ملخص:

كرئيس للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، أوجز برنامجي المتكون من ثلاث نقاط: سوسيولوجيات في حوار؛ التوجه نحو مقاربة ما بعد استبدادية؛ والأزمة الحالية داخل نظرية العلمنَة. أولاً أنطلق من انتقادي لسوسولوجيا مؤطرة ضمن الثنائيات الضدّية أو المتقابلة (مثل التقليد/الحداثة، الشرق/الغرب، العالمية Universalism/السياقية Contextualism… إلخ) أقترح أنْ يكون هناك دائماً سوسيولوجيات متنوّعة في حالة حوار. ثانياً هناك في الآن نفسه استخدام وسوء استخدام للدراسات ما بعد الكولونيالية التي تُشدّد كثيراً على العوامل الخارجية، وتُهمل العوامل المحلية. فمثلاً بعد نصف قرن من الحكم الاستبدادي في الوطن العربي، لم يتمكن أكاديميو وكتاب ما بعد الكولونيالية من فهم ديناميات السلطة المحلية، أو أنهم يتجاهلون ذلك. لذا أقترح دعم المقاربة ما بعد الكولونيالية بمقاربة ما بعد الاستبدادية. أخيراً، لقد دخلت نظرية العلمنَة في أزمة حقيقية، ولا يمكن أن تُفسِّر تحوُّلات علاقة الديمقراطية بالديني ولا علاقة المواطن بالدين، إلا ضمن مقاربات عصر ما بعد العلمانية.

Abstract

As a newly elected President of the International Sociological Association  I proposed a three-point agenda: First, sociologies in dialogue, I criticize sociology that framed within antagonistic binary categories (such as tradition/modernity, East/West, universalism/contextualism, etc.), I propose various sociologies to always be in dialogue. Second, one cannot but acknowledge the scars of the colonial era, but, postcolonial studies, which put so much emphasis on external factors and neglect local ones, can be both used and abused. After half a century of authoritarianism in the Arab World, postcolonial anti-imperialist academics and journalists have been unable to comprehend local power dynamics, or they have overlooked these. For them, democracy does not occupy the top list of their agenda. Thus, I suggest to supplement postcolonial approach with post-authoritarian approach. Finally secularization theory enter into a real crisis, and cannot account for the transformation of the relationship neither between the political and the religious nor the  citizens and the religion. I proposed to pay more attention to post-secularism theories.

لقد تشرّفت بانتخابي رئيساً للجمعية الدولية لعلم الاجتماع (International Sociological Association (ISA)) خلال مؤتمرها في تموز/يوليو عام 2018 في مدينة تورنتو (كندا). في طيِّ هذه الافتتاحية، سأوجز برنامجي، الذي لخّصته في خطابي كمرشَّح لهذا المنصب للسنوات الأربع المقبلة، المتكون من ثلاث نقاط: سوسيولوجيات في حوار؛ التوجه نحو مقاربة ما بعد استبدادية؛ والأزمة الحالية داخل نظرية العلمنَة.

أولاً: سوسيولوجيات في حوار

من بين الرؤساء العشرين المنتخَبين في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، هناك اثنان فقط من خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، وأنا الثالث. ولا يمكن فهم حساسيتي الخاصة لعلم الاجتماع، بدون العودة إلى مساري الشخصي والمهني بوصفي شخصاً زاولَ دراسته الجامعية في سورية، ثم فرنسا، وعمِل في مؤسسات أكاديمية مختلفة في مصر وفلسطين وفرنسا ولبنان. وهكذا كُنت مُحاطاً بنقاشات وسجالات كثيرة في هذه الفضاءات الجغرافية.

ولأنّني حذرٌ (حذرٌ جداً بالفعل) من الثنائيات الضدّية أو المتقابلة (مثل التقليد/الحداثة، الشرق/الغرب، العالمية Universalism/السياقية Contextualism… إلخ) أقترح أنْ يكون هناك دائماً سوسيولوجيات متنوّعة في حالة حوار. في الواقع، كان موضوع سوسيولوجيات في حوار عنواناً للمؤتمر الرابع للجمعية الدولية لعلم الاجتماع المتصل بمجلس الجمعيات الوطنية، والذي سيُحرّر قريباً في كتاب مع دار النشر «سيج» (Sage) من تحريري مع «شين شان يي» (Chin Chun Yi). إن كانت بعض المفاهيم في علم الاجتماع ترتقي لوسمها بالعالمية (Universality)، مثل مفهوم الطبقة الاجتماعية أو حقوق الإنسان، فإن عالميتها ليست ناتجة من أنها حفرت في السياق الأوروبي – الأمريكي ولكن لأنها محل «شبه» إجماعٍ بين الثقافات. مثـلاً، «هل الديمقراطية عالمية؟»، نعم، ولكن كقيمة عالمية متخيلة (An Imaginary – بحسب استخدام كورنيليوس كاستورياديس 1998)، لا كنموذج يتم تصديره. وكما بيَّن فلورين غينار (Guénard, 2016) أن الديمقراطية ليست مفهوماً غائياً، وإنما هي تجربة تاريخية (Rosanvallon, 2008) كسبت معياريتها من خلال عملية التعلم التاريخي الإنساني مفتوحة المآل، والتي أفضت إليها الثورة الفرنسية، ثم الانتقال إلى الديمقراطية في الثمانينيات من القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، ثم في أوروبا الشرقية والوسطى في التسعينيات، وأخيراً مع عام 2010 في بعض البلدان في الوطن العربي (ما يدل على ذلك الشعارات التي يرفعها المتظاهرون والموسومة بالحرية والكرامة‏[1]). ويمكن ضرب مثال آخر على عالمية المساواة بين الجنسين باعتبارها متخيّلاً يجب جعله محلياً، حيث يستدعي تطبيقها النظر في الأحوال الزمكانية لمعرفة كيفية موضعة المساواة ضمن القيم المجتمعية الأخرى المتنافسة في كل مجتمع. أستحضر هنا بعض الباحثين الإسلاميين أو المحافظين الذين يرون أن التضامن الأسري قيمة مهمة ويدفعون باتجاه التعددية القانونية لاستيعاب العصر التعددي (Berger, 2014) الذي نعيشه. وقد نوّه جون ستيوارت ميل (Mill, 2007)، في أطروحته عن الحرية، إلى أنّه في حين أنّ الأغلبية قد تختار قراراً معيناً، فإن هذا لا يلغي حق الأقلية في عدم الخضوع للأغلبية. وهذا يفتح الباب لمجتمع تعددي قانونياً، ولكن ذلك لم يمر بدون اعتراضات. فمثـلاً، ترى إلهام مانع (Manea, 2016)، في كتابها قانون المرأة والشريعة: أثر التعددية القانونية في المملكة المتحدة، أن التعددية القانونية مضرة، لأنها سمحت للمحاكم الإسلامية بالعمل لموازاة النظام البريطاني. ولكن عندما نرى الناس تأخذ قضياها إلى تلك المحاكم، فإننا لن نشكك أن هناك بعض الفضل للتعددية القانونية (كقيمة منافسة) حيث تؤدي هذه المحاكم دوراً مهماً في الحد من الصراعات الاجتماعية داخل الأسرة والمجتمع، وبالتالي يمكن الموازنة من خلال طلب تكثيف حضور الدولة في هذه المحاكم عوضاً من الطلب في حظرها. نستحضر هنا نانسي فريزر (Fraser, 2012) التي تعتبر قضية الطبقية وتقاسم الثروات كقيمة منافسة لقيمة المساواة التي تتبناها الحركة النسوية السائدة ذات الطبيعة الاستحقاقية (Meritocracy). ما نشهده اليوم ليس أزمة عالمية المفاهيم كالديمقراطية أو عدم المساواة الاجتماعية، وإنّما أزمة في المتخيل، أي كيفية تحويل مخيال الديمقراطية إلى نموذج قابل للتطبيق في سياق معين.

إن فهمنا لهذه العالمية المعيارية (Normative Universalism) يجعلها خفيفة الظل بحيث لا تحول دون وجود أنماط مختلفة من المدنية (Salvatore, 2016) . لذا نحتاج إلى الحفاظ على التفاعل بين معارف مختلفة دون إساءة استخدام هذا النقاش بوصفه أنه مجرد مسألة تحرر من الشرط الاستعماري وهيمنة إنتاج المعرفة الغربية. إن المقاربة ما بعد الكولونيالية ليست كافيةً لمراعاة مشاكل إنتاج المعرفة ويجب أن تُستكمل بما أسمّيه المقاربة ما بعد الاستبدادية (حنفي، 2016ب؛ Hanafi, 2018). هذا يعني ليس فقط تأثير الكولونيالية وحدها، ولكن أيضاً تأثير الاستبدادية المحلية.

ثانياً: نحو مقاربة ما بعد استبدادية

لا يستطيع المرء إلّا أنْ يعترف بآثار الحقبة الاستعمارية. فهي لا تزال موجودةً (وحتى الاستعمارية بحد ذاتها في حالة استعمار إسرائيل لفلسطين)؛ بحيث تمنع البعض أحياناً وتذكر الآخرين بالطرائق التي يجب عدم أخذها. ولكن، هناك في الآن نفسه استخدام وسوء استخدام للدراسات ما بعد الكولونيالية التي تُشدّد كثيراً على العوامل الخارجية، وتُهمل العوامل المحلية. بعد نصف قرن من الحكم الاستبدادي في الوطن العربي، لم يتمكن أكاديميو وكتّاب ما بعد الكولونيالية من فهم ديناميات السلطة المحلية، أو أنهم يتجاهلون ذلك. بالنسبة إليهم، لا تحتل الديمقراطية مكاناً ضمن أولوياتهم، والأسوأ من ذلك أن البعض لا يضعها ضمن أهدافه أصـلاً. لهذا السبب شهد ديفيد سكوت (Scott, 2004) نهاية مشروع باندونغ وتحويل اليوتوبيا المضادة للاستعمار إلى كابوس ما بعد الكولونيالية.

وقد انتقدت نظام إنتاج المعرفة الذي يتجاهل التطورات والتغيرات الاجتماعية والفكرية داخل الوطن العربي والذي لا يمكن أن يختزل على إشكاليات ما بعد الكولونيالية وعلاقة المركز (الغربي) بالأطراف (حنفي وأرفانيتيس، 2015: الفصل الثامن)، كما فعل الكثيرون ولكن من أفضل هذه الانتقادات كتاب حميد دباشي الربيع العربي: نهاية ما بعد الكولونيالية (Dabashi, 2012). وبوجه عام، لقد تجاهل نقد ما بعد الكولونيالية الأزمات الحالية في أفريقيا، في تيمور الشرقية وميانمار وبيرو والمجتمعات الأخرى التي تعاني بنى الدكتاتورية والاستعمار (San Juan, 1998). قد أدت كل محاولات ما بعد الكولونيالية إلى تشييء الاختلافات الثقافية وفشلت في توليد التعاطف الثقافي، بدون الإمساك بواقع العولمة، سواء تاريخها أم لحظاتها الأكثر تكثيفاً، وفشلت في فهم التناقضات التاريخية المحددة في الأزمة المستمرة للرأسمالية المتأخرة العابرة للحدود والانسداد التاريخي لمقاومة الأنظمة القمعية في العديد من بلدان الجنوب.

لم تقتصر المقاربة ما بعد الكولونيالية على اختزالية مناهضة الإمبريالية ولكن أيضاً في اختزالية مناهضة الغرب، حيث تطور نهج يهدف إلى نزع الأصول والنظريات الغربية من الإنتاج المعرفي في الجنوب الكوني. ولن أدخل هنا بنقد تفصيلي كيف فُهِمَت بنيوية إدوارد سعيد في منطقتنا العربية‏[2]، ولكن أريد أن أذكّر بمقولة معتبرة لطلال أسد الذي رأى أن المشكلة ليست في الأصول الغربية لمفاهيم العلوم الاجتماعية في حد ذاته وإنما بالسلطة وراء هذه المفاهيم وخطاباتها (Bardawil, 2016). ولذا فقد انتهى أمر بعض الذين يدعون للمعرفة غير الغربية إلى إفقار أنفسهم بسبب الميل إلى العودة بلزوم أو بغير لزوم لإنجازات الباحثين العرب في التاريخ. وعلى حد قول فادي بردويل (Bardawil, 2016) فإن إعادة البعض لقراءة التراث قد هدفت ولو جزئياً إلى دحض شبهة المصدر الغربي لأفكار العدالة الاجتماعية والمساواة الليبرالية من خلال تأصيلها في التاريخ العربي – الإسلامي. كمحرّر للمجلة العربية لعلم الاجتماع (إضافات)، حيث اطلعت على مئات من المقالات المرسلة للمجلة خلال العقد السابق، لقد وجدت في كثير من الأحيان استخداماً زخرفياً للإنتاج المعرفي العربي القديم كالإشارة إلى ابن خلدون (1332 – 1406) أو مالك بن نبي (1905 – 1973)، أو لَيّ عنق التحليل ليتناسب الواقع مع بعض هذه المفاهيم النظرية‏[3].

إن دعم المقاربة ما بعد الكولونيالية بمقاربة ما بعد الاستبدادية يطرح أسئلة حول معنى «ما بعد». إنّ القرابة المفراداتية (Lexical Kinship) للدراسات ما بعد الاستبدادية مع الدراسات ما بعد الكولونيالية تعني أنه يمكن، وفقاً لمنطق الارتباط، الاعتماد على عدد من الافتراضات التي تقوم عليها الأخيرة، خاصّة في ما يتعلق ببنية السلطة. إذا لم أعني على الإطلاق أنّه الاستبداد قد انتهى ليبرر استخدام «ما بعد» لعصرنا.

قد يتساءل المرء عما إذا كانت الدراسات ما بعد الاستبدادية تتعلق فقط بالبلدان الاستبدادية البارزة، مثل دول الوطن العربي؛ بالطبع لا. في كتابها أسس التوتاليتارية، حثّتنا حنة أرندت (Arendt, 1985) على تعلّم كيفية التعرف إلى تحوُّل عناصر مختلفة من الفاشية في فترات تاريخية متباينة إلى أشكال جديدة من الاستبداد. مثل هذه العناصر المعادية للديمقراطية لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان، وأعتقد أنه يمكن العثور عليها في العديد من الممارسات السياسية والقيم والسياسات التي تميّز العديد من الدول في العالم، بما في ذلك الغرب. يفترض هنري. أ. جيرو مثـلاً: «بأنّ خطاب الحرية، والمساواة، والتحرّر الذي ظهر مع الحداثة، يبدو أنه فقَدَ قيمته المتبقية بوصفه مشروعاً مركزياً للديمقراطية» (Giroux 2007). أيضاً مع الحرب على الإرهاب، والأصولية السوقية، والراديكالية الدينية، انهار العديد من القيم الديمقراطية، وأول قيمة تصدّعت هي حرية التعبير. يقول ميشيل بوراووي، بافتتاحيته الحوار العالمي في عام 2017، والتي وضعها باقتدار: «دوترت [الفيليبين] أردوغان [تركيا]، أوربان [المجر] بوتين [روسيا]، وبان [فرنسا]، مودي [الهند]، زوما [جنوب أفريقيا] وترامب [الولايات المتحدة] – يبدو أنهم جميعاً ينتمون إلى فصيلة متماثلة، من قومجية والرُهاب الأجانبي، والاستبداد» (Burawoy, 2017). وهذه القائمة هي دائماً في ازدياد لتشمل يائير بولسونارو (البرازيل) وشي جين بينغ (الصين). ولا يمكن للمرء أن يفهم نمو هذا الشكل من الاستبداد بمجرد الإشارة إلى مفهوم الشعوبية، بمعنى أن الشعوبيين هم دائماً معادون للتعددية من خلال الادعاء بأنهم، وحدهم فقط، يمثلون الشعب (Fuchs, 2019) ولكن لأزمة حقيقية للعولمة والديمقراطية التقنية (التي أفرغت من فلسفتها ومبادئها). وتعطينا أرلي راسل هوتشايلد (Hochschild, 2016) قصصاً عميقة مقنعة من مؤيدي «حزب الشاي» في الولايات المتحدة الذين يشعرون بالغضب والاستياء في اللوائح القانونية للمؤسسة السياسية التقليدية (الحزبان الجمهوري والديمقراطي) حول البيئة والهجرة. لا ينبغي الحكم على هؤلاء المحافظين ببساطة أنهم عنصريون، لأنّهم يشعرون حقاً بالتناقض بين حرية السوق والحرية الاجتماعية. هم نفسهم الذين أصبحوا ناخبي ترامب، عاكسين ليس فقط أزمة الرأسمالية، بل أيضاً أزمة المتخيَّل، أي كيفية الخروج من هذه المعضلات المتشابكة. لقد أعطى انتصار ترامب وأنصاف ترامب (Mini-Trump) في العالم طاقة جديدة للحركات غير الليبرالية والدكتاتوريات. إن ردة الفعل الدولية على عملية الانتهاك الجماعية الصارخة لحقوق الإنسان في العديد من البلدان (سورية، الصين، السعودية… إلخ.) هي خفيفة إلى حد كبير، إن لم تكن صامتة. ففي آذار/مارس 2018، قدمت الصين قراراً في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تحت عنوان «تعزيز قضية حقوق الإنسان الدولية من خلال التعاون المربح للجانبين». قد يبدو العنوان حميداً حيث يوحي بـ «الحوار» و«التعاون»، لكن مثل هذ القرار كفيل بإفساد الإجراءات لجعل الدول مسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان. وللمفارقة فقد تبنى أغلبية وازنة لأعضاء مجلس حقوق الإنسان هذا القرار، الذي سيصبح بداية لعملية تهدف إلى التخلص من النظام الإيكولوجي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (Dorsey, 2019).

وبوجه عام فإن النتائج الاجتماعية ما زالت في طور التكوين على مدى عقود، فدفعت بالموجة الثالثة للسوق (Third-wave Marketization) (Burawoy, 2005) وتبعاتها من هشاشة الوضع المتقلقل وظيفياً (Precarity)، والإقصاء واللامساواة الاجتماعية. وكما يبينه ناصيف نصار بروعة بأنه لا معنى للديمقراطية خارج النقاش عن نمط التنمية الذي نريده (نصار، 2017)، والذي يطرح مسألة العدالة الاجتماعية وهوية الأمة.

ليست الاستبدادية ببساطة، في تصوّرنا، مجرد مواقف واتجاهات لدول تعمل بصورة غير ديمقراطية من خلال نشر الإكراه البيروقراطي والاعتماد على تغلغل الشرطة داخل جوانب الحياة الاجتماعية. في هذا التقديم الوصفي، تكون جميع الدول، بصورة أو بأخرى وبلحظة أو بأخرى، استبداديةً. إنها ليست الدولة التي تُفعّل فيها السيادة حالة الاستثناء، كما في تنظير كارل شميت. بل إن الاستبدادية هي بالأحرى الاستئصال المُمنهج للمساءلة الشعبية أو المشاركة في قرارات الدولة والتمركز الحقيقي للسلطة التنفيذية في البيروقراطية (Harrison, 2018).

هناك ثلاثة مستويات مختلفة من الاستبدادية، واحد يتعلّق بنظام سياسي، وآخر مرتبط بمفصلة النسقين السياسي مع الاقتصادي وأخيراً يوجد مستوى التوجهات.

1 – الاستبدادية العدوانية

إن فكرة نوربرت إلياس الرئيسية في كتابه عملية التمدين (Civilizing Process) (Elias, 2000) هي أنّ المجتمعات تتقدم مدينياً في إطار حركة تراجع العنف الفردي (تهدئة السلوكيات). ولكن نشهد هذه الأيام عكس ذلك وما تسميه جوزيفا لاروش «عودة المقموعين» (Repressed) (Laroche 2017)، أو ما يسميه جورج موس (Mosse, 1991) «العدوانية» (Brutalization)(*)، لتسليط الضوء على تهاوي الحركة الحضارية في مقابل تصاعد عملية الوحشنة. تبدأ هذه العملية، وفقاً ﻟ لاروش، بـ «تدمير الروابط الاجتماعية والتضامن، وهذا يؤدي إلى نفي للآخرية واستبعاد الجماعات الأخرى مثل الفقراء والأجانب من المجتمع الوطني وتمكين بربرية يومية ضدهم لتشمل في نهاية المطاف عامة المجتمع» (Larouche, 2017: 103‑104). إن استخدام حالة الاستثناء (Agamben, 2005)، كآلية متأصلة للسيادة الحديثة، والعلاقة الخفية التي تربط القانون بالعنف، تصبح اعتيادياً، مما يسمح بالعدوانية تجاه فئات السكان غير المرغوب بها. تصبح حالة الاستثناء أكثر فعالية للوحشية/العدوانية عندما تخلق فضاءات الاستثناء، مثل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين البائسة في لبنان حيث حُرم السكان لمدة ثلثي القرن من الحقوق الأساسية للعمل أو لامتلاك المسكن (حنفي، 2010)، أو معسكرات إعادة تأهيل لمليون صيني من المسلمين ذي الأصول التركية في شينجيانغ الذين احتُجزوا هناك.

يُظهر المخرج السينمائي الشهير ديفيد كروننبرغ (David Cronenberg) في فيلمه الوثائقي البديع «تاريخ العنف»‏[4]، بوجه فاقع وسافر، تفعيل فوضى العنف (إن كان بين الأشخاص، في الحرب الأهلية، أو بين الدول)، صندوق الباندورا (Pandora’s Box)، حسب تعبير آلان غابون‏[5]. إنّه فيروس متحوّل لا يمكن وقفه ولا يمكن احتواؤه وسيؤدّي إلى تلوث شامل للجسم الاجتماعي، ويمكن توارثه بين الأجيال، ولا يمكننا التنبؤ بما سيحدث. في البلدان العربية على سبيل المثال، لم ينتهِ العنف باستقلالهم، بل أصبح مستشرياً. لقد قامت الأنظمة الاستبدادية العربية المديدة بقمع مجتمعاتها بوحشية بمساعدة رأسمالية المحاسيب (Crony Capitalism)، بل حتى الاقتصاد المفترس والكانيبالي أثناء الحرب وبعدها (حنفي، 2012؛ Hanafi, 2012).

إذا كان الممثلون الحكوميون هم الفاعلون الرئيسيون في صناعة العدوانية في مجتمعاتهم من خلال اليد الحديدية لأجهزة الشرطة والجيش، فإننا شهدنا قوة متزايدة للفاعلين غير الدولتيين. المثال الذي يتبادر إلى الذهن، لشخص مثلي عاش في سورية ولبنان، هو ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أو الفاعلين الطائفيين الذين منعوا الدولة من تأدية دورها، وذلك من خلال نشر تضامن جماعتي ما تحت الدولة (Community). هذا صحيح بالفعل، لكني أودّ أن أفكّر أيضاً في أطراف فاعلة عالمية غير دولتية مثل الشركات متعدّدة الجنسيات، والأسواق المالية التي تؤلف ما يسميه (Rosenou, 1990) الفاعلين غير السياديين (Sovereign-free actors). مع ذلك، نادراً ما يعمل الفاعلون غير الدولتيين دون موافقة الفاعلين الدولتيين. لم تكن داعش ممكنة بدون الاغلاق الشامل للفضاء السياسي من جانب النخبة الحاكمة في النظام السوري، أو الطبيعة الطائفية للنظام العراقي. لن تخلق الدولة والفاعلين غير الدولاتيين عدوانية المجتمع فحسب، بل أيضاً وحشية العالم، الذي نحن اليوم شهودٌ عليه وأصحاب مصلحةٍ فيه. الأسوأ من ذلك، عندما تدخل دولة ما في حالة حرب أهلية، مثل سورية وليبيا واليمن، ستُسبّب الحرب ما يُعرف ﺑ «وحشية السياسة» (Brutalization of Politics)، أي؛ تصبح ممارسة السياسة صعبةً بدون عنف.

2 – الاستبدادية النيوليبيرالية

يؤدّي بعض أشكال التفاعل بين النسقين الاقتصادي والسياسي إلى ظهور تركيبة اصطلح عليها اسم الاستبدادية النيوليبرالية. مع ذلك، فإنّ هذا التكوين الجديد ليس مجرّد جمع حسابي بين هذين النظامين؛ النيوليبرالية والحكم الاستبدادي، بل هو نتيجةً لتمفصلها في كثير من الجوانب، بحيث يغيِّر كلاهما على حدّ سواء (Roccu, 2012).

نحن نعلم أن النيوليبرالية ولّدت فقراً وظلماً اجتماعياً واقتصادياً واسع النطاق. لكن ما هو جديد تماماً هو الانتشار المنظم لقوة الدولة المركزية والقهرية لتوليد التحول الرأسمالي في المجتمعات التي تكون فيها الطبقة الرأسمالية ضعيفة وليست مهيمنة. إذا كان المجتمع الرأسمالي الكلاسيكي غالباً ما يولد الهيمنة من خلال نظام سياسي ديمقراطي، فليس هذا هو الحال في العديد من المجتمعات في الدول الأطراف، وكذلك في المجتمعات الغربية حيث أصبحت الطبقة الرأسمالية أضعف ومطعوناً في شرعيتها (Harrison, 2018). إن علاقة القوى الاجتماعية التي ترتكز عليها الدولة لا تتكون فقط من جانب الطبقات، كما يرى نيكوس بولانتزاس (Poulantzas, 1975)، لكنها تشمل التسلسل الهرمي الإثني والجندري الذي تمثله صيرورة «استعمار السلطة» (حسب تعبير أنيبال كيخانو (Ouijano, 1972، بطرائق مختلفة بحسب الزمان والمكان. وإذا كانت النيوليبراللية تاريخياً مربوطة بعولمة رأسمال، فإن هناك اتجاهاً لتوطينها كما في سياسات الرئيس ترامب. وبدلاً من طرح سؤال العدالة في تطرف النيوليبرالية، تدفع الحركات اليمينية سؤال السيادة. وطرح السؤال الثاني بدون الأول هو مدخل للاستبداد واستجرار الشوفينية لدى الأكثرية.

هناك أربع سمات للاستبداد النيوليبرالي التي يمكن للمرء أن يجدها في الأطراف وشبه الأطراف وغيرها من البلدان النامية.

– ترتبط أول خاصية بمرحلة الانتقال إلى الرأسمالية النيوليبرالية، والتي تتصف بضعف البرجوازيات الوطنية وغياب عملية التنمية الرأسمالية. ثم ستطوِّرُ الدولة الأنماط الاستبدادية للحكم من أجل تعزيز قوتها ضد الاستياء الشعبي (Jenss, 2018).

– تتعلق الخاصية الثانية بمركزية السياسة مع زيادة تكنولوجيات المراقبة والأمننة. ويصبح ذلك اعتيادياً في كثير من البلدان بما في ذلك، البلدان الغربية. ويُقدم كمال بوراك تانسيل (Tansel 2018) مثالاً ممتازاً للحكومة الحالية في تركيا لسيطرة المركزية التنفيذية، حيث تتركّز صلاحيات صنع القرار الرئيسية بتزايد في أيدي الحكومة المركزية، في حين يتم تقليص السبل الديمقراطية لمعارضة السياسات الحكومية من خلال وسائط قانونية وإدارية، ومن خلال تهميش القوى الاجتماعية المنشقّة» (Tansel, 2018: 6).

– الخاصية الثالثة هي عزل السياسة عن اتخاذ القرارات إمّا من خلال بيروقراطيين غير منتخبين أو من خلال شبكات اجتماعية ريادية (Entrepreneurship Networks). تبيّن لنا أنجيلا فيغر (Wigger, 2018) كيف يفرض بيروقراطيو المفوضية الأوروبية سياستها في دفع عملية التصنيع بأوروبا من خلال التفكير في القدرة التنافسية القصوى بطريقة استبدادية جداً، وتهميش النقابات والقوى الاجتماعية الأخرى التي تتأثر بهاته القرارات. من هنا، تصبح السياسات التبخيسية الداخلية (Internal Devaluation) وتفكيك دولة الرفاه أمراً لا مفر منه من خلال تدنّي قيمة العمالة، وتكثيف المنافسة، وخفض الضرائب على الشركات التي تأخذ مركز الصدارة. إن تأسيس شبكات اجتماعية ريادية مُؤلفة من شركاء ومقاولين اجتماعيين ونخب سياسية، وفاعلين دوليين يعزز عمليات التجديد الاستبدادي من خلال أشكال الاستقطاب النيوليبرالية. يمكن العثور على هذا النموذج غالباً في الشرق الأوسط، وقد يكون مثالاً جيّداً على ما وجدَته، نادين كريتميير (Kreitmeyr, 2018) في الأردن والمغرب وروبرتو روكو (Roccu, 2012) في مصر.

– أصبح البحث، يتزايد أكثر من أيّ وقتٍ مضى، عن الكفاءة والإنتاجية والقدرة التنافسية التي تُهيمن على أجندات صانعي السياسات في جميع أنحاء العالم، كما يجادل إبرهارت كينلي (Kienle, 2010)، بأنّ ذلك أدّى إلى فرض قيود متزايدة على الحريات، في تآكل النظام الديمقراطي. لقد أدّت بالفعل القدرة التنافسية (Competitiveness)، في ظل دكتاتورية السوق (المعولم) «إلى عزل الأفراد وتحويلهم إلى لاعبين فرديين محاولة التخفيف من انهيار المجتمع والجماعات المجتمعية والذي رافق ذلك نشوء الانعزاليات الجماعاتية (Communalist) والقيم الاستبدادية وحتى الأيديولوجيات والممارسات التوتاليتارية» (Kienle, 2010).

3 – التوجهات الاستبدادية

إذا كانت الاستبدادية هي نظام سياسي، يُفعَّل أساساً من جانب فاعلين حكوميين وغير حكوميين، فآليات عمله مربوطة بتبني بعض المواطنين للتوجهات الاستبدادية. في النسخة الأولى من هذه الورقة قمت بعنونة هذا القسم بـ «المواطن الاستبدادي». إلّا أن مشكلة التسمية تكمن في ربط ذلك سريعاً بكتاب ثيودور أدورنو الشهير الشخصية الاستبدادية (Adorno [et al.], 1950)، الذي يعتمد أكثر فأكثر على التحليل النفسي الفرويدي. وعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب اليوم لفهم التاريخ الطويل والمظلم للولايات المتحدة الأمريكية منذ حملتها المكارثية ضد المعارضين مثل مطاردة الساحرات وفي أماكن أخرى في العالم. ولكن ما أعنيه من هذا القسم هو شيء آخر.

يخمد القادة الاستبداديون خيال أفراد مجتمعهم ويحولونهم إلى إنسان آلي (Kokobobo, 2018)، وإلى فاعلين اجتماعيين يتبنون التوجهات الاستبدادية أو العقل الاستبدادي العملي. وفقاً لميف كوك (Cooke, 2007)، هناك مكونان مترابطان من العقل/المنطق العملي الاستبدادي في ما يتعلق بالمعرفة والتبرير. أولاً، عندما تكون المعرفة محصورة بجموعة متميزة من الأشخاص، وتؤكد وجهة نظر بعيدة من تأثيرات التاريخ والسياق التي تضمن صلاحية غير مشروطة للمطالبات بالحق والصدق؛ ثانياً، عندما تفصل صحة المقترحات والمعايير عن منطق البشر الذين يعلنون صلاحيتها.

وفي سياق مناقشتها من يتبنى أحد هذين المكونين الاستبداديين في المجال العام، تنتقد ميف كوك نموذج يورغن هابرماس ما بعد الميتافيزيقي – العلماني – الذي يقيد بغير سبب مقنع وصول الدياني إلى المناقشات الرسمية العمومية (Formal Public Reason). استوحى هابرماس نموذجه من التقاليد التاريخية والثقافية الخاصة التي أسست لعلمانية السلطة السياسية وبررتها (Cooke, 2007: 234; Asad, 2009) وبما أنّ مفهوم المواطن عند هابرماس ينطوي على الاستقلالية السياسية لكل شخص، ترى كوك بأنه ينبغي أن يتمتع المواطنون بالاستقلال الأخلاقي أو الإيتقي (Ethical Autonomy). يستند هذا الاستقلال إلى الحدس بأن حرية البشر هي، إلى حد كبير، حرية تشكيل ومتابعة تصوراتهم عن الخير على أساس أسباب منطقية خاصة بهم. (Cooke, 2007: 234‑235) في سيرورات الثورة والثورة المضادة في الوطن العربي، والجدل حول تحديد طبيعة القوى الديمقراطية، نادراً ما يُعطَى الاهتمام بالعقل العملي للنخبة ويكتفي التركيز على من يتبع براديغم العلمنَة. كان يُنظر إلى القوى العلمانية على أنها محصّنة منهجياً من أن يكون عقلها العملي استبدادياً بخلاف الحركات الإسلامية السياسية. بالطبع هذا تسطيح أيديولوجي ويحتاج إلى تدقيق، حيث يمكن العثور على توجهات استبدادية لكل من هذين التكوينين النخبويين. وكما عبر عن ذلك بوضوح محمد هاشمي (2016) تحوّل الطرح العلماني «إلى عقيدة شمولية أخرى، تتصرّف كما لو أنها تلمّ بكل قضايا الإنسان – وإنْ على نحو سلبي من خلال اللامبالاة – وهو ما يحوّلها إلى مرجعية ملزمة بأوامر تكاد تتصف بالإطلاقية نفسها التي تتميز بها الأوامر العقائدية الديانية». كل ذلك قد أظهر كيف أنّ نظرية العلمنَة (Secularization Theory) قد دخلت في أزمة حقيقية، ولا يمكن أن تُفسِّر تحوُّلات علاقة الديمقراطية بالديني ولاعلاقة المواطن بالدين.

ثالثاً: أزمة نظرية العلمنَة

في حين أنّ العلمنَة، بمفهومها أنها فصل السياسي عن الديني، لا تزال تمثل مساراً مهماً جداً نحو الديمقراطية والحداثة، فإنّ هذه العملية تحتاج إلى أشكَلة على أساس التنظيرات الحديثة لما هو مدرسة ما بعد علمانية من أجل تحريرها من بعض شوائبها وأمراضها. في حوار حديث العهد لي مع جيم سبيكارد (Jim Spickard)، رئيس اللجنة البحثية لعلم الاجتماع الديني (RC 22) التابعة للجمعية الدولية لعلم الاجتماع، اعترف بأنّ علم الاجتماع قد احتضن تاريخياً نظرية العلمنَة، والتي قام هو مع زملاء له ديفيد مارتن ومانويل فاسكيز، بتتبع المعركة الفكرية التي خاضها علماء الاجتماع الأوائل نفسهم ضدّ الدين الرجعي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في فرنسا. بالنسبة إلى بيتر بيرغر (Berger, 2014)، فإنّ هذه النظرية التي ظنت أن الحداثة ستؤدي حتماً إلى تراجع في الدين والذي هو نفسه قد نظّر لها، دُحضَت بفعل الدراسات الميدانية، ودعا إلى استبدالها بنظرية أكثر تلاوينَ حول التعدّدية (Pluralism). بكلام آخر، لقد صُنّف الدين على أنه «الماضي» وعلم الاجتماع بوصفه «مستقبـلاً» ليؤسس ذلك لتطوّرية (Evolutionism) في تفكيرنا بناء على أطروحة العلمنَة. وسرعان ما اعتُبر انبعاث الدين العمومي في الثمانينيات والتسعينيات على أنّه «أصولية» و«رد فعل ضدّ الحداثة». لقد أطرت إلريك بوب – باير (Popp-Baier, 2010)، السجال المتطور، وفقاً لـثلاثة أنماط مثالية ميتا – سردية (Meta-narratives). أوّلاً، سردية التراجع للانتماءات الدينية والممارسات والمعتقدات السائدة بسبب انتشار النظرة العلمية العالمية. ثانياً، سرد التحول، بحجة «الدين غير المرئي» و«الدين الضمني» و«الاعتقاد دون انتماء» و«الدين غير المباشر» و«قوننة الدين» (Judicialization of Religion). في السنوات الأخيرة، أكثر فأكثر، حافظت «الروحانية» (Spirituality) بصورة أو بآخرى على تحول النمط الاجتماعي للدين في سياق التغيّرات الثقافية والمجتمعية الأكثر عمومية والمتعلقة بالفردَنة (Individualization) والذوتَنة (Subjectivization). ثالثاً، سرد الصعود، رابطاً الحيوية الدينية بالتعدّدية الدينية وسوق المنظمات الدينية المتنافسة، وعندما يتعلّق الأمر بالإسلام، يرتبط الصعود بالراديكالية وحتى بالإرهاب (Popp-Baier, 2010: 35–36).

كيف تم تجاوز هذا الجدل التطوري والكليشيهات حول تصنيف بعض المناطق الجغرافية على أنها ديانية أو علمانية؟ لقد نشأ منذ بداية هذا القرن، نقاش سوسيولوجي جوهري محلـلاً التقاليد الفكرية المختلفة والأديان المنتشرة والحاملات المؤسسية التي أنتجت الأشكال المختلفة للدين والتدين في المجتمع المعاصر. ولكن أيضاً ساهمت العلوم الاجتماعية من خلال أدبيات لاتجاه سُمي «ما بعد العلمانية» في جدل جاد حول مكانة الدين في الديمقراطية وفي المجال العام، وبخاصة مع أعمال يورغن هابرماس ووليام كونولي وخوسيه كازانوفا (Casanova, 2007).

كيف يمكن تجاوز منطق المواجهة القائم بين الطرح الدياني والطرح العلماني؟ لا يمكن أن يُطلب من المواطنين أن يتحملوا مسؤولية أخلاقية لتبرير قناعاتهم السياسية بمعزل عن معتقداتهم الدينية، كما دعا جون رولز (Rawls, 1993). أما هابرماس (Habermas, 2008) فيقر بمكانة الدين في المجال العام، ولكنه يحصره بالمداولات غير الرسمية ويستثني الدين من المداولات المؤسساتية. يرى هابرماس أن المجتمعات الدينية يجب أن تشارك في التأمل الذاتي الهرمنيوطيقي من أجل تطوير موقفٍ معرفيٍ من ادعاءات الأديان والرؤى العالمية الأخرى، لتكوين معرفة علمانية باستخدام الخبرة العلمية. (Walhof, 2013: 229) ولكن هل من الممكن حقاً فصل الأسباب «الدينية» عن الأسباب «العلمانية»؟ لقد درس دارين فالهوف الجدل حول زواج المثليين في الولايات المتحدة الأمريكية ليخلص إلى أن «اللاهوت والسياسة وهوية المجتمع الديني كلها مرتبطة بعضها ببعض، وما يقوم به الزعماء الدينيون والمواطنون هو تطبيق وإعادة صياغة لاهوتهم في السياقات السياسية الجديدة». (Walhof, 2013: 229). وتضيف ميف كوك (Cooke, 2006) أن مشكلة المواقف الدينية ليست أنها تعتمد مرجعية غير مشتركة مع الأغيار، كما يقول هابرماس، بل إنّها تميل إلى أن تكون سلطوية، وإلى أنّها دوغماتية في صياغتها. ومع ذلك، فإذا تم صوغ الحجج غير الاستبدادية من قبل الديانيين، بطريقة لا تعتبر مواقفهم مطلقة بل خاضعة للحجج، عندها يمكن ترجمة تلك الحجج إلى المجال العام دون المساس بالحريات والديمقراطيات الضرورية لوجودها. قد يكون المقياس الآخر لعدم الاستبداد هو محاولة دمج المعرفة العلمانية والدينية في إطار واحد، حيث يتم فهم كلا الإطارين في ضوء بعضهما البعض. إن محاولة الديانيين التوفيق بين رؤيتهم (وتبريراتها) للعالم ونتائج العلوم، هي مثال على ذلك. وهذا من شأنه أن يسمح للديانيين بعدم التخلي عن اليقين الذي يجدونه في الإيمان (والذي هو دائماً موضوع الاجتهاد)، والانخراط في حوار عمومي يتم فيه دمج اللغتين العلمانية والدينية في نظرة عالمية واحدة (Aduna, 2015).

وإذا كان التقاء بين القانون والدين والسياسة والمجتمع واقعاً نلمسه في مجتمعاتنا، فإن ذلك له بعض النتائج الإشكالية كالطائفية. ففي المناطق التي تعاني الصراعات، مثل الشرق الأوسط، تعتبر الطائفية إحدى ديناميات الصراع الرئيسية، وهي كذلك آلية لتشكيل الهوية المحلية من خلال ما أطلق عليه عزمي بشارة «الطوائف المتخيلة» (بشارة، 2016) وبنفس المنطق، أقرت إسرائيل مؤخراً قانوناً يعلن أن لليهود حقاً فريداً في تقرير المصير القومي لهذه الدولة، بينما تواصل سياسات الفصل العنصري داخل كيانها وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.

خاتمة

يمكن للمرء، في عصر ما بعد ما بعد الكولونيالية (Post-postcolonial Era)، أن يلاحظ، بصورة متزايدة، أنّ الديمقراطيات غير الليبرالية قد أصبحت أكثر انتشاراً وأُفرغت من قيمها المتمثلة بالحرية والكرامة. إنّ الخطر الذي يتربّص بالناس، هو الطلب المتزايد على الاستبداد في أمكنة كثيرة من العالم‏[6]، وتقديس الرجل القوي (نظام التبجيل الديني) وانبعاث الشعبوية. وهذا يُترجم إلى اعتداء على بعض الديمقراطيات ذات الأسس الراسخة من الحقوق والحريات المدنية. يجب على الجماعة العلمية السوسيولوجية أن تكون حساسة لمخاوف ومشاعر الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، وهذا لن يكون إلّا بالجمع بين التحليل ما بعد - الكولونيالي وما بعد - الاستبدادي، وهما غالباً في حالة تشابك منذ أمد بعيد، ألم تحدّد حنة أرندت (Arendt, 1985) أصل التوتاليتارية في عناصر مختلفة تجمع بين العوامل الخارجية (الإمبريالية وأزمة الإمبراطوريات المتعدّدة الجنسيات) والعوامل الداخلية (العنصرية)؟ لم تعد تنفع الثنائيات الحادة (التراث/الحداثة، الشرق/الغرب، طبيعي داخلي/خارق للطبيعة، العالمي/المحلّي… إلخ.) منهجياً فهي تحمل سياسات الهوية‏[7]. من هنا أدعو إلى حوار من أجل تطوير براديغم جديد للديانية والتعدّدية (الدينية والقانونية والإيبيستمولوجية) في عصر الحداثات المتعدّدة، واعتراف بتشابك الديانية مع العلمانية. لم يعد من الممكن احتكار الحقيقة والخلاص: فكما اعتاد الكثير من الديانيين حرم أغيارهم العقائديين الخلاصَ الروحيَّ، فلم ينأَ بعض العلمانيين من منع مخالفيهم من الخلاص المدني، فكلاهما تكفيري إقصائي سواء بسواء (هاشمي، 2016). وهذا ممكن فقط من خلال بناء إطار أكثر ملاءمة لفهم امتزاج الميكرو (Micro) بالماكرو (Macro) الذي يميّز الوضع العالمي اليوم. ولا يمكن عمل ذلك بلا حساسية مرهفة للسلطة والهيمنة من أينما جاءت، طارحين دائما أسئلة من مثل لمن الصوت؟ ومن هم الذين تم إصماتهم؟‏[8] كل ذلك من أجل بناء نظرية سوسيولوجية تتجاوز الآباء المؤسسين (Alatas and Sinha 2017) بحيث يقرأ ابن خلدون مع ماكس فيبر، وفواز طرابلسي مع كارل ماركس، وفاطمة المرنيسي مع نانسي فريزر، وليس واحداً بدل الآخر.