تمهيد:

أصبح البحث في الأوضاع العربية الراهنة مصدراً للإحباط الكئيب الذي يخنق الأنفاس ويدمي القلوب ويصدم العقول. كيف لا وقد تحول الأمل في تصحيح حقيقي لمسيرة النظام العربي حين بدأت بشائر ما سمي في حينه الربيع العربي إلى الوضع المخيف الذي يشهده الوطن العربي في اللحظة الراهنة؛ وكيف لا والملايين من أبناء هذه الأمة العظيمة يجبرون بعد مأساة الشعب الفلسطيني على النزوح من وطنهم إلى أوطان غريبة يحلمون فيها بغد أفضل؛ فإن نجحوا فهذا شهادة على فشل النظام العربي ومكوناته، وإن فشلوا فهو الحط من الكرامة بل وضياع الحق في الحياة. كيف لا ودولنا الوطنية التي كان الأنصار المتحمسون للوحدة العربية يعتبرونها عقبة تعترض مسيرة تحقيق هذه الوحدة قد آل عدد منها إما إلى التفكك الفعلي وإمّا حتى القانوني وإمّا إلى خطر هذا التفكك، وأصبح الحفاظ على كياناتها وسلامتها الإقليمية حلماً بعيد المنال. وكيف لا وقد أصبح وطننا العربي مخترقاً بكل أشكال الاختراق من قوى عالمية وإقليمية طامعة فيه أو مرتزقة تصب في خانة الإرهاب سواءٌ لحساب أفكار مريضة أو لحساب قوى خارجية لها استراتيجياتها ومصالحها. وكيف لا والعدو الأول للأمة العربية يمر بأزهى مراحله بعدما شُغلت الأمة بمواجهتها أخطار الإرهاب والتفكيك عن السعي إلى استعادة حقوق الشعب الفلسطيني وحمايته من الهجمة البربرية الصهيونية المتصاعدة. وكيف لا وتيارات الطائفية والمذهبية والتبعية تهدد هويتنا العربية. وكيف لا والمؤسسة العربية الجامعة تقف دون أدنى حراك فاعل أو مفيد في مواجهة الأخطار الداهمة التي تحيط بالأمة، وتمزق بنيتها. بل لقد استدرجت الأمة إلى قرارات كانت تداعياتها خطيرة على قضايا عربية أساسية.

في هذه الظروف تصبح قراءة المشهد العربي الراهن معضلة نفسية قبل أن تكون مشكلة تحليلية. ومع ذلك، لا مفر من محاولة البحث في ملامح المشهد لعلنا نضع أيدينا على مواطن الداء ونفكر في احتمالات استفحاله أو تطويقه، ونستشرف من ثم، سيناريوهات التطور المستقبلي للمشهد وماهية التحرك المطلوب إذا أردنا وقف التدهور والسعي إلى غد أفضل. وفي هذا الإطار يتضمن هذا البحث خمس نقاط فرعية تنتهي بكلمات عن المستقبل.

أولاً: دروس الخبرة الماضية

كان تأسيس جامعة الدول العربية في العام 1945 بمنزلة علامة تنظيمية على نشأة النظام العربي المعاصر وإن كانت الإرهاصات الشعبية لهذه النشأة قد سبقت ذلك كثيراً. ولأن استقلال الدول العربية التي أسست الجامعة أو بعضها كان منقوصاً فقد أتت الجامعة على هذا النحو الضعيف الذي لا زالت تعانيه حتى الآن، ومُني العرب في ظلها بأول هزيمة في الصراع مع إسرائيل بعد ثلاثة أعوام من تأسيس الجامعة. غير أن تداعيات الهزيمة أفسحت الطريق أمام محاولات جادة للتطوير كما تبدّى في عقد معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي في العام 1950، كما أن التداعيات ذاتها كانت عامـلاً مهماً في التعجيل بثورة تموز/يوليو 1952 التي قادت اعتباراً من العام 1955 مرحلة المد القومي التي شهدت تصفية الاستعمار والاحتلال الأوروبيين في الوطن العربي، عدا الحال الفلسطينية التي بدأت فيها مع ذلك إرهاصات المقاومة المنظمة وتبلور الكيان السياسي اعتباراً من العام 1965، كما نجح النظام العربي في مرحلة المد القومي في التصدي لمحاولات الاختراق الخارجي وأهمها مشروعا حلف بغداد وأيزنهاور، كما تحقق فيها الإنجاز التاريخي للوحدة المصرية – السورية (1958 – 1961)، وعلى الرغم من تفكك الوحدة قبل أن تكمل عامها الرابع فهي كانت، أولاً، دلالة على إمكانية تحقيق الوحدة العربية، وثانياً، معيناً لدروس بالغة الأهمية للنضال الوحدوي العربي، كما عجّلت ثالثاً بالثورة العراقية في تموز/يوليو 1958. وفي مرحلة المد القومي أيضاً تحققت خطوات مهمة على طريق العدالة الاجتماعية كما اتسمت حركة الجماهير العربية بفاعلية ظاهرة في عدد من المعارك التي واجهت الأمة فيها خصومها.

وعلى الرغم من تعدد الصراعات البينية العربية التي شابت مرحلة المد القومي العربي، فإنه يلاحظ أولاً أن جانباً يعتد به من هذه الصراعات كانت له وظيفته التطويرية، وثانياً أن هذه الصراعات كانت تتوارى إلى الخلف عند بروز تهديد خارجي للنظام العربي لتتيح الفرصة لقيام تحالف عربي ضد هذا التهديد. حدث هذا في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وفي العدوان الإسرائيلي في العام 1967 وما أعقبه من تحالف عربي استمر بنجاح حتى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي مثلت ذروة التضامن العربي في وجه أعداء الأمة، إذ سوف نفتقد هاتين السمتين للصراعات العربية – العربية لاحقاً في المراحل التالية لتطور النظام العربي، وتحديداً عقب أزمة الخليج 1990.

وبوقوع هزيمة العام 1967 تلقت مرحلة المد القومي ضربة قاسية، وكانت نكسة الوحدة المصرية – السورية في 1961 قد مثلت في حينه تراجعاً لا شك فيه، لكن استمرار المد الثوري وبخاصة بعد نجاح ثورة اليمن في العام التالي للانفصال والدعم المصري العسكري الصارم لها تكفّلا باستمرار موجة المد القومي. ومع أن هزيمة العام 1967 مثلت انتكاسة لهذا المد، إلا أنه استمر، سواء بتصاعد حركة التحرر من الاحتلال الإنكليزي في جنوب اليمن وصولاً إلى استقلاله بعد خمسة شهور فقط من هزيمة حزيران/يونيو 1967، أو بالاستعداد الجاد لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي، وهذا ما ظهر جلياً في حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، وصولاً إلى أول سابقة لعمل عربي مخطط في المجال العسكري كما ظهر في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وأول سابقة كذلك لتخطيط استراتيجي عربي كما في توظيف سلاح النفط إبان الحرب.

غير أن الإدارة السياسية لثمار الحرب تسببت في تأكيد التداعيات السلبية لهزيمة حزيران/يونيو؛ فقد أقدم الرئيس المصري أنور السادات أولاً على توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأولى مع إسرائيل في كانون الثاني/يناير 1974، التي أنهت ضمن مثالب أخرى استخدام سلاح النفط، ثم عاد ثانية فتوصل في أيلول/سبتمبر 1975 إلى اتفاقية فض الاشتباك الثانية التي أنهت مصر بموجبها حال الحرب مع إسرائيل مقابل تحرير الجزء الثاني من سيناء (بافتراض أن ما حررته القوات المصرية في الحرب هو الجزء الأول)، وتالياً أصبح مصير ما تبقى من أرض سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي رهناً بمفاوضات مع إسرائيل، وهو ما أفضى بالسادات إلى مبادرته إلى زيارة القدس في العام 1977 وتوصله إلى اتفاقية كامب دايفيد مع إسرائيل في العام 1978، ثم معاهدة سلام معها في العام 1979، لتكون هذه التطورات بداية لانشقاق مصري – عربي شبه كامل، وكانت هذه بداية أو تأكيداً لمرحلة انتهى فيها المد القومي وحل محله انحسار ظاهر لازم النظام العربي. غير أن تطورات الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) سهلت عودة العلاقات المصرية – العربية، وما كاد هذا التطور يتم ويبعث الأمل في أن يكون له مردود إيجابي على النظام العربي حتى وقعت أزمة الغزو العراقي للكويت التي كانت علامة فارقة في تطور النظام العربي، لسببين على الأقل، أولهما أن تهديد أمن دولة عربية قد تم من داخل هذا النظام، وهو ما ألقى ظلالاً من الشك على فكرة الأمن الجماعي العربي وأولوياته، وثانيهما أن آلية دفع هذا الغزو قد تمثلت بتدخل دولي غير مسبوق تزعمته الولايات المتحدة أسس لاحقاً لمزيد من اختراق النظام العربي وتخريبه، وبخاصة عقب غزو العراق في العام 2003.

وفي مرحلة الانحسار عاد الاحتلال الأجنبي إلى الوطن العربي ممثـلاً بالاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982 والغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 والإثيوبي للصومال في العام 2006، وانهار الجدار الذي كان النظام العربي يصد عنده محاولات الاختراق الخارجي، فزاد الاختراق الإسرائيلي للوطن العربي بعد المعاهدة المصرية – الإسرائيلية وكذلك بعد الغزو الأمريكي للعراق ناهيك بدول عربية سارعت إلى إقامة علاقات تجارية مع إسرائيل بل وعلاقات دبلوماسية كاملة، كما في الحال الموريتانية، وإن كانت موريتانيا هي الدولة العربية الوحيدة التي قضت على هذا الاختراق بقطعها العلاقات مع إسرائيل في سياق الرد على عدوانها الوحشي على غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008 – كانون الثاني/يناير 2009. وزاد الاختراق الأمريكي كذلك بعد دور الإدارة الأمريكية في السلام الرسمي بين مصر وإسرائيل وتشديد القبضة الأمريكية على مصر وبعد غزو العراق والتلاعب بمصيره أيضاً، كما زاد الاختراق الإيراني بعد تفكيك مفاصل الدولة العراقية، وهكذا.

وأخذ هدف الوحدة العربية يتوارى بالتدريج كما اتضح في تراجع معدلات المشروعات الوحدوية أولاً وبروز صيغة التجمعات الفرعية ثانياً، التي لم تصمد إلا في حال مجلس التعاون الخليجي، الذي يعاني باعتراف أعضائه عدم الفاعلية، كما فشلت مبادرة الملك عبد الله بتحويله إلى اتحاد، ثم دخلنا في مرحلة تفكيك الدول، بدءاً بالصومال في العقد الأخير من القرن الماضي وصولاً إلى السودان في العام 2006، ناهيك بخطر التفكيك الذي تعرض له اليمن في العام 1994 ثم في العقد الأول من هذا القرن، والخطر الذي تعرض له العراق منذ الغزو الأمريكي، وتراجع كذلك هدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وبخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتشار مقولات انتصار الرأسمالية ونهاية التاريخ، وحماسة نخب حاكمة عربية متعددة لهذه التطورات، وتبني أطر رأسمالية للتنمية وبروز ظاهرة زواج السلطة والمال، وأخيراً وليس آخراً، سادت الجماهير العربية حالاً من السكون إزاء كل ما ألمّ بالوطن العربي، حتى إن حركة الجماهير في عدد من البلدان غير العربية، بما في ذلك بلدان أوروبية وأمريكية، تجاوزت كثيراً حركة الجماهير العربية، كما بدا واضحاً في واقعتي الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 والغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. واكتسبت الصراعات البينية العربية طابعاً استنزافياً تدوم بموجبه سنوات من دون أن يكون لها مردود تطويري.

ومع ذلك، فإن المراحل التاريخية تعبر عن سمات وملامح أساسية لا تمنع وجود استثناءات، فكما شهدت مرحلة المد القومي تفكك الوحدة المصرية – السورية من دون أن يؤثر ذلك في مجراها العام، شهدت مرحلة الانحسار إنجازات تاريخية كما في إجبار المقاومة اللبنانية إسرائيل على الجلاء مرتين في أقل من عقدين، أولاهما بعد احتلال العام 1982 والثانية بتحرير الشريط الجنوبي المحتل في العام 2000، ناهيك بالتصدي الناجح لعدوان العام 2006. كما أن المقاومة العراقية أجبرت الغزاة الأمريكيين على الجلاء عن العراق بعدما كبدتهم آلاف القتلى وعشرات الألوف من الجرحى.

وتجلت المقاومة الفلسطينية في أقوى صورها مرتين، الأولى في انتفاضة الحجارة التي بدأت في كانون الأول/ديسمبر 1987، والثانية في انتفاضة الأقصى التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2000. وأفضت الانتفاضة الأولى إلى توقيع إسرائيل في العام 1993 اتفاقية أوسلو التي مثلت رغم عيوبها الفادحة أول اعتراف إسرائيلي بالشعب الفلسطيني ومنظمته، بينما أدت تداعيات الانتفاضة الثانية إلى إجبار إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة في العام 2005 وتفكيك المستوطنات حولها في سابقة هي الأولى في نوعها؛ وتحققت الوحدة اليمنية في العام 1990 وانتصرت عسكرياً على مناوئيها في العام 1994، غير أنه بالمنطق نفسه الذي اعتبر تفكك الوحدة المصرية – السورية غير مؤثر في المجرى العام للمد القومي، فإن بطولات المقاومة العربية لم تُنهِ للأسف الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ولا هي عالجت آثار الغزو الأمريكي في العراق كياناً وشعباً، وأدى سوء أداء النظام اليمني بعد الانتصار على الانفصاليين في العام 1994 إلى ظهور إرهاصات تمرد في جنوب اليمن وصلت بالتدريج إلى حد المطالبة بالانفصال، وعكس أداء النظام العربي الرسمي حالاً من العجز التام كما تبدى في الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث اتجه النظام العربي رسمياً اعتباراً من العام 1982 إلى التسوية مع إسرائيل بموجب مبادرة فاس، بعدما قامت الدنيا ولم تقعد عقب السلام الرسمي بين مصر وإسرائيل، وظلت مبادرة فاس «على الطاولة» عشرين عاماً حتى استبدلت بها مبادرة بيروت في العام 2002 التي تضمنت تنازلات أفدح وفشلت حتى الآن في التقدم قيد أنملة باتجاه تسوية متوازنة للصراع العربي – الإسرائيلي.

هكذا كان المشهد العربي قبيل زلزال ما سمي الربيع العربي.

احصلوا على نسختكم من الكتاب وبعرض خاص جداً:

[button class=”” style=”type-1″ icon=”fa-eject” iconcolor=”#183f7f” iconbgcolor=”#ffffff” url=”https://caus.org.lb/product/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/” target=”_self” color=”#ffffff” bgcolor=”#183f7f” size=”small” ]مستقبل التغيير في الوطن العربي[/button]

 

ثانياً: بنية النظام العربي

حين اشتعلت في تونس الشرارة الأولى لانتفاضة الشعوب العربية ضد أنظمتها المستبدة في آخر العام 2010 وامتدت بسرعة لافتة للنظر إلى عدد من البلدان العربية، أهمها مصر واليمن وليبيا وسورية، تجسدت آمال كبار في أن تكون هذه بداية إصلاح جذري أو حتى تغيير جوهري في النظام العربي ينطلق من حقيقة أن الشعوب في هذه البلدان في سبيلها إلى الإمساك بمصيرها وتأسيس نظم ديمقراطية تتسم بالكفاءة والفاعلية. غير أن انقسام القوى الثورية وافتقارها إلى التنظيم ومسارعة القوى المنظمة لما يسمى الإسلام السياسي إلى القفز لاغتنام السلطة، والتدخل الخارجي المباشر وغير المباشر – الذي تم للأسف بدعوة عربية – كلها عوامل أفضت إلى الوضع القائم حالياً في النظام العربي: أنصاف ثورات أو أقل، صراعات داخل الدولة الواحدة بين خصوم متناحرين، تدخل خارجي ظاهر على جميع الصعد عربياً وإقليمياً ودولياً، زخم إرهابي غير مسبوق يستند إلى مقاتلين من داخل الوطن العربي وخارجه وصل إلى حد التعبير عن نفسه على الأرض كما في تنظيم «الدولة الإسلامية» في سورية والعراق، وخطر حقيقي على عدة كيانات من البلدان العربية.

هكذا طرأ تحول ظاهر على خريطة الصراعات في الوطن العربي؛ فالمتابع هذه الخريطة يدرك بسهولة كيف تحولت من غلبة الصراعات العربية – الإقليمية، كالصراع العربي – الإسرائيلي والحرب العراقية – الإيرانية والنزاعات العربية – العربية، كالنزاع بين السعودية واليمن، والنزاع السعودي – الهاشمي، والعراقي – الكويتي، والسوري – العراقي، والمصري – السوداني، واليمني – اليمني قبل الوحدة، والجزائري – المغربي، إلى شيوع النزاعات داخل البلدان العربية نفسها إلى حد لافت للنظر، كما نرى الآن بوضوح في الصومال وليبيا وسورية والعراق واليمن والسودان وفلسطين ومصر ولبنان بدرجات متفاوتة، وقد تطول القائمة أكثر من ذلك.

صحيح أن جذور ظاهرة النزاعات الداخلية العربية ترجع إلى المراحل الأولى من نشأة النظام العربي المعاصر كما في الحالات اليمنية والسودانية واللبنانية والعراقية، التي بدأت النزاعات فيها منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي وامتدت بعد ذلك على نحو منتظم في عقود أخرى، كما شملت حالات أخرى كالصومال في التسعينيات، لكن الصورة الآن تبدو مختلفة بكثافة أشد وتعقيدات أكثر وتدخلات خارجية أوضح.

تعود ظاهرة الصراعات داخل البلدان العربية بصفة عامة إلى عوامل جغرافية وسكانية واقتصادية وسياسية متعددة، غير أن تفاقمها في السنوات الأخيرة وصولاً إلى الوضع الراهن يعود إلى تداعيات الربيع العربي كما بدت الحال بوضوح في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، إذ نتيجة غياب قوى ثورية قادرة على ترجمة تلك المحاولات إلى تغيير حقيقي تعبر عنه نظم سياسية مستقرة تزامنت إطاحة الحكام في تلك الدول، أو السعي إلى إطاحتهم، مع حال من عدم الاستقرار الواضح بلغ أشده في الحالات السورية والليبية واليمنية، وفاقم من هذا أن التيار السياسي الذي ينسب نفسه إلى الإسلام استطاع، نتيجة حسن التنظيم المعروف عنه، أن يهيمن، بدرجة أو بأخرى ولو إلى حين، على التفاعلات السياسية كما في تونس ومصر، وأن يكون متغيراً فاعـلاً كما في الحالات السورية والليبية واليمنية والعراقية، وأن تكون إطاحته مصدراً لنزاع جديد كما حدث في مصر اعتباراً من حزيران/يونيو 2013، كما أن تنويعات ذلك التيار وما تضمنه من فصائل بالغة العنف أدت للمرة الأولى في التاريخ المعاصر للإرهاب إلى تحقيق مكاسب إقليمية والإعلان عن نفسه في صورة دولة كما الحال بالنسبة إلى داعش في كل من العراق وسورية ومحاولة التغلغل في ليبيا ولبنان والسعودية واليمن بل ومصر.

يضاف إلى العوامل التفسيرية السابقة دعم الإرهاب من داخل النظام العربي، كما في الاتهامات الموجهة إلى نظامي الحكم في قطر والسودان، والدعم المالي الذي يحصل عليه الإرهاب من دوائر عربية غير رسمية ومن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وربما بعض القوى الإقليمية الكبرى ناهيك بالتباس الموقف الأمريكي من الإرهاب بسبب ما يبدو من تفكير أمريكي استراتيجي خاطئ أو مغرض يراهن على أن يكون الإخوان المسلمون، رغم كل ما بدا من عنفهم، رقماً أساسياً في معادلة مستقبل الشرق الأوسط، وهو رهان خاطئ لما بدا من فشلهم في الحكم، وبالذات في مصر وبدرجة أقل في تونس، أو أنه خيار مغرض بمعنى أن تكون النية الأمريكية المبيتة من وراء هذا التفكير هي حقن العملية السياسية في المنطقة بفيروس عدم الاستقرار والتفكك لتسهيل السيطرة عليها، مع أن تحقيق ذلك لن يكون سهـلاً بالضرورة في ظل الفوضى المدمرة التي يمكن أن تسود.

ولا يقل خطورة عن تفاقم النزاعات الداخلية ما كشفت عنه من سمات لم تكن مألوفة في السابق في هذه الصراعات، كما هي الحال في البعد الطائفي، وتحديداً على المحور الشيعي – السني، كما يبدو بوضوح في الحالين العراقية والسورية وبدرجة أقل في اليمن، وكذلك في البعد الديني الإسلامي – المسيحي نتيجة موقف التنظيمات البالغة التطرف التي تنسب نفسها إلى الإسلام تجاه غير المسلمين، وما ترتب على هذا الموقف من عمليات قتل وتفجير لدور العبادة وتدميرها على نحو بشع. يضاف إلى هاتين السمتين بروز دور الفاعلين من غير الدول، كما في قتال «حزب الله» في لبنان إلى جوار النظام السوري، وظاهرة داعش التي أعلنت دولتها على جزء من إقليمي العراق وسورية، وحركة حماس التي اتهمت في مصر بدعم الإرهاب في سيناء.

وقد ترتبت على كل ما سبق حال من الاستقطاب الحاد جعلت التوصل في المدى القريب إلى تسويات لهذه الصراعات مستحيـلاً، وتالياً فهي مستمرة ولو إلى حين في إحداث آثارها التدميرية في بنية النظام العربي. وتتمثل هذه الآثار بمشهدين محتملين، أولهما الإضعاف البيّن الذي أصاب عدداً غير قليل من البلدان العربية كسورية والعراق وليبيا واليمن وبدرجة أقل لبنان ومصر، وثانيهما مشهد التجزئة المخيف الذي يهدد النظام العربي ويؤكد التحول الذي طرأ على واحد من أهم أهدافه، وهو تحقيق التكامل والاندماج بين وحداته، إلى محاولة الحفاظ على تماسك كل وحدة على حدة وسلامتها الإقليمية. هكذا بات النظام العربي مهدداً بأن يزيد عدد وحداته بمقدار الثلث على الأقل؛ ففي مشهد التجزئة، في ظل من مزيد من تردي الأوضاع العربية وزيادة اختراقها من الخارج، يمكن أن يكون العراق مهدداً بالتفكك إلى ثلاث دول وكذلك سورية واليمن وليبيا، ناهيك بالحالات الموجودة أصــلاً بحكم الأمر الواقع في الصومال والسودان. ويعني استمرار الإضعاف وتفاقم التجزئة والتفاعلات الصراعية التي ستنجم عنها أن النظام العربي لن يكون رقماً فاعـلاً في المعادلات الإقليمية والعالمية، وإنما سينكفئ على نفسه، تنهشه صراعاته ويزداد اختراقه من الخارج. وما يزيد الأمر سوءاً ما كشفت عنه تطورات السنوات الأخيرة من أن مشروع بناء دولة عربية حديثة قد أخفق باستثناءات قليلة في الوطن العربي. وقد رأينا كيف غابت «الدولة» عن مواجهة التحديات أو عجزت عن المواجهة الفاعلة كما يبدو بوضوح من الحالات العراقية والسورية واليمنية والليبية، ومن قبلها كثيراً الحال الصومالية وبعدها السودانية، ومن المؤسف أن ما خفي ربما يكون أعظم.

وقد أدى هذا الانكفاء إلى الداخل لمواجهة تداعيات الصراعات الداخلية وتفاقم الإرهاب الذي هدد كيانات دول عربية كثيرة إلى تغير واضح في جدول أولويات النظام العربي، تصدرت بموجبه قضية مواجهة الإرهاب هذه الأولويات على حساب القضايا الأخرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي بصفة عامة. وهكذا فإن النظام العربي فقد من الناحية العملية اهتمامه بهذه القضية، بعدما كان قد فقد فاعليته.

بعد خريطة الصراعات وتأثيرها في بنية النظام العربي تأتي أنماط التحالفات. يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي يرد على متانة التحالف بين أعضائه أكثر من تحفظ، كان آخرها تعثر مشروع تحويل المجلس إلى اتحاد كان ملك السعودية عبد الله هو المبادر إليه، والأزمة غير المسبوقة التي تعرض لها المجلس وتضمنت سحب كل من السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة، وهي الأزمة التي وجدت طريقها إلى الحل في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 بالإعلان عن «اتفاق الرياض التكميلي» الذي أعيد السفراء بموجبه، وذلك بعد قمة استثنائية عقدت في الرياض بغياب عمان قبيل قمة الدوحة التي انعقدت في الشهر الذي يليه.

وقد استحوذ التقارب المصري – الخليجي، باستثناء قطر وعمان، على اهتمام كبير كونه قد يكون مقدمة لظهور تحالف عربي قوي جديد، وبالذات بين مصر والسعودية والإمارات، يستند إلى دعامتين أساسيتين، تتمثل الأولى بالتأييد الحاسم من جانب هاتين الدولتين للنظام المصري بعد إطاحة حكم الإخوان المسلمين عقب ثورة الشعب المصري ودعم القوات المسلحة هذه الثورة في 30 حزيران/يونيو 2013 وتأييد هذه الدول هذا التغيير وإعلان القصر الملكي السعودي مباركته التغيير بعد ساعات من حدوثه، واستمرار هذا الموقف في تحدٍ واضح للولايات المتحدة وموقفها تجاه مصر. وقد شمل هذا التأييد البعدين السياسي والاقتصادي معاً. أما الدعامة الثانية، فهي الدور السياسي الذي أداه النظام المصري في وقف التقدم السياسي للإخوان المسلمين في الوطن العربي انطلاقاً من سيطرتهم على الحكم في مصر، وقد مثل الإخوان بأفكارهم وسلوكهم هاجساً حقيقياً لدول الخليج، وربما دولة الإمارات بصفة خاصة، التي أعلنت عن اكتشاف تنظيم تابع لهم يضم مصريين مقيمين في الإمارات ومواطنين، عمل التنظيم على تجنيدهم، فضـلاً عن تصريحات صدرت عن إحدى القيادات البارزة للإخوان المسلمين في مصر تسيء إلى الإمارات شعباً وقيادة.

كذلك كان مبدأ التدخل العسكري المصري المحتمل لحماية أمن الخليج العربي قد طرحه الرئيس المصري حتى قبل انتخابه، واختزل في عبارة أجاب بها عن سؤال في لقائه إحدى الفضائيات العربية عما إذا كان من الممكن لمصر أن تلبي طلباً خليجياً بالمساعدة العسكرية ضد أخطار تهدد ذلك الأمن، وهي عبارة «مسافة السكة»، بمعنى أن الاستجابة المصرية لهذا الطلب لن تستغرق من الوقت أكثر من الزمن اللازم للوصول إلى موقع الخطر. وعلى الرغم من عمومية العبارة، فإنها أسست لمبدأ أن مصر جادة في نية المشاركة في الدفاع عن أمن الخليج إن طلبت دوله ذلك. وقد خضع هذا التحالف المحتمل للاختبار بمناسبة «عاصفة الحزم» التي بدأت في آذار/مارس 2015 ضد الحوثيين وأنصار علي عبد الله صالح في اليمن؛ إذ شاركت مصر في التحالف الذي أنيطت به هذه المهمة، وبالذات بقوة بحرية وجوية، غير أن تقارير قد تحدثت عن عدم رضا سعودي عن مستوى المشاركة المصرية، وبالذات عدم المشاركة بقوات برية. وقد جاء ذلك على خلفية تقارير سابقة بالغت في أثر التغيير في القيادة السعودية في علاقة هذه الدولة بمصر، فضـلاً عن أنه من الواضح تماماً الآن أن ثمة اختلافاً بين الرؤيتين المصرية والسعودية لحل الأزمة السورية، وعلى الرغم من الأسس القوية للتعاون المصري – السعودي والمصالح الاستراتيجية المتبادلة بين الدولتين، وكذلك الدعم الإماراتي الواسع لمصر، فإن ما يعنينا هنا أنه قد يكون من غير الدقيق الحديث عن تبلور تحالف ثلاثي راسخ يجمع الدول الثلاث معاً، إذ ثمة أنماط أخرى لتحالفات محتملة لكن تناولها يقع ضمن تحليل الاختراق الخارجي للنظام العربي لأنها تتضمن أطرافاً إقليمية ودولية.

ثالثاً: تهديد الهوية العربية

تأسس النظام العربي أصـلاً على قاعدة التمييز بين العروبة والإسلام ليس بمعنى وجود تناقض بينهما وإنما كمبرر أيديولوجي صحيح للرغبة في الاستقلال عن الدولة العثمانية. ولا يعني هذا أن كل العرب كانوا يؤمنون بهذه الفكرة، فقد كانت في البدء فكرة مشرقية بامتياز، إذ كانت سلبيات الحكم العثماني ظاهرة في المشرق العربي بالذات، ولقد ساهم مفكرون عظام في بلورة الفكرة العربية وتعزيزها إلى جانب أحزاب وتنظيمات قومية وزعامات عربية تاريخية، وذلك في مواجهة دعاوى التعصب للدولة الوطنية والأطر الشرق أوسطية والمتوسطية والإسلامية. وإذا كان الإطار الوطني المنغلق قد نظر إليه من أنصار العروبة على أساس أنه يمكن أن يمثل عقبة أمام تحقيق الوحدة العربية، فإن الإطارين الشرق الأوسطي والمتوسطي اعتبرا آلية لتمزيق رابطة العروبة وتمييعها حيث يجتزئ كل منهما قسماً من البلدان العربية ويوجد أساساً لرابطة ببلدان أخرى غريبة عن الهوية العربية، أما الإطار الإسلامي فحتى لو لم يتناقض مرحلياً مع تحقيق الوحدة العربية فهو من شأنه أن يوسع نطاقها بحيث تضم بلداناً إسلامية لا يجمعها مع البلدان العربية إلا رابطة الدين.

في هذا الإطار تحققت الوحدة المصرية – السورية (1958 – 1961) وبدا أن تحقيقها مجرد بداية لتحقيق الوحدة العربية؛ غير أن تفككها أثار جدلاً واسعاً حول ما إذا كان الخطأ في الفكرة أم في التطبيق، ورغم التمسك بالعروبة من جانب قيادات متعددة ونخب واسعة في الوطن العربي وعدم توقف المد القومي بعد تفككها، فإن تطورات مثل هزيمة 1967 ووفاة الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر من دون أن يترك مؤسسات قوية فاعلة تواصل مسيرته، ثم تفكك حزب البعث، و«السلام» المصري – الإسرائيلي وفجوة الفقر والغنى في الوطن العربي، كلها عوامل أدت دوراً في اهتزاز الفكرة العربية ولو نسبياً، بدليل تراجع محاولات الوحدة العربية عبر الزمن. وقد أدى الغزو العراقي للكويت في العام 1990 دوراً في تعزيز هذا الاهتزاز لدى البعض بعدما ظهرت أفكار كالقول إن الخطر قد جاءنا من دول عربية لا من إسرائيل إو إن الأمن لم يتحقق إلا بإرادة الولايات المتحدة وقوتها.

غير أنه يمكن القول إن الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 مثّل نقطة تحول في هذا الصدد، فالمردود الفعلي لسياستها في إدارة العراق بعد الغزو أشعل فتنة طائفية لم يكن هذا البلد العربي الأبي يعرفها على الرغم من الاعتراف بوجود مسألة طائفية في عدد من البلدان العربية ومنها العراق بدرجة أو بأخرى. ويؤكد كتاب بول بريمر، الحاكم العسكري للعراق، المسؤولية الدامغة للولايات المتحدة عن إشعال الفتنة الطائفية في العراق، كما أن «مجلس الحكم المؤقت» الذي ألّفه قام على أساس طائفي وإثني، إضافة إلى أن «قانون الإدارة المؤقتة للعراق»، الذي أصدره والذي تم اعتماده في ما بعد كأساس للدستور العراقي قام بدوره على أسس طائفية. وهكذا شهدت سنوات ما بعد الغزو الأمريكي للعراق صعوداً للهويات الطائفية والمذهبية والإثنية تُرجم في صراعات عنيفة في بعض الأحيان وأضاف أو عزز بعداً انقسامياً جديداً للمجتمعات العربية، وأصبحت مصطلحات «السنة» و«الشيعة» حاضرة في الجدل الفكري في الوطن العربي، وتواتر على الصعيد السياسي الحديث عن اصطفاف وتحالفات شيعية وأخرى سنية بين الدول أو عبرها، وعكست وثائق دستورية عربية علامات الحيرة أو الارتباك أو التراجع بالنسبة إلى النص على الهوية العربية.

وإذا كانت الإشارة قد تمت إلى واقعة الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 كنقطة تحول في تصعيد الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية على حساب الهوية العربية بمبادرة وتشجيع من السياسة الأمريكية، فإن هذا الاتجاه قد استمر لاحقاً وثابرت مؤسسات رسمية في الدول الغربية، وبالذات الولايات المتحدة، وكذلك مراكز بحثية ووسائل إعلام، على محاولة تعميق المفاهيم السالبة للعروبة لدى أبناء الأمة بما يعمق دواعي الانقسام والتفتيت استناداً إلى أسس طائفية، مع أن هذه الإثنيات كما يقول علي الدين هلال «عاشت لعقود طويلة في سلام مع بعضها بعضاً، وشارك أبناؤها في الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، ونشأت الأحزاب السياسية على أسس أيديولوجية وفكرية وليست إثنية وطائفية، وتولى أعلى المناصب في هذه الدول قيادات من إثنيات وطوائف مختلفة، ومؤدى هذا ضرورة التفرقة بين التنوع الإثني كحقيقة وجودية اجتماعية لا مراء فيها وتسييس العلاقات الطائفية أو الطائفية السياسية»، غير أن الخلط قد وقع بفعل خارجي متعمد أدى إلى تهديد حقيقي للهوية العربية بوصفها المقوم الأساسي للنظام العربي.

رابعاً: تفاقم الاختراق الخارجي

سبقت الإشارة إلى نجاح النظام العربي في مرحلة المد القومي في صد محاولات الاختراق الخارجي كافة، غير أن جدار الصد بدأ في التداعي بفعل السلام المصري – الإسرائيلي وأزمة الخليج في العام 1990 والغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، وهو ما أدى إلى زيادة غير مسبوقة في هذا الاختراق سواء من حيث الأطراف الفاعلة فيه أو من حيث شدته، وهكذا تفاقم الاختراق الأمريكي والإسرائيلي والإيراني للنظام العربي.

وكما سبقت الإشارة، فقد مثل ما سمي الربيع العربي أمـلاً في النهوض بالنظام العربي، غير أن مآله، وبالذات في الدول التي أطاحت فيها انتفاضات الربيع رؤوس النظم الحاكمة، أفضى إلى تفاقم ظاهرة الاختراق الخارجي للنظام العربي بسبب تعثر محاولات التغيير وعدم الاستقرار في الدول التي نجح فيها هذا التغيير، وتحول عدم الاستقرار هذا في معظم الحالات إلى صراعات داخلية محتدمة. والخلاصة أن تطور الأوضاع السياسية في كل البلدان التي استهدفتها موجة ما يسمى الربيع العربي على نحو مباشر قد فتح الطريق، بما أفضى إليه من عدم استقرار وانقسام، أمام زيادة نوعية في الاختراق الخارجي الذي يمكن تحليله من خلال الإشارة إلى ثلاثة أبعاد:

البعد الأول هو تدفق مقاتلين أو مرتزقة إلى البلدان التي تعاني الصراعات، وبالذات إلى سورية وليبيا واليمن، أو تأييد قوى إقليمية ودولية لهذا الطرف أو ذاك في الصراعات القائمة. يضاف إلى ما سبق أن عدم الاستقرار المزمن في العراق بعيداً من «الربيع العربي» وتفاقم مخاطر تفكيكه وتهميش سنَّته كلها عوامل أفضت إلى ظاهرة داعش الخطيرة التي يثور الشك في أنها أصـلاً صنيعة مخططات خارجية. وأدت تداعيات هذه الظاهرة في ظل ضعف النظامين العراقي والسوري إلى إعطاء ذريعة إضافية لمزيد من التدخل الإيراني في كل من العراق وسورية ولما يسمى التحــالف الــدولي بقيادة الولايات المتحدة لشــن غارات جوية على «داعش» في أراضي كل من العراق وسورية من دون موافقة الأخيرة، إضافة إلى الاتهامات التي وجهت إلى تركيا بدعم خفي لداعش. وأخيراً وليس آخراً جاء التدخل الروسي في الصراع على أرض سورية بطلب من حكومتها.

أما البعد الثاني في تفاقم الاختراق عقب «الربيع العربي» فهو الارتباك والضعف العربيان. وسوف تجيء الإشارة إلى المسؤولية غير المباشرة لقرارات جامعة الدول العربية التي أفضت في النهاية إلى التدخل الأطلسي في ليبيا الذي يعد مسؤولاً إلى حد كبير عما آلت إليه أوضاعها حتى الآن، كما أنها في الحال السورية لم تتمكن الجامعة من أن يكون لها أدنى سيطرة على الأوضاع في سورية، وبالذات من منظور التسوية السياسية، ولا أدنى قدرة على منع الاختراق الخارجي للساحة السورية. وفي اليمن اقتصر معظم المواقف العربية على إدانة السيطرة الحوثية على صنعاء ومفاصل الدولة فيها وفي الأماكن التي امتدت سيطرتهم إليها، والمساعدة الخليجية، وبالذات السعودية، للقوى المناوئة للحوثيين، واتخذت هذه المساعدة أساساً الشكل المالي والدبلوماسي والعسكري بدعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي. لكن هذا كله لم يمنع تزايد الدعم الإيراني للحوثيين.

والبعد الثالث في تفاقم الاختراق الخارجي للنظام العربي هو البعد الإقليمي. ومن الواضح في الإطار الإقليمي لهذا النظام أنه يواجه مشروعين إقليميين للهيمنة، حقق أولهما وهو المشروع الإيراني نتائج محددة في كسب مواقع نفوذ في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، وليس ببعيد تصريح علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني لشؤون القوميات والأقليات المذهبية في منتدى عن الهوية الإيرانية تضمن ما نصه «أن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما هي في الماضي»، وتلك إشارة تاريخية إلى عهد الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي مدت سيطرتها على العراق، وقد كان هذا التصريح موضع تنديد واسع النطاق من جهات مختلفة عراقية وعربية، وهو ما أدى كالعادة إلى أن تخرج تصريحات رسمية إيرانية تدفع بسوء التأويل.

أما المشروع التركي الذي قد يكون أقل إنجازاً لكنه بالتأكيد ليس الأقل طموحاً، فقد كان في السابق يعتمد على ما حققته تركيا من تقدم اقتصادي يسمح لها بالتغلغل في الوطن العربي وما أدخلته من تطوير على موقفها تجاه إسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي بحيث تبدو – كما تحرص إيران أيضاً – ملكية أكثر من الملك بالنسبة إلى تأييد العرب والفلسطينيين. وأضيف الآن إلى دعائم المشروع التركي مساندة «الإخوان المسلمين» في سعيهم إلى استعادة السلطة في مصر، والوصول إليها أو الانفراد بها، وفي غيرها من البلدان العربية، غير عابئة بما أدى إليه ذلك من خسارتها مصر ذات المكانة المحورية في النظام العربي، ومن استعداء قوى متعددة في البلدان العربية، وربما أضيف مؤخراً إلى دعائم المشروع التركي في الوطن العربي ما تردد عن رغبة القيادة السعودية الجديدة في إقامة تحالف سني تكون تركيا طرفاً أساسياً فيه، وهو إلى حد بعيد منطق يشبه في طبيعته الاستجارة من الرمضاء بالنار.

احصلوا على نسختكم من الكتاب وبعرض خاص جداً:

[button class=”” style=”type-1″ icon=”fa-eject” iconcolor=”#183f7f” iconbgcolor=”#ffffff” url=”https://caus.org.lb/product/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/” target=”_self” color=”#ffffff” bgcolor=”#183f7f” size=”small” ]مستقبل التغيير في الوطن العربي[/button]

 

ومن الأمور ذات الدلالة في هذا الصدد أن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو ألقى كلمة في مناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لانتصار العثمانيين في آذار/مارس 1915 في معركة «شناق قلعة» ضد الأسطولين البريطاني والفرنسي اللذين كانا يحاولان احتلال المضايق التركية، ولا تخرج روح هذه الكلمة عن تصريح مستشار الرئيس الإيراني، فقد تطرقت إلى الأمر من زاوية دينية وعثمانية عبر التركيز على «وحدة المصير بين شعوب المنطقة تحت الحكم العثماني والنصر الإلهي للجنود المؤمنين». واستشهد أوغلو بأن قتلى سقطوا خلال خوضهم المعركة في صفوف الجيش العثماني أتوا من بغداد وحلب وبيروت وأصقاع العالم الإسلامي دفاعاً عن عاصمة الخلافة العثمانية. والطريف أن مؤرخين أتراكاً مشهورين قد نبهوا أوغلو إلى أن العرب لم يرسلوا متطوعين للمشاركة في الحرب، وأن دول الشام عانت في تلك المرحلة أسوأ حقبة في تاريخها، وأن الشبان العرب كانوا يقتادون عنوة للقتال في صفوف الجيش العثماني.

أما الاختراق الأمريكي، فقد سبقت الإشارة إليه وإلى تفاقمه، سواء عقب الغزو العراقي للكويت في العام 1990 أو عقب الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. وربما يكون الجديد في هذا الصدد هو الغارات العاجزة التي يقوم بها طيران التحالف الدولي بقيادة أمريكية ضد مواقع داعش في العراق وسورية، وتقوم بها من حين إلى آخر طائرات أمريكية من دون طيار على مواقع القاعدة في اليمن، غير أن الأهم من ذلك من دون شك هو ما يبدو من رؤية أمريكية ملتبسة ما زالت تتمسك بدور أساسي في مستقبل المنطقة لما تسميه القيادات الإسلامية المعتدلة. وهذا أمر ينعكس على موقفها غير الودي من النظام القائم في مصر وكذلك رفضها تأييد الحكومة الشرعية في ليبيا، بل تحفظها عن الغارات المصرية على مواقع داعش في ليبيا بعد قيام التنظيم بإعدام 21 مصرياً من العاملين هناك.

لا شك في أن التحليل السابق لتفاقم ظاهرة الاختراق الخارجي يظهر مدى الخطورة الكامنة في أبعاد المشهد العربي الراهن على الأقل من منظور أن حل الصراعات العربية الراهنة التي تسبب وهناً بالغاً للنظام العربي لم يعد بيد أطراف عربية أساساً.

خامساً: حال الجامعة العربية

من المعلوم أن الاتجاه الغالب في عملية تأسيس الجامعة العربية لم يكن يضع نصب عينيه تحقيق الوحدة أو الاندماج بين الدول العربية، فالغرض من الجامعة وفقاً للمادة 2 من الميثاق «توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها». واتساقاً مع ما سبق قام الميثاق على احترام مطلق لمفهوم السيادة الوطنية للدول الأعضاء، وهو ما يبدو جلياً من نص المادة 7 (قبل تعديلها في قمة الجزائر 2005) على أن «ما يقرره المجلس بالإجماع يكون ملزماً لجميع الدول المشتركة في الجامعة وما يقرره بالأكثرية يكون ملزماً لمن يقبله». هذا يعني أن دولة ما عضواً في الجامعة تستطيع أن تقوم بسلوك يرفضه باقي الأعضاء كافة ويصدرون قراراً بذلك، لكن هذا القرار لا يلزم تلك الدولة، وهو ما يفقد القرار أي قيمة له، وهذا ما حدث بالفعل في عدة قضايا خطيرة.

أدى كل هذا إلى شيوع حال من الجمود في حركة الجامعة ككل وإلى تشكيك البعض في مصداقية ما تتخذه من قرارات وفاعليتها. وقد دفع هذا الاتجاه إلى تعديل نظام التصويت في الجامعة لحرمان الدول الأعضاء رخصة رفض الالتزام بقرارات الجامعة بإرادتها المنفردة، وهو ما أدى إلى أن تقر قمة الجزائر في العام 2005 تعديـلاً في المادة 7 من الميثاق الخاصة بنظام التصويت، ومؤدى هذا التعديل أن الأصل في طريقة اتخاذ القرارات هو توافق الآراء، فإن تعذّر ذلك يؤجل بت القرار إلى الدورة اللاحقة، وإذا كان الموضوع ذا صفة استعجالية تعقد له دورة استثنائية في غضون شهر واحد، فإذا لم يتم التوافق يصار إلى التصويت، وفي هذه الحال يكون القرار نافذاً بحصوله على أغلبية ثلثي أصوات الدول الحاضرة (التي لا بد من أن تبلغ نسبتها ثلثي الأعضاء في القرارات الموضوعية والأغلبية المطلقة بالنسبة إلى القرارات الإجرائية، لكن هذا التعديل لم ينعكس حتى الآن على فاعلية قرارات الجامعة).

وتعزيزاً لالتزام الدول الأعضاء تنفيذ القرارات اتخذت قمة الجزائر أيضاً قراراً بإنشاء هيئة لمتابعة تنفيذ القرارات والالتزامات، وأعطاها نظامها الأساسي سلطة فرض عقوبات تبدأ بالتنبيه واللوم وتنتهي بإسقاط العضوية، ولم تكشف وثائق الجامعة وقراراتها عن تفعيل تلك العقوبات في شأن أي من الدول الأعضاء رغم تواتر ظاهرة عدم الامتثال لكثير من القرارات، وهو ما يكشف آلية سوف تتكرر لوأد عملية التطوير في نظام الجامعة وأدائها، وهو الموافقة حين يحل وقت اتخاذ القرار في شأن التطوير، على الأفكار المطروحة ثم القضاء عليها لاحقاً من الناحية العملية بإحالتها إلى لجان يمتد عملها لسنوات ثم التوقف عند أول نقطة يحدث فيها خلاف سياسي بين الدول الأعضاء حول التفاصيل، وهو ما يضع نهاية فعلية لهذه الأفكار.

والواقع أن النزوع إلى التطوير قد ظهر على استحياء في ميثاق الجامعة منذ الوهلة الأولى، وذلك في الغالب لإرضاء اتجاه الأقلية بين مؤسسي الجامعة الذين كانوا يحلمون بأن تكون رابطة وحدوية الطابع، وانعكس هذا في المادة 9 من الميثاق التي نصت على أنه «لدول الجامعة العربية الراغبة في ما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذا الميثاق أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض كما نصت المادة 19 من الميثاق [المادة 20 حالياً بعد إضافة المادة الخاصة بإنشاء البرلمان العربي] على أنه يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق، وعلى وجه الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق ولإنشاء محكمة عدل عربية ولتنظيم صلات الجامعة بالهيئات الدولية التي قد تنشأ في المستقبل لكفالة الأمن والسلام».

وبالفعل جرت عدة محاولات لتطوير الجامعة بإنشاء محكمة عربية للعدل وتوقيع معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي في العام 1950 وإنشاء منظومة من منظومات العمل العربي المشترك المتخصصة وإقرار بروتوكول دورية القمة وإنشاء مجلس السلم والأمن العربي والبرلمان العربي وغير ذلك، لكن لا يُخفى على المهمومين على العمل العربي أن المحاولات السابقة كافة لم تفضِ للأسف إلى أي نقلة نوعية في أداء الجامعة ومنظومة العمل العربي المشترك، بل إن فكرة القوة العربية الموحدة التي بادر الرئيس المصري الحالي إلى طرحها لمواجهة تصاعد الإرهاب في الوطن العربي واجهت في البداية اعتراضات عدد من الدول رغم عدم إلزامية المشاركة فيها وقيود السيادة الوطنية التي تحيط بعملها. ومع أن قمة شرم الشيخ في آذار/مارس 2015 قد وافقت عليها في إطار توضيحات قدمها الرئيس المصري ومناخ اتضاح الحاجة إلى عمل عسكري عربي مشترك لمواجهة الأوضاع المتدهورة في الوطن العربي بعد «عاصفة الحزم»، فإن الفكرة لاقت حتى الآن المصير نفسه الذي واجهته الأفكار السابقة للتطوير، وبصفة خاصة القيادة العربية المشتركة التي أقرتها قمة القاهرة في العام 1964: موافقة على المبدأ وإجراء الدراسات ثم وضع العصي في عجلات التنفيذ.

هذا يعني أن مفهوم «التعلم» الضروري للتطوير قد غاب عن منظومة العمل الجماعي العربي، فبينما بدأت مسيرة التكامل الأوروبي باتفاقية روما في العام 1957 التي وحدت صناعتي الصلب والفحم في ست دول أوروبية واقتربت الآن من إكمال هذه المسيرة لثمان وعشرين دولة، وتضمنت تنازلات تدريجية عن أجزاء متتالية من السيادة الوطنية للدول الأعضاء في المجال الاقتصادي، نجد أن منظومة العمل الجماعي العربي لم تعرف هذه الممارسات أصـلاً. وهكذا بقيت حال هذه المنظومة على ما هي عليه: من السيادة المطلقة إلى السيادة المطلقة مع أن منظومات جماعية أخرى لا يربط أعضاءها ما يربط الدول العربية قد تجاوزت هذا المفهوم. تكفي الإشارة هنا إلى أن الاتحاد الأفريقي بقرار من قمته الاستثنائية الأولى في العام 2003 يتمتع بحق التدخل في أي دولة عضو بقرار يصدره مؤتمر القمة في الظروف الخطيرة، وكذلك منع أي دولة عضو في الاتحاد من استخدام أراضيها قاعدة لأعمال تخريبية ضد دولة عضو.

هكذا ميز العجز عن تحقيق إنجازات نوعية على مدار سبعة عقود أداء منظومة العمل الجماعي العربي بصفة عامة، ولا يعني هذا أنها لم تنجز شيئاً، ولكن تعني أن قضايا العرب الكبرى، كالقضية الفلسطينية أو قضية التكامل الاقتصادي العربي، ظلت تراوح مكانها عبر العقود من دون إنجاز حقيقي، بل إن القضية الفلسطينية تدهورت أوضاعها تحت وطأة الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين على نحو ما نرى.

يرجع الوضع الذي تعانيه منظومة العمل الجماعي العربي إلى عدد من العوامل، من أهمها النزاعات والصراعات العربية – العربية المزمنة التي ميزت التفاعلات العربية وحالت كثيراً دون توافق الآراء بين الدول العربية، وتآكل الثقة المتبادلة بين الدول العربية أو انعدامها، بما عزز من صعوبة تحقيق هذا التوافق وسطوة مراكز القوى المالية على قرارات الجامعة. ولا يمكن هنا أن نغفل دور العوامل الخارجية في تعويق مسيرة العمل الجماعي العربي؛ فالقوى الإقليمية المحيطة بنا، وكذلك القوى العظمى والكبرى، لا يوافق مصالحها كثيراً أن يكون الإطار العربي هو الإطار الناظم للعلاقات بين الدول العربية. وهكذا طرحت الولايات المتحدة وإسرائيل دائماً الإطار الشرق أوسطي لتنظيم التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط بدولها العربية وغير العربية، وطرحت أوروبا الإطار المتوسطي. كما أن تركيا وإيران قد أمعنتا في محاولات اختراق النظام العربي وحققتا في هذا الصدد إنجازات محددة كما سبقت الإشارة إليها.

واعتباراً من تطورات ما عرف بالربيع العربي منذ نهاية العام 2010 في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية على التوالي، فضـلاً عن تحركات أمكن وأدها أو التكيف معها في عدد من البلدان العربية الأخرى، بدأت الجامعة العربية تواجه تحديات من نوع جديد انبثقت من تعثر محاولات التغيير في عدد من البلدان، فبينما تم تغيير الحكام بسلاسة نسبية وكذلك في وقت قصير يحسب بالأيام في الحالين التونسية والمصرية، تعثرت محاولات التغيير وطال أمدها في الحالات اليمنية والليبية والسورية وارتبط ذلك بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان من النظم التي كانت هدفاً لتلك المحاولات، وكان من المستحيل أن تقف الجامعة مكتوفة الأيدي إزاء هذه الانتهاكات، وعزز من ذلك أن عدداً من النظم العربية أبدى حماسةً فائقةً للتخلص من النظامين الليبي والسوري لاعتبارات سياسية لا ترتبط بالضرورة بحقوق الإنسان.

تمثل مأزق الجامعة العربية حينذاك بأن العمل قد درج في المنظمات الدولية على احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وإن لم يكن هذا الاحترام مطلقاً بالضرورة في كل الأحوال، ويمكن القول إن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء ظل مطلق الاحترام في جامعة الدول العربية، غير أن بداية موجة ما سمي الربيع العربي قد شهدت اهتزازاً ولو نسبياً لهذا المبدأ، ثم زاد هذا الأمر بتفاقم خطر الإرهاب في الوطن العربي ككل، لذلك وجدت الجامعة العربية نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف تجاه التطورات الداخلية في عدد من البلدان العربية بما يخرج عن مألوف سلوكها في هذا الصدد.

وكانت الحال الليبية هي الحال الأولى والأسوأ في نوعها، فقد طلب المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية من مجلس الأمن توفير غطاء جوي لحماية قوى المعارضة من بطش الذراع العسكرية لنظام القذافي براً وجواً، أي أن مجلس الجامعة أقر بضرورة التدخل الخارجي في الحالة الليبية، لكنه أوكل تلك المهمة للمنظمة الدولية، ولم يتصدَّ لها بنفسه، وهو ما يشير إلى عجز المنظمة العربية التي يفترض أن تكون هي المنفذة لهذا التدخل ما دامت تعتقد أنه بات ضرورياً، وقد انتهى الأمر، كما هو معلوم، إلى أن أصبح التدخل تحت ستار نصرة الثورة الليبية تدخـلاً أطلسياً، وهو تدخل لا يمكن فصله عما آلت إليه الأوضاع في ليبيا الآن، ويتسق في الوقت نفسه مع الخبرة الكارثية لعمليات التدخل الخارجي في الوطن العربي وعلى رأسها الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، وليست مصادفة بطبيعة الحال أن تصل الأوضاع في الحالين – العراق وليبيا – إلى حد يقترب من غياب الدولة، الأمر الذي أوجد مناخاً مثالياً لبروز الإرهاب وتفاقمه.

ربما تكون جامعة الدول العربية قد أدركت خطأ ما فعلته في الحال الليبية، فنأت بنفسها من المطالبة بتدخل دولي في سورية. لكن تداعي مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية قد استمر، فأصدر مجلس الجامعة على المستوى الوزاري في دورته غير العادية في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 قراره بتعليق مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها، وحث المنظمات الإقليمية والدولية على الاعتراف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ممثـلاً شرعياً لتطلعات الشعب السوري وتوثيق التواصل مع هذا الائتلاف بوصفه الممثل الشرعي والمحاور الأساسي مع جامعة الدول العربية. وطالبت قمة بغداد للعام 2012 الحكومة السورية بالوقف الفوري لأعمال العنف والقتل كافة، وبحماية المدنيين السوريين وضمان حرية التظاهر والإطلاق الفوري لسراح الموقوفين كافة في الأحداث الجارية، وسحب القوات العسكرية والمظاهر المسلحة من المدن والقرى السورية والسماح بحرية وصول وسائل الإعلام العربية والدولية إلى أنحاء سورية كافة، وخطت قمة الدوحة للعام 2013 خطوة أبعد بقرارها الترحيب بشغل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة مقعد سورية في الجامعة ومنظماتها ومجالسها وأجهزتها إلى حين إجراء انتخابات تفضي إلى تأليف حكومة تتولى مسؤوليات السلطة في سورية كون هذا الائتلاف الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري والمحاور الأساسي مع جامعة الدول العربية.

وعلى الرغم من تفهم الدواعي السياسية والإنسانية لهذه الخطوة، فإن التطورات اللاحقة لها أظهرت أنها ربما كانت متسرعة، أولاً لغياب الاتفاق بين المعارضة السورية على من هو الأجدر من بينها بتمثيل سورية في الجامعة العربية، وثانياً لأن أحداً لا يستطيع أن يجزم حتى الآن في ضوء صمود النظام السوري في وجه القوى المعارضة له، والتطورات اللاحقة التي أدت إلى تراجع أولوية هدف القضاء على النظام السوري مع التقدم الذي حققته داعش في العراق وسورية بأن استبعاد النظام الحاكم في سورية من تمثيلها في الجامعة العربية ومؤسساتها كان هو البديل الأفضل، أم أن إبقاءه داخل إطارها كان من شأنه إخضاع هذا النظام لضغوط شديدة من أجل إجرائه الإصلاحات المطلوبة، كي يستطيع أن يصل إلى كلمة سواء مع قوى المعارضة المخلصة لوطنها، وهذا ربما كان كفيـلاً بتجنيب سورية الويلات التي تتعرض لها الآن، فضـلاً عن أن البدائل المطروحة للنظام السوري لا تقل عنه سوءاً إن لم تكن أسوأ.

أما الحال اليمنية فكانت المثالية لتجاوز مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية. غير أن مجلس التعاون الخليجي قد احتكر تقريباً هذا التدخل، سواء في صورته الدبلوماسية (المبادرة الخليجية) أو في صورته العسكرية (عاصفة الحزم بقيادة السعودية)، وذلك نظراً إلى الأهمية الاستراتيجية لليمن في الجزيرة العربية. واقتصر دور الجامعة على مباركتها كـلاً من الصورتين نافية عن نفسها أي دور في تهدئة الأوضاع في اليمن وتسوية الصراع الناشب فيه. في حين تنشط الأمم المتحدة في هذا الاتجاه وتحاول توجيه مسار الأحداث.

في كل ما سبق اختلطت محاولات التغيير بتقدم الإرهاب، لكن أحداث العراق التي بدأت بما حققته «داعش» من مكاسب وصلت إلى حد السيطرة على مناطق في كل من العراق وسورية، مع محاولات لذلك في لبنان ثم في ليبيا، وفي حالي العراق ولبنان بخاصة يبرز الإرهاب وحده منفصـلاً عن أي محاولة للتغيير. ونظراً إلى أن مواجهة الإرهاب بحسم أصبحت ضرورة ملحة، وإلى أن أحد الأسباب الرئيسة لتصاعده هو صيغ نظم الحكم التي لا تعبر على نحو مرضٍ عن كل مكونات الجسد السياسي في بلدانها، فإن موقف المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية من التطورات العراقية المتمثلة بإعلان دولة «الخلافة» جاء منطقياً وصحيحاً، وتمثل بحثٍّ مهذب على ضرورة وجود حكم موضع توافق وطني، ذلك بأنه لا يمكن التورط في الدفاع عن حكم طائفي لا يمثل كل ألوان الطيف العراقي إلى الحد الذي جعل قطاعات من سنة العراق تؤيد «داعش» أو تسكت عنها على الأقل.

تتضح من كل ما سبق المسيرة المتعثرة لجامعة الدول العربية ومنظوماتها، ويرجع هذا التعثر أساساً إلى غلبة السيادة الوطنية على النزوع القومي في هذه المنظومة، إضافة إلى عوامل أخرى عربية ودولية سبقت الإشارة إليها، لذلك بدأت تجربة الاتحاد الأوروبي بعد نشأة الجامعة باثنتي عشرة سنة وهي تسبقها الآن بما يساوي عمرها كله تقريباً. وقد لوحظ تبلور نموذج لإحباط التطوير إذا جاز التعبير، يبدأ بالموافقة من حيث المبدأ على فكرة التطوير أو مشروعه، ثم تظهر النيات الحقيقية بعد ذلك من خلال إحالة الفكرة أو المشروع إلى لجنة للدراسة، ثم تتعثر هذه اللجنة في عملها تعبيراً عن ممانعة التطوير على نحو أو آخر، وتصل في النهاية إلى طريق مسدود بالخلاف حول قضايا سياسية، فيحال الأمر إلى الدول لطلب الرأي فتتباطأ في إبدائه، فإذا حدث أن اكتملت ردودها اقتضى هذا إدخال تعديلات على الفكرة أو المشروع الأصليين، وعادة ما يصعب التوفيق بين هذه التعديلات، فإذا نجحت محاولات إدخالها اتهمت الفكرة أو المشروع بعدم التجانس، وهكذا تكتمل الحلقة المفرغة الخبيثة الممانعة للتطوير. وقد أدى هذا الجمود، الذي أفضى إلى عجز واضح، إلى ارتباك الجامعة على نحو واضح في مواجهة مطالب التغيير وتداعياته في الوطن العربي.

خاتمة: كلمات عن المستقبل

يبدو المشهد العربي في مجمله بالغ الكآبة محمـلاً بنذر خطيرة. وتشير هذه النذر إلى عدد من المشاهد المستقبلية المحتملة، منها مشهد التفتت المخيف الذي يفضي بالنظام العربي إلى أن يكون لوحة بشعة من فسيفساء طائفية ومذهبية وإثنية وعرقية سواء بسبب الإخفاق العام في بناء دول وطنية حديثة تسمو على الانتماءات الأولية لمواطنيها رغم مرور ما يزيد على نصف القرن على استقلال الأغلبية العظمى من الدول العربية، أو بسبب المخططات الخارجية المكشوفة التي تسعي إلى إدامة التفتت وزيادته تسهيـلاً للهيمنة وإلحاق الجزيئات العربية القادمة لا قدّر الله بأطر غير عربية تُنهي حلم العرب المشروع في الوحدة والتنمية والعدل.

ويراهن البعض على أن ثمة مشاهد أخرى بديلة من هذا المشهد المخيف منها على سبيل المثال وقف تدهور الأوضاع بالتوصل إلى حلول للصراعات الساخنة والأزمات المستحكمة في الوطن العربي بما يمكّن من العودة بالتدريج إلى الوضع الطبيعي (أي الطفو بديـلاً من الغرق مع استمرار العجز بطبيعة الحال)، ومنها أيضاً أن تنهض قوة أو قوى مؤتلفة عربية بمهمة إصلاح أو تطوير تنعكس بالإيجاب على الأوضاع العربية، من دون أن يجرؤ هذا البعض على الحديث في المدى القصير أو المتوسط عن مشهد وحدوي أو حتى تضامني ولو في وجه الأخطار الخارجية.

وليس في نية كاتب هذه الورقة أن يبذل أدنى جهد لاستشراف الفرص المتاحة لأي من المشاهد السابقة، فالأوضاع التي تواجهها الأمة الآن جديدة ومفاجئة في خطورتها وليس في طبيعتها، وشديدة التعقيد من منظور الأطراف الفاعلة فيها. ونعلم أن عمليات استشراف من هذا النوع، وقد كان لكاتب الورقة شرف المشاركة في عدد منها، ولاحظ كما لاحظ كثيرون غيره أن كثيراً من الجهد المحمود الذي بذل فيها قد تبدد من حيث تراجعه أمام مستجدات بالغة التأثير لم تكن متوقعة، غير أن هذا للأمانة ليس سبب العزوف عن محاولة الاستشراف والترجيح بين المشاهد المختلفة وإنما السبب يكمن في أنني أرى أن هذا ترف ورفاهية في وقت يبدو خطر السقوط في القاع والانحدار إلى الهاوية داهماً. لذلك فإن كل الجهد في تقديري ينبغي أن يتجه إلى منع السقوط ووقف الانحدار الباديين أمامنا، وليس هذا وقت طرح الحلول أو تقديم التوصيات أو مناشدة النظم لأنها إما عاجزة وإما متواطئة.

وقد أثبتت الشعوب العربية أن لها إرادة عامة وأنها قادرة على فرض التغيير، لكن تضحياتها للأسف ذهبت سدىً كما ظهر من مآل ما بدأ «ربيعاً» وانتهى بكارثة بسبب غياب نخبة قادرة على قيادة الجماهير وتوجيههم إلى المسار الصحيح، وهنا ألفت النظر إلى مسؤولية النخبة القومية العروبية بصفة خاصة، فليس من حقها أن تكتفي بتوجيه اللوم والإدانة وتقديم النصح والإرشاد وإنما عليها أن تتذكر دائماً أنها فقدت وحدتها حتى داخل الفصيل الواحد، وأنها بذلك قد قصّرت في أداء مهمتها التاريخية تجاه أمتها العربية، وأن الاعتذار الوحيد المقبول عن هذا القصور هو أن تستعيد وحدتها توطئة للاضطلاع بمسؤوليتها القومية.

احصلوا على نسختكم من الكتاب وبعرض خاص جداً:

[button class=”” style=”type-1″ icon=”fa-eject” iconcolor=”#183f7f” iconbgcolor=”#ffffff” url=”https://caus.org.lb/product/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/” target=”_self” color=”#ffffff” bgcolor=”#183f7f” size=”small” ]مستقبل التغيير في الوطن العربي[/button]