يحظى المشهد العام للوضع العربي الرسمي بإجماع الرأي (حتى الرسمي) بأنه، في الأقل، ضعيف وسلبيٌّ وعاجز أمام مواجهة التحديّات، ولا سيّما تحديّات العدوان الصهيوني على غزة والضفة الغربية، وخصوصًا أمام حرب الإبادة التي تُشنُّ على المدنيين في غزة، وقد دامت حتى ثمانية عشر شهرًا.
يمتدّ إجماع الرأي (حتى الرسمي) بنقد ما يبديه الوضع العربي، من ضعف وسلبية وعجز أمام دور لائق، في ما يتعلق بموازين القوى العربية والإسلامية، فلا دور، أو مكانة له، يُعتدّ بأيّ منهما.
يكفي أن تُتابع تصريحات نتنياهو، الذي راح يتجرّأ على طرح هدف تغيير خريطة «الشرق الأوسط». ويقصد أساسًا خريطة البلدان العربية؛ ثم أضف مجموعة من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يُسقط من حسابه أي دور للدول العربية.
لعل الرؤية الخاطئة، لموازين القوى العالمية والإقليمية، كما، العربية، كون الولايات المتحدة الأمريكية كليّة القدرة، وكون الوضع العربي كليّ الضعف، هي أحد المسببّات لهذه الرؤية، في حين تخالف الحقيقة الواقعية ذلك من حيث تقدير قوّة الوضع العربي الكامنة، حتى عندما يلتقي في مؤتمر قمة فقط.
لهذا تجنح أمريكا للإفادة من التجربة العربية، ومن ضعف – أو تمزُّق – العلاقات البينية العربية، والتخلي عن الحدّ الأدنى من التضامن العربي. الأمر الذي راح يُجرّئ الكيان الصهيوني، على وضع استراتيجية تمزيق وحدة الدولة العربية القطرية، وإثارة أطماع تَكوُّن دويلات طائفية، أو إثنية.
هذا ما يفسّر الضغوط، حتى الدولية، وبعض الإقليمية، لعدم استعادة وحدة القطر العربي الذي يتدهور وضعه الداخلي.
بكلمة، عندما تنكفئ كل دولة قطرية عربية على ذاتها، أمام تحديّات الكيان الصهيوني، فمن الطبيعي أن تهزل، إلى حد إلقاء سلاحها والاستسلام، أو تقديم التنازلات الكبرى، وهو ما يزيدها ضعفاً وسلبية وعجزًا، ويمهّد لتهديد أمنها الداخلي، لأن شعبها، في نهاية المطاف، لن يستطيع تحمُّل ما يتعرّض له العرب والمسلمون من تنمّر وجرائم في فلسطين، وعلى المستوى العربي العام، فضلًا عن كل قطر في حدّ ذاته، وفضلًا عمّا ينشأ من أوضاع داخلية مأزومة، اقتصاديًّا ومعيشيًّا.
على أن الأزمة الآنفة الذكر، لا تقتصر على الوضع الرسمي العربي وحده، وإن حمل المسؤولية الأولى فيها فحسب، وإنما أيضًا، تمتدّ إلى البُعد الشعبي العميق للأمّة العربية. وهو البُعد الذي يعمد الكثيرون إما إلى إسقاطه من الحساب، وإما إلى الانهيال عليه بالنقد، وتحميله المسؤولية، وحسبانه إما خانعًا، أو لامباليًا، ما دام لم ينزل إلى الشوارع، بملايينه الجبارة، للضغط على الوضع العربي الرسمي، والتلويح بالانتفاض. هذا، بدوره، موقف يحتاج إلى مراجعة لأنه لا يفرّق بين مشاعر الملايين وأفكارها من جهة، وبين نزولها إلى الشوارع المحكومة بمستوى من الضغط الأمني، وعوامل أخرى، لا تسمح بالنزول إلى الشوارع.
هذا التفريق يجعل مواقف أغلبية الأمة العربية في مصلحة المقاومة، وقضايا التحرّر العربي، بالرغم من العوائق التي تحول دون النزول إلى الشوارع. الأمر الذي يُبقي الأمل في مستقبل التغيير في الوضع العربي قائمًا وكامنًا، وهو ما لا يغلق الباب أمام كل أمل وتفاؤل في التغيير مستقبلًا.
يمكن الانتقال، من ثم، إلى معالجة السؤال: إذا كان الوضع العربي الرسمي والعام، يتسّم في الراهن بالضعف والسلبية، والعجز عن مواجهة التحديّات التي راح يفرضها العدوان على غزة، والتحديّات الناجمة عن الضغوط الأمريكية، ولا سيما، في عهد ترامب، فهل من أمل، وتفاؤل في التغيير مستقبلًا.
إلى جانب ما تقدّم، من نظرة تعتمد على ما تملكه الأمة العربيّة، من مخزون جماهيري، يسمح بمواجهة التحديّات، فثمة تطورّات متوقعة في النظام الدولي العالمي، الذي تكوَّن منذ ما بعد الحربين العالميتين، يحمل فرصًا لتغيير الوضع العربي الرسمي، وللخروج من مأزقه الآنف الذكر؛ مستندين في ذلك إلى ما أخذ يحدث من تغيير في ميزان القوى، من خلال بروز دول كبرى، منافسة اقتصاديًّا تقانيًّا، وتضعف ما يفرض على الوضع العربي الرسمي والعام، ما وصله من ضعف وسلبية وعجز.
فالصراع الأمريكي- الصيني، أصبح منذ الآن يميل، ولو قليلًا، إلى مصلحة الصين اقتصاديًّا وتقانيًّا، مع توافر قوّة عسكرية صينيّة لا تسمح لأمريكا باكتساحها عسكريًّا أو تركيعها.
ثم هنالك الصراع الذي تواجهه أمريكا مع روسيا، والهند مع عدد من الدول التي أخذت تتطوّر عسكريًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا. وهذا ما يسمح بالقول إن ثمة احتمالًا عاليًّا بسقوط نظام الأحاديّة القطبيّة، لمصلحة عالم متعدّد القطبيّة، بل متعدّد الدول الطامحة، للخروج من ربقة الهيمنة الأمريكية. هذا ويمكن أن يُضاف ما أخذ يظهر على أمريكا، وفي داخل أمريكا، من علامات لتناقضات عميقة، فضلاً عن علامات شيخوخة، وتخبُّط سياسات ترامب.
بكلمة، إن من المؤكد أن النظام العالمي الذي فرض التجزئة على الأمة العربية، وإقامة الكيان الصهيوني في قلبها، أخذ في التراجع والانهيار، تاركًا في مسرح الأحداث، فرصًا كثيرة للدول التي تتطلع إلى التحرّر والنهوض، وفي مقدّمها شعوب الأمة العربية.
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذه هي افتتاحية العدد 555 لشهر أيار/مايو 2025 من مجلة المستقبل العربي.
للحصول على العدد ورقياً أو الكترونياً الرجاء الضغط على الرابط:
مجلة المستقبل العربي العدد 555 أيار/مايو 2025
منير شفيق: مفكر عربي.

بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.