تقديم

“الاستعارة قد تقتل” (1) … بل إنها تقتل فعلًا، حين يشتغل المتخيل في جانب منه على محددات يسمها التناقض والصراع، فتتبدى تجلياته على أرض الواقع بين الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول، “إن التفكير الاستعاري (أو التفكير بواسطة الاستعارة) ليس جيدًا ولا سيئًا في ذاته، إنه ببساطة شيء مألوف واعتيادي ولا محيد عنه. فالمجردات والأوضاع المعقدة أو الملتبسة تفهم عادة بواسطة الاستعارة. والحق أن هناك نسقًا استعاريًا هائلًا وغير واع، في الغالب، نستعمله على نحو آلي و”طائش” لفهم الأشياء المعقدة والمجردة. وقد كرس جزء من هذا النسق لفهم العلاقات الدولية والحرب” (2). ص 19.

تنبني كل التصورات والأفكار لدى الفرد والجماعة والمجتمع على ما يمكن أن يفكر به أو ما يتصور تجاه عوالم بذاتها في علاقاتها التفاعلية فيما بينها وفيما بين العوالم الأخرى، دينيًا، فلسفيًا، ثقافيًا، سياسيًا، أيديولوجيا، وحضاريا، داخل إطار اللغة، “فكل كلمة تحدد بالنظر إلى إطار تصوري معين” ومن هنا تأتي الاستعارة كاستجابة لكيفية بناء المعرفة بمجال معين، وهو ما يشكل “الأطر أو النماذج الاستعارية”. “إن جزءًا كبيرًا من أفكارنا يستعمل بصورة لاواعية نسقًا من التصورات الاستعارية، وهي تصورات تأتي من مجال فكر معين لفهم مجال آخر مختلف تماما، بل لإعطائه بنية أو دلالة ما. وهذا الأمر يظهر في لغتنا اليومية، ولكن أثره الأساس يتجلى في الاستدلال العادي وفي بناء الحجج، … فمن منظور معين، الفكر كله استعاري – كل فكر استعاري بدرجة معينة حسب مينسكي-” (تقديم ترجمة كتاب حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل، عبد المجيد جحفة وعبد الإله سليم).

تحضر الاستعارة بشكل مكثف في كل مجالات الحياة داخل المجتمع أو في علاقات المجتمعات والدول فيما بينها، حيث تصاغ بحسب رؤيات معينة، تنظم بحسبها “العوالم والأشياء والوضعيات والأحداث”، “فالاستعارة تعكس الأنساق التصورية التي يحملها كل فكر ما”، وتنشط كثيرًا في مجال العلاقات الدولية وزمن الحرب والتهديدات الأمنية وغيرها من القضايا التي تخلق نوعًا من التوترات داخل كل بنية مجتمعية أو إقليمية أو دولية، كل عنصر من عناصر المجتمع أو من عناصر القوى الإقليمية أو الدولية يخلق لنفسه بنية استعارية في مواجهة عنصر آخر أو مجموعة عناصر أخرى، لاحتواء ما يمكن احتواؤه، أو العمل على الردع، أو القضاء على الخصم/ العدو، أو تحجيم قدراته والحد من غلوائها، أو إخضاع الخصم/ العدو لبنود المشروطية …

أولًا: الاستعارة وسياق الحرب على غزة

تحضرنا في هذا الإطار الأحداث المؤلمة والمأسوية التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط في إحدى سيروراتها التراجيدية، عقب حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة، التي تداعت بعد عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023، بناء على نسق استعاري، كل طرف فيه يشتغل بحسب الرؤية المتبناة، ووفق الاستعارات المتصورة، ولا سيما أن أمد الصراع قد طال ولم يحسم بعد، فاحتدّت شفرات الاستعارات إلى حد لم يعد معه الحديث عن سلام أو إيجاد مخرج له، فالحرب القائمة بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية منذ بدايتها إلى حدود الساعة، تنبني على جملة من الاستعارات، تتوخى منها إسرائيل، من جهة ما، فرض قوتها والتصدي لكل جبهة مقاومة سواء في علاقتها بمقاومة أصحاب الأرض المحتلة، الفلسطينيين، أو في علاقتها بمحاورها المتاخمة على أبواب جغرافيتها (حزب الله …) أو البعيدة منها مسافة ما (حوثيو اليمن، إيران …)، وبذلك تنهج آليات جيوبوليتيكية متعددة الجبهات، تعمد بها إلى فرض قوتها والظفر بأكبر حصة في صفقتها الاستراتيجية الحربية، والعمل على إلحاق الضرر والقضاء على خصومها وأعدائها الأشرار وفق ما تتصوره في حربها المقدسة الموهومة بناء على تصوراتها الدينية والتاريخية والأسطورية والأيديولوجية. كل ذلك ليس بمعزل عن نسق الاستعارات التي تشتغل عليها، منذ إيجادها على أرض فلسطين واحتلالها لها وللأراضي العربية، بمباركة ودعم الانتداب البريطاني والغرب المسيحي عمومًا، وقد خاضت حروبًا مع العرب/ المسلمين، كانت في كل الأحوال قد ظفرت بحصة الأسد في معاركها، ما عدا محطة محتشمة عدت انتصارًا عربيًا/ إسلاميًا (تشرين الأول/أكتوبر 1973)، أثمرت نتائج سياسية ودبلوماسية لفائدة الإسرائيليين، اقتطفت فيها أجود الثمرات سنة 1979، وذلك بعقد قمة كامب ديفيد، فأُبرمت أول اتفاقية سلام بين رئيس حكومة إسرائيل مناحيم بيغن والرئيس المصري أنور السادات، بحضور الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، حيث تصدع البيت العربي بعد هذه الخطوة الاتفاقية بين مصر وإسرائيل، ومن ثمة استأسد الإسرائيليون على المشهد الفلسطيني والساحة العربية الإسلامية، إضافة إلى اتفاقية وادي عربة بين إسرائيل والأردن سنة 1994، مرورًا بمحطة 1993 المعروفة بـ “اتفاق أوسلو” بين الراحل ياسر عرفات وإسحاق رابين، في ظل متغيرات حدثت على المستوى الدولي (سقوط الاتحاد السوفياتي، انهيار جدار برلين …)، انتفاضة أطفال الحجارة، وانحسار فعل المقاومة الفلسطينية وتضييق الخناق على منظمة التحرير الفلسطينية، إلى اختراقات أخرى في صفوف الأنظمة العربية، وصلت إلى محطة التطبيع التي رست على مرافئها بعض – أو أغلبية – سفن البلدان العربية، قبلها عمدت إلى فتح مكاتب اتصال لها بدول بعينها، أو إجراء اتصالات سرية بعيدة من أعين الرأي العام العربي الجماهيرية والقوى الحية بها.

لم تكن الحرب على غزة خارج الحسابات الإسرائيلية، فقد جاءت بعد أن حينت الفرصة بشكل يسمح لها بشن حرب إبادة جماعية لسكانها، والقضاء على أقوى معقل للمقاومة متاخم لها، وفي خطوط تماس استراتيجية سياسية عسكرية حربية، التي تمثلها حماس الآخذة بزمام الأمور بها، جندت إسرائيل كل قواها السياسية والعسكرية والإعلامية والأيديولوجية لخوض غمار الحرب على غزة برًا وجوًا وبحرًا، وعملت بشكل لافت للنظر على أن تعمم سرديتها على كل شعوب العالم، وبخاصة معاقل تأييدها الغربية، لتعرض مظلوميتها على أنظار العالم بكونها كانت مسرح أهداف وحشية وهمجية يوم السابع من أكتوبر 2023، وذلك بتكثيف دلالات استعاراتها على جميع المستويات، لتقدم نفسها بكونها ضحية ما تسميه “إرهابًا فلسطينيًا إسلاميًا” بحسب تصورها الاستراتيجي والأيديولوجي، وكل من يدور في فلك المقاومة، وصورت الإعلانات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على أنها “جماعة إرهابية شريرة”، على غرار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (داعش)، وأظهرت أنواعًا مختلفة من الانتهاكات، بما في ذلك صور مروعة، من بينها صورة امرأة عارية هامدة في شاحنة صغيرة، مع شعارات مثل “لقد هزم العالم داعش. العالم سيهزم حماس”، إضافة إلى سلسلة فيديوهات تدمج مشاهد إعدامات اقترفتها داعش في مشاهد تدعي أنها متعلقة بحماس ومقاتلين فلسطينيين” (3)، فتناسى الإسرائيليون وكل من يدور في فلكهم، من داعمين ومتعاطفين ومتخاذلين … سياسة الأرض المحروقة التي تنهجها قوى الاحتلال الإسرائيلية منذ 1948، وأن احتلالها للأرض واغتصابها وسياسة الاستيطان الممنهجة، وقتل الفلسطينيين والتنكيل بهم، والزجّ بهم في غيابات السجون والمعتقلات واستهدافهم واغتيالهم، وتدمير البنى العمرانية والبنى التحتية، وحرمانهم من الماء والكهرباء وخدمات حيوية .. وغير هذا وذاك ما هو إلا آليات دفاع على النفس في مواجهة أشرار يريدون القضاء عليهم ورميهم وراء البحر  .. وكأنهم أصحاب الحقوق المشروعة الأصيلة على أرض فلسطين وأجزاء أخرى من الأراضي العربية.

ثانيًا: الاستعارات الإسرائيلية المتبنّاة في شن الحرب على غزة والفلسطينيين

تبين بشكل واضح مدى جاهزية إسرائيل في خلق الاستعارات المكثفة في حربها على غزة والفلسطينيين عمومًا، قبل وبعد عملية طوفان الأقصى، وذلك بشكل شرس ورهيب، للمزيد من إبداع كل الوسائل الحربية والعسكرية شديدة القوة والبطش، تبدى ذلك في المشاهد المروعة التي تناقلتها وسائل الإعلام التي تتابع وتسجل مجريات الحرب القائمة على غزة وعلى كل نقطة جغرافية بأرض فلسطين تشتم فيها رائحة المقاومة الفلسطينية، فقد اعتمدت إسرائيل على جملة من الاستعارات المتبنّاة على خلفية تصوراتها ورؤاها الأيديولوجية والاستراتيجية “لضمان حد أقصى من القوة المادية والعسكرية”، ولا سيما بعد الاختراق القوي والمزلزل لمقاومي عملية طوفان الأقصى، في تنفيذ خطتهم داخل المواقع المستهدفة، والذي قوّض بعض مرتكزات الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية، المشهود لها إقليميًا ودوليًا بالفاعلية الهائلة والجاهزية الخارقة، لامتلاكها أحدث الوسائل التقنية والحربية والاستخباراتية، وهو ما قوّض أركان صورة إسرائيل على مرأى العالم ومسمعه، فتبدى الارتياب وتجلى الشك في قواها الاستخباراتية والعسكرية بشكل فظيع، تأكد معها أنها ليست في منأى عن الاختراق الممكن في أي لحظة، وأن جيشها النظامي المصنف الرابع عالميًا قد بدا ضعيفًا، وليس قويًا كما كان متصورًا وموهومًا لديها ولدى كل من يعتقد في قوة إسرائيل العسكرية، اعتقادًا راسخًا كون الجيش الإسرائيلي يتمتع بإمكانيات ومؤهلات تمكنه من الوجود الفعلي والكلمة الفصل في كل المعارك الحربية الممكنة، فطرح السؤال الجوهري والمفصلي في الآن نفسه: كيف بقوة استخباراتية وعسكرية إقليمية ودولية متمثلة بإسرائيل، أن تلحق بها ضربات عملية قوية ودقيقة في اختياراتها وخطتها، أطلق عليها “عملية طوفان الأقصى”، من طرف قلة قليلة من عناصر المقاومة الفلسطينية ليتم اختراقها بهذا الشكل المدهش؟ في الحصيلة، اهتزت صورة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية – الموساد – ذات الطابع العالمي المرعب التي تخنق معها الأنفاس توجسًا وخشية من مقالبها، والمتميزة بقدرتها على الاستباقية في معرفة المعلومة، وأيضًا تم الإجهاز على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأن صفقاته العسكرية الحربية تكون دومًا معادلاتها في صالحه من حيث الأرباح والكلف البسيطة مقارنة بالخسائر التي تتكبدها في عملياتها الحربية، بل كل الخسائر الفادحة تكون من نصيب أعدائه.

لذا عملت إسرائيل على شحذ مخيلتها بعدة استعارية تشرعن بها خوضها الحرب على غزة وكل أطراف المقاومة الفلسطينية، ضاربة عرض الحائط كل الأخلاقيات الإنسانية والضوابط وكل بنود الترسانة القانونية الدولية، في حرب هوجاء أتت على الحجر والبشر، ومن جملة عدتها الفكرية الاستعارية نأتي على ذكرها في هذه الورقة هي كالآتي:

ثالثًا: استعارة الشر

الرؤية الإسرائيلية في علاقاتها بمفهومي الشر والخير ملفتة للنظر، فتبعًا لعناصرها المؤسسة لها، تنقلب كل الموازين عند عرضها على طاولة المقارنة ومقاربات النقاش الفلسفي والأخلاقي والقيمي والثقافي عمومًا حول مفهومَي الشر والخير، فالتعاليم الدينية التوراتية ومنظومة الصرح الفكري الصهيوني، شكلتا مرجعيتين أساسيتين لممارسة الخراب والدمار والإبادة والتهجير والتطهير العرقي وكل صنوف التنكيل بالفلسطينيين، وبذلك يكون الشر المطلق هم الفلسطينيين وكل العرب والمسلمين على حد سواء. “في عددها الصادر لشهرَيْ مايو/أيار ويونيو/حزيران 2009، نشرت مجلة مومِنت (Moment) اليهودية الأميركية حوارًا مع الحاخام الصهيوني مانيس فريدمان حول الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب. وقد أتت إجابة فريدمان صريحة: “إنني لا أومن بالأخلاقيات الغربية، بمعنى أن عليك ألّا تقتل المدنيين أو الأطفال، وألّا تُدمِّر الأماكن المقدسة، وألا تقاتل في المناسبات الدينية، وألا تقصف المقابر، وألا تُطلق النار قبل أن يطلقها عليك الآخرون.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم”. وقد علَّل فريدمان ذلك بأنه الرادع الوحيد والحقيقي للتخلُّص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة، وأن تلك هي قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيليين “النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان” (4).

رابعًا: استعارة قوة الممانعة / المقاومة

عدم الرضوخ للشروط المفروضة لأجل السلام من قبل القوى الفلسطينية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي، وتشكيل جبهات ممانعة ومقاومة، في الآن نفسه، أهمها جبهة حماس بقطاع غزة، وفي ظل تصاعد التهديد الخارجي، إضافة إلى توترات ونزاعات وصراعات تزلزل وتخلخل بنى الأمن الإقليمي داخل منطقة الشرق الأوسط بمفهومه الشامل، ينسج الإسرائيليون رؤيتهم حول ذاتهم الكيانية بحسب المعطيات الجيوبوليتيكية والاستراتيجية الحاصلة والواقعية، بوعيهم أن كل ما هو معطى يقوي جبهات الممانعة، سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، رغم أنها دخلت في عمليات التطبيع السياسي والدبلوماسي مع كيانات عربية وإسلامية، إلا أنها تتوجس – أيّما توجس – من صعود جبهات ممانعة بداخل فلسطين المحتلة، مما تعدّه تهديدًا ملموسًا لوجودها الاحتلالي والاستيطاني على أرض فلسطين، وأن مشروعها التاريخي في مهب الريح، الهادف إلى إنشاء إسرائيل الكبرى، قد بدأت بوادره بالتراجع، الأمر الذي استعصى معه تنزيل كل المخرجات الأيديولوجية والسياسية وبراديغمات التفكير الاستراتيجي لدى صناع القرار الإسرائيلي داخل إسرائيل ولدى الداعمين لها والمتعاونين معها لفرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، بالرغم من استراتيجية ما يصطلح عليه البعض بـ “كيّ الوعي”، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في علاقاتها بالوعي الفلسطيني الممانع والمقاوم وجبهات الممانعة العربية ، يسعى الاحتلال من خلال تخطيه كل حدود الوحشية والدموية واللاآدمية إلى كي الوعي في أبعاد ثلاثة:

الأول، “الوحشية في هذا السياق سلاح “إسرائيلي” مباشر لمحاولة طمس الشعور بإنجاز السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وترسيخه في الوعي واللاوعي بشكل إيجابي.

والبعد الثاني هو المسؤولية عن الإبادة نفسها، إذ يراهن قادة الكيان بأن طول أمد العدوان واستمرار معاناة المدنيين في ظروفهم غير الإنسانية سيدفع البعض/الكثيرين منهم للحنق على المقاومة وتحميلها هي – لا الاحتلال – مسؤولية ما حصل واستمرار المعاناة. وهذا مكسب كبير – إن حصل – للاحتلال؛ لأنه يرفع عنه مسؤولية جرائمه من جهة، ويزيد الضغوط على المقاومة من جهة ثانية.

والبعد الثالث الرئيس في مسألة كي الوعي، هو محاولة ضمان ألا يعود الفلسطينيون في المستقبل لمعركة مشابهة لـ “طوفان الأقصى”. لقد كانت كل مواجهة بين الاحتلال والمقاومة أساسًا وأرضية للمواجهة التي تلتها، وكانت النتائج المباشرة لـ”طوفان الأقصى” مشجعة على سلوك من هذا القبيل بعد تداعي قوة الردع “الإسرائيلية”.

ولذلك فقد كانت الوحشية وعدم مراعاة أي قوانين أو أعراف أو قوانين حرب، السبيلَ الوحيد أمام الاحتلال لإقناع الفلسطينيين – وتحديدًا المقاومة – بأن المقاومة لها ثمنها وكلفتها، وأن عليها أن تفكر ألف مرة قبل العودة مستقبلًا لخطوة شبيهة بما فعلته يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل. (5)

خامسًا: استعارة الضحية

عمل الخطاب الإسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى على تسويق صورة الضحية، وأن إسرائيل تخوض حربًا عادلة ضد حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، الفلسطينيون أشرار وإرهابيون ودواعش يتحتم على إسرائيل محاربتهم والقضاء عليهم وإبادتهم، إنهم “عماليق” بحسب النص التوراتي كما جاء في سفر صموئيل الأول “اذهب وحارب عماليق، اقض عليهم قضاء تاما، هم وكل ما لهم. لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرِجال والنساء والأطفال والرضع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجِمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنوا. هنا في هذا المقام الاستعاري يصبح الفلسطينيون عديمي الأخلاق ولا إنسانيين وعصابات إرهابية وإجرامية .. لذا فالحرب على غزة ودك ما عليها وممارسة كل أشكال العنف والقتل والتدمير والمزيد من المذابح والمجازر في حق المدنيين العزَّل، أطفالًا ونساءً ورجالًا، شبابًا وشيبًا، واستهداف المستشفيات والمدارس والإجهاز على كل المرافق الحيوية والبنى التحتية… هي حرب أخلاقية وعادلة، لا يخامرها شك في نظر أصحاب قرارات الاحتلال الإسرائيلي، لرد الاعتبار إلى ما تتوهمه إسرائيل في كونها كانت ضحية أعمال شريرة وخبيثة من طرف حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، في عملية تبرير عدوانها وهمجيتها ووحشيتها التي تمارسها على الفلسطينيين.

إن إسرائيل تريد أن تظهر للعالم أنها بطل يخوض حربًا ضد شرير خبيث (الفلسطينيون)، يستحيل معه أي سلوك أخلاقي، وتنتفي معه أي ممارسة إنسانية وحضارية، وتنعدم معه أي أرضية تفاهمية … فليس لها إلا خوض حرب حتى النصر ودحر المقاومة وإنهاء الوجود الفلسطيني عبر الإبادة أو التهجير. تريد إسرائيل أن تؤكد للعالم أنها تخوض حربًا بشرف حتى يتحقق النصر على الأعداء الأشرار، “فالبطل ذو أخلاق وشهامة، بينما الشرير عديم الأخلاق ومعتد آثم. البطل متعقل، أما الشرير، فعلى الرغم من دهائه ودقة حساباته، فإنه لا يمكن التفاهم معه. فالأبطال لا يتفاوضون مع الأشرار، بل إنهم ملزمون بهزمهم”. (6) .

سادسًا: استعارة الحيوانية

ما إن تناسلت الوصلات الإعلامية والأخبار على صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية وشاشات الفضائيات حول عملية طوفان الأقصى، حتى انبرى الخطاب الإسرائيلي إلى النهل من كل حقل من حقول الاجتماع والحيوان، ما يسهم في شحذ وتأليب الرأي العام الداخلي والخارجي، وذلك بالعمل على توظيف الاستعارة ذات الفعالية الخطابية القصوى للنيل من مقاومي حماس والفصائل المقاومة والفلسطينيين كافة، فتمثل استعارة الحيوانية بشكل مثير في خطاباته الإعلامية، انطلاقًا من مشاهد وشرائط تم تصويرها أثناء عملية طوفان الأقصى، تظهر بطولية وبسالة عناصر المقاومة التي قامت بتنفيذ مخططات العملية، حيث وصف أهل غزة بالحيوانات، جاء هذا على لسان وزير جيش الاحتلال الذي يبرر وحشية الإسرائيليين في خوضهم حربًا ضد المقاومين الفلسطينيين يصفهم بـ “أنهم حيوانات بشرية”، فقد أجمع قادة الاحتلال على نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين كلية. ارتكز الخطاب الإسرائيلي الموجّه إلى الجمهور الإسرائيلي على نزع الإنسانية عن الفلسطينيين (Dehumanization)، يتجسد ذلك في تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في معرض حديثه عن شنّ عدوان على قطاع غزة بقوله: “نحن نحارب حيوانات بشرية”. وذلك في تبريره لقطع الكهرباء والماء والطعام عن قطاع غزة. يأتي تصريح غالانت امتدادًا لسلسلة طويلة من التصريحات الإسرائيلية التي تهدف إلى نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وتشبيههم بالحيوانات والحشرات، فسابقًا، وصف رئيس الأركان الإسرائيلي رفائيل إيتان الفلسطينيين بـ”الصراصير”، بينما شبّههم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير بـ”الجنادب”، أمّا عضو الكنيست، من حزب الليكود اليميني، يحائيل حزان، فقد وصف العرب بأنهم “ديدان”.

انصهر الخطاب العنصري الإسرائيلي الهادف إلى نزع الإنسانية عن الفلسطينيين والعرب، في الموروث الفقهي اليهودي العنصري، تمظهر ذلك في حديث الحاخام عوفاديا يوسف (الزعيم الروحي لحركة شاس، والحاخام الأكبر السابق لليهود السفارديم في إسرائيل)، وقوله: “إن اليهودي عندما يقتل مسلمًا فكأنما قتل ثعبانًا أو دودة، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كلًا من الثعبان والدودة خطر على البشر، لهذا فالتخلص من المسلمين مثل التخلص من الديدان، أمر طبيعي أن يحدث” (7).

خاتمة

إن الاشتغال على نسق من الاستعارات في قضايا معينة يسمح بكشف الخلفيات والمرجعيات المتبناة لدى الأفراد والمجتمعات والدول، ويكشف عن البنى اللاشعورية والشعورية معا، التي تعمل على تسويغ القرارات المتخذة في شأن من الشؤون، وبخاصة في أوقات الصراعات والنزاعات والحروب، إذ ما يتبدى في حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة وفصائل المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين عمومًا، هو استثمار لعدة استعارية هائلة ومكثفة، تنهل من النصوص التوراتية ومن الفكر الصهيوني اللذين يغذيان الوجود الإسرائيلي منذ لحظة زرعه في فلسطين، لذا فلا غرابة من حرب يهدف من ورائها الاحتلال الإسرائيلي اقتلاع جذور أصحاب الأرض، وفرض قوته ونهج سياسة الإبادة الجماعية والتهجير وكل أشكال العدوان الهمجي على شعب يرفض الانبطاح والاستسلام، صامد متشبث بقضيته العادلة، مهما كلفه العدوان من أثمان باهظة، وما أصبحت عليه القضية الفلسطينية من حضور لافت في كل المنتديات والمؤسسات والأوساط التعليمية والثقافية والفكرية والجماهيرية والساحات العمومية عبر كل جغرافية العالم، هو دليل على أن قوى شر الاحتلال الإسرائيلية وداعميها، تبدت للعيان، كونها تريد دحر المقاومة الفلسطينية والقضاء على الوجود الفلسطيني بلا هوادة، ولا رحمة ولا شفقة، وضرب كل القيم والأخلاقيات الإنسانية وبنود القوانين الدولية عرض الحائط، وهو ما أجج الرأي العام الطلابي والثقافي والجماهيري ضد الممارسات الإسرائيلية الصهيونية، بينما كان في الأمس القريب، ساحات ومنابت وأعقار الأفكار والمخططات ومذهب إسرائيل الكبرى، في الغرب تحديدًا، وفي كل مواقع العالم، صدحت حناجر المحتجين منددة بهمجية الاحتلال وسياسة الكيل بمكاييل غير عادلة، رغم سياسات التضليل والتزييف واختلاق الأكاذيب وتشويه الحقائق التي على الأرض، والعمل على بث الاستعارات الممنهجة في محاولة الظهور من موقع الضحية والحمل الوديع، التي تخفي التفكير الاستراتيجي للإسرائيليين في المنطقة برمتها.

الواقع موجود، وكذلك نسق الاستعارات اللاشعوري الذي نستعمله بدون وعي في إدراك الواقع وفهمه. وما تفعله الاستعارة أنها تقوم بحصر ما نلاحظه، تسلط الضوء على ما نراه، وتمدنا بجزء من البنية الاستنتاجية والاستدلالية التي نفكر بواسطتها. ولأن الاستعارة منتشرة بشكل كبير في التفكير، فإننا لا نستطيع دائما مناقشة الواقع بواسطة ألفاظ حرفية فحسب.

… ولخدمة الواقع، علينا إعارة انتباه أكبر إلى آليات التفكير الاستعاري، وبخاصة لأن هذه الآليات تستعمل بالضرورة في مداولات السياسة الخارجية، ولأن الاستعارات .. إن هي عززتها القنابل قد تقتل” (8).

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية