف العربية.

القضية الثانية التي نتفق عليها هي قيام جبهة في مواجهة قوى الاستكبار من الاستعمار القديم والجديد والتي تضم أحرار العالم. فالتكامل بين العرب والمسلمين وأحرار العالم من دروس حقبة القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر وهذا أحد أبعاد مقولة ميشال عفلق في الثورة في إيران.

القضية الثالثة هي التعاون والتكامل في الاقتصاد والعلوم بين مكوّنات الكتلة التاريخية التي نسعى إلى ترسيخها على قاعدة الندّية والاحترام المتبادل وبخاصة أن المشتركات التاريخية لا يستطيع أحد أن يلغيها! فالأبعاد الجيوسياسية لهذا التكامل قد تغيّر وجه العالم لا المنطقة فقط.

هذه بعض القضايا التي تشكّل في رأينا حافزاً ملزماً لتغليب ثقافة الحوار وثقافة التفاهم لما فيه مصلحة استراتيجية لجميعنا.

 

قد يهمكم أيضاً  أثر العلاقات العمانية – الإيرانية في أمن دول مجلس التعاون بعد الربيع العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الحوار_العربي_الإيراني #العلاقات_العربية_الإيرانية #العرب_وايران #وجهة_نظر