في ظل ما تشهده المنطقة العربية من حراك وتحولات في المشهد والواقع العربي، عدة تساؤلات تطرح نفسها حول «ربيع» التغيير العربي في ما إذا كان مقدمة للفوضى الخلاقة التي تبنتها الإدارة الأمريكية أو أنه صنيعة مواقع التواصل الاجتماعي ضمن سياق مخططات أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، أو أنه كان رد فعل منطقياً لشعوب عاشت حالة من الاحتقان والتهميش لعدة عقود من الزمن.

فهل الربيع العربي مجرد انفجارات لحظية سرعان ما تخمد مستجيبة لتدابير ترقيعية من قبيل إدارة الأزمات وامتصاص قوة الدفع الجماعية، أم هي نقطة بداية جديدة تؤرخ لزمن جديد؟

في ردّ جيلز كيبل على سؤال حول ما إذا كان بعد الربيع العربي شتاء إسلامي، وهل هذا وصف متسّق مع الواقع، قال أستاذ العلوم السياسية الفرنسي والخبير في الإسلام والوطن العربي: بل هو مجرد تمثيلنا لهذا الواقع حيث إن استخدامنا لتعبير «الربيع» لوصف الثورات العربية كان يعكس ربيع 1968 في أوروبا، غير أنه في واقع الحال لا يمكن اختزال الواقع في صورة لا الربيع ولا الشتاء[1].

لا شك في أن الثورات العربية أو الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت عدداً من البلدان العربية خلال السنوات القليلة الماضية، والتي اصطلح على تسميتها إعلامياً بـ «الربيع العربي» كانت بمثابة هزة عنيفة زعزعت كيانات الأنظمة السياسية في المنطقة، علماً أن حدوث الزلزال غالباً ما يكون في المناطق الضعيفة من القشرة الأرضية، ولا شك أن الأزمات الهيكلية التي تعيشها الدول العربية كانت بمثابة هذا الضعف، إلا أن نتائج هذا الزلزال وآثاره لم تكتمل بعد وهذا ما يثير جملة من التساؤلات عن واقع هذا الحراك ومستقبل المنطقة في ظلّه.

فرغم مرور ثلاث سنوات على بداية هذا الحراك إلا أن واقعه اليوم لا يسمح بتحديد رؤية واضحة وجليّة توفّر تصوراً محتملاً لمستقبل المنطقة في ظّل التغيير الحاصل في بعض بلدانها، ذلك أنه حتى اللحظة الراهنة لا يمكننا الجزم بنجاح هذا النموذج أو فشله في تحقيق الأمل المنشود في التغيير الشامل.

فهل الربيع العربي هو حالة انفجار داخلي أم حصيلة تفاعلات محلية وإقليمية، أم أنها نتاج لسياسات دولية؟ وهل الربيع العربي هو فعلاً ثورات شعبية مطلبية أم أنها سيناريو الفوضى الخلاقة المبشّر بها وبالتالي نحن أمام مد سينجرُّ على كل دول المنطقة؟

إن ما يحدث في المنطقة العربية من حراك غير مسبوق وغير متوقع رغم وجود إرهاصات الثورة في كل البلدان العربية وإلى حد الانفجار، جاء نتيجة التراكمات داخل المجتمعات العربية جراء الفساد السياسي والعناء الاقتصادي والتهميش الاجتماعي. من جهة أخرى لا يمكننا الحديث عن ثورة وعن تغيير بمحض المصادفة لأنه لا مصادفة في السياسة، ثم إنه حتى إذا حدثت طفرة في هذا السياق نتيجة ما تحقق «مبدئياً» من إطاحة رؤوس أنظمة وليس بالأنظمة تماماً، فأين نحن اليوم من خطة طريق واستراتيجية لإتمام المشهد الحالي، فهل يثمر الربيع العربي ديمقراطية وتنمية، أم أنه سيتحول إلى خريف التطرف والإقصاء ولكن بأدوات جديدة؟

أولاً: واقع الثورات العربية ومحركاتها

لقد ظل الوطن العربي خارج موجات التغيير والتحول الديمقراطي التي اجتاحت أجزاء العالم من شرق آسيا إلى شرق أوروبا وإلى أمريكا اللاتينية، وحتى بعض بلدان الشرق الأوسط كتركيا وإيران، ما جعل بعض الدوائر السياسية والأكاديمية تفسّر ذلك على أساس وجود تناقض بين الثقافة العربية الإسلامية وقيَم الديمقراطية، مثل ناتان شارانسكي (Natan Sharansky) رئيس وكالة الهجرة اليهودية ومؤلف كتاب دعماً للديمقراطية: قوة الحرية للتغلب على الاستبداد والإرهاب[2]، الذي اعتبر أن العرب والمسلمين ليسوا مهيئين للديمقراطية الأمر الذي يستوجب نقلهم إلى الديمقراطية[3]. كما اعتبرت بعض الدراسات الأكاديمية أن مردّ ذلك يعود إلى قدرة النظم السلطوية على الاستمرار والتأصّل في البنية العربية، بدليل بقاء بعض الرؤساء في السلطة لعقود طويلة، الشيء الذي جعلها بمنأى عن التحولات التي عرفها العالم.

لا شك في أن استقرار الأنظمة العربية في وجه التغيير يتطلب اهتماماً ودراسة حتى نفهم أسباب التغيّر الذي حصل في القوى التي شكلّت أربعة عقود من استقرار أنظمة عربية، وكذا ديناميات العناصر الجديدة التي أشعلت نار الثورات وهل ما يحدث هو تغيير لأنظمة أو تغيير في الأنظمة؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات ستمكِّن من إعطاء مقاربة أكثر فاعلية لفهم دينامية ما حدث ودلالاته ومآلاته المستقبلية.

معظم الباحثين والمهتمين بالشأن العربي عزوا ذلك الاستقرار إلى عاملين[4] هما: التركيبة العسكرية الأمنية التي تجعل من العلاقة المتداخلة بين الأنظمة الحاكمة وأجهزتها العسكرية والأمنية علاقة جدلية وبالتالي القطيعة بينهما غير منطقية. غير أن مراجعة أولية لما حدث خلال الثورات العربية أظهرت خطأ تلك الفرضية نظراً إلى الطريقة التي ردّت بها الجيوش على الاضطرابات.

ويتمثل العامل الثاني بسيطرة الدولة على الاقتصاد ومنه بناء شبكات رعاية وخدمات اجتماعية. من جهة أخرى فإن لَبْرَلة الاقتصاد من خلال الخصخصة وتشجيع الاستثمار الأجنبي أدّت إلى تفاقم حالات الفقر والتفاوت الاجتماعي؛ ما عقّد المشكلات الاقتصادية والسياسية للحكومات. رغم كل هذا لم يكن متوقعاً أنها ستعرّض النظام للانهيار.

لقد أسقطت الثورات العربية تلك الصورة النمطية التي كانت إلى وقت قريب تفسّر عدم قيام الثورة في المجتمعات العربية لعدة عوامل[5]:

ـ خصوصية الثقافة القائمة بين الحاكم والرعية وليس بين الدولة والمواطن.

ـ المقايضة التاريخية بين الحاكم والرعية وفقاً للمعادلة الأمنية.

ـ الدولة الريعية التي تقدّم مسكّنات اجتماعية لمنع التغيير.

ـ غياب القوى القادرة على تبني وقيادة التغيير.

اتضح أن النسق الإدراكي والمعرفي المسيطر على دارسي منطقة الشرق الأوسط قد تجاهل دور القوى والشبكات الاجتماعية التي كانت بمنزلة محرك للثورة؛ هذا ما جعل معظم الدراسات الأكاديمية تتبنى العديد من القوالب النمطية المسبقة في فهم الديناميات الحقيقية لهذه المجتمعات، إذ إن معظمها كان معنياً بفكرة الاستقرار السياسي بدلاً من العمل الثوري، لهذا لم يكن بإمكانها إدراك الاختلاف البنيوي الحاصل داخل هذه المجتمعات وكان عاجزاً عن رصد التحولات فيها ضمن عالم معولَم.

ولم يكن الفشل في التنبؤ بالثورات العربية مقصوراً على الأكاديميين، بل امتد ليشمل أجهزة استخبارات الدول الكبرى، حيث اعترف العديد من المسؤولين عن عجزهم في التنبؤ أو رصد مؤشرات الربيع العربي، إذ صرح جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية في جلسة استماع: «نحن لسنا عرّافين»، كما أكدت السيناتور ديان فينشتاين رئيسة لجنة استخبارات في مجلس الشيوخ أن الاستخبارات الأمريكية فشلت في التحذير من مخاطر الانتفاضات في الوطن العربي.

وعليه، سواء كان الحقل الأكاديمي أو الأجهزة الاستخباراتية المهتمة بشؤون المنطقة، فقد عرف كلاهما إخفاقاً في توقع حدوث ثورات عربية[6]. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأنه في أواخر الثمانينيات تداولت الساحة البحثية والإعلامية توقعات بالانفجار القادم نتيجة استفحال معالم العجز الاقتصادي والاجتماعي إثر الوصفات التقشفية لسياسات التكيّف الهيكلي. لكن هذه التوقعات لم تتحقق أمام الحالة السلبية لشعوب المنطقة والتي انعكست في العزوف عن العملية السياسة برمتها.

بالفعل لقد جاءت الثورات العربية لتعبّر عن نوع من أنواع الانقطاع بين الأجيال الجديدة والنخب التقليدية، فقد عجز هؤلاء عن رصد التحولات في مزاج وثقافة الأجيال الجديدة التي عرفت تنشئة سياسة واجتماعية تختلف عمَّا عرفه الجيل السابق، كل ذلك طبعاً في ظل ما أتاحته وسائل التواصل التكنولوجية الحديثة.

ومع سقوط النماذج وتمزق النظريات بفعل الأحداث على الأرض ينبغي التأكيد أن الثورات العربية لم تكن ناجمة عن قرارات سياسة متخذة من عواصم غربية وإنما من عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية محليّة كان من الصعب التنبؤ بديناميتها، وهذا لا ينفي طبعاً الدور الخارجي في احتواء هذه الثورات لاحقاً وتوجيهها وخصوصاً دور الولايات المتحدة الأمريكية.

1 ـ طبيعة الثورات العربية ومحركات التغيير فيها

بالنظر إلى التطورات التي تشهدها المنطقة العربية نجد أنها تستدعي قراءة لمجموعة المفاهيم التي وُظِّفت خلال هذا الحراك، حيث استُخدمت تسميات كثيرة ـ الربيع العربي ـ الثورات العربية ـ الفوضى الخلّاقة؛ هذه التسميات التي تختلف في دلالاتها ومضامينها، لكن عند إسقاطها على المشهد العربي نتيجتها واحدة. وفي ظل اعتقاد ساد لفترة طويلة بأن نجم الثورات قد أفل، يمكننا التساؤل اليوم حول ما إذا كان الحراك الذي تشهده بعض البلدان العربية والموصوف بالثورات العربية يستحق اسم «الثورة»[7]، وهنا تتزايد أهمية هذه المراجعة.

لو عدنا إلى الدراسات التي تناولت أبرز الثورات الحديثة من حيث تفسير أسباب نشوئها ودراسة الأنماط التي اتخذتها لفهم الثورات العربية سوف تطفو مشكلة أساسية في هذا المنظور، وهي محاولة قراءة الثورات العربية وفقاً للخبرات السابقة. فالنماذج السابقة لا تستوعب هذا النوع من الحراك كما أنها لا تطرح مؤشرات للتنبؤ بمستقبلها. والتحدي القائم في وجه الباحثين والأكاديميين هو كيفية تصنيف الثورات العربية ضمن أنماط التغيير المعروفة في العلوم الاجتماعية، كنمط التغيير الإصلاحي، وحالة التمرد والعصيان، وحالة انهيار النظام الذي يحدث نتيجة تراكمات الحركة الثورية. غير أن هذه النماذج لا يمكن إسقاطها على الثورات العربية التي تقدم في حد ذاتها نمطاً جديداً، حيث إنها تقوم بإسقاط رأس النظام وتفكيك عدد من المؤسسات المرتبطة به، كما أنها تتمتع بقوة اجتماعية هائلة ساهمت في التغيير، لكنها لا تستطيع الوصول إلى السلطة.

وبالعودة إلى تعريف مفهوم الثورة نجد أنه غالباً ما يستخدم هذا المصطلح دون التأكد من المدلول الصحيح والدقيق له، إذ غالباً ما يستعمل لوصف انقلاب عسكري، أو انتفاضة شعبية موقتة تؤدي إلى تغيير سطحي وجزئي في النظام السائد. بينما المعنى الدقيق للثورة هو أنها تقود إلى تغييرات جذرية في معطيات الواقع السياسي الاجتماعي والاقتصادي بشكل عميق وعلى المدى الطويل ينتج منه تغيير في بنية التفكير الاجتماعي لذلك المجتمع. وعليه؛ لا ينبغي إرجاع الخطاب إلى مرجعيته البعيدة، بل يجب معالجته في إطار اللحظة، فالتسارع المفاجئ في التاريخ ليس ناتجاً من قطيعة ولا حتى لظهور مفاجئ لمطالب الحرية[8]. وانطلاقاً من هذا الطرح، فإن ما يحدث في البلدان العربية حتى الآن لا يتعدى إرهاصات انتفاضة يمكن أن تتحول إلى ثورات مع الوقت، كما أن تجلياتها الأولية يمكن أن تؤشر لتحولات أعمق في الأنظمة والواقع العربي.

إذاً، هناك تعميم مبالغ فيه في إطلاق تعبير الثورة على جميع الأحداث في البلدان التي عرفت حراكاً جماهيرياً وانتفاضات شعبية مثل تونس، ومصر، واليمن، والبحرين، وليبيا، وسورية، غير أنه لا يمكننا إنكار أن ما حدث سواء كان ثورة أو ربيعاً أو انتفاضة جماهيرية قد أحدث تغييرات جوهرية حتى ولو كان ذلك على مستوى التفكير وإدراك الحقائق الموضوعية دون التغيير الملموس في الحياة اليومية للمواطن العربي.

هناك عالم قد تغيّر بالفعل، فمهما اختلفت ظروف ومعطيات كل دولة عربية إلا أن نقطة التقاطع بينهما كانت وحدة التفاعل الكبير في الوعي العربي، وبالتالي إدراك معطيات واقع قد تغير.

2 ـ مميزات الثورات العربية

لم تكن الثورات العربية متوقعة في ظل حالة الإحباط والعزوف السياسي التي عرفتها الشعوب العربية رغم وجود إرهاصات ومؤشرات كانت تدلل على إمكان الانفجار في أي لحظة، فلم يكن هناك تخطيط مسبق للثورة على النظام في تونس أو في مصر، بل كانت تظاهرة مطلبية تحولت تحت وطأة العنف والتجاهل إلى ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام. وحتى مع التدخل الأجنبي الصريح في ليبيا أو الموقف المتناقض بخصوص اليمن والبحرين، في كل هذا المشهد لم تكن هذه الثورات تصنّف ضمن الثورات الطائفية أو الدينية أو حتى ثورة الجياع، بل كانت ثورات من أجل الحرية والكرامة يقودها شباب الطبقة الوسطى.

كما أن في هذه الأثناء لم يكن أحد يتكلم على الفوضى الخلاقة ولا أحد يجرؤ على اعتبار أن الغرب والولايات المتحدة هي وراء هذه الثورات باعتبارها حليفة للأنظمة القائمة بدليل التلكؤ والازدواجية في التعاطي مع كل ما كان يحدث وبخاصة في البداية.

اعتبر مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن بأن أحد التغيرات الهيكلية المهمة التي مهّدت للربيع العربي وواكبته هو التغيير الهيكلي في الفضاء العام العربي‏[9] حيث أضعفت تكنولوجيا الاتصال قدرة النظم على التحكم في حركة المعلومات أو تغييرها بما يناسبها.

وقد أشار روبرت كابلان من جهته، في مقال له بعنوان «النظام العربي الجديد» إلى أن الشعوب العربية لم تنتفض بسبب المأزق الفلسطيني ولم تثُر بسبب الغرب أو الولايات المتحدة بقدر ما ثارت ضد البطالة والطغيان وإهدار الكرامة في مجتمعاتها الداخلية، وهذا ما يشكّل الموجة الكبرى من التغيير في تاريخ الشرق الأوسط[10]، وعليه فالعدو المشترك في ثورات العرب عام 2011 ليس الاستعمار أو الولايات المتحدة أو إسرائيل بل هو حكامهم.

لقد أبرزت هذه الثورات من خلال مطالبها أن القضايا الخارجية لم تكن مطلباً مطروحاً في الحراك الجماهيري بل الهموم الوطنية هي التي كانت مسيطرة عليه، كما أكّدت خلافاً للقناعات السابقة أنه يمكن أن يحدث التغيير من الداخل دون الحاجة إلى الاستقواء بالخارج، هذا فضلاً عن وسائل التواصل التي وفرّت طرائق للمشاركة السياسة أكثر فعالية من الأحزاب والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني التي تميزت بالضعف والهشاشة.

كما أن المشهد هذه المرة تميّز بالخصوصية فلا انقلابات ولا ثورات تقليدية ولا زعماء ولا حركات نقابية وطلابية كما هو الشأن في الماضي، بل الفاعلون في هذه الثورة هم شباب الـ «Facebook» الذي حمل الشعارات نفسها من حيث الشكل والمضمون من المحيط إلى الخليج، كلها حركات تنادي بدمقرطة السياسة والمجتمع وتبني مفاهيم حقوق الإنسان وغير ذلك من لوازم المواطنة الفعلية.

بذلك فرضت الثورات العربية غير المنتهية تغيير الكثير من الافتراضات والمسلّمات التي تتعلق بالمنطقة.

فما يميّز الحركات الثورية اليوم هو الطابع الشبابي الصرف البعيد عن أي تأطير سياسي أو نقابي. ومحاولة توجيه موجات التغيير في البلدان العربية بما يتّسِق مع المصالح الأمريكية هو بمنزلة احتواء لهذه الثورات واستثمار مكتسباتها من خلال اعتبارها وليداً شرعياً لفكرة مصطلح الفوضى الخلاقة.

ما يحدث في المنطقة العربية من حراك زعزع البنية التسلطية في المنطقة، لا يمكن إرجاعه برمّته إلى عامل واحد أو جماعة سياسية دون غيرها، إنه متعدد العوامل والأطراف رغم الضغوط الخارجية التي تلخّصها استراتيجية الفوضى الخلاقة والتي ساهمت في تحطيم القشرة الخارجية وتعريتها، لكن الأكيد أن الشعوب أدت دوراً هاماً في الوصول إلى إحداث هذا التغيير من الداخل، ثم إن التجاوب مع مساعي الفوضى الخلاقة لا يعني بالضرورة الإذعان لنظرية المؤامرة.

لقد اتسمت الثورات العربية بالسرعة والعفوية واكتسبت زخماً وقوة دفع بفعل عاملين:

أولهما: التغير الجيلي الذي لا يمكن اختزاله بفارق العمر الزمني، وإنما يتجاوزه إلى الأفكار والأدوات.

ثانيهما: تغير طبوغرافية المجال العام في الوطن العربي، نتيجة للانفتاح الإعلامي غير المسبوق في هذه البلدان، وتدفق المعلومات بما قوّض من سيطرة الأنظمة العربية، وفتح الباب أمام مجال عام جديد.

عموماً ورغم كل الاختلافات بين البلدان العربية في الظروف والإمكانات وفي الأهمية من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية، فإنه يمكن تحديد محركات عامة مشتركة أدّت إلى إشعال هذه الانتفاضات في المنطقة هي:

ـ الطفرة الشبابية التي تمثل أكثر من ثلث السكان.

ـ التهميش الاقتصادي والاجتماعي بسبب الخلل في توزيع الثروة.

ـ غياب الحريات السياسية ما أدى إلى قهر سياسي واجتماعي.

ـ دور القوى الخارجية الإقليمية والدولية التي قامت بتعميق حالة الضعف والانقسام داخل المجتمع الواحد.

أما عن الخصائص التي ميّزت هذه الثورات العربية فيمكن القول بأنها:

ـ كانت ثورات غير نمطية سِمتها السلمية والمدنية ما عدا حالات.

ـ كانت حراكاً مجتمعياً غير مسيّس وغير مُنَظَّم تغلب عليه العفوية التلقائية والحماسة.

ـ لا تحمل مشروعاً سياسياً أو أيديولوجياً بل مطالبها اجتماعية.

ـ غياب مرجعيات قيادية.

ـ المبالغة في دور وسائل التواصل الاجتماعي.

ـ إسقاط النظام بسهولة والتعثر في بناء نظام جديد.

ـ ازدواجية المعايير في موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

 

ثانياً: الفوضى الخلّاقة والربيع العربي

في ظل ما تشهده المنطقة العربية من حراك وتحولات في المشهد والواقع العربي، تساؤلات عدة تطرح نفسها حول «ربيع» التغيير العربي وما إذا كان مقدمة للفوضى الخلاقة التي تبنتها الإدارة الأمريكية أو أنه صنيعة مواقع التواصل الاجتماعي ضمن سياق مخططات أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، أو أنه كان مجرد رد فعل منطقي لشعوب عاشت حالة من الاحتقان والتهميش لعدة عقود من الزمن.

فهل الربيع العربي مجرد انفجارات لحظية لا تلبث أن تخمد مستجيبة لتدابير ترقيعية من قبيل إدارة الأزمات وامتصاص قوة الدفع الجماعية، أم هي نقطة بداية جديدة تؤرخ لزمن جديد؟

لقد كان طبيعياً أن يحدث الانفجار في المنطقة العربية نتيجة النظم القمعية السائدة، حيث كان الرد انعكاساً طبيعياً وحتمياً لتراكم كبير وهائل لأزمات بنيوية؛ في المقابل لا يمكن إنكار أن الفوضى الخلاقة التي أطلقتها كوندوليزا رايس كمقدمة لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط جاءت منسجمة لتتوافق إلى حد كبير مع هذا الربيع.

1 ـ مدلول الفوضى الخلّاقة

يتفق الجميع أن القوى الاستعمارية تستغل تناقضات المجتمعات الذاتية والبينية وتوظِّفها من أجل إنهاك المجتمعات وتركيع أنظمتها. فهي كما تستغل وتوظف الخلافات الحدودية، تستغل أيضاً التباينات الطبقية والمذهبية في المجتمع، وتُفاقِمها الى أن تصبح انشقاقات سياسية ذات آلية مدمِّرة تتيح للقوى الاستعمارية فرصة التدخل المباشر وتوجيه حركة الصراع بينها بما يخدم مصالحها الخاصة في النهاية.

لقد طوّرت الولايات المتحدة الأمريكية هذا النهج، وصاغته في نظرية تعامل استراتيجي يعفيها من اللجوء إلى العمل العسكري المباشر إلا مضطّرة، فكانت نظرية الفوضى الخلاقة التي تستهدف استحداث حالة فوضى في مواقع الصراع بين أطراف محلية، تتيح للولايات المتحدة الأمريكية ركوب موجة الفوضى هذه وتوجيهها لمصلحتها.

بالفعل لقد اتّسقت الأهداف العليا لأمركة العالم مع إرهاصات الثورات العربية على أساس أنه إذا كانت البنى الإقليمية غير مهيأة للقيام بالوظيفة المطلوبة أمريكياً، يصبح إخراجها من دائرة الفعل بتدميرها وإدخال مقدراتها في عملية نزف مفتوحة بما يترتب على بث «الفوضى» كخيار بديل من الاستقرار الذي لا يتسق وديناميات الخطط المرسومة للجغرافيا السياسية العالمية[11].

غير أن مفهوم الفوضى الخلاقة يعدّ تعبيراً أكثر شمولية من مجرد كونه خطة أمريكية للتفكيك المُمنهَج، وعملية رد الفعل الثوري العربي على هذا المفهوم لمسؤوليته كمصطلح وكخطة عن قوة الدفع الهائلة وحالة التعبئة التي قادت الحراك الجماهيري هي عملية فيها الكثير من اجتزاء للحقيقة.

رغم ذلك تعتبر الفوضى الخلاقة من أخطر النظريات التي أنتجتها مراكز الأبحاث الأمريكية، كما تعتبر الديمقراطية إحدى الأدوات الأخطر والأهم لهذه النظرية. فقد كان شعار نشر الديمقراطية هو عنوان السياسة الأمريكية منذ احتلال العراق في 2003، إذ استناداً إلى نظرية الدومينو التي تعني تدحرج النظم واحداً بعد الآخر انطلاقاً من المفاعيل التي أحدثها سقوط النظام في العراق، تتم إعادة رسم الخريطة الجغرافية السياسية التي تشكلّت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

ويكون التطبيق العملي لهذه الاستراتيجية من خلال ابتزاز العديد من البلدان العربية لإجبارها على تقديم تنازلات تتلاءم مع السياسات الأمريكية المرغوب فيها في المنطقة حيث كان احتلال العراق، والضغط على لبنان «الطائفي» وابتزاز سورية شرطاً ضرورياً لنجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير. وفي إطار هذه النظرية التي آمن بها جورج بوش الابن إيماناً كاملاً واعتبر هذا النوع من التفكير جزءاً من الحمض النووي لرئاسته وفق تعبيره، يصبح ما حققته الولايات المتحدة خلال فترة ولاياته نجاحاً كبيراً بحساب نظرية الفوضى الخلاقة، إذ استُخدِم شعار الديمقراطية للغزو واستُخدِمت الطائفية والمذهبية بامتياز لتفتيت هذه الدول ونشر الفوضى فيها.

لقد استندت هذه الرؤية إلى التراث الاستشراقي لـ «برنارد لويس»، هذا التراث الذي لا يستطيع أن يرى الوطن العربي إلا بكونه تجمعاً لأقليات دينية وعرقية. وحتى إذا كان الشعار هو الديمقراطية، فإن تحقيقها يرتكز على الاستخدام الصريح للطائفية، بهذا يصبح التنوع الطائفي والديني والإثني الموجود في المنطقة في حالة تناقض مُستحكَم، فيتحول التنوع إلى كارثة وتصبح الديمقراطية هي منتَج «التدمير الخلاق». هذا الاتجاه التدميري يؤكده «مايكل ليدن» أحد أعلام المحافظين الجدد بقوله[12] إن التدمير هو وصفتنا المركزية، وإن الوقت قد حان لكي يتم تصدير الثورة الاجتماعية من أجل صوغ شرق أوسط جديد عبر تغيير ليس النظم فقط بل الجغرافيا السياسية.

ولئن كانت نظرية الفوضى الخلاقة تتأسس نظرياً على ثنائية التفكيك والتركيب، فإنه لا بد من إحداث شيء من الفوضى والخلخلة في المجتمعات العربية الراكدة سياسياً حسب شارانسكي، لأن ذلك سيخلق دينامية جديدة توفر الأمن والازدهار والحرية، إنه العلاج بالصدمة.

وخلال إدارة جورج بوش الابن توسّعت الولايات المتحدة في استخدام النظريات الفوضوية في إطار الحرب الاستباقية وتفعيل نظرية الدومينو وصولاً إلى نظرية الفوضى البناءة كحل أخير مع هذه المنطقة. وتتكون عناصر هذه النظرية من:

ـ تفكيك النظام الإقليمي العربي من خلال سياسة المحاور، مع أمريكا أو ضدها.

ـ وضع النظم في حالة قلق مستمر وتهديدها بالتغيير.

ـ إعادة صوغ النظم بحيث تقوم أمريكا بدور الهدم (الفوضى) ثم تتركها لصراعاتها الداخلية حتى تصبح الحاجة إلى التدخل والضبط الأمريكي ضرورة.

أما عن مدى الاتساق بين الفعل الثوري العربي الإقليمي ومركزية المصطلح (الفوضى) فيظهر من خلال شبكة أفكار نُسجت بعناية ترتكز على[13]:

ـ فشل آلية الحرب المباشرة على الطريقة الأفغانية والعراقية.

ـ دور اللوبيات المعولمة التي تدفع باتجاه تأزيم مناطق الضعف.

ـ إعادة إنتاج الهيمنة بوسائل عولمية جديدة ومحاولة تحقيق جغرافيا سياسية أكثر قرباً من مشروع الشرق الأوسط الجديد.

2 ـ طبيعة الدور الأمريكي في الثورات العربية

عندما اجتاحت التظاهرات الشعبية أنحاء الوطن العربي في عام 2011، كان العديد من صنّاع القرار والمحللون الأمريكيون يأملون في أن تكون هذه الحركات بداية لحقبة جديدة في المنطقة، فقد وصف الرئيس باراك أوباما الانتفاضات بأنها «فرصة تاريخية» للولايات المتحدة، وأعربت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عن ثقتها في أن التحولات من شأنها أن تسمح لواشنطن للمضي قدماً لتحقيق «الأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية» في الشرق الأوسط[14].

كما أثيرت الكثير من التساؤلات حول طبيعة الدور الأمريكي في ما يحدث في المنطقة العربية ومدى انخراطها في عملية الحراك الشعبي. فهل كان لها دور في إدارة الثورات العربية ومحاولة توجيه نتائجها وتحديد هوية أنظمة الحكم المستقبلية في البلدان التي حدثت فيها ثورات، وما هي آليات التأثير التي استعملتها أم أن إسهامها لم يكن بالقدر الذي سُوِّق له إعلامياً؟

نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية في 1 شباط/فبراير 2011 تقريراً حول مدرسة وزارة الخارجية الأمريكية للمدوِّنين الثوريين، تناول دور برامج تدريب المدوِّنين في تعبئة الحراك الشبابي في كل من مصر وكولومبيا وفنزويلا. وفي 14 نيسان/أبريل 2011 نشرت نيوزويك تايمز تقريراً حول مجموعات من الولايات المتحدة ساعدت على تغذية الانتفاضات العربية من خلال برامج التدريب والتمويل والرعاية التي قدّمتها للنشطاء الديمقراطيين في الوطن العربي خلال السنوات الماضية. وفي السياق عينه جاء التقرير الذي نشره مركز بيترسبرغ لدراسات الشرق الأدنى المعاصر في 31 آذار/مارس 2011 حول الدور الأمريكي في الثورات العربية، والذي تحدّث عن تعبئة الاحتجاج من خلال الشبكات الاجتماعية، بدليل أن روسيا اعتبرت الحراك العربي منذ بدايته نتاجاً مباشراً للمبادرة الشرق الأوسطية التي أشرفت على 350 برنامجاً منذ عام 2001 تحت إدارة الخارجية الأمريكية، خضع من خلاله عشرات الألوف المواطنين العرب للتدريب والتعبئة السياسية باستخدام وسائل الاتصال الحديثة[15].

وتشير هذه التقارير وغيرها إلى أن خوف الولايات المتحدة والدول الغربية على مصالحها منذ بداية الأحداث بسبب فقدان وانهيار النظم الحليفة لها، جعلها تضع خططها منذ البداية لاختراق تلك الثورات وذلك من خلال تأسيس شبكات الديمقراطية وإعدادها للمشاركة فيها وتوجيهها في الاتجاه الذي ترغب فيه.

وحتى الممارسة الديمقراطية نفسها قد تهدد بأن يسفر الرأي العام عن تيارات سياسية ستغيّر وضع البلدان العربية، وبخاصة المحورية منها مثل مصر، وعليه، كان لا بد من عملية اختراق لهذه الثورات. ولعل العملية السياسية في مصر أحسن مثال على ذلك من حيث تنسيق الولايات المتحدة مع المجلس العسكري ثم المساومة مع الإخوان المسلمين، الشيء الذي مكّنها من التحكُّم في عناصر التحول السياسي التي من شأنها أن تسير بموكب الثورة وبمسارها بما لا يهدد مصالحها في المنطقة.

وهكذا سمح ربيع الثورات العربية بتهيئة الأجواء والظروف لقيام شرق أوسط جديد، ولكن بمقاولة وشراكة الإسلاميين تحديداً؛ من هنا بدأ الربط بين الثورات والفوضى الخلاقة. فرغم أن الثورات جاءت خارج الفوضى الخلاقة، إلا أن ما يحدث الآن من إفرازات هذا التحول في البلدان العربية لا يدع مجالاً للشك في أن الأيادي الأمريكية والغربية تمسك بخيوط اللعبة السياسية في الساحة العربية.

تدرك الولايات المتحدة أن إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد مرتهن بإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية. ورغم كل التنازلات التي قدّمها العرب من خلال المبادرة العربية للسلام أيقنت أنها بحاجة إلى فتح المجال أمام القوة السياسية الأكثر تنظيماً ومأسسة في الساحة العربية والقادرة على التسويق لخريطة الطريق الجديدة وبالتالي منح شهادة ميلاد دائمة لإسرائيل؛ هذه القوى تحديداً هي جماعة الإخوان المسلمين التي يفترض أنها الأقدر على التأثير في حركات المقاومة. بذلك تم اختطاف الثورات التي نسبت إلى حركات شبابية من طرف قوى وتنظيمات سياسية تقليدية لأنها أكثر تنظيماً وانتشاراً في المجتمع.

إن مشروع الشرق الأوسط الكبير المقترح في 2004 والهادف ظاهرياً إلى تحقيق إصلاحات في الوطن العربي هو في حقيقته وسيلة لتفتيت المنطقة وفق نظرية الفوضى الخلاقة؛ هذا المشروع الذي تعثر تنفيذه موقتاً بسبب نتائج الحرب على العراق وأفغانستان، هو نفسه الذي طرح في صيغة قد تبدو مختلفة في 2006 تحت عنوان مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وما يحدث اليوم في المنطقة العربية ليس ببعيد عن مضامينه. فالتطبيق العملي لخطة الشرق الأوسط الكبير باعتباره وصفة علاجية لبلدان المنطقة وأداة لتنفيذ سيناريو الفوضى الخلاقة، هو كذلك الصيغة الاستعمارية الجديدة التي ستُكمل عملية التفتيت التي بدأها الاستعمار القديم في مطلع القرن العشرين، فزيادة على العمل العسكري المباشر أو بالوكالة، شكّلت الفوضى الخلاقة أحد أعمدة التدخل الخفي لرسم الخريطة الجديدة. فبعد غزو أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، وبحساب الربح والخسارة كانت التكلفة المادية والبشرية وحتى الأخلاقية باهظة، وهكذا انتقلت إدارة بوش نفسها التي خاضت حربين إلى استكمال مشروع التفتيت لكن بالتركيز على أدوات مختلفة تحت شعار الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان. وما أعلنته كوندوليزا رايس في 2006 عقب حرب لبنان عن مشروع شرق أوسط جديد لم يكن سوى خطوة أخرى في سلسلة المخططات لتفتيت المنطقة.

فالخريطة التي نشرتها مجلة القوات المسلحة بعنوان «حدود الدم» تناولت خريطة الشرق الأوسط الجديد كما حدّدتها الإدارة الأمريكية، ويفترض المقال أن الحدود غير مكتملة وغير نهائية باعتبار أن الاستعمار الأوروبي لم يراع فيها عوامل الدين والقومية والمذهبية في الدول التي نشأت بموجبها. لذا، فإن الخريطة المقترحة هي لإعادة تقسيم وترتيب المنطقة على أساس ديني عرقي وقومي، وبما أن التقسيم والاقتطاع لتشكيل دول جديدة أو توسيع دول قديمة لا يمكن أن يتحقق إلا باتفاق مع الدول والكيانات القائمة والمعنية، وإلا أن يكون التقسيم قسرياً بالشكل الذي أنجزته إدارة بوش في العراق، لذلك سيكون سيناريو الفوضى الخلاقة هو الأمثل لتحقيق مثل هذا الإنجاز.

لم يكن حديث كوندوليزا رايس عن طموحات الإدارة الأمريكية بإحداث فوضى خلاقة في المنطقة العربية زلّة لسان وإنما كانت رسائل مشفّرة وموجهة للأطراف الفاعلة في المنطقة؛ فهي موجهة للحكومات لتعرف أن ما حققته خلال عقود في خطر، وأن الغطاء الأمريكي لها في طريقه إلى الزوال، وبذلك تحصد الولايات المتحدة مزيداً من التنازلات لفائدة إسرائيل، فضلاً عن ضمان تدفق مصالحها البترو دولارية، كما أنها موجَّهة لزعامات عرقية وطائفية تسعى للحصول على مزيد من المكاسب في ظل ضعف أنظمتها وعدم استقرار المنطقة، وهي رسالة موجهة إلى التيار الليبرالي تقول إن فرصتكم بأن تنقضّوا على كل من يحافظ على ثبات هذه الأنظمة تحت شعار الحرية، وهي موجهة للتيار الإسلامي، وبخاصة الإسلام السياسي المعتدل والمقصود به الإخوان المسلمون، الحصان الرابح في أي انتخابات حسب العديد من المختصين العرب والأمريكيين (سيتغير الوضع بعد التجربة المصرية التي بدأت تظهر انحدار منحنى الإخوان في الشارع المصري والعربي)، حيث تقول لن يترك لكم الأمر إذا وصلتم إلى السلطة ستعم الفوضى إلا إذا كنتم ورقة وشريكاً للغرب.

لقد وصلت الرسائل إلى كل الأطراف وبدأت تؤتي ثمارها؛ تدل عليه كل الأحداث والتفاعلات والشواهد التي تعيشها المنطقة العربية، سواء تلك التي عرفت ثورات وانتفاضات أو تلك التي تعرف حراكاً مختلفاً من حيث الوسيلة وليس الهدف. فالعراق هو النموذج الأعلى للفوضى، حكم طائفي ومحاصصة سياسية ستنتهي إلى فدرالية، مصر تحولت إلى ساحة صراع بين الليبراليين والإسلاميين وبين المسلمين والأقباط، أما ليبيا فقد تتحول إلى دولة الميليشيات المسلّحة، تونس تعيش حالة التناقض الصارخ بين نظام حكم يؤسس لحكم «إسلامي» في مجتمع يتميز عن غيره من المجتمعات العربية بأنه أكثر انفتاحاً وحداثة.

بذلك يمكن القول إن أيديولوجيا الفوضى الخلاقة لا تنحصر في إشاعة الفوضى في حد ذاتها بل كونها أيضاً وسيلة وأداة تتمكن الولايات المتحدة عبرها من خلق مسوّغات على الأرض تفتح لها سبل التدخل وإملاء تصوراتها.

بهذا المشهد الفوضوي والسوداوي نقول بأن الولايات المتحدة لم تفشل في العراق، ولم تجرّ أذيال الخيبة كما يظن الكثيرون، وإن كان ذلك فيه جزء من الحقيقة، لكن الحقيقة المكتملة هي أن الفوضى هي السيناريو الوحيد الذي تُرتِّب له الولايات المتحدة، تَسارع أو تباطأ، اكتمل في بعض البلدان ولم يبدأ في بلدان أخرى، هذا هو المطلوب لتنعم إسرائيل بالأمن وتضمن الولايات المتحدة مصالحها في المنطقة بلا عناء.

خاتمة

المعروف أن بداية الثورات ليست مثل نهايتها، وهناك مسلّمة في العلوم الاجتماعية أن الحكم على الظاهرة خلال حدوثها لن يوصلنا إلى استنتاجات قطعية وموضوعية، ذلك أن الظواهر الاجتماعية والسياسية تتطلب رصداً وتحليلاً في حالة من الاستمرارية والسيرورة والتقاطع مع مجموعة بنيوية، وهذا يتطلب فترة من الزمن حتى نستطيع رصد التحولات الهيكلية الكبرى جرّاء الثورات العربية بشكل موضوعي.

وعليه، ليس من الحكمة التعجيل بإطلاق الأحكام النهائية على نتائج الربيع العربي وإفرازاته، حيث لا بد من قراءة المشهد بكل معطياته الذاتية والموضوعية في سياقه الزمني، إذ ينبغي فهم الديناميات الجديدة التي أصبحت تحرك القوى الموجودة والفاعلة في هذه المجتمعات، إضافة إلى ربط ذلك بالعامل الخارجي وإبراز مدى تأثيره في كل أبعاد المشهد؛ كل هذا طبعاً ضمن مرحلة زمنية لم تكتمل بعد، فضلاً عن رصدنا لنموذج ثوري غير تقليدي.

إن سرعة وتوسع العمليات الثورية لا تعني إطلاقاً أنها ثورات منتصرة، كما أن هذا التبسيط قد ولّد أوهاماً كبيرة بفعل التأثير الافتراضي لنظرية الدومينو، ومصدر هذا الخلط هو أن الأسباب الموضوعية للثورات هي نفسها في كل دول المنطقة، إلا أن واقع الأحداث قد تجاوز هذا الخطأ في التقييم بسرعة. كما أنه لم تظهر بعد الآثار الإيجابية للثورات العربية سواء على المستوى العربي، المحلي أو الإقليمي، ويعود ذلك إلى عدم الانتهاء من ترتيب الأوضاع الداخلية، فالربيع العربي لم يثمر بعد ديمقراطية حقة ولا تنمية حقيقية تمارس على أرض الواقع. كما أن المؤشرات تبيِّن بأن المنطقة العربية تسير نحو نظام إقليمي جديد هو في مرحلة التبلور، حيث إن مصير الدولة المركزية أصبح على المحك في ظل إسقاط الثورات بشكل عملي شبكةَ التحالفات التي كانت قائمة، فلم يعد وجود لمحوري الممانعة والاعتدال، كما أصبحت الأنظمة الملكية (دول الخليج والأردن والمغرب) تسعى لتنظيم نفسها في فضاءات تسمح لها بالاستمرارية وتجنب موجة الثورات. من جهة أخرى لم يكن التغيير الحاصل على المستوى القطري فقط، بل الإقليمي وحتى الدولي، حيث التأثير الفاعل للدول العظمى في رسم المعالم الكبرى للنظام العربي بدأ يشهد تنافساً بين قوى إقليمية في مقدمتها تركيا وإيران طبعاً وإسرائيل قبلهما بفترات.

إن آمال الديمقراطية التي انبعثت مع الربيع العربي في عام 2011 من المرجَّح أن يتم القضاء عليها من قِبل الأنظمة التسلطية، ذلك أن آمال الأيام الأولى من يقظة الوطن العربي قد اصطدمت مع الواقع القاسي للتحولات غير المكتملة، وبدلاً من الغبطة على نطاق واسع بالديمقراطية القادمة أخيراً إلى المنطقة، نجد تشاؤم المرء اليوم حول العديد من العقبات والخوف حول ما سيحدث بعد ذلك إلى درجة إبداء الحنين للنظام الاستبدادي القديم.

لذلك فالتعرف إلى واقع المنطقة الجديد واستشراف مستقبلها يبدو أكثر غموضاً، فالخلل أو الخطر الذي يتربص بمصير الربيع العربي هو عدم وجود تصور استراتيجي بعيد المدى لتلك الانتفاضات الجماهيرية، إذ إن أخطر ما فيه هو الانكفاء بدور إسقاط رموز النظام من دون أن يتمكن من التأسيس لتصوّر ونظام بديل، وهذا الوضع سمح بعملية إسقاط للمشاريع الأمريكية على فضاء الساحة العربية، وأدى إلى ربط التحولات الحاصلة في المنطقة مع سيناريو الفوضى الخلاقة.

إنها لعبة مصالح الأمم ولكن بحُلّة جديدة، والدليل السقوط السريع والمريع للأنظمة التي كانت مدعومة من الغرب، وصعود الحراك الشعبي السريع إلى القمة بكل مكوناته من أحزاب وتنظيمات وحركات أصولية وإسلامية، بعضها كان إما محظوراً أو يسمى إرهابياً أو متشدداً، الآن أصبح واقعاً ومفروضاً والتعامل معه ممكناً، وحتى الشراكة والتنسيق معه ممكنة ما دام ضمن الإطار والاتجاه المسموح له بالتحرك به.

وإذا كان البعض يرى أن الثورات العربية الحالية قد تكون الخطوة الأولى نحو قيام أنظمة ديمقراطية وتنمية اقتصادية وربما نحو تحقيق الحلم الذي راود العرب من المحيط إلى الخليج، فالأمر ليس كذلك؛ إن الأحداث الجارية موضوعة على الأجندة الدولية ضمن مشروع عالمي يسمى الشرق الأوسط الجديد الذي سيكون بكل تأكيد على حساب مشروع الوطن العربي الكبير إذا لم تطرأ متغيرات من الداخل العربي.

إذاً، من المبكر أن نعرف اتجاهات الشرق الأوسط الذي يتشكّل، كما أنه من الصعب تحديد ملامح هذا الشرق الأوسط جديداً كان أو كبيراً، ذلك لأن للزلازل ارتداداتها التي ما زالت في المنطقة، وفي كل هذا المشهد الكثيف بالأحداث وتطور المسارات ستحدث تغييرات حتمية، لكن هل باتجاه تحقيق مشروع «شرق أوسطنا» أم «شرق أوسطهم»؟.

 

قد يهمكم أيضاً  مدخل إلى قراءة إجمالية في المشهد العربي

#مركز_دراسات الوحدة_العربية #الشرق_الأوسط #العالم_العربي #الفوضى_الخلاقة #الثورات_العربية #الربيع_العربي #المشهد_السياسي_العربي #الأمن_في_العالم_العربي #الشرق_الأوسط_الجديد #الوطن_العربي #وجهة_نظر

+