التقى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قائدَ الثورة الليبية العقيد معمر القذافي في جزيرة جربة التونسية يوم 12 كانون الثاني/يناير 1974، ونتج من هذا اللقاء إقامة وحدة «اندماجية» بين البلدين باسم: «الجمهورية العربية الإسلامية»، وقد تم ذلك على نحوٍ مفاجئ لم تسبقه، في حدود ما علمنا آنذاك، أي محادثات جادة بين القيادات السياسية في البلدين، إلى درجة أن هذه القيادات نفسها فوجئت بإعلان الوحدة.
كنت يومها مستشارًا إعلاميًا للرئيس الجزائري هواري بومدين، وعندما كنت أتلقى توجيهاته للتعامل مع الحدث الذي وقفت الجزائر ضده، قلت له بأن خصوم الجزائر سينتهزون الفرصة لاتهامها بأنها إقليمية انفصالية لا تؤمن بالوحدة العربية.
نظر إلي الرئيس مليّا ثم قال بهدوء: كيف يمكن أن تقوم وحدة «اندماجية» جادة بين بلدين لا تجمعهما عملة واحدة ولا يربطهما اقتصاد متكامل ونظام تعليمي مُوحّد ومستوىً معيشي متشابه وتقاليد اجتماعية متوافقة، ولكل منهما نظام سياسي يختلف جذريًا عن النظام في البلد الآخر، ناهيك بأن الأمر لم تسبقه دراسة جادة لتحقيق الوحدة واستشارات سياسية وشعبية معمقة يجعل من الوحدة تجسيدًا لإرادة شعبية واعية لا مجرد انتفاضة عاطفية عابرة أو مجاملات بروتوكولية بين رئيس طاعن في السن وآخر ملتهب الحماسة، وبمعزل عن أي خلفيات.
الوحدة هي كالزواج، والمثل الجزائري يقول إن زواج «ليلة» يلزمه «عامٌ» من التحضير…. وما حدث في جربة ليس أكثر من «زواج متعة».
ولم تعمّر وحدة جربة أكثر من ساعات معدودة.
والواقع أن المناداة بالوحدة العربية خلال مرحلة الكفاح الوطني، في ما عشته، لم تكن تمثل أسبقية في الخطاب السياسي الذي يحدد الاهتمامات الجزائرية الداخلية والإقليمية والدولية، رغم أن الانتماء العربي الإسلامي كان بندًا أساسيًا في بيان الثورة الجزائرية.
ومن دون إبحار في أدبيات الحركة الوطنية الجزائرية، فإن بيان أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954، الذي حدد الخط السياسي للثورة الجزائرية ثم لجزائر الاستقلال، قال حرفيًا إن هدف الثورة هو: تحقيق وحدة شمال أفريقيا في داخل إطارها «الطبيعي» العربي والإسلامي.
ولفهم المنطق الجزائري في التعامل مع قضية الوحدة يجب أن نتوقف عند عدد من المحطات التاريخية، أولها وأهمها أنه لم يحدث أن عانى شعبٌ الاستعمارَ كالشعب الجزائري، ولا مجال لترديد ما يعرفه كل متابع للكفاح الذي تواصل نحو قرن ونصف القرن، ثم ضد مخلفاته، بشرًا وواقعًا ميدانيًا، وأهمها رباعيّ البطالة والفقر والجهل والمرض، ومن بينها ملايين الأرامل واليتامى ومعطوبي حرب التحرير ونزلاء المحتشدات الاستعمارية.
وما لا يعرفه كثيرون هو أن استقلال الجزائر كان منقوصًا، إذ إن المهم كان اعتراف فرنسا بأن الجزائر ليست أرضًا فرنسية، وبأن من حق شعبها تقرير مصيره بكل حرية.
وفي فجر الاستقلال كانت هناك قواعد عسكرية فرنسية، من بينها قاعدة التجارب النووية في الصحراء وقاعدة المرسى الكبير في وهران، وقلعة الأميرالية في العاصمة الجزائرية، وكانت كل البنوك وشركات التأمين والمحاجر والمناجم وآبار النفط وأنابيبه كلها تابعة لفرنسا، التي كانت تملك السيطرة على الإذاعة والتلفزة أيضًا.
من هنا كانت الجزائر ترى أن أسبقية الأسبقيات بعد استرجاع الاستقلال هي إعادة بناء الداخل الوطني واسترجاع السيادة الحقيقية. هكذا ركزت البلاد على إجلاء بقايا القوات الفرنسية، ثم تأميم الثروات المنجمية والنفطية، بعد البنوك وشركات التأمين، وبالطبع جزأرة الإذاعة والتلفزة. ووضعت الجزائر ثقلها لدعم قطاع التعليم وتعريبه مرحليًا. وبفضل الرعاية الصحية تناقصت الأمراض المستوطنة واختفت الأمراض الوبائية، ولم يعد السل الرئوي مرضًا قاتلًا، واختفت أمراض الدفتريا وشلل الأطفال وتناقصت الإصابات بالتَّيفود.
من هنا ندرك أن المنطق الجزائري رأى أن إقامة الوحدة الحقيقية بين بلدان الوطن العربي يتطلب تحقيق التنمية الوطنية والعدالة الاجتماعية في كل بلد عربي، لأن التجارب الإنسانية، كما قال بومدين في لاهور في شباط/فبراير 1974، «أثبتت أن الروابط سواء أكانت جغرافية أو وطنية، وحتى دينية، تلاشت تحت معاول الفقر والجهل والتعسف والطغيان»، وهو ما يُذكّر بتعليق ساخر قاله يومًا الرئيس بورقيبة ردّاً على من يرفعون شعار الوحدة العربية: «لا مجال للقاء العريان والعريان إلا في الحمام» (التركي).
هنا يأتي عنصر ثانٍ في منطق الجزائر، وهو إيمانها بأن الوحدة الشاملة يجب أن تُبنى على قاعدة مكونة من وحدات جغرافية متقاربة، وكان هذا واحدًا من أهم أسباب التناقض بين النظرة الليبية والنظرة الجزائرية، فهذه كانت ترى أن طريقنا نحو الوحدة العربية يمر عبر توحيد المغرب العربي، أما ليبيا فكانت ترى في هذا توجهًا استعماريًا يشبه المناداة بتكوين الهلال الخصيب في المشرق العربي.
من جهة أخرى، كان الخطاب السياسي الجزائري يقول بأن القضية الفلسطينية هي «إسمنت» الروابط العربية إذا التزمنا بمتطلباتها النضالية، لكنها قد تكون مفجر تلك الروابط إذا حدث التناقض مع أهدافها.
وليس سرّا أن التوجه الجزائري كان في بدايته ينادي بدولة واحدة متعددة الديانات والمذاهب، وهو ما سطا عليه العقيد القذافي بفكرة «إسراطين»، التي عدّها البعض نكتة، وخصوصًا عندما فرض «فريدمان» توجهه.
هنا تأتي قضية أخرى لا بد من التوقف عندها لنفهم المنطق الجزائري، حيث إن تعبير «القومية العربية» المرتبط بتعبير «الوحدة العربية» لم يكن له في الجزائر على وجه الخصوص، الوجود نفسه الذي عرفه في المشرق العربي. كانت العروبة في الجزائر مرتبطة بالإسلام، بحيث كان من العسير على مواطن جزائري بسيط أن يتفهم وجود مسيحيين عرب، فالنصرانية عنده مرادف للاستعمار. وفي الوقت نفسه برزت تيارات ارتبطت بتوجهات الأكاديمية البربرية التي أنشئت في باريس انتقامًا من التأميمات الجزائرية للمصالح الفرنسية، وراحت تحارب التعريب الذي كانت تراه، عن حق، خطوة رئيسية لخلق الوضعية التي تحقق الوحدة العربية.
هنا يجب أن ندرك أن شريحة نافذة في المجتمع الجزائري كانت تتحسس من تعبير «الوحدة العربية»، وتضم عددًا من موظفي الإدارة والمؤسسات الاقتصادية الذين أعطاهم الوجود الاستعماري خبرة العمل الإداري بفضل ما تلقوه من تكوين فرنسي اللغة والمضمون، وكان هؤلاء هم الذين تسلموا معظم مفاصل الإدارة والاقتصاد بعد استرجاع الاستقلال، ومنهم من كان متزوجًا بفرنسية، وكان ذلك ضرورة لسد الفراغ الذي نشأ عن وضع يشبه ما حدث في إثر فرار مرشدي قناة السويس الأجانب بعد تأميمات 1956.
ولم نكن غافلين عن خطورة وجود هؤلاء بين صفوفنا، فقد كتبتُ في كانون الأول/ديسمبر 1966 في مجلة «الجيش» أقول عنهم:
كانوا حمَلة ملفات أو فئران مكاتب، ثقافتهم محدودة وإدراكهم الوطني محدود، ولكن الوطن الأم !! (فرنسا بالطبع) منحهم فرصة الوجود الهامشي في الإدارة، فكانت لهم بذلك بعض خبرة، هم بذلك يؤمنون بصاحب الفضل الأول عليهم […] وكان هناك الذين رضعوا لبن الوطن «الأم» ولم يُفطموا بعد، منحتهم فرنسا الفرصة، لسبب أو لآخر، لكي يعيشوا حضارتها ويتسلقوا ثقافتها، هؤلاء تقطعت أنفاسهم فلم يجرؤوا على الصعود أكثر، على اكتشاف أنفسهم، على استغلال ما تعلموه للبحث عمّا يجب أن يتعلموه […] ونتيجة للفراغ الإداري بعد فرار الأوروبيين أمسكت هذه المجموعات بأجهزة الدولة […] وهؤلاء كلهم كانت مصلحتهم الشخصية تتعارض مع عودة الجزائر إلى الحظيرة العربية بصورة عملية […] وكان يقضّ مضجعهم أن تصبح اللغة العربية، اسمًا ومدلولًا، اللغة الرسمية للدولة، وكانوا دائمًا معاول لتحطيم عملية التعريب وتشويه أهدافها ونتائجها.
ولعل هؤلاء هم من كان يقصدهم الجنرال ديغول وهو يردّ على من انتقدوا قبوله حق تقرير المصير للشعب الجزائري بعد أن فشل في تحطيم الثورة، حيث قال: لقد تركت في الجزائر من هم أكثر فرنسية من الفرنسيين.
وربما كان ناقوس الخطر الأول الذي دفع بهذه الشراذم إلى توحيد الصفوف وممارسة التقية وزرع الفتن المحلية ومحاربة التعريب هو الاستقبال الجزائري الهائل للرئيس المصري جمال عبد الناصر في أيار/مايو 1963، الذي أثبت تعلق الشعب الجزائري بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي.
ووجد أولئك في بعض مواقف الساحة العربية أكبر نصير لدعواتهم الشوفينية التي رفعت شعار «الجزائر الجزائرية»، وأعطتهم وضعية الرداءة في كل المجالات مبرر التحريض على كل ما هو عربي، مرددين المقولة الزائفة: إذا عُرِّبتْ خُرِّبتْ.
هكذا تصاعدت حملات الإساءة لشعار «القومية العربية»، المرتبط بمفهوم «الوحدة العربية»، وكانت مشكلتنا، كدعاة وحدة، في مواجهتهم أنهم كانوا أذكياء في خطابهم الإعلامي، حيث راح بعضهم يربط بين «لورنس» وفكرة القومية العربية، منتهزين إيجابية النظرة الجزائرية للوجود العثماني في الجزائر التي تتناقض مع النظرة المشرقية العدائية للإمبراطورية العثمانية.
ثم جاءت هزيمة 1967 لتعطي البعض فرصة تشويه التوجهات العربية، وخصوصًا عندما اتضح أن الأمر كان فخًا ساهم فيه، عن نسيان لحكاية الثور الأبيض أو عن نزوات شوفينية صبيانية أو عن عمالة مؤكدة للعدو التاريخي، بعضٌ ممَّن ينتسبون إلى القومية العربية أو إلى الاختيارات الإسلامية، والذين خلقوا التناقض المفتعل بين هذه وتلك.
وكان من بين العناصر التي استندت إليها عناصر الطابور الفكري الخامس في الإساءة إلى كل ما هو عربي عنصر يثير الغرابة لما يجسده من تناقض، حيث سمعنا ممن يكرهون جمال عبد الناصر كراهية التحريم صيحاتُ حقٍ أريد بها باطل، راحت تهاجم كل من اتهم عبد الناصر بأنه فرّط في السودان، في حين أن الرئيس المصري كان منطقيًا مع نفسه، واستجاب لرغبة الشعب السوداني في تقرير مصيره، وهكذا كانت تلك فرصة اهتبلها الطابور لاتهام العرب بأنهم يرفضون مبدأ تقرير المصير الذي قبلته الثورة الجزائرية، أي أنهم يرفضون أن يكون الشعب هو مصدر السلطات.
ويأتي عنصر إضافي له أهميته وهو قضية المغني الفرنسي اليهودي أنريكو ماسياس، الذي منعت الجزائر دخوله إلى ترابها الوطني لأنه قاد تظاهرة أمام السفارة الإسرائيلية في باريس متشفيًا في الهزيمة العربية عام 1967، بينما استُقبل استقبال الفاتحين في عواصم عربية وإسلامية ترفع شعارات الوحدة والقومية.
لن أتحدث عن مواقف أخرى لبعض الأشقاء، سياسية وإعلامية، كانت سلاحًا في يد من لا يتحملون سماع كلمة «الوحدة العربية»، ويتشنجون ضد كل من يدعو إليها أو يتلفظ بها.
هذا ليس كل شيء.
لكن المجال لا يتسع لكل شيء.
كتب ذات صلة:
الجزائر إشكاليات الواقع ورؤى المستقبل
مجلس الأمة الجزائري بعده التمثيلي ودوره في الاستقرار المؤسسي
المصادر:
محيي الدين عميمور: أديب وسياسي جزائري، وعضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.