تتبنى الورقة منهجَ علم الاجتماع التاريخي كحقل فرعي من علم الاجتماع يربط التحليل على نحو وثيق بالتوجهات الشائعة للتطور، أو تطبيق علم الاجتماع على المشكلات، بحسبان التاريخ حقلًا للاستقصاء والتفكير، مع التركيز على ما يستدعي المقارنة، علمًا أن استدعاء الماضي عادة مقلقة لمن يفضل عدم مواجهة الحقيقة. تتطلب معالجة موضوع كهذا التحليل الحفري للوقوف على الخلفية الجيوستراتيجية للتحالف الوطيد بين الإمبريالية والصهيونية: «فأن تفكر سياسيًا واجتماعيًا على نحوٍ جيد فعليك أن تقرأ تاريخيًا على نحوٍ جيد» (بيار فيلار (Pierre Vilar)). كما تتطلب تبنّي مصطلح العدوان بدلًا من الحرب لأن الحرب هي استخدام القوة بين دولتين أو أكثر بحسب كارل كلاوزفيتش في كتابه عن الحرب (On War)، في حين أن غزة تشهد عدوان دولة عسكرية على حركة تحررية.

أولًا: ملحمة الطوفان طريق نحو التحرير

السابع من أكتوبر 2023 حدث غير مسبوق في الصراع العربي – الصهيوني، ليس طارئًا بل يستند إلى كتلة من المقولات الأيديولوجية أدت إلى هزائم ومهادنات وانكسارات الزمن العربي والحلم بالوحدة؛ هزائم أعوام 1967 و1970 و1973 (نسبيًا) لتتواتر الإخفاقات حتى كامب دايفيد ووادي عربة فأوسلو وتطبيع 2020 فاتفاقية أبراهام. مسارٌ يطرح أسئلة قديمة حديثة تدفع إلى معالجة عين القضية وفهم واقع سياسة الأنظمة العربية، ويفرض إعادة إنتاج العلاقة بـ«الآخر» على المستوى السياسي والأيديولوجي والمعرفي، الذي نراه اليوم مستنفرًا تجاه مقاومة تصنع الممكن عبر المستحيل. كيف نُعرّف هذا «الآخر» ذا الحضور المكتسح لخشبة مسرحنا منذ الانتداب البريطاني، مرورًا بنكبة 1948 التي كوّنت سؤالنا الوجودي وإمكان الاستمرار التاريخي كشعب وثقافة، كيف نتحرر من علاقة تبعية لاستعمار مقنّع جرّدنا من روح المبادرة وكرّس فينا روح الهزيمة والتواكل؟ وكيف ننتظر اتخاذ موقف ممن أضاع القدرة على المبادرة والابتكار ومختلف عمليات البناء والتطور نضجت وسط علاقة الوصاية والانصياع، وفي سياق الانشداد الكامل إلى علاقات التبعية للمتروبول والابتلاع والاندغام المنحدرين من عولمة التاريخ العالمي الأمريكي كمرحلة ثانية[2]؟ وفي ظل الهيمنة أضحى التطور وظيفة يؤديها نظام الحكم[3]. ما يحدث في غزة ليس بريئًا، ويفرض العودة إلى تحليل أصول المعرفة الحديثة التي فُرضت علينا منذ القرن التاسع عشر وطبَّعنا معها من دون نقد وتمحيص، وبالتالي فنحن نتحمل مسؤولية قراءتنا المغلوطة «للآخر» الذي لن يتركنا نتنفس إلا تحت مظلته حرصًا على تحكّمه المكسر للتوازن: لماذا أخفق النظام العربي في معالجة القضية الأم التي مضى عليها نصف قرن، حوّل خلاله الكيان سياسة الأمر الواقع إلى منطقة فراغ قانوني لا يعبأ بالمواثيق الدولية ولا ينساق للمعايير الإنسانية. وهل يحدث الإخفاق بصورة قدرية أم يحدث ذاتيًا أو ميتافيزيقيًا أو لعوامل أخرى؛ الظروف والملابسات الجذور المادية والموضوعية. وسؤال الأسئلة هو كيف يتمكن النظام الرسمي العربي من امتلاك سلطة الاقتدار لفهم نفسه و«الآخر»، وهل يحقق مصالح وأهداف مجتمعه؟ طوفان الأقصى يطرح التصدي للوظيفة الجيوسياسية والدور الذي أراد الغرب أن نؤديه كامتداد لسيطرته الاستعمارية التقليدية، لعجز الذات العربية المنشطرة والمبعثرة بطريقة تزيد الواقع بؤسًا، في اللحظة التي بلغ فيها غضب الشعوب الذروة: جزء مع التطبيع وجزء يتهيّأ له وجزء ثالث يحارب مع الكيان، الكل ملحق بالكتلة الصناعية المركزية بأشكال ووظائف مختلفة باستثناء محور المقاومة. غزانا التأخر كبنية فوقية في «صورته الاستعمارية الاستعبادية وأحيانًا القاتلة، بنية غيرت الآفاق وتركت النفوس على حالها بل دفعت بها إلى الوراء»[4]، وهو ما يتطلب الخروج من عباءة الذي قطع علينا شروط التطور التاريخي الطبيعي وأحد العوامل الرئيسة لأزمتنا الطويلة التي أعاقت تحقيق المرتجى الحضاري.

ثانيًا: «دولة الكيان» على فوهة بركان

وجود الكيان أمر عارض، خارج عن فلسطين، غريب عن ماهيتها، تابع للغرب، زائد في المنطقة، استُنبت فيها لإخفاء السكان الأصليين. أُخرج من المنفى إلى أرض الميعاد بناء على أساطير خرافية. ولم تكن العودة نهاية الشقاء وطيّ صفحة المنفى، فنهاية منفاه انقلبت إلى منفى «الأنا» الفلسطيني. أراد أن يتحرر فسلب التحرير منه بالعنف والتقتيل. وفي امتلاك الأرض الموعودة اختلاس لأرض فلسطين تحت راية أيديولوجيا عنصرية تؤسس لوطن يهودي مكان ما هو منذ آلاف السنين كان وطنًا فلسطينيًا. التشديد على الوجود التاريخي للصهيونية يقابله كبت تاريخ «الأنا» وهل يمكن كبت تاريخ أصحابه أحياءً! إذا حقق الكيان وقائع على الأرض فدور الإنسان الحر هو أن يعرف كيف يقول «لا» للأمر الواقع ويعمل لتغييره. وحجة الأمر الواقع لا يمكن الاعتداد بها بالنسبة إلى الحركات الثورية؛ فالسلطة النازية كانت تظهر في وقتها كأمر واقع واندحرت في النهاية بفضل الكفاح المشترك للشعوب، وكان سقوطها إيذانًا بفتح صفحة جديدة للإنسانية، ولن يُستكمل تحرير الأمة العربية والإسلامية إلا بتحرير فلسطين، والنازية الصهيونية شأن النازية الألمانية مصيرها الزوال. وحدثُ الطوفان جاء ليضع دولة الكيان أمام منعطف غير مسبوق، وليبين أنها ليست الخلاص الشامل بقدر ما هي بناء فوق فوهة بركان كما حللت حنة أرنت (Hannah Arendt) ناقدة تأسيسها حاسبة أن إنشاء «وطن قومي يهودي» يعني شيئًا أعمق من إيجاد ملجأ لمضطَهَديهم. كتبت عام 1948 بعد إعلان الأمم المتحدة إقامتها: حتى لو كسب اليهود الحرب فإن نهايتها ستشهد تدمير إنجازات الصهيونية، اليهود «الظافرون» سيعيشون محاطين بسكان عرب معادين كليًا، معزولين داخل حدود مهددة دومًا، منهمكين في الدفاع عن النفس إلى درجة ستطغى على كل الاهتمامات والأنشطة الأخرى. أليس هذا ما يعيشه الكيان اليوم. وانتقدت الصهيونية السياسية ودولتها المُنشأة حديثًا وعدّت حل القضية اليهودية بإقامتها هو خلق لعنة مهجّرين ومنزوعي الحقوق ومن هم دون وطن، وهي لعنة تلاحق الولادات القسرية لأنها لا تستطيع أن تقوم على قاعدة المساواة، وبتعبير أقل حذلقة «دولة أبارتايد». وموقفها نابع من نقدها مساوئ الصهاينة وانغلاقهم امتثالًا لأسطورة حكماء صهيون التي تمثل وثيقة مكيافيلية خططت للسيطرة على العالم فكريًا وحضاريًا، وإلى هذا يشير «هيملر»: إننا نعزو فضل اكتشافنا فن الحكم إلى اليهود[5]. وأدانت سياسة تبنّي الكولونيالية لأن الصهيونية صراع كولونيالي الطابع في مقال عام 1945 وضم عددّا من الاستنتاجات المهمة؛ منها أن موقف الصهيونية الممالئ للاستعمار أمر حتمي، لأنها حين عدت نفسها «حركة قومية» باعت نفسها منذ اللحظة الأولى لأصحاب السلطة والنفوذ؛ فشعار الدولة اليهودية يعني في الواقع أن اليهود ينوون التستر بستار القومية، ويقدمون أنفسهم على أنهم «مجال نفوذ» لأي قوة كبرى. وهذا طوفان تحرير فلسطين يطارد شبح نكبة 48؛ بداية النهاية لكيان أثبت أن قوته تفرض إرادتها وتهزم كل المحيطين به ليتبين أن قوة السلاح لم تعد وحدها العامل المحدد أمام قوة الإرادة والتصرف بحزم لمقاومين أشداء يظهرون كنسمة متحركة فاعلة فعلها في جيش العدو ومعداته ثم يختفون.

ثالثًا: الممكن عبر المستحيل

يفوق حدث الطوفان الخيال؛ كابوس يجبّ ما قبله، ومنعطف سيغيّر وجه المنطقة وثقافتها السياسية بما سيتمخض عنه من نتائج بعيدة المدى. إنجاز إبداعي وهندسة مرسومة بعناية من حيث التخطيط والتنفيذ والآليات، نسجت بهدوء وأُديرت بإتقان وتضحية وبراعة التطبيق، زعزع بضربة واحدة في ثلاث ساعات دعائم سيطرة مزدوجة: سيطرة الكيان الوظيفي والإمبريالية الأمريكية، الشريك في العدوان. هز أركان الصهاينة وجعلهم يحسّون، رغم قوتهم التي بلغت ذروة مقدرتها الحربية، بأن الأرض تميد من تحت أقدامهم، وبورطتهم التاريخية ككتلة بشرية تم نقلها من أوروبا لتغرس في المنطقة لإعادة تكوينها وإبقائها في حالة التجزئة والتبعية، ليضحى الرعب معلمًا في التجمع الصهيوني الذي تخلصت منه أوروبا. فهل تهدأ نفوسهم ويشعرون بالأمن والأمان بعد الطوفان، أم أن الخوف من السكان الذين اغتصبت أرضهم سيظل سرمديًا لجذوره الاستيطانية طبقًا لقول موشي ديان: «إننا جيل من المستوطنين لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت دون الخوذة الحديدية والمدفع. علينا ألا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في أفئدة الآلاف من العرب حولنا، علينا ألا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش أيدينا، إنه قدر جيلنا وخياره أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة»[6]. إنها الإقامة على أرض مغتصبة يقف أصحابها الأصليون على حدودها يقرعون الأبواب حتى يستردّوها.

سعت المقاومة بجميع الوسائل لحسم الوضع في غزة والإمساك بزمام المبادرة من باب الحذق التكتيكي للخروج من السجن الكبير بالعملية المباركة، وقدمت تجربة جديدة في المقاومة العسكرية بتمسّك قياداتها بالمبادئ الأخلاقية والوطنية والقومية مستفيدة من التجارب السابقة ومن تصرُّف العدو الذي يتبع سياسة «خير وسيلة للدفاع الهجوم»، ليجعل العرب دائمًا في حالة دفاع فقلبت المعادلة. أحدث الطوفان تحولًا انقلابيًا بالمعنى السوسيولوجي اجتاح العالمين العربي والإسلامي وشعوب العالم، وتحولت المقاومة إلى دينامية وتيار اخترق كنهَ المشروع الاستيطاني ودشن لمعركة الكرامة؛ فلأول مرة في تاريخ الصراع يأتي الهجوم من داخل جغرافية فلسطين المحتلة ليضرب عقيدة العدو المبنية على القوة، ولتنهار أسطورة الردع وقوته ومكانته العسكرية والأمنية والاستخبارية، أمام حركة تحررية متواضعة العدد والعدة والإمكانيات، وتنزع منه المبادرة والفعل لاسترداد الوطن المسلوب، وتسقط حتمية الهزيمة أمام من تقف وراءه أمريكا بجبروتها، روّجتها الأنظمة العربية الحاكمة لتعفي نفسها من المسؤولية منذ صرح السادات مبررّا هزيمته التطبيعية بأن 98 بالمئة من الأوراق بيد أمريكا. وهذا تهديد استراتيجي لغطرستها والانتصار المطلق لقيمها الكونية الأرقى بلا منازع، وما تحدثه من تحولات في التمثلات الشعبية واستدعاء مخيلة التحرير والثقة في المستقبل.

أعاد الحدث القضية إلى واجهة الصراع الدولي أيضًا بعدما ظنَّت أمريكا وحلفاؤها أنَّهم أخرسوا صوت الفلسطينيين ومطالبهم المحِقَّة عبر «اتفاقية أبراهام» أي الانخراط في الاستراتيجيات الكبرى المتحالفة مع سياسات لا تخدم المصالح العربية ولا شعوبها التي تسعى للتحرر من السيطرة، وكانت على وشك إتمامها بالتطبيع مع السعودية لتتفرغ لمشروع طريق الحرير، أكبر خطر على هيمنتها لولا حدث الطوفان: من هنا هرولة رئيسها بقوته الغازية معلنًا صهيونيته ومشاركًا في المجلس الحربي واتخاذ قرار العقوبة الجماعية لغزة من إبادة وتطهير عرقي ودعم غير مشروط للكيان، متبوعًا بوزير خارجيته القائل «جئتكم كيهودي» قبل أن أكون وزيرًا للخارجية، فوزير الدفاع، لترسو البوارج وحاملة الطائرات قبالة الساحل ومشاركة فرقة المارينز ووحدة النخبة المتخصصة في تحرير الأسرى، في تجاوز للمواثيق والأعراف الدولية وتجاهل مبادئ العدالة والانحياز الكامل للكيان الغاصب بالمدد الجوي والبحري للسلاح والذخائر والدعم المالي، لتواتر المواقف الغربية برؤساء فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا. اصطف كل الغرب وراءه خوفًا من انهياره وضياع المصالح الجيوسياسية للغرب الاستعماري السابق (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والاتحاد الأوروبي) والمشاريع المؤسسة للاستعمار الاستيطاني (أمريكا، وكندا، وأستراليا)؛ حفاظًا على النفوذ والموارد الطبيعية والبشرية والأسواق والمواقع الاستراتيجية التي تزيد من فرصه في التقدم والتحكم، وتمنع ظهور قوى اقتصادية واستراتيجية منافسة، إضافة إلى التصريحات المتعددة والزيارات المكوكية للمسؤولين الغربيين لوجود رابطة بين التهديدات التي تؤثر في الكيان وتلك التي تؤثر في العالم الغربي، فتقوية الصداقة بينهما يمر عبر عدو مشترك.

الكل خاضع لسيطرة اللوبي الصهيوني الذي يؤثر في الأجهزة الفعّالة في المجتمع الأمريكي، من الكونغريس حتى الإدارات المختلفة ووسائل الإعلام. يبدو الغرب غولًا لا يقاوَم بل يتجسد أحيانًا في أمر مطاع وهمسٍ يفهم ولا يهمل؛ المشروع واحد من كامبل بانيرمان عام 1905، سنة اكتشاف نفط الجزيرة العربية حتى جو بايدن 2023، مستمر ومؤطَّر بميثاق ومرتبط باستراتيجيات عسكرية وأمنية وتحالفات سياسية وعسكرية واتفاقيات التجارة العالمية والسيطرة على البورصات والأسواق المالية. فالقضية الفلسطينية بوصفها مُستـعمرة مُشتـركة لِمُجمل الدّول الإمبريالية وما دار حولها من صراعات وارتبط بها من سياسات، شكلت الجزء الأبرز من تاريخ الشرق مُذ أصبحت وسيلة في يد الاستعمار للتدخل في شؤون شعوب المنطقة والحفاظ عليها في دائرة نفوذها.

رابعًا: طوفان الأقصى والتحول الاستراتيجي

أسسَ الحدث لتحولات واتجاهات نوعية وإرادة جمعية وحراك شعبي، وأعاد للقضية زخمها الرمزي والسياسي، وأحدث تأثيرًا في ضمائر الشعوب وبعض النخب الغربية، وطوّر الوعي السياسي لدى شرائح عريضة من الرأي العام العالمي، وغيَّر القناعة القديمة المنسوبة إلى الكيان الضحية وإلى الفلسطيني العنيف، فوجدت السردية الفلسطينية طريقها إلى الضمير الجمعي العالمي ترجمت في موجة غضب الشعوب التي شعرت بأنها معنية بأحداث كانت محصورة في رقعة ضيقة مورس عليها الحصار بنسبة 97 بالمئة، وأحيا ثقافة الاقتدار ومعركة الوعي ضد السردية الصهيونية. بدأ الرأي العام العالمي يستوعب مغزى الصراع ويرى في الكيان نظام فصل عنصري متوحش. أيقظت المشاهد العالم فتحرك ليفرض عليه العزلة الدولية كتلك التي ساعدت على إنهاء نظام حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، الشبح الذي ظل يطارد الكيان: بحسب نتائج استطلاع الرأي في البلدان العربية أجمع الشارع على حسبان القضية الفلسطينية قضية العرب جميعًا بنسبة 92 بالمئة، وشهد المغرب بحسب البيان الصادر عن الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة يوم 19 كانون الثاني/يناير 2024، أكثر من 111 تظاهرة في 60 مدينة دعمًا لغزة ووقف التطبيع والتراجع عن الاتفاقيات.

وفي الدول الغربية 52 بالمئة من شباب أمريكا ما بين 18 و24 سنة يتعاطفون مع شعب غزة[7]، في حين يرى 67 بالمئة أن المقاومة حركة تحرر مشروعة أحيت الأمل وقاومت طمس الهويات واغتيال الذاكرة واغتصاب الحقوق، عبرت عنه الاحتجاجات والمسيرات والإضرابات العفوية في المحطات والتظاهرات المنددة بالعدوان عبر العالم، من مختلف الأعراق والأعمار والثقافات والخلفيات السياسية، واتسعت الفجوة بين الأنظمة السياسية الحاكمة وشعوبها التي اتخذت وأحرار العالم من المقاطعة لغة تضامن ودعم، كمقاومة سلمية وثقافة الأحرار وسلوك قيمي ضد همجية الكيان وفظاعة أعماله مختلفة الأشكال: اقتصادية باستخدام الضغط التجاري لتأمين حقوق الفلسطينيين وإنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين، أكاديمية وثقافية، بضائع المؤسسات المتعددة الجنسية الداعمة لجنوده، اتخذت طابعًا شعبيًا وكانت في ما قبل حصرًا على مناهضي ومقاومي التطبيع، وخلقت نوعًا من الفضول المعرفي على منصات التواصل الاجتماعي التي أبدع الشباب عبرها: الكل يتساءل عن «القسام»، و«الضيف»، و«أبو عبيدة»، حركة حماس وفلسفتها، معنى الاستشهاد، «السنوار» (العثور على فردة حذائه إنجاز لحكومة الكيان) ودخلت المصاحف بيوت كثير من الأوروبيين لمعرفة من أين استقى المقاومون العزيمة والإصرار وشعب غزة الصمود والصبر والاحتساب، كما أعاد الثقة بالنفس لبعض الأنظمة العربية التي كانت تنصاع لأمريكا فتعاملت بتعقّل وامتنعت عن الانضمام إلى تحالف «حارس الازدهار» الذي يذكر بالتسويق لـ«السلام مقابل الازدهار» الذي أُغريت به المطبّعة منها، فلا هبّ عليها ازدهار ولا عاشت السلام. على المستوى الإقليمي تحول الكيان من قوة ردع إلى كيان محاصر وأخليت المستوطنات شمالًا وجنوبًا وقد أُسست لحمايتهم اعتمادًا على القوة التي تجاوزتها هذه المرة، ودمرت آخر وأغلى صيحات الأسلحة: الميركافا والنمر والمصفحات؛ هزائم بالجملة لتضاؤل مفعول التقنية أمام الاقتدار البشري، وسحب كتيبة النخبة «جولاني» المولود من رحم عصابة «الهغاناه»؛ فالقوة ليست في الآلية وحدها بل في الإنسان صاحب التحول كما يعلمنا التاريخ وتؤكده المقاومة الصامدة. هندس المقاومون النهج بإدارة المهارات والخبرة التقنية ورأس المال الفكري وموهبة البصيرة ورباطة الجأش، فسجلوا بعد مئة وعشرات الأيام أروع البطولات أمام أقوى جيش مدعوم بأقوى حلف عسكري بما يدل على القدرة الفاعلة والقيادة العسكرية المهيأة رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة: «المهم ألّا تنكسر الإرادة» قالها الشهيد أحمد ياسين في تحليلاته الرؤيوية العميقة. أما الدرب فقد شُقَّ منذ زمن عز الدين القسام الذي وصفه بن غوريون بظاهرة جديدة بين العرب، على استعداد للتضحية بحياته من أجل مثل أعلى، وهم يطبقونه بإيمان  ومعرفة ومنهج، ومن ورائهم محور المقاومة والشعب الفلسطيني والعربي وأحرار العالم؛ لحظة أصبح فيها لمنطقتنا التي أصيبت بالخرس صوت الحرية ومنهج تحقيق النقلة المرجوة أي المقاومة ولا شيء غيرها: لبّه التحرير وصرامة الموقف وبطلته «الذات العربية» المقاومة لا المنبطحة البعيدة عن شعوبها والمطبقة للأوامر، الذات التي تبني التاريخ وتجعل منه مفهومًا مؤسسًا للخروج من دائرة هيمنة المصالح والأطماع والشغف بالمنفعة، وحالة الإرث الاستعماري المجسد في الكيانات الهشة سليلة «سايكس – بيكو» وتبعية اقتصادية للإمبريالية العالمية التي ترهن وجودنا وتمعن في دوام ضعفنا في الإطار الدولي بسياساتها.

ما حققته المقاومة المحاصرة 17 سنة، حطم أسطورة الذات الغازية، مركز العالم الذي غزته، وصنعت من غزة أسطورة الشهامة بصمود شعبها والتفافه حولها رغم الأثمان المرتفعة، فأهل غزة لا يخشون الموت، احترفوا الاستشهاد لأجل الكرامة بقناعة أنها المكمن والحصن. الأهداف المرسومة للكيان ومن ورائه أمريكا ركزت على القضاء عليها، بالتدمير والمحو من الوجود بالقوة واسترداد الأسرى؛ بمعنى، إما الخضوع والاستسلام وإما التهجير وإما الموت المحقق طبقًا لنهجه العدواني، وكأنه ألغى وطنيتهم فكريًا وبيولوجيًا، لكن رغم الكوارث بقي رجال ونساء وأطفال غزة أبطالًا لمأساة تصدّوا لها بعنفوان؛ فأجداد هؤلاء، ضحايا القمع وأهم المتمردين المناهضين كانوا لاجئين في غزة، يرون بأعينهم كما قال موشي ديان: «كيف ننقل لوطننا الأراضي والقرى التي امتلكوها وامتلكها أجدادهم من قبل». هؤلاء الذين انطلقوا من الحجر والمقلاع ليصلوا إلى الصواريخ والياسين 105، أميرة الإجهاز على الدروع والآليات بما تحويه، وبمجهود عربي إسلامي في ظل الحصار، هم من حال دون تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية للكيان؛ فلا استرجع أسيرًا ولا أسر قائدًا باستثناء اغتيال قيادات في محور المقاومة والإمعان في الجرائم والفشل والقانوني والسياسي والانحطاط الأخلاقي. أما المبادرة العسكرية فبيد المقاومة. وهذا يدخل في إطار الأسطوري والعجائبي لأن المقاومين لم يكونوا يواجهون الكيان بل الولايات المتحدة والغرب الأطلسي لأنه يشكل امتدادًا طبيعيًا لسياقهما وحساسية لموضوع المحرقة، وكأن الشعب الفلسطيني مسؤول عنها ويجب أن يدفع ثمن الكوارث التي حاقت باليهود عبر التاريخ، ليمارس هو المحرقة بالطريقة نفسها في حق أبرياء من اقترافها وقد تمت في العمق الأوروبي، ومادة قتالية لحسابه في نطاق الدولة الوظيفية أي الدفاع عن مصالحه. وللعجائبي وظيفة معرفية بارزة: يقترح محمد أركون لدراسته مقاربة مركبة لغوية وأدبية وفلسفية، تركز على الوظيفة المعرفية ومدى ارتباطها بالوعي العقائدي (La Conscience extratologique).[8]. ويبدي مكسيم رودنسون بعض الملاحظات، أهمها أن الغريب والعجيب يستمدان بذورهما من التاريخ العميق للإنسان، ويضيف: «نجد في البداية الرغبة القوية للشخص في تحطيم النظام القائم للعالم لمصلحته، وهذا ينطبق حتى على الإنسان الذي استسلم لهذا النظام وفي إخضاع صلابة الذين يسيرون هذا العالم، كانوا آلهة أو أرواحًا، كهنة أو حكامًا. ويؤكد أن العجائبي موجود في الإنسان ومرتبط بالخلق والوجود، هو شيء موجود يتعذر تبسيطه أو اختزاله لأنه يميز طريقنا في الوجود في العالم ووضعيتنا داخل الكون، الأمر الذي نعجز عن كشف لغزه[9]. وبإنزال الطوفان من مستوى الأسطورة إلى الحقيقة نكشف عن التاريخ الخفي لما حدث في غزة مُذ أصبح التفوق العسكري للكيان واضحًا بعد حرب حزيران/يونيو1967، وتفوق جيشه على العرب بالدعم الغربي والسلاح النووي الوحيد في المنطقة، ومكاسب الحرب تمثلت بضمّ أراضٍ من مصر وسورية والأردن، استُغلت كضمانة لتُعاد مقابل اتفاق السلام على طريقته، بوصفه قاعدة إمبريالية للعدوان والمساومة ضد الطموحات الوطنية للشعوب العربية، وضد كل الحركات التقدمية العالمية لتحقيق حلم «إمبراطورية إسرائيل من الفرات إلى النيل». غير أنه بقي منذ عام 1948 يدبر الأمور وفق عقيدة الأمن ذات الفعالية العسكرية الجزئية المؤكدة التي تسير في اتجاه مناقض للسياسة»[10]: آليات السيطرة ووسائل القهر والعنصرية والنهب والعدوان كاستراتيجية إلى أن تمكنت فصائل المقاومة من الكشف عن الدور الذي أدته هذه الأسطورة في زمن انتشار ثقافة الهزيمة النفسية وفشل أقوى الجيوش، إضافة إلى التحول الذي أحدثه في الرأي العام العالمي معيدًا القضية إلى الواجهة بعد ما توارت إلى خلفية المشهد.

خامسًا: انفجار ضراوة الشر الجذري

يصوّر جيل دولوز، المستند إلى مِراس في التحليل النَّفسي، الفلسطينيِّين كضحايا لدوَّامة تاريخيّة طحنتهم من تهجير وتقتيل وتشريد وتيهٍ. والذين نجوا من أحزمة نار الكيان يقفون على خراب بيوتهم وقد صهرتهم عواطف الحماسة والتضامن الواعي، متمسكين بكل شبر من أرضهم كحق ثابت وقد دكّتها آلات القمع وروّتها دماء الشهداء، متنفسين هواءها الملوث باحتلال في طريقه إلى الأفول. فاجتياز الجدار العازل من طرف جيل مقاوم لا ينسى تاريخه قاده الكيان العنصري الذي لا يعرف سوى الحوار المسلح إلى الطريق المسدود، أصاب الكيان وداعميه بالدوار. فالجدار العازل الذي يُغيِب الفلسطيني ويواريه عن الأنظار في لاوعيه يُقتحم بالسلاح دفاعًا عن الوجود والشرف، مُباغتَا إياه بالحدث المتجاوز عقيدة المعجزات التقنية بالتمكن والاقتدار، ليتفجّر الشر الخفي ويتحول إلى بركان من الإجرام بعد صحوة قاسية وموجة سعار جنوني كاشفًا عن الجرح النرجسي والمذلّة التي لفّته، فتحول إلى هستيريا وإرهاب دولة مثل المارد الذي أفلت من العقال، بمجازر وحشية وتصرفات عشوائية، منفّسًا عن نزعات سلطوية وأنانية بحملة إبادة وصور شاذة مهووسة بالدماء تثأر بوحشية لا تضارعها سوابق في العنف والتجويع وتدمير البنية التحتية والتجمعات السكانية وتخريب الممتلكات العامة وإبادة جماعية غير قابلة للتفسير! نزفت فيها دماء مدنيين عزّل انتقامًا لا من المقاومين الأبطال بل بالإثخان في السكان الأبرياء قتلًا وتشريدًا وتعذيبًا، ومسح عائلات بكاملها وأحياء سكنية بمن فيها بفظاعة الإبادة النازية بل أكثر فاعلية منها.

كل شيء قابل للتدمير في سياسة الكيان واحة الديمقراطية الغربية وحامل شعلة حضارتها الذي يتغذى على ماض ملطخ بالدماء، جريمة بحق شعب، إذ في تدمير الأجساد البشرية تدمير للكرامة البشرية ومراسيم تشييع المستشهدين شاهدة، لتغتال الإنسانيّة مع كل مذبحة تستهدف النساء والشيوخ والأطفال؛ لخطرهم المستقبلي، إذ في وجودهم تهديد لأنهم سيتحولون إلى أشرار متى كبروا. وسبق لحاخامات الكيان أثناء محرقة غزة عام 2009، أن أصدروا فتاوى تؤيد بلا مواربة قتل الأطفال والرضّع لأن الشريعة اليهودية لا تمانع، كعقاب جماعي للأعداء. نشرت صحيفة هآرتس فتوى للحاخام يسرائيل روزين، رئيس معهد تسوميت، جدد فيها ما أصدره عام 2008 بوجوب تطبيق حكم «عماليق» على العدو الأبدي: الفلسطينيين والعرب. ونصت أحكام التوراة على قتل الأطفال والرضّع والرجال والنساء والعجائز وحتى البهائم. وأكد الحاخام أفي رونتسكي أن أحكامها تبيح قصف البيوت من الجو بمن فيها، لا الاكتفاء بقصف مناطق إطلاق الصواريخ، وقتل الأطفال والمدنيين بعنجهية عسكرية. وما أُفرغ على غزة يفوق ما قتل به مدنيو برجي مركز التجارة العالمي. ومن لم يقتل بالرصاص من أطفال فلسطين هيئ له الموت البطيء بفرض نظام غذائي ضعيف، حددت سعراته الحرارية منذ عهد شارون ليصلوا إلى شرفة الموت. خطة التدمير البطيء، فضلًا عن الحصار والاغتيالات الميدانية والتهجير لتفريغ الأرض وفرض واقع جديد، وليس مستغربًا من كيان مجرم جينيًا، العدوانية ثابت من ثوابته، قام على الاستيطان والطرد القسري، الذي يعدّ إبادة جماعية جوهريًا[11] منذ عام 1948، وهو كتلة من الجرائم شعاره «أنا أبيد، إذن أنا موجود»، في حِل من الضوابط لعوزه الأخلاقي.

عرّف كلاوزفيتش الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بأنهما تدمير اجتماعي لتجمع سكاني موجّه ضد مجموعة لا ضد دولة[12]. والصورة اللاأخلاقية التي رسمها الكيان أن «لا تسامح مع الأغيار» تختلف عن الكائنات العادية، «فأن تكون صهيونيًا كان دومًا أن تكون مجرمًا»[13]. وحتى اليهود الذين تنصّلوا من اليهودية باعتناق المسيحية لم يتنصلوا من التهوّد. وإذا سمحت لنفسك بالتشكيك في هذه السياسة تُتهم باللاسامية والجهل بالوقائع التاريخية والسياسية والثقافية للمنطقة، مع التغاضي عن العرب كساميين، مع أن موقع صحيفة معاريف بتاريخ 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2003 حمل مقالًا لشموئيل جوردون بعنوان معاداة إسرائيل يقول: «وصفت دائرة المعارف العبرية معاداة السامية بأنها كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد الساميين، ومن هنا فإن معاداة السامية تشمل أيضًا كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد العرب». تجسدت معاداة الكيان في شعارات إذلال الطبيعة البشرية بشحنات عنصرية. وكأن بعض البشر أكثر أهلية من الآخرين؛ ومقياس الأشياء: «الموت للعرب»، «العربي الجيد هو العربي الميت»[14]. وعادة ما يلجأ لتجريدهم من دائرة الإنسانية باسم هوية متمركزة حول إثنيته الخاصة، وذهنية محشوة بأيديولوجيا التفوق العرقي وبكمٍّ من المطلقات الحاكمة سلفًا على العرب والفلسطينيين يعبر عنها بطرائق واضحة بإشهار العداء والتعامل معهم لا كبشر بل كـ«حيوانات في صورة بشر».

يصرح إسحاق هرتسوغ، رئيس دولة الكيان: «ليس هناك أبرياء في غزة». ويقول رئيس وزرائه «إسرائيل تشن حربًا حضارية ضد الهمجية»، و«حماس هي داعش نفسه»، بينما يصرح رئيس أركان الجيش «نحن نقاتل حيوانات بشرية». ويدعو بعض الإعلاميين إلى قتل مئات الألوف من الغزاويين ليستريحوا منهم. إنها الحاجة والرغبة في الاعتراف. وهيغل أول من أدرك هذه الرغبة انطلاقًا من تصوره جدلَ السيد والعبد، وبصورة أدق فكرة أن «وعي الذات لا يحقق الرضا إلا في وعي ذاتي آخر».

تبني سردية الكيان الصهيوني شرعيتها على أساس التطهير العرقي لإبادة المكان وإخفاء كل ما يمتّ بصلة إلى الآخر «الإلغاء الوجودي» للتخلص من تاريخية المكان الاجتماعية والبشرية وكأنه خارج الدائرة الإنسانية ويلزم محوه من دون عقدة ذنب. وجود الكيان محكوم بتناقض الدائرة الجهنمية التي وضع نفسه فيها باعتقاده أن نجاته في إفناء الغزاويين، والحال أنه يضاعف التهديد المؤدي إلى إفنائه هو، كطريقة لشن حركة مقاومة ضده لأن كينونته نابعة من غطرسته العرقية وتصوره المركزي (Eurocentrisme) الذي يحُول دون الاعتراف للفلسطيني بتمام صفته الإنسانية بسبب منهج التربية العقائدية الملقنة التي تجرد صاحب الأرض من إنسانيته إيمانًا بأنهم لا يقتلون بشرًا بل وحوشًا وحيوانات.

ورد في محاضرة لقائد جنود الاحتياط حوما شاحوط: «كل العرب نفايات وحثالة»، وتباهى في جنين أنه قام بمصادرة مياه مرسلة إلى الفلسطينيين لأنه لا يبالي «إن ماتت تلك القاذورات من العطش»، بوصفها كائنات دون الإنسانية مرتبة، علمًا أن التشكيك في الإنسانية عنصرية[15].

سادسًا: السياق التاريخي لطوفان الأقصى

يستدعي الطوفان العودة إلى السياق لاقتفاء الأسباب الكامنة، والعودة إلى جذور القضية وجوهرها لوضع الحدث في إطاره التاريخي، وعدم فصله عمَّا سبقه من أحداث. فهو نتيجة سيرورة وتراكم لا الاكتفاء بالنتائج، حتى لا تظل النظرة قاصرة وأسيرة تحيزات. يرتبط مشروع الكيان موضوعيًا وجينيالوجيًا بالعنف الإمبريالي والامتداد الغربي للهيمنة والتحكم في مصائر شعوب المنطقة، يستمد القوة من شرعية وجوده، في الأصل، كامتداد حضاري وحاجات أيديولوجية مفعمة بعداء يحتاج إليه ضد العرب بحصانة ودعم أمريكي، سر عدم امتثاله لقرارات الأمم المتحدة الداعية إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة وحق العودة وإنهاء الاحتلال.

لا يهدف هذا الصنف من الاستعمار إلى السيطرة كأي تجربة استعمارية تنتهي تحت وطأة المقاومة بالانسحاب، أو بشكل من أشكال الديمقراطية والتعدد الثقافي، بل يهدف إلى إعادة صوغ الشعور الجمعي فكرًا وثقافة وقيمًا وعادات، لترسيخ السردية الاستيطانية في صراعها مع مختلف أشكال المقاومة. وتأهيل الأرض وهي مقدسة لكنها مدنسة بوجود «الآخر»، أمر لا يمكن تحقيقه إلا عبر الغزو والتدمير (هذا المشروع هو هوس رئيس دولة الإمارات ورئيس وزراء الكيان). الكيان قاعدة الاستعمار الغربي وتاريخه جزء لا يتجزأ من حضارته وإفراز لحركات تاريخها. هذا هو السياق الذي يجب أن يُفهم فيه ولا علاقة له بالتوراة والتلمود وقصصه الخرافية. الهدف إبادة الخصم وتمزيق أوصاله حفاظًا على قيادة واشنطن، بالإبقاء على الصراع العربي كهدف لخلق بؤر توتر دائمة وتعطيل الجهود العربية واستنزاف مواردها وإشغالها عن قضاياها التنموية والحضارية، إضافة إلى أنه مدخل للضغط والتأثير واحتواء تمرد الحكومات وتذكيرها بدونيتها في أي لحظة كأهم أسلحة الغرب في تأبيد السيطرة والاستتباع والحدّ من نزوعها للتفاهم وبناء منظومة التعاون الإقليمي، وتقييد إمكانيات التقدم العلمي والتقني وحرمانها الاستثمارات الخارجية. أما السلام فمستحيل، بحسب بن غوريون، وهو وسيلة فقط، أما الغاية فالإقامة الشاملة للصهيونية، وهو يقول: «لا يوجد مثل واحد في التاريخ أن أمة فتحت بوابات وطنها للآخرين»[16].

سيستمر الصراع حتى يسود طرف على الآخر، كما استنتج الفلسطيني المسيحي نجيب عازوري. ظل العرب يستجدون السلام وسوّغ له العلماء بتطويع الآيات القرآنية؛ قدموا جميع التنازلات بما فيها الأرض مقابل السلام بمعنى الاعتراف بحق الكيان الغاصب مقابل إيقاف الحروب، دون جدوى، وظل الكيان يفرض شروطه بجموح قوة تحركها عقيدة التفوق، والمزيد من التنازلات يقابَل بالمزيد من التعنُّت، اعترف الفلسطينيون به كأمة بمنطق الأمر الواقع وعلى أساس العيش بسلام بصيغة تقرير المصير في الضفة وغزة  فاستمر على موقفه، فما جنوا سلامًا ولا استقرارًا بل ازداد قضم الأرض وتهويد القدس وتغيير معالمها وتزايُد الحفريات تحت المدينة المقدسة والمسجد الأقصى، ونُقلت السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها رسميًا لتحجب القضية بفعل «الربيع العربي» والتطبيع.

والسيادة الوطنية لا تتحقق عبر الدبلوماسية والاصطفاف مع أمريكا، ولن يأتي الحل من النضال السلمي والمفاوضات مع عدو لم يعرف التاريخ مثله في الإجرام والتطهير العرقي وحرق القرى والاستيلاء على الممتلكات وتحويل الملايين إلى لاجئين، وبالتالي فطوفان الأقصى لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة شروط تاريخية ووضع داخلي وصل الحد فيه إلى أن المطالب بحقه، أعلن دولة على جزء من ذلك الحق، وأصبح يطلب التفاوض انطلاقًا من ذلك الجزء فحسب، ومع ذلك فإن المحتَل مستمر من جهته كما لو كان هو صاحب الحق، وكما لو كان احتلاله للأرض بإرادة القوة والرغبة في الهيمنة هو الأمر المعقول، أضف إلى ذلك الأجواء السياسية المحبطة، ميزتها تراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية، والإمعان في امتهان المقدسات والمزيد من مصادرة الأرض وتحويل الحياة إلى جحيم. وتوسع مشروع التحالف الذي امتد إلى «اتفاقية أبراهام»، في غياب تفعيل مسار حل الدولتين المستحيل في عرف الكيان. الحدث متوقع أمام كيان مارس منذ نصف قرن فائض عنف وتحقير وقمع، وفائض عنصرية وتمركز إثنية وإقصاء كلي للحقوق الوطنية، عدا الغارات على دول الجوار. كل الجهود المبذولة منذ أوسلو الموصوف «بانتصار الواقعية على التعصب والشجاعة على الجبن السياسي» قزّمت القضية وقتلت الديالكتيك، وألزمت الفلسطينيين بالبقاء في حالة الهيمنة وحياة غزة لا تحتمل، ليتبين أنه استقلال بلا سيادة ونصر للكيان المستفيد وحده، وعلى مدى تاريخه وهو يصفي القيادات بأسلوب مباشر وأمام الملأ.

وبالتالي يجب ربط الحدث السابع من أكتوبر بهذه الأوضاع جميعًا وإلزام الكيان بشروط مكافحة الأعراض لا النتائج. وهذا ما قصده أنطونيو غوتيريس في تصريح هز أعماقه واصفًا «العملية العسكرية لحماس بأنها لم تأت من فراغ محملًا الكيان المسؤولية ومذكرًا بأن الأمم المتحدة طالما حذرت من خطورة تماديه في بناء المستوطنات وابتلاع الأرض وممارسة أشكال التضييق، في إشارات واضحة إلى شرعية دفاع الحركة ضد عنف من داس عن حق الشعب بعدما تأكد لها أن الحل لن يأتي من المفاوضات والنضال السلمي. وبلغت غطرسة الكيان حدّ التهجم عليه، مع أن التصريح لم يتناول سوى جزء من سلسلة المعاناة والحروب المتكررة والتقتيل والتشريد والتيه وجرائم الإبادة منذ النشأة. تتغذى الصهيونية على ماضٍ دموي وتجريد الفلسطيني من هوية قريته ومدينته ومنطقته. كانت حقبة ما بين تشرين الأول/أكتوبر 1992 وأيلول/سبتمبر 1993 من أسوأ حقب الاضطهاد في الضفة: استُشهد الكثير من الأطفال تحت الثامنة عشرة، ورُحل 415 فلسطينيًا وُسموا بالإرهاب في انتهاك للقانون الدولي، وتُركوا في العراء على الحدود اللبنانية في شتاء قاس وكأنهم وجدوا ليموتوا. العنف لا يتوقف، لا تخرج غزة من عدوان حتى تدخل في آخر. يكفي التذكير بسنوات 2008، 2009، 2012، و2014، و2021، لقوة مسلحة قاهرة مكفولة من الغرب ومن دون رادع، لإعادة هندسة المناطق بزرع المستوطنات وإقامة الجدران العازلة والاعتقال والنفي، وتستثنى من المعايير الدولية للعدالة، بل تحظى بامتياز إعفائها من المساءلة والمحاسبة على انتهاكاتها. ولا يمكن عدُّ الفاشية أو النازية انحرافًا أو سوء استغلال للعقلية السياسية للإمبريالية الغربية، بل هي إفراز لسرديتها وقيمها وثقافة احتراف القوة المفضية إلى الحرب والدمار المستلهمة من فلسفة القتل الممنهج. هذا الوجه المزدوج المتصل بـ«الأنا» و«الآخر» ليس جديدًا؛ احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 وأُعطيت وضعًا خاصًا بين الأقاليم الفرنسية، وكانت نموذجًا للاستعمار الاستيطاني وجرثومة لأبشع وأشد شراسة في مقاومة الحركات التحررية. كانت تضم في خمسينيات القرن العشرين مليون مستوطن جلهم من أصل فرنسي لكن الوضع تغير حين بدأت جبهة التحرير الوطني عملها التحرري.

نقرأ في رواية الغريب لألبير كامو: لم يسبق لفرنسي أن حوكم لأنه قتل عربيًا في الجزائر الكولونيالية. ونقرأ في رواية الطاعون (La Peste): كان الذين يموتون في المدينة هم العرب لكن لا يُذكرون، وقارن جبهة التحرير بعبد الناصر بعد أحداث قناة السويس 1956، وقال عام 1957 «لم يسبق أن وُجدت أمة جزائرية وندد بالإمبريالية الإسلامية». يحمل مشروع الكيان في ذاته فيروس فنائه، «الدولة اليهودية بحكومتها المتطرفة»، فهل يمكن معارضة حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هنا يتجلى تنامي انحراف الحضارة الغربية المتقدمة اقتصاديًا وتقنيًا، المتراجعة سياسيًا وحضاريًا باندفاعها نحو وهْم السيطرة بالدعم والمسؤولة عن السياسة اللاأخلاقية خارج حدودها، وعن النتائج الوخيمة للمجازر الأكثر شناعة في التاريخ بعدوان غير متكافئ ضد حركة مقاومة بإمكانات بسيطة، لا تقاتل الكيان وحده بل الإمبريالية الغربية وبعض «الأشقاء» العرب، ونقطة قوتها فهمها لعدوها الذي لا يدين إلا للعنف والكراهية. نحتاج كما قال كانط إلى معرفة ماهية الإنسان فما بالك إن كان المواجه عدوًا؟!

سابعًا: الصهيونية حركة وظيفية غربية

كان وجود الصهيونية محصورًا في العالم الغربي (أوروبا الشرقية بين وارسو وفيينا). لذا من الضروري تسميتها صهيونية غربية لا عالمية، خُلقت لتؤدي دورًا للغرب الذي يدرك أنها أداة من أدواته وسلعة نافعة له لسيطرة الحس التجاري عليها. حول هذا الموقف تقول حنة أرنت: «إن الصهيونية بطرحها نفسها حركة قومية باعت نفسها منذ البداية للقيام بالوظيفة القتالية الاستيطانية، فشعار «الدولة» اليهودية كان يعني في واقع الأمر أن اليهود ينوون التستر وراء القومية، وأنهم سيقدمون أنفسهم بوصفهم «مجال نفوذ» استراتيجي لأية قوة كبرى تدفع الثمن». المسألة هي مشكلة الجماعات الوظيفية التي أصبحت بلا وظيفة بعد ظهور النظام المصرفي والدولة القومية المركزية، فقرر الغرب حلها بأن يوجِد وظيفة جديدة لأعضائها هي وظيفة المستوطنين الذين يوطنون في منطقة استراتيجية مهمة للغرب، فيقومون على خدمة مصالحها والقتال دفاعًا عنها ليقوم هو بحمايتهم وضمان مستواهم المعيشي. من هنا التواطؤ بينها وبين الغرب، لأنها وكيلته في قلب المشرق للحفاظ على مصالحه الحيوية، جهازه الذي يختفي وراءه الاستعمار الجديد؛ استعمار الابتزاز والنهب بعد استعمار الإبادة. واستمرارها متعلق به، إذ تمثل رأس جبل الثلج من مشروع الإخضاع والسيطرة على العالم العربي والإسلامي، العدو التاريخي للغرب، الغنية أرضه والأكثر قدرة، متى وعى واستيقظ أن يصوّب البوصلة. من هنا استمرار الرعاية اللامحدودة التي تحظى بها «دولته» وحفظ أمنها الداخلي ووجودها الذي لا يمكن التفاوض عليه كما صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام الكنيست في الذكرى الستين لتأسيسها عام 2008، وأرسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية التي ترى أن «تدمير غزة جزء من حق إسرائيل في الدفاع عن النفس». حياد الغرب يعني ضياع الكيان، وضياعه يعني ضياع أهداف الغرب، فهو القائد لمشروع هدفه ابتلاع القدس وفلسطين وصولًا إلى المنطقة والسيطرة عليها عسكريًا واقتصاديًا عبر التوغل في السوق الشرق الأوسطية سياسيًا وثقافيًا. وصف هرتزل الذين كانوا يريدون الجمع بين اليهود وغير اليهود بالحالمين من ذوي النوايا الطيبة: «إن الأخوة الكونية ليست حتى حلمًا جميلًا، الخصومة ضرورية لدفع جهود الإنسان الكبرى». وليس هناك أكثر عدوانًا وتواطؤًا من حل مشكلات يهود أوروبا بظلم الفلسطينيين واغتصاب حقوقهم. ألم يعلن أرنولد توينبي أن الجريمة التي ارتكبها الكيان في حق العرب أكبر وأسوأ من الجريمة التي ارتكبتها النازية في حق اليهود! المعركة معه ومن ورائه الغرب الذي يؤمن مستقبله وامتيازاته، وكلما تقدمنا خطوة نحو الوحدة تقدم لضربها وتفكيك العلاقات البينية وتحويلها إلى كيانات هشة وتذرير (Atomisation) تماسكها الاجتماعي: المنطلق الطبيعي لأي سياسة استعمارية صاغته السياسة الأنكلوسكسونية كقاعدة استراتيجية للتعامل مع الوطن العربي، فورث الاستيطان الصهيوني تقاليد سياستها وكيفها بما يتفق ومصالحه، بمنع أي تحالف عربي محتمل، لوعيه أن بقاءه مرهون باستئصال إرادة التحدي العربية. وما التطبيع سوى حلقة من هذه الاستراتيجية هدفه تطويق المجتمع العربي وعزله عن محيطه الجغرافي وتأبيد الانقسامات وإدامة الصراعات والفتن الطائفية والمذهبية لإضعافنا بشتى الطرق، فلا سلام ولا أمن ولا ازدهار ولا حرية ولا ديمقراطية ولا تقدم يرجى من «دولة» تقوم على أنقاض شعب بكامله.

ثامنًا: حدث الطوفان والمنتظم الدولي

هل هناك أسرار لم يكشف عنها الطوفان ونحن نعيش عمليًا الوقائع الجارية نصب أبصارنا، لحظة بلحظة، كما هي لا كما نتخيلها؟ أزاح الحدثُ القناعَ عن الوجه الأيديولوجي لحضارة استبد بها هوس السيطرة وأقنعة مشبعة بعداء تاريخي يتلبسها الغرب تبريرًا وتزويرًا ولم يستطع تجاوزها، بإضفاء الشرعية على إرهاب «دولة الكيان» العنصرية ومحرقتها تجاه شعب يرزح تحت احتلال يريد تقرير مصيره، يمارس في حقه نظام الفصل العنصري الذي لا يختلف في شيء عن حالة جنوب أفريقيا بحسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو. كشفت العملية عن فصول مظلمة وأسقطت القناع عن الغرب المسوق للقضايا العادلة والمنتصر لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، لكن حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين يلغى هذا المبدأ؛ فالتنديد بالقتل لا يشمل الكيان بحجة الدفاع عن النفس بينما يسم الفلسطينيين بالإرهاب لا بشعب محتل يناضل ليتحرر. حقوق المرأة نعم لكن حين تسجن الفلسطينيات ويقتلن ويجوع أطفالهن ويشردن وتخضع أسرهن لقطع الماء والكهرباء والدواء وتُحرم الأقل الحيوي فلا حديث عن الحقوق؛ بل يحوَّر الموضوع ويُقرأ بطريقة معكوسة، أي أنهن إرهابيات يلدن إرهابيين، خوفًا من الهاجس الديمغرافي وولادة الثوار! ولم يسلم من شلالات الدماء المواليد الخدّج: هدمت المدارس والمساجد والكنائس والمخابز والمستشفيات وأقسام الولادة وسيارات الإسعاف، صُفي أطباء وصحافيون، معلمون وأكاديميون خارج أي معيار، ولم يسجل على النازيين قصف المستشفيات والجامعات. سكان غزة بلا مأوى، يتنقلون من مكان إلى آخر بعيدًا من بر الأمان. فاقت المشاهد البشاعة والفظاعة، إنها إبادة جماعية وفشل أخلاقي وقانوني وسياسي.

عام 2022 حاولت روسيا قطع الإنترنت عن أوكرانيا واستهداف بنيتها التحتية بهجمات سيبرانية، وقتها كان الحديث عن «جرائم الحرب الرقمية» وعزل فئة بشرية عن التواصل الخارجي وإدخال المنطقة في الظلام لإخفاء ما يحصل عن أعين العالم. أعلنت منظمة العفو الدولية انقطاع التواصل مع طاقمها في غزة يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر وهو ما يعيق توثيق الانتهاكات وإنتاج الأدلة. وسبق أن أكدت الأمم المتحدة أن قطع الإنترنت عن بلد أو منطقة بكاملها يعدّ «انتهاكًا لحقوق الإنسان». نتذكر إدانة الغرب لحرب أوكرانيا وسكوته عن الفعل نفسه بالنسبة إلى غزة، وهو ما يؤكد أن الشرعية الدولية تحدد بالمصالح الأمريكية والغربية ولا تطبق خارج حدودهما؛ إبادة أطفال غزة ونسائها وشيوخها يعدّ دفاعًا عن النفس بينما الضحايا لا يصنفون في باب تحرير الشعوب، وكأن الفلسطيني المستشهد ليس بوزن الغربي الميت نفسه. كل المستهدفين يذكرونهم بأن الأرض المغتصبة ما كانت يومًا «أرضًا بلا شعب» كان من المفروض أن لا يوجدوا.

إنه الانحياز الكامل للصهيونية المؤسسة على التطهير العرقي ورفض معايير المواطنة المتساوية بوصفها شكلًا من أشكال العنصرية كما أقر مؤتمر دوربان، فهل من الأخلاق الدفاع عن قوة عسكرية بلغت منتهى الضراوة في التدمير، مزودة باحتكار السلاح النووي وتمتلك سلطة تعريض حياة المنطقة بأسرها للخطر، وفوق القانون الدولي وتحتل أرضًا وتقمع سكانها وتهجّرهم أم أن الأخلاق قضى عليها سلطان النفعية؟! أيمكن المقارنة بين أقوى جيش مدعوم بحلف الناتو وحركة مقاومة؟ لقد أسقطت غزة النظام الدولي القائم على القانون والحريات وحقوق الإنسان! وعلى المتحمسين لنصرة الكيان أن يتأملوا وجهه الحقيقي وبشاعته في سفك الدماء، وهو ما يفسر إجرامه. كتب غابرييل غارسيا ماركيز يومًا: «شارون يستحق شهادة الدكتوراه في قتل الأطفال». وعن معاناتهم قال أنطونيو غوتيريش عام 2021 «إذا كان هناك جحيم على الأرض فهو حياة أطفال غزة». ويعدّ استهداف المدنيين في القانون الدولي جريمة حرب. الغرب الإمبريالي المسوّق للحقوق والشرعية الدولية هو منشئ الكيان وصمام أمانه والحريص على وضع آليات القوة بيده لحراسة المنطقة وجعلها في تبعية دائمة والتحكم في العالم واحتكار ثروة النفط، ليمحو شعوره بالإثم وارتكاب أكبر جريمة في حقه، ويتجاهل إبادة شعب بقوة سلاحه والصمت على جرائمه في حين يندد بأعمال المقاومة. واقع ليس مستغربًا، فالعنف أصيل تاريخيًا في الثقافة الغربية لا طارئ عليها. والإبادة وليدة الثورة الفرنسية. يقول المؤرخ بيير شونو: لم تكن قوات الثورة الفرنسية تحاول إخماد التمرد وإنما قامت بعملية إبادة (هولوكوست). كانت في فظاعة الإبادة النازية وأكثر فاعلية منها. ويقول وسترمان Westermann) (François Joseph جنرال الثورة الفرنسية الذي أخمد التمرد: «لقد دست على الأطفال بسنابك خيلي وذبحت النساء حتى لا يلدن أي متمرد بعد ذلك»[17].

يمتد العنف إلى الصلة بين إنتاج «الذات» التي تتصل بالنزعة الإنسانية والكولونيالية بمختلف صورها وميراثها الذي يمثل مشكلته، ويقوي بها ذاته بوصفه الذات العليا مقابل الأخرى السفلى، ولا يتحمل أن تتفجر الشقوق في جزء منه لأنه اعتاد أن يصنع التاريخ ويطبعه بالتوسع والهيمنة التي مارسها بكتابة تاريخ «الآخر» ولا يمكنه تحمّل أن يُصنع له، فالتاريخ يكتبه الأقوياء!

الصهيونية داروينية النزعة، تؤمن بقيم البقاء للأقوى والواقع هو الحلبة. ولم تكن النصوص المكتوبة جزءًا من الهيمنة الأوروبية بل شكلًا من أشكالها. وقد حسم إدوارد سعيد منذ عام 1978 المركزية العرقية التي يقوم عليها جزء كبير من المعرفة السياسية والثقافية الأوروبية في علاقتها بالخصوصية الحضارية العربية الإسلامية في أطروحة الاستشراق، ذات التفكير الناقد للغرب ومعرفته التي تعَدّ صدمة نظرية لسرديته، وفضح الزيف الممارَس عليها إلى درجة تجريدها من واقعيتها وافتقادها التجسيد على أرض الواقع. لا يؤمن الغرب إلا بالقوة وفرض النفس إلى درجة ربطه المعرفة بها للتلازم العضوي بينهما، فالسلطة تعتمد دائمًا على التحكم في المعلومات، والقوة بوصفها مفهومًا حيويًا سياسيًا من الهيمنة والقهر وما تبعها من آثار السياسات والممارسات التاريخية المعاصرة. واستكشف ميشال فوكو تجاور السلطة بالمعرفة وعلاقة التشابك بينهما، فالمعرفة توجه استخدام القوة وتحولها إلى أداة تعَدّ سليمة علميًا ولو بقيت العلاقة بينهما صعبة السبر. لذا هب الغرب الأطلسي للنجدة، لأنه لا يستسيغ أن يرى نفسه في لباس الغير الذي يريده تابعًا لا كفئا أو مساويًا، باستغلال ضعفنا الأيديولوجي وسلبية موقفنا، وهو ما يجعله سيدًا متحكمًا في زمام المبادرة، في حين انتحت أنظمتنا السياسية، ناقصة السيادة، غير القادرة على اتخاذ قرار مستقل بعيدة من دول المركز أمام مشاهد فاقت حدود الفظاعة، فلا شيء يوقف بشاعة الكيان. أما الحديث عن تقطيع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء فأظهر الواقع أنه ادّعاء من نبع الخيال، كذبته طريقة تعاملهم مع الأسرى المحررين وكما عبّروا في شهاداتهم، والإنسان في القرآن خليفة الله في الأرض مكلف بمسؤوليات تليق بهذه الخلافة، ولا يمكن لنظام تربوي فكري يتكون من جوهره الأخلاقي ويتأسس على مبادئه يتصرف بملكة طبيعية لبناء أخلاقي. هذا الواقع المر بإمكان حدث طوفان الأقصى تغييره إن أحسن توظيفه لأن الحارس الذي حدد لنا مساحة التحرك له بالمرصاد كما فعل في التجربة القومية كبداية سيرورة لخلق دول متماسكة عضويًا متصالحة مع شعوبها بحل جذري للسياسي والاجتماعي والاقتصادي كميادين ترتبط بعلاقة جدلية حتى لا نبقى معلقين بين سندان الرغبة ومطرقة حصار الغرب التي تعيق تحقيق أهدافنا، الغرب المتنوع الذي تجاوز المعيقات والاختلافات والتحم كجسد متماسك: تتأوه أوكرانيا فيتسارع لإنقاذها ويتأوه الكيان الغاصب قاتل الأطفال والمدنيين فيتسارع للدعم والتضامن، بينما أنظمتنا تحارب مع الكيان ضد الفلسطينيين عوض توظيف أساليب القوة التي بين أيديها كأولى أولويات الإنجاز من دون الحديث عن منظمة «اليونسكو» المسؤولة عن التربية والثقافة والتراث والعلوم التي التزمت الصمت أمام تدمير التاريخ العريق لغزة ومآثرها وهي من أعرق المدن، وأول مدينة فتحها المسلمون في العصر الراشدي عام 635 ليحتلها الصليبيون عام 1100 حتى استعادها صلاح الدين الأيوبي عام 1187.

تاسعًا: قضية فلسطين في أجندة الحكام العرب

أظهر الطوفان عجز الأنظمة الرسمية العربية وخذلانها في الدفاع عن قضايا الأمة وتحقيق طموحات الجماهير. تحررت من الاستعمار لتقع في تبعية دولية تحمي مصالح الرأسمالية، ولم تتجرأ حتى على «الرفض المهذب» لتصحيح المسار في ساحة صراع إمبريالي مفتوح لانتزاع الحقوق لعدم قدرة القادة على تمثيل المصلحة الوطنية والذود عنها ولفظ التبعية؛ ورغم أنها لم تتقاتل فيما بينها فإنها لم تتمكن من بناء رؤيتها الاستراتيجية المستقبلية، بتغليب العقلانية لمواجهة خطط الكيان الذي يعدّها المشكلة الاستراتيجية الأهم لنسف طموحاته إذا ما اتّحدت وتضامنت، وبالأخص أن وجوده غير نابع من ذاته، بل من غيره – أي الغرب – وهو ما يجعل وجوده عرضيًا يتطلب الزوال لأنه، على غرار ما كان يمثله نظام النازية من قبل، هو في حد ذاته تهديد مستمر موجَّه لأمن الشعوب العربية، ومن ثم لكل الشعوب عبر العالم. عرّى الحدث أيضًا الأنظمة المطبّعة والمتحالفة مع الكيان والنخب المستقلة التي لديها الشعور العميق بالمسؤولية للتصدي للمعركة، وتراجع الموقع المركزي للقضية في قوائم أعمالها. وما يعَدّ خارج المنطق وعاريًا من الحس الإنساني هو افتتاح موسم الرياض الترفيهي تزامنا مع العدوان: ففي الوقت الذي كان شعب غزة يباد من هول القصف، ووسائل الإعلام العالمية تنقل صور المحرقة كانت المملكة العربية السعودية، قبلة المسلمين وموطن الرسالة، تعيش أوج الاحتفال باللوحات الغنائية ورقصات الميوعة. وما يخدش ما تبقى من كرامة وإنسانية هو الصمت العربي الرسمي والاكتفاء بالإدانة والتنديد والعجز عن إدخال مستلزمات العيش اليومي، بل حَضَر رئيس الكيان إلى دبي للمشاركة في «قمة المناخ» وأشلاء أطفال غزة تبث على الهواء مباشرة والطائرات الصهيونية تفجّر بيوت الأُسر على رؤوسها، بدعوة خاصة من رئيس الدولة، مهندس التطبيع والاستسلام لإرادة العبث بالأمن القومي العربي والإقليمي لمصالح ضيقة لا أفق تاريخي وحضاري لها، وممول ما سمي مجازًا «الربيع العربي» والمستثمر في تغيير الثقافة، واستقباله بالمصافحة وقد أمطر جيشه الأرض بأطنان من القذائف والقنابل الفوسفورية ومختلف الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًا، بل هدد أحد وزراء حكومته بالتهديد الشامل (السلاح النووي) وهو ما يدل على فقدان الطبيعة الإنسانية للإنسان وتدنّي القيم والتجرد من روح العزة والشهامة، وفراغ التدبير السياسي، وانهيار الإرادة المستقلة باستلذاذ وضع الدّنيّة والامتثالية (Conformisme) التي تملي الخضوع للمهيمن وأساليبه في التفكير، وإخفاق الدولة القطرية والنخب المرتبطة ارتباطًا عضويًا بالغرب. و«بانهيار الإرادة والفساد الداخلي تتزايد المصالح الأجنبية» لينكشف فراغ الإطار السياسي الذي تعمل من خلاله وقِصر نظرها أمام فظاعة العدوان. لو وقع هذا في دولة غربية لارتفعت الأصوات وانصب الجحيم على الفاعل؛ كلنا يتذكر وقفة زعماء الغرب والعرب تضامنًا مع شارلي إيبدو يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 في باريس التي أسفرت عن 130 قتيلًا و300 جريحًا. لكن استشهاد ما يفوق 27 ألف فلسطيني 70 بالمئة منهم أطفال ونساء عدا الجرحى والمفقودين قوبل بخذلان النظام الرسمي العربي والغربي الذي لم يلتفت إلى هول الفتك (اقتيدوا لباريس كالقطيع وصمتوا عن فظائع غزة، ولم يجرؤوا على اتخاذ موقف من إرهاب دولة) في حين تقدمت مواقف دول وقيادات وشعوب غربية ولاتينية وأفريقية، لأن منطق تشكل الأنظمة العربية ومحرك مسارها يأتي من خارجها، لا ماضي لها ولا مستقبل ما دامت معلقة على سياسات الدول والشركات الكبرى المتحكمة في أجندة السياسة والاقتصاد العالميين. وحده اليمن السعيد من يملك سيادته، بمعادلته الرئيسة الرابطة بين حصار الكيان بحرًا ووقف العدوان بمعنى منع أية سفينة محملة ببضائع تغذي العدوان على غزة بالمرور من البحر الأحمر. موقف ذو أبعاد سياسية وإنسانية وأخلاقية من بلد يملك تاريخًا من المواجهات خرج منها عصياً على الكسر، وفشلت كل محاولات الغزو استعماره، فلا العثمانيون ولا البريطانيون وسواهم استطاعوا احتلال اليمن الأبي. ولم تقف دولة بموقف سيادي من شأنه المساءلة عن حرب الإبادة علمًا أن بيدها أوراق ضغط (سلاح النفط والغاز، إلغاء التطبيع، قطع العلاقات الدبلوماسية، فتح المعابر) وعدم ترك شعب غزة الصامد في العراء، يموت جوعًا وعطشًا ليتبين وضعها المشتت وفقرها السياسي وعدم فاعليتها، وهو ما يؤكد أنها أنظمة «مسيّسة» لا «سائسة» وإلا لما استمرأت الهوان وسيحاكمها التاريخ.

عاشرًا: حدث الطوفان وصيرورة الآتي

في طوفان الأقصى إضاءات تفهمنا أحوال «الذات» العربية للحدّ من تسلسل الأسئلة وتداعيها ومباشرة الفعل: نسف المسلّمات وخلق موازين بدأت منذ عام 2006 من ساحات المقاومة في لبنان ثم غزة لاسترداد الحق العربي المنهوب. وحّد فلسطين وأظهر أن غزة قضية أمريكا التي طالما خاضت غمار حربها بالدعم المادي والمعنوي[18]. وأن الفكر العقلاني الذي أسس لمركزية الغرب بمفاهيمه أفرز نزعة شوفينية استعلائية تبرر تدخله العسكري والاقتصادي في الأمم الأخرى. لئن نسجت غزة حولها أسطورة كاملة تهيئ لكره «الآخر» لها فإنها بعزيمتها وشهامة فرسانها رفعت عن الأمة الهزيمة المعنوية، وأفهمتنا أن المقاومة وحدها القادرة على التجسيد المعنوي للمصير المشترك، وتحرير فلسطين أقرب «ببركته» وفعالية محور المقاومة الحليف الاستراتيجي، صاحب منهج ورؤية بخلفية فكرية ومعرفية لمشروع التحرر من الغرب الكولونيالي الذي لا يريد السلام ولا إنهاء الاحتلال ولن يكون وسيطًا موضوعيًا أبدًا، بقدر ما كان عامل استدراج الأمة نحو حتفها.

كتب ذات صلة:

البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني (جذور الحركة الإنجيلية الأصولية)

غزة: بحث في استشهادها