أولاً: غياب مصطلح التعريب النفسي:

يؤكد اطلاعي على كثير من أدبيات الدراسات في الوطن العربي حول وضع اللغة العربية أن مصطلح «التعريب النفسي» ـ موضوع هذه المقالة ـ غائب بالكامل فيها. فعلى سبيل المثال، البيان الذي نشرته مؤسسة الفكر العربي بعنوان «لننهض بلغتنا» في مجلة العربي (كانون الثاني/يناير 2013) لا يكاد يتطرق إلى الجوانب النفسية في المجتمعات العربية التي لا تعمل لمصلحة استعادة اللغة العربية لمكانتها المشروعة في نفوس مواطني تلك المجتمعات وقلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم، والمؤسسات التابعة لها، ناهيك باستعمال مصطلح «التعريب النفسي» تحديداً. لقد اقتصرت فقرات هذا البيان على الحديث عن إجراءات مادية لحماية اللغة العربية والارتقاء بها، مثل تمويل دعم اللغة العربية، وتكريس يوم واحد في السنة للغة العربية، وسنّ القوانين لمصلحتها، ووجوب استعمال اللغة العربية الفصيحة الميسّرة في وسائل الإعلام الخاصة والعامة… يشير هذا الصمتُ عن الجوانب النفسية لقضية اللغة العربية إلى أن المشاركين في كتابة بيانهم تغلب عليهم الرؤية التقليدية في التعامل مع وضع اللغة العربية. وبعبارة أخرى، فقد أهملوا الإشارة على الأقل إلى دور العوامل النفسية والاجتماعية في التأثير سلباً أو إيجاباً في اللغة في المجتمع. ونركّز في هذه المقالة على تشخيص ظاهرة ضُعف أو فقدان التعريب النفسي لدى المواطنات والمواطنين في المجتمع التونسي ونظرائهم في معظم بقية مجتمعات المغرب العربي.

ثانياً: قصور معاني التعريب في المغرب العربي

يعني مصطلح «التعريب» في المجتمعات المغاربية (الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا) بعد الاستقلال، استخدام اللغة العربية في الحديث والكتابة بدل اللغة الفرنسية في الإدارات والمدارس ومعاهد التعليم العالي والجامعات وغيرها من القطاعات. ويتطلب التعريب بالضرورة في المغرب العربي إتقانَ اللغة العربية الفصحى نحواً وصرفاً وإملاءً وتعبيراً. ويمكن تسمية ذلك بالجانبيْن الشفوي والكتابي لعملية التعريب في تلك المجتمعات. وهكذا يمثل هذان الجانبان سلوكاً لغوياً لصالح اللغة العربية، كلغة وطنية أولى للبلدان المغاربية.

لكن عملية التعريب الكاملة في البلدان المغاربية هي أكثر من مجرد تحقيق الجانبيْن المشار إليهما في عملية التعريب. ويتمثل الجانب الآخر أو الثالث والأهم بالنسبة إلى نجاح مسألة التعريب بخلق علاقة نفسية طبيعية حارّة تربط المواطنين ومؤسسات المجتمعات المغاربية باللغة العربية. إن الدارس لهذه العلاقة بعد عقود من استقلال هذه المجتمعات، يجد أن اللغة العربية لا تحظى بعدُ عند أغلبية مواطنيها من المثقفين والمتعلّمين، على الخصوص، بالمكانة الأولى في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم، إذ إن وجود مثل تلك العلاقة الضعيفة يدلّ على أن عملية التعريب ينقصها أهم عنصر فيها، وهو الجانب الذي أطلقنا عليه أعلاه مصطلح «التعريب النفسي». ويعني هذا المفهوم عندنا وجودَ علاقة نفسية قوية لصالح اللغة العربية لدى المواطنات والمواطنين في أقطار المغرب العربي.

ثالثاً: وضع التعريب النفسي في المجتمع التونسي

كمثال ميداني لحالة ضعف التعريب النفسي في مجتمعات المغرب العربي، لنتعرّف إلى وضع التعريب النفسي في المجتمع التونسي الحديث، كنموذج لبقية المجتمعات المغاربية. فمما لا شك فيه أن حالة التعريب النفسي في بقية المجتمعات المغاربية (ما عدا ليبيا) تتشابه كثيراً أو قليلاً مع الحالة التونسية؛ وهي حالة مجهولة يصمت عنها العامةُ والخاصة على حدّ سواء في تلك المجتمعات. إن الجهل وعدم الوعي بهذا الجانب الشديد الأهمية من عملية التعريب السليم والكامل يجعلان الفشل في عملية التعريب أمراً شبه حتمي.

إن الباحث في المسألة اللغوية في المجتمع التونسي الحديث يجد فيه حالة ضُعف التعريب النفسي لدى معظم التونسيات والتونسيين. ويعني مصطلح «ضعف التعريب النفسي» عندنا التالي: لا تحتل اللغة العربية (اللغة الوطنية) في المجتمع التونسي، نفسياً وعفوياً، المرتبة الأولى في نفوس معظم هؤلاء وقلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم، خاصة المثقفات والمثقفين والمتعلمات والمتعلمين منهم. فمن منظور علم النفس الاجتماعي يمكن القول إنه يوجد قبل الثورة وبعدها موقف نفسي جماعي عام لدى جلّ التونسيات والتونسيين لا يسمح لهم بتطبيع علاقتهم مع لغة دستورهم الذي يؤكد في أول فقراته أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية/الوطنية الوحيدة للبلاد التونسية. ويعني التطبيع هنا أن تصبح العلاقة بين التونسيات والتونسيين واللغة العربية من نوع العلاقة العضوية التي تربط عادة بين المجتمعات ولغاتها الوطنية والمتمثلة باستعمال اللغة الوطنية في كل قطاعات المجتمع، من ناحية، والشعور نفسياً بالاعتزاز الكامل باستعمالها والدفاع عنها في دوائر العلاقات الخاصة، وفي المجالات العامة، من ناحية ثانية. ومن ثمّ، يجوز القول إن مفهوم «التعريب النفسي» هو إضافة جديدة إلى مفاهيمنا الأخرى، مثل التخلّف الآخر، والازدواجية اللغوية الأمّارة، والمزج اللغوي لدى النساء/الفرونكوأراب الأنثوية[1].

رابعاً: القمة والقاعدة والاستعمار اللغوي النفسي

يكفي هنا ذكر عشرة سلوكات لغوية تونسية لدى القمة والقاعدة قبل الثورة وبعدها، تشير كلها إلى الحضور القوي للاستعمار اللغوي الفرنسي المهيمن بمستوييْه اللغوي والنفسي:

1 ـ عُرف في العهد البورقيبي أن مَحاضر اجتماعات الوزراء كانت تكتب بالفرنسية. كما يشهد مرافقو الرئيس بورقيبة أنه كان يستخدم الفرنسية عوضاً من العربية في لقاءاته مع القادة الأمريكيين أو الألمان، على سبيل المثال، أي تقع ترجمة كلام الرئيس بورقيبة إلى مخاطَبيه من الفرنسية، وليس من اللغة العربية/الوطنية إلى الإنكليزية أو الألمانية. وبكل تأكيد لا يقتصر هذا السلوك اللغوي الاستعماري على بورقيبة فقط، وإنما هو مجرد رأس جبل الجليد للنخب السياسية والثقافية التونسية والطبقات الاجتماعية العليا والمتوسطة، خاصة في المجتمع التونسي المعاصر.

2 ـ خاطب الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي في قصر قرطاج في عام 2012 نظيره الإيطالي باللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) بدلاً من اللغة العربية/الوطنية.

3 ـ لقد صرّح وزير التربية محمود المسعدي في المرحلة البورقيبية في مقابلة مع مجلة الحزب الحاكم «Dialogue» يومئذ بخصوص عدم تعريب التدريس باللغة العربية في المدارس التونسية قائلاً: يجب تدريس التلاميذ التونسيين باللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) وتعليمهم اللغة العربية.

4 ـ تتعامل جلّ البنوك التونسية حتى يومنا هذا مع زبائنها التونسيين باللغة الفرنسية.

5 ـ يستعمل كثير من الجمهور التونسي عبارة «ça va»، عوضاً من كلمة «لا بأس» التونسية.

6 ـ لا يكاد يستعمل التونسيون والتونسيات إلا اللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) في الحديث عن أرقام الأشياء. وهذا ما يشهد عليه، مثلاً، حديثهم عن شبكة المترو في تونس العاصمة.

7 ـ نظّمت جمعية النساء الديمقراطيات لقاء في 28/1/2012 في بيت الحكمة في ضواحي تونس العاصمة، ليتحدث فيه خاصة بعض النساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة في المنطقة العربية الإسلامية. وقد اختار هؤلاء جميعاً اللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) في القيام بمداخلاتهن، رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي للندوة.

8 ـ تكاد التونسيات لا يستخدمْن إلا اللغة الفرنسية (لغة المستعمِر) في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.

9 ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/شيكاتها، إلا باللغة الفرنسية (لغة المستعمِر)، بحيث أصبح ينظر إلى من يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف أو متخلّف.

10 ـ يُلاحظ على الإذاعات والقنوات التلفزيونية العربية الوطنية بعد الثورة استخدام أكثر للغة الفرنسية مما كان عليه الحال قبل 14/1/2011. وهو ما نجده، مثلاً، عند المذيعة التونسية المقدمة للأخبار في الإذاعة الوطنية التي استعملت في شهر أيار/مايو 2013 كلمة «plutôt» عوضاً من الكلمة العربية «بل».

خامساً: جذور مشكلة ضُعف التعريب النفسي

وحتى نسمّي الأشياء بأسمائها، يمكن القول إن ضعف التعريب النفسي عند التونسيات والتونسيين يمثل مشكلة في المجتمع التونسي الحديث، إذ إن هذا الأخير ليس في حالة طبيعية وسليمة مع لغته الوطنية، وذلك بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.

والسؤال العلمي المشروع في هذا الصدد هو: ما الذي أدى ويؤدي الى حالة اختلال العلاقة العضوية بين اللغة العربية والمجتمع التونسي الحديث بعد رحيل الاستعمار الفرنسي؟ هناك ثلاثة عوامل رئيسية وراء هذا الوضع غير الطبيعي في علاقة المجتمع التونسي بلغته الوطنية:

1 ـ أدخل الاحتلال الفرنسي إلى البلاد التونسية لغته في الإدارات والمدارس التونسية، وفي المجتمع التونسي المحتل بصفة عامة، الأمر الذي أقصى جزئياً أو بالكامل حضور اللغة العربية في تلك الميادين وغيرها.

2 ـ لم تكن القيادة البورقيبية لمدة أكثر من ثلاثة عقود (1956 ـ 1987) متحمّسة لمصلحة التحرر (الاستقلال) اللغوي الثقافي. بل يمكن القول إنها كانت تعتبر المحافظة على الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي أمراً محموداً وتقدمياً. يتفق هذا مع ما نادى به في شهر شباط/فبراير 2005 بعضُ أعضاء الجمعية الفرنسية من أن للاستعمار الفرنسي دوراً إيجابياً (Le Rôle positif du colonialism).

3 ـ إن التكوين التعليمي المزدوج اللغة والثقافة (فرنسية ـ عربية) لأغلبية هؤلاء في عهديْ الاستعمار والاستقلال، قد أدى، ويؤدي إلى تمتع اللغة الفرنسية وثقافتها بسمعة واحترام يتفوقان نفسياً واجتماعياً عند معظم التونسيات والتونسيين على سمعة ومقام اللغة العربية وثقافتها[2]. ومما لا ريب فيه أن العامليْن الثاني والثالث هما أهم كثيراً من العامل الأول في تفسير موقف ضعف التعريب النفسي عند جُلّ التونسيات والتونسيين اليوم. وهذا يعني أن انتشار حالة ضعف التعريب النفسي في المجتمع التونسي أمس وبعد الثورة هو في المقام الأول من صُنع أهل البلد، كما يُقال، وبقيادة النخب السياسية والثقافية التي تُهيمن وتتسلط عليها لغة المستعمر وثقافته. ونظراً إلى أن اللغة العربية هي التي تعطي تونس مشروعية الانتماء إلى الأمة العربية، فإن وضع لغة الضاد المشار إليه لا يكاد يؤهل الثورةَ التونسية لكي تكون رائدة الربيع العربي[3].

سادساً: التحرر اللغوي الثقافي بين بورقيبة وبومدين

يفسّر منظور العلوم الاجتماعية الوضع غير السليم في علاقة التونسيات والتونسيين باللغة العربية بأنه يعود في جانب كبير منه إلى عوامل سياسية. فقد غرست القيادة البورقيبية في عقلية التونسيات والتونسيين فكرة أن الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي ليس بالاستعمار، ومن ثم فليس من الصواب التحرر منه، كما هو الشأن بالنسبة إلى التحرر من الاحتلال العسكري والسياسي والفلاحي. ونتيجة لذلك، فإن تحليل خطابهم بكل أصنافهم تقريباً لفترة ما بعد الاستقلال، وما بعد الثورة، لا نجد فيه عبارات «الاستقلال اللغوي الثقافي» أو «التحرر اللغوي الثقافي». والسؤال المعرفي النفسي والاجتماعي هنا هو: لماذا تغيب بالكامل مثل تلك العبارات في المجتمع التونسي المستقل، وتحضر بقوة في المقابل العبارات في مناسبات عديدة، كعيد الجلاء، وعيد الاستقلال، وعيد استرجاع الدولة التونسية أراضيها من الفرنسيين؟

فالإجابة المباشرة عن ذلك هي أن موقف القيادة البورقيبية لم يكن يعتبر الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي أمراً سيئاً، بل أمراً إيجابياً بالنسبة إلى المجتمع التونسي، كما ذكرنا من قبل، بينما نجد الأمر مختلفاً في الجزائر في عهد الرئيس هواري بومدين، إذ نادى بومدين وقيادته بأن التحرر اللغوي الثقافي من الاستعمار الفرنسي هو جزء لا يتجزأ من عملية التحرر الوطني الحق الذي يشمل الجانب اللغوي الثقافي، ومن ثمّ البعد النفسي. وقد سمح هذا الموقف القيادي السياسي الجزائري بانتشار وعي لدى عدد كبير من الجزائريين بأهمية الاستقلال اللغوي الثقافي عن المستعمر الفرنسي. ومنه جاءت، مثلاً، سياسة تعريب لافتات المحيط الجزائري، كأفضل ما رأيتُ في مدن وقرى أقطار الوطن العربي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وما تـأسيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية، إلا مثال آخر على تأثير قيادة بومدين في نشر وعي نفسي واجتماعي أكبر بين الجزائريين للنضال من أجل كسب رهان التحرر اللغوي الثقافي، كأهم معلم من معالم الاستقلال والتحرر الوطني الكامل. ويصلح ذلك الموقف المتحمّس للتعريب لتفسير قرار الجامعات الجزائرية لتعريب تدريس العلوم الاجتماعية فيها. وهو وضع أفضل مما نجده في الجامعات التونسية والمغربية، مثلاً.

سابعاً: أمثلة تونسية أخرى على ضعف التعريب النفسي

إن التشخيص المختصر لبعض معالم فقدان أو ضعف التعريب النفسي، وأسبابه، لدى معظم التونسيات والتونسيين بعد أكثر من خمسة عقود من الاستقلال، وبعد ثورة 2011، تعكسه السلوكات اللغوية اليومية التي لا تكاد تحصى. فأغلبية هؤلاء، كما ذكرنا، لا تستخدم الحروف العربية في كتابة صكوكها المصرفية/الشيكات وبطاقاتها المهنية، وفي تواقيعها، وفي تبادل أرقام هواتفها. وفي هذا الصدد، يصف الصحافي التونسي محمد بن رجب في جريدة الصباح انسلاخ التونسيات عن اللغة العربية، كما تعكس ذلك اللهجة التونسية اليوم. فينقل لنا النصّ الحرفي للهجة التي تحدّثت بها تونسية إلى المذيعة التي سألتها عن انطباعاتها عن حفلة المغنية التونسية، صوفية صادق، في مسرح مدينة قرطاج: «الحفلة السواري طيارة فريمون، لاشانتوز صوفية عندها بيلو فوا سي فريمون فورميدابل، يلزم التوانسة يحبّوا الفودات متاعهم، أُونا مار من لي ليباني الجدد، سي فريمون طيارة، صوفية طيارة طيارة، والسواري ميرفايوز» ونظراً إلى الاستخدام المكثّف للفرنسية في حديث تلك التونسية، فمن المناسب ترجمة كلمتها حتى يفهم بقية العرب ما قالته: «كانت الحفلة رائعة حقاً. فللمطربة صوفية صوت جميل، فهو خارق للعادة. يجب على التونسيين حب مطرباتهم ومطربيهم المشهورين. كفانا من المغنّين اللبنانيين الجدد، فصوفية ممتازة والحفلة رائعة». ويعلّق بن رجب على هذا الوضع بـ «إنها (اللهجة التونسية) الآن تتشكل شيئاً فشيئاً، وتكتسح اللهجة الدارجة التونسية، مفقدة إياها روحها وعمقها وانغراسها في العمق الاجتماعي والشعبي. وما يزعج حقاً هو أن لا أحد يعمل على إيقاف هذا التيار الذي يتحرك بقوة جارفاً اللهجة التونسية التي يعتبرها المختصّون أقرب لهجة إلى اللغة العربية الصافية». إن تلك الممارسات اللغوية التونسية تعكس بالتأكيد الكثير من التحقير للغة العربية، أي اللغة الوطنية. وتفيد دراسات العلوم الاجتماعية بأن اللغة الوطنية هي بطاقة التعريف لهويات الشعوب. ويمثل الاتحاد الأوروبي نموذجاً لاحترام لغات شعوبه، وهويّاتها. وتشير تلك الأمثلة إلى ضُعف أو فقدان التعريب النفسي لدى سواد الشعب التونسي، وفي المقدمة النساء، وما إلى ذلك من انعكاسات سلبية على علاقة الأطفال والأجيال التونسية الشابة باللغة العربية.

ثامناً: العلاقة الحميمة بين اللغة والهوية

ولا يقتصر الأمر هنا على مجرد وضع العلاقة غير الطبيعية بين التونسيين ولغتهم الوطنية، بل تؤثر هذه الحالة في هويات التونسيين وانتماءاتهم الثقافية والحضارية، إذ إن اللغة ليست وسيلة تخاطب مع الآخرين فقط، بل لها انعكاسات واسعة على هوية الأفراد والجماعات والمجتمعات. ومن ثم، فمن السذاجة الاعتقاد أن نتائج الازدواجية اللغوية كلها خير للتونسيات وللتونسيين[4]، فمعطيات الواقع لا تُقرّ بذلك، إذ أصبحت اللغة الأجنبية صاحبة المكانة الأولى في نفوس المزدوجي اللغة وقلوبهم وعقولهم واستعمالاتهم. ففي هاته الحالة يُولد موقف التحقير للغة الوطنية من جهة، وتصاب هويات الشعوب بالتصدّع والارتباك والتذبذب، من جهة ثانية[5]. فمما لا شك فيه أن اللغة هي أبرز معلم لهويات الشعوب. فمن يستبدل لغته بلغة غيره، يضع قطعاً هويته في حالة ارتباك واضطراب على الأقل، فاللغة هي عنوان الهوية وإحدى أدوات تشكيلها. من هنا يكون التنازل عن اللغة الوطنية (اللغة العربية) أخطر مما نتصوّر، لأنه تنازل يقترب كثيراً من التنازل عن الهوية ذاتها. ويمثل ذلك، بالتأكيد، مدخلا واسعاً إلى افتقاد بوصلة الانتماء الثقافي والحضاري في عصر العولمة على الخصوص. ومما لا ريب فيه أن القيادة البورقيبية أثّرت كثيراً في ميلاد علاقة غير طبيعية بين المجتمع التونسي واللغة العربية لغته الوطنية، وتصلّب عودها. وربما يصدق قول الفيلسوف الفرنسي ديديرو (Diderot) عن سياسات القيادة البورقيبية إزاء اللغة العربية: «عندما نبدأ سيرنا في طريق خاطئ، فكلما نتقدم في المشي نتيه أكثر» (Quand on suit une mauvaise route, plus on marche, plus on s’égare).

يأتي تيهان المجتمع التونسي في علاقته باللغة العربية، لغته الوطنية، بسبب البداية الخاطئة والمتمثلة بعدم وعيه بأن كسب رهان علاقة حميمة مع اللغة العربية (التعريب النفسي) بعد استعمار لغوي ثقافي فرنسي شرس، لا يتم من دون الفوز في كسب رهان التعريب النفسي، كما وصفناه هنا. وبعبارة هذا الفيلسوف، فإن تيه المجتمع التونسي في علاقته مع لغته العربية، سوف يستمر ويزداد خطراً ما لم يُصلح التونسيون نفسياً واجتماعياً بالكامل علاقتهم مع لغة دستور بلادهم، فيصبح «التعريب النفسي» متجذّراً ومنتشراً في صلب الشخصية القاعدية التونسية لكل الفئات والطبقات الاجتماعية.

تاسعاً: التوعية بداية التغيير

تفيد تلك الملاحظات أن علاقة المجتمع التونسي بلغته الوطنية تمثل مشكلاً لا يكاد التونسيات والتونسيون يشعرون به. ويرى علماء النفس والاجتماع أن الوعي بالشيء هو الخطوة الأولى لإمكانية إحداث التغيير حول ذلك الشيء وما يرتبط به. ويأتي تشخيص علاقة التونسيين باللغة العربية في هذه المقالة كمحاولة لرفع درجة وعي التونسيين بجوانب المشكلة التي يعيشونها مع اللغة العربية، لغتهم الوطنية. فبعضهم يمارس إقصاء استخدامها بالكامل شفوياً وكتابياً، والبعض الآخر يخجل من استخدامها، وغالبيتهم تقوم بمزجها بكثير من الكلمات والجمل الأجنبية، شفوياً وكتابياً (الفرونكوأراب). ويمثل هذا الوضع حالة مرضية في علاقة المجتمع وأفراده نفسياً واجتماعياً بلغتهما، إذ إن الحالة السوية هي تلك التي يستخدم فيها كل أفراد المجتمع بكل عفوية وراحة نفسية واعتزاز لغتهم الوطنية في كل قطاعات أنشطتهم في المجتمع. فهذه الحالة غير السوية بين المجتمع التونسي واللغة العربية، لغته الوطنية، بدأت في عهد الاستعمار الفرنسي، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وتفيد المعطيات السابقة أن التونسيين غير واعين، إلى حدّ كبير، أن التحرر من فقدان التعريب النفسي هو تحرر أصيل من الجانب الرمزي واللغوي والثقافي للاستعمار. إنه التحرر الأهم، لأنه يمثل تحرر النفوس الذي من دونه تنتكس إرادة الحياة لدى الشعوب.

عاشراً: إطار فكري تنظيري للبحث

بعد إلقاء الضوء على مقولة هذا البحث من خلال معطيات وتحليلات عديدة، كما وردت سابقاً، نودّ الآن النظر إلى إمكانية إنشاء منظور فكري تنظيري لموضوع هذه المقالة. وللقيام بذلك نحتاج إلى معرفة معنى النظرية في العلوم الاجتماعية والإنسانية على الخصوص، من جهة، والمنهجية التي بواسطتها يمكن التوصل إلى بناء نظريات في هذه العلوم، من جهة أخرى.

أما بالنسبة إلى تعريف «النظرية»، فيوجد عدد هائل من التعريفات لكلمة «نظرية» في العلوم الإنسانية والمجتمعية. ويعتبر أحدُ هذه التعريفات أن النظرية هي مجموعة من المفاهيم والفرضيات التي تهدف إلى تفسير ظواهر معينة. ويرى تعريف آخر أن النظرية الاجتماعية (Social Theory) هي محاولة لتفسير معالم الحياة الاجتماعية. وبخصوص إقامة بناء فكري نظري، تتفق خطوات مسيرة هذه الدراسة مع روح البحوث العلمية الحديثة ومنهجيتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، يرى علم الاجتماع وجود علاقة وثيقة بين ميلاد المفاهيم عند الباحث الاجتماعي، من ناحية، وإمكانية وصوله إلى إنشاء نظرية حول الظواهر المدروسة، من ناحية ثانية. وتعرّف كلمة «المفهوم» في علم الاجتماع بأنها عبارة عن مصطلح يشير، إما إلى وجود علاقات بين الأشياء، أو هي تصف خاصيات لها. ومن ثم، فـ «المفاهيم: ليست بالأقوال التفسيرية حول الأشياء، وبالتالي فهي ليست بالأقوال الصادقة أو الكاذبة حولها، بل تتمثل وظيفة المفاهيم بتقديم مجموعة مفردات لغوية لنظرية ما، وتحديد موضوعها. وعند العثور على وجود نسق في العلاقات بين المفاهيم، فإن ذلك يبشر بظهور معالم نظرية جديدة. وهكذا تتجلّى أهمية ابتكار المفاهيم والنظريات في تطور مسيرة علوم الإنسان والمجتمع وتقدمها، وغيرها من العلوم. ويرجع أ. فريد العطاس تخلّف العلوم الاجتماعية والإنسانية في آسيا، وفي العالم الثالث، بصفة عامة، إلى ما يسمّيه بـ «التبعية الأكاديمية والفكرية» للعلوم الاجتماعية الغربية التي يتبنّاها العلماء والباحثون في المجتمعات الناميــة[6]. ومن الواضح أن بحثنا يقدم بعض المفاهيم المبتكرة في دراسة المسألة اللغوية في المشرق والمغرب العربيين. فالتعريب النفسي والازدواجية اللغوية الأمارة والازدواجية اللغوية اللوامة هي مفاهيم جديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية العربية والغربية، على حدّ سواء. وكما أشرنا سابقاً، فمنظور علم الاجتماع يرى إمكانية وجود علاقة وثيقة بين ميلاد المفاهيم وإنشاء النظريات. فحسب تعريف النظرية المشار إليه سابقاً، فإن النظرية الاجتماعية هي إطار فكري يساعد على تفسير ظاهرة أو أكثر في المجتمع. ومن ثم، فهل يمكن الظفر بـ «نظرية» ذات علاقة وثيقة بالمفاهيم الرئيسية الجديدة في هذا البحث، وقادرة في الوقت نفسه على تفسير وضع اللغة العربية المتردّي في المجتمعات التونسية والجزائرية والمغربية؟ فالطريق إلى إنشاء نظرية من هذه المفاهيم تنطلق من البحث عن نوعية العلاقة التي يمكن أن توجد بين التعريب النفسي وكل من مفهومي «الازدواجية اللغوية الأمّارة»، و«الازدواجية اللغوية اللوّامة». وللتعرّف إلى طبيعة تلك العلاقة، نذكر نوعين من التعريب النفسي:

1 ـ التعريب النفسي العادي المتمثل بوجود علاقة حميمة قوية في المجتمع العربي بين المواطنين واللغة العربية/الوطنية. وهذه هي العلاقة الطبيعية بين الشعوب ولغاتها الوطنية.

2 ـ التعريب النفسي الضعيف الذي يوجد بسبب ضعف أو فقدان العلاقة الحميمة القوية بين العرب ولغتهم الوطنية. ويرجع ضعف التعريب النفسي، خاصة في المجتمعات المغاربية، إلى أكثر من سبب:

أ ـ تعلم لغة أجنبية/الفرنسية وإتقانها أفضل من اللغة الوطنية/العربية.

ب ـ تمثل اللغة الأجنبية/الفرنسية لغة المستعمر أثناء الاستعمار وفي عهد الاستقلال.

ج ـ تمتع اللغة الأجنبية/الفرنسية بسمعة ومكانة اجتماعية أفضل من اللغة الوطنية/العربية.

فحضور اللغة/اللغات الأجنبية مع اللغة العربية بتلك الصفات الثلاث، يفترض أن يكون عامل تشويش وإرباك لعلاقة المغاربيين باللغة العربية/الوطنية[7]. وكنتيجة لذلك، يلاحظ أن أسباب التعريب النفسي الضعيف [أ، ب، ج] تقترن بوجود الازدواجية اللغوية الأمّارة، أي أنه كلما كان التعريب النفسي ضعيفاً وهشّاً لدى المواطنين المغاربيين، كان جنوحهم إلى الازدواجية اللغوية الأمّارة قوياً وجذاباً، كما شرحنا ذلك في الحالة التونسية. والعكس صحيح: كلما كان التعريب النفسي قوياً لدى أفراد المجتمعات المغاربية [كما هو الحال عند المتعلّمين والمثقفين الزيتونيين في تونس]، كانت الازدواجية اللغوية اللوامة قوية الحضور وسائدة لدى الغالبية الساحقة فيها. وبعبارة أخرى، فهاتان الازدواجيتان اللغويتان هما نتيجتان لـ «قوة» أو «ضعف» التعريب النفسي لدى الأفراد والجماعات والطبقات الاجتماعية والمؤسسات في المجتمعات المغاربية. فالفرضية المطروحة هنا ترى أن العلاقة بين التعريب النفسي والازدواجيتين اللغويتين هي من نوع العلاقة السببية، أي أن ضعف أو قوة التعريب النفسي هو المحدّد، وبالتالي المفسّر لطبيعة الازدواجية اللغوية السائدة في المجتمعات المغاربية. وبالتأكيد، توجد كذلك علاقة سببية متينة بين ضعف التعريب النفسي واستمرار كتابة الشيكات والتواقيع ورسائل الهواتف الجوالة باللغة الفرنسية من طرف غالبية التونسيين والجزائريين والمغاربة. والقائمة طويلة للسلوكات اللغوية المهينة للغة العربية التي يؤثر فيها بقوة عامل ضعف التعريب النفسي لدى هؤلاء المواطنين العرب. إذاً، فهناك مشروعية صلبة لتبنّي فكرة التعريب النفسي كإطار فكري/نظرية لتفسير العديد من الظواهر اللغوية التي يعرفها الوطن العربي اليوم ضد أو لصالح لغة الضاد. ويجوز تلخيص مقولة نظرية التعريب النفسي في هذا البحث بشيء من التصرّف في بيت أحمد شوقي:

صلاح أمر لغة الضاد للتعريب النفسي مرجعه

فيا ليتنا نقوّم به تردّي حال لغتنا فتستقم.

حادي عشر: أضواء فكرية على علاقة الهويات باللغات

يُنتظر أن يفرز التعريب النفسي القوي انتماءً قوياً إلى الهوية العربية. ويرتكز ذلك على ملاحظات وأسس فكرية نظرية حول علاقة اللغة بمسألة الهوية لدى الإنسان كإنسان. ولمحاولة الاقتراب من التطبيق الميداني للإطار النظري المطروح في المبحث السابق، نودّ ذكرَ بعض الملاحظات حول علاقة اللغات بهويات الأفراد والمجتمعات، والتي يمكن إيجازها في ما يلي:

1 ـ تعتبر اللغات المختلفة للأفراد والجماعات والمجتمعات والشعوب، محدداً بارزاً للهويات الفردية والجماعية المتنوّعة التي تعرفها القارات الخمس.

2 ـ يتجلّى بامتياز ثقل عامل اللغات في تحديد الهويات في تلك الشعوب والمجتمعات التي توجد فيها أكثر من لغة. فعلى سبيل المثال، توجد لغتان رسميتان في المجتمع الكندي، وهما اللغتان الإنكليزية والفرنسية. كما توجد لغتان رئيسيتان في المجتمع البلجيكي، وهما الفلندرية والفرنسية. أما في المجتمع العراقي، فاللغتان الرئيسيتان هما العربية والكردية. وتعتبر اللغتان العربية والأمازيغية اللغتين الوطنيتين في المجتمعين الجزائري والمغربي. ويلاحظ أن اللغات المحلية الخاصة في هذه المجتمعات المزدوجة اللغة هي التي تحدد أكثر هويتهم. فسكان مقاطعة كيبك في كندا يعرّفون هويتهم في المقام الأول بلغتهم الفرنسية، وكذلك الشأن لدى أكراد العراق، الأمر الذي جعل الكيبكيين والأكراد ينادون حتى بالانفصال السياسي عن مجتمعيهما الكبيرين: كندا والعراق[8].

3 ـ ليست اللغة العامل الوحيد في تحديد هويات الأفراد والجماعات والمجتمعات. فالدين واللون والعرق هي أيضاً عوامل محدّدة للهويات. لكن اللغة المشتركة بين الناس تؤدي دوراً حاسماً في خلق هوية جماعية في مجتمع ينتمي أفراده وفئاته إلى ديانات وأعراق وألوان مختلفة.

4 ـ إن أهمية اللغات في إنشاء الهويات في الحالات الثلاث السابقة الذكر، تشير إلى أن اللغات الأصلية/المحلية، وليست اللغات الأجنبية الوافدة إلى تلك المجتمعات، هي المحددة لهويات الأفراد والمجتمعات. ومن هنا، تطرح مسألة تأثير اللغة/اللغات الأجنبية في قضية الهويات في المجتمعات المستقبلة والمستعملة للغات الأجنبية. يتم مجيء لغة/لغات أجنبية إلى المجتمعات المعاصرة كنتيجة للاستعمار أو الهيمنة الخارجية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تنافس بين اللغة/اللغات الوطنية/المحلية واللغة/اللغات الأجنبية. وهذا ما يشهد عليه دخول اللغة الفرنسية في المجتمعات المغاربية منذ احتلال فرنسا للبلاد الجزائرية في مطلع القرن التاسع عشر. فالحضور القوي للغة الفرنسية في الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا أثناء الاحتلال الفرنسي، وفي عهد الاستقلال، يمثل منافسة شديدة للغات الوطنية لتلك الشعوب: اللغة العربية، واللغة الأمازيغية. ونظراً إلى أن الفرنسية ليست باللغة الوطنية/المحلية في مجتمعات المغرب العربي، فإن وجودها الواسع في هاته المجتمعات لم يجعل الغالبية الساحقة من سكانها يرغبون في الانتماء إلى الهوية الفرنسية. ولكن هذا لا يعني أنه ليس للغة الفرنسية تأثيرات أخرى في هذه المجتمعات، وفي طليعتها التأثير السلبي في علاقة الجزائريين والتونسيين والمغاربة والموريتانيين باللغة العربية، كما رأينا ذلك في دراسة حالة المجتمع التونسي في هذا البحث. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن التأثير السلبي في اللغة العربية المتمثل بإقصائها من الاستخدام في عدة ميادين، والنظر إليها بدونية (فقدان التعريب النفسي) عند كثير من سكان المغرب العربي، قد يؤدي عند الكثيرين إلى تشويش وإرباك بالنسبة إلى الانتساب الواضح والقوي إلى الهوية العربية، وذلك بسبب العلاقة الوثيقة بين اللغة والهوية. وهذا ما تشهده الساحة التونسية بعد الثورة، إذ توجد أقلية تونسية فرانكوفونية، لغة وثقافة، تشكك في انتساب الشعب التونسي إلى الهوية العربية الإسلامية، وهو ما يشير إلى أنها تشكو من أعراض أزمة هوية لغوية ثقافية.

وللاقتراب أكثر من المعطيات حول علاقة اللغات بهويات الأفراد والمجتمعات، يمكن ذكر بعض الأمثلة المحسوسة. تشير الملاحظات الميدانية وبعض البحوث إلى وجود علاقة وثيقة بين اللغات وهويات الشعوب. يتضح ذلك، مثلاً، في مجتمعات الاتحاد الأوروبي التي تتحدّث عدة لغات وطنية[9]. فكل شعب من تلك الشعوب يعرّف هويته بواسطة لغته الوطنية. فالألمان والإنكليز والفرنسيون والإيطاليون يعبّرون عن هوياتهم الجماعية عبر لغاتهم الوطنية التي يتحدّثونها ويتعاملون بها في الكتابة. فنجد أن اللغات الوطنية في تلك المجتمعات هي لغات التعليم في مراحله المختلفة، الأمر الذي يعزز العلاقة الوثيقة بين اللغات الوطنية وهويات الشعوب الأوروبية المتنوعة، أي أن التدريس باللغات الوطنية في كل مراحل التعليم يعتبر أمراً طبيعياً وواجباً بالنسبة إلى المحافظة على تأصيل طبيعي للعلاقة بين اللغات الوطنية والهويات في تلك المجتمعات. وهكذا، يجوز وصف سياسة الاقتصار على التعليم باللغات الوطنية فقط بأنها سياسة طبيعية وأصيلة، وذات مشروعية قوية لدى المجتمعات صاحبة السيادة اللغوية الكاملة.

أما الوضع في بعض المجتمعات المعاصرة من العالم الثالث، على الخصوص، ومن ضمنها المجتمعات العربية، فإن التعليم في بعض مراحله أو كلها لا يتم باللغات الوطنية، بل بلغات أجنبية طالما أنها لغات المستعمر القديم أو لغات القوى العظمى صاحبة الهيمنة الواسعة في العصر الحديث، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا، تطرح مسألة تأثير التدريس باللغات الأجنبية في هويات الشعوب. والمجتمع التونسي الحديث مثال على ذلك. فهو يدرّس العلوم باللغة الفرنسية فقط ابتداء من مرحلة التعليم الثانوي، ويستخدمها أيضاً بطريقة واسعة في عدة قطاعات اجتماعية ومؤسسات وطنية، وفي الشؤون الشخصية لكثير من التونسيات والتونسيين. ومن ثم، فالبحث في هذه الدراسة لا يقتصر فحسب على التعرّف إلى تأثير اللغة الفرنسية، كلغة تعليم، في الهوية العربية في المجتمع التونسي، بل يهتم بالتوازي بدراسة تأثير الانتشار الواسع للغة الفرنسية في هذا المجتمع في مسألة الهوية العربية فيه. لقد سبقت الإشارة سابقاً في الملاحظة الرقم (4) إلى أن حضور اللغات الأجنبية/غير الوطنية/المحلية في المجتمعات لا يؤثر كثيراً في هويات أغلب المواطنين فيها.