مقدمة:

إن تحليل الأحداث والظواهر والمسارات ورسم سيناريوهات المستقبل هو مهمة مراكز  الدراسات والبحوث الاستراتيجية.. هناك أيضاً الأيديولوجيات – العقائد التي ترسم المستقبل البعيد بحتمياتها التاريخية من أخلاقية (انتصار الخير على الشر) وسياسية (انتصار الطبقة العاملة) والدينية بمختلف أجنحتها.

لعل المصادفة والنص هما الدافع المباشر لمحاولة استطلاع القرن المقبل في هذا الوقت بالذات، حيث احتفل الفلسطينيون وجلادوهم بالذكرى المئوية لوعد بلفور عام 1917 وبالذكرى السبعين لنكبتهم عام 1948 في العام الماضي، وكثر الحديث عن صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما ينقل الصراع إلى قرن جديد وإلى ألفية جديدة.

يركز هذا المقال على الوضع الفلسطيني وحده، لا استهانة بتضحيات الأمه العربية وبدعم الأصدقاء في القرن الماضي من الصراع وأهميته الحاسمة في مئوية الصراع المقبلة، بل تركيزاً للرؤية على فلسطين لدورها العامل الحاسم في توحيد الجهود العربية والدولية. يستشف الكاتب استمرار الصراع لقرن ثانٍ بدأ لتوه من دون أن يفقد الأمل في انتصار مبكر للحق الفلسطيني إذا تضافرت الظروف الموضوعية لذلك.

أولاً: صراع الروايات: هويتان لأرض واحدة

مثلت عودة اليهود الروحية إلى فلسطين وارتباطهم الديني بها على الدوام جزءاً من العقيدة اليهودية. أما الرواية الصهيونية فإنها نشأت أساساً خارج العقيدة اليهودية ونمت نتيجة للّاسامية في أوروبا منذ القرون الوسطى وصولاً إلى المذبحة النازية (الهولوكوست).

حتى منتصف القرن السابع عشر، كانت فلسطين والقدس تعيش في أذهان الأوروبيين بوصفها الأرض المقدسة التي «حرروها» ودافعوا عنها لمئتي عام خلال الحروب الصليبية ارتكبت خلالها المجازر ضد المسلمين واليهود؛ لكن بعد ذلك التاريخ، وبعد الإصلاحات اللوثرية في القرن السادس عشر، وبسبب صعود أهمية العهد القديم داخل قسم من التيار الإنجيلي في إنكلترا وإيمانه بالعصر الألفي السعيد وبالعودة الثانية للسيد المسيح، تحولت اليهودية في نظر المسيحيانية الصهيونية من عقيدة دين سماوي تنتمي إليه قوميات وأعراق متعددة إلى وسيلة لتحقيق نبوءة ربانية تتمركز حول شعب أصبحت إعادته إلى موطنه كنعان – أرض إسرائيل «المعطاة له وحده من الرب» عمـلاً أخلاقياً وواجباً دينياً تقاطعت معه الأفكار العنصرية والمصالح والمطامع الاستعمارية للدول الأوروبية في الشرق العربي التابع حينها للدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض.

لقد سبقت الصهيونية الغير – اليهودية نظيرتها اليهودية بنحو قرنين من الزمان وانتشرت من إنكلترا إلى مستعمراتها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا رغم أنها اكتسبت تعاطفاً ونفوذاً في دول أوروبية أخرى. يقدر عدد الناخبين الأمريكيين الذين يعيشون فيما يسمى «حزام التوراة»‏[1] حول تكساس بأكثر من سبعين مليون ناخب يمثّلون أكبر تجمع صهيوني انتخابي في العالم وأكثرهم تأثيراً وتدميراً وأصبحت حربا 1948 و1967‏[2] وضم القدس والجولان والاستيطان مؤشرات على الألفية السعيدة في نظر هذا التيار، تزعم الرواية الصهيونية (يهودية كانت أم غير يهودية) استمرار بني إسرائيل كشعب/عرق عبر ألفيَ عام، وتزعم أيضاً اختفاء الفلسطيني التام من التاريخ والجغرافيا في نفس الفترة الزمنية ونفس الأرض، بحيث سادت مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. لهذا لا ترى الرواية الصهيونية مكاناً لغير اليهود في كامل أرض «إسرائيل» التوراتية (غير المعروفة حدودها تماماً) وطرد الأغيار منها. لهذا دمر الصهاينة ما يقرب من 400 قرية فلسطينية عام 1948 وهجّروا معظم سكانها، ولهذا أيضاً تحفل البرامج الانتخابية لأحزاب صهيونية عديدة بتصورات تهجير مزيد من الشعب الفلسطيني إلى الدول العربية. ولهذا أيضاً يسمى الفلسطينيون في إسرائيل (عرب إسرائيل) ويعتبر الفلسطينيون وبخاصة في القدس مقيمين – غير مواطنين – تسحب إقامتهم عند الغياب.

تتميز الرواية الفلسطينية بأنها لا تستثني أياً من العناصر التي استقرت وتخالطت في الأرض الفلسطينية عبر التاريخ وتتضمن تعددية إثنية ودينية وتؤرخ لكيانات متعددة قبل الميلاد وبعده كجزء من تاريخ فلسطين – كنعان المستمر منذ سبعة آلاف عام. وتتميز الشخصية الوطنية بالقدرة على استيعاب الإثنيات المختلفة المقيمة فيها، مثل الآراميين، الفينيقيين والكنعانيين واليبوسيين والحوريين والمؤابيين والأنباط، وامتصاص موجات المهاجرين والغزاة من بابليين وآشوريين وحثّيين ومصريين قدماء. في الرواية الفلسطينية تعطي الأرض الواحدة هويتها لكل سكانها.

عبر الألفيات والقرون كانت فلسطين الوطن والمدن جزءاً من الإمبراطوريات القديمة والحديثة. غيرت فلسطين حكامها ولغاتها من الآرامية والعبرية إلى اللاتينية واليونانية والسريانية والعربية، ودياناتها من الوثنية والمصرية إلى اليهودية فالمسيحية والإسلام، ولكن شعبها لم يتوقف لحظة عن الحياة في هوية تكسب قوتها ومصداقيتها من قرون طويلة من التعددية والتعايش والتسامح. تجسد الرواية الفلسطينية الكل بتنوع مكوناته بما فيها المكون اليهودي الثقافي والديني. بداية كان اسم فلسطين يطلق على ساحل كنعان الجنوبي وعمم ليشمل كل البلاد. منذ عام 134 ميلادي حتى يومنا هذا ظلت فلسطين أرضاً واسماً جزءاً من الإمبراطوريات المتعاقبة.

رغم أن الرواية الفلسطينية وكذلك تاريخ البلاد لم يعرفا الطائفية ولم يكتبا أبداً على أساس ديني فإن المنظومات المعرفية الدينية للإسلام وللمسيحية وحتى لليهودية تمثل جزءاً مهماً من العقل الوطني والقومي، الذي يصنع الهوية الفلسطينية.

إن أولى الهزائم التي مُني بها الشعب الفلسطيني حصلت للرواية والشخصية الوطنية الفلسطينية عندما تسرّب العنصر اليهودي الفلسطيني من داخل الشخصية الوطنية الفلسطينية إلى خارجها أوائل القرن العشرين، وأسوأ ما فيها أن أحداً لم يحس بها كهزيمه أو خسارة، حتى يومنا هذا.

 

لا بد من الإشارة إلى أن الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني بصورتها الحالية (بعد مئة سنة من الصراع) لا تشمل كامل عناصر الهوية التاريخية لشعب فلسطين كما كانت عبر القرون حيث خسر هذا الشعب خلال الصراع بعضاً من مكونات شخصيته الأساسية وعلى رأسها مكونه اليهودي بداية القرن الماضي، وهو ما أدى إلى انضمام هذا المكون الأساسي إلى الحركة الصهيونية أو حيْده، وصاحَب ذلك وتلاه كارثة خروج اليهود أكثر فأكثر من الشخصية القومية العربية ومن الشرق الإسلامي. وهذا أدى إلى إضعاف وانكماش الشخصية الوطنية الفلسطينية، ومن بعدها الشخصية القومية العربية، وتزويد الكيان الإسرائيلي الناشئ بملايين اليهود العرب على حساب الشعب الفلسطيني.

ما بين عامَي 1939 و1948 حصل تشظٍّ آخر في الشخصية الوطنية عندما انضم جزء من المؤسسة الدرزية الفلسطينية إلى المشروع الإسرائيلي‏[3] رغم الدور الوطني والقومي للمؤسسة الدرزية الداعم للمقاومة في بلاد الشام.

أما العنصر المسيحي، وهو أقدم مجتمع مسيحي في العالم وأكثر مكونات شعب فلسطين تنوعاً واتصالاً بالخارج، فإنه ما زال حاسماً في استمرار الهوية الوطنية وفي تطوير الرؤية والمؤسسة الفلسطينية رغم الهجرة المتزايدة للمسيحيين بسبب الاحتلال الاستيطاني الإجلائي في الضفة وغزه والتمييز العنصري داخل أراضي الـ 48. لكن العامل الذاتي الفلسطيني يؤدي دوراً متزايداً في ضمور الدور المسيحي حيث يمثل صعود تيار الإسلام السياسي – الذي يمثل عنصر قوة ومقاومه من ناحية – إضعافاً لخاصية التعددية الثقافية التكاملية التي ميزت الشعب الفلسطيني عبر العصور من ناحية أخرى ولا يترك (بشكله الإقصائي) مجالاً لإظهار العنصر الثقافي والإنساني المسيحي في الشخصية الوطنية.

وحتى تكتمل الصورة الانكماشية فإن الانقسام الفلسطيني يضيف عامل طرد وتفتيت لأجزاء من التيار الثقافي الإسلامي الواسع. هكذا. امتدت خسائر الفلسطينيين إلى داخل الشخصية الوطنية الفلسطينية ذاتها، إلى مناعتها وقوتها الناعمة، إلى صورتها التاريخية وإلى قدرتها على صياغة مستقبلها.

لهذا، عندما اعترفت الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، اقتصرت محاولات القيادة الفلسطينية على محاولة حشد الدعم العربي والإسلامي، ولم يتحرك أحد على المستوى المسيحي الكاثوليكي (مع الفاتيكان) ولا الأرثوذكسي (مع اليونان وروسيا والبلقان بوجه خاص)، لأن العنصر المسيحي في الرؤية والمؤسسة الفلسطينية عانى عقوداً من الإهمال والقصور الفكري جعلته إطاراً تجميلياً بدلاً من أن يكون سلاحاً ودرعاً للنضال الفلسطيني. لم تجر أي محاولة ولو خجولة لحشد الجهد اليهودي غير الصهيوني رغم محدوديته ضد هذا الإجراء.

ثانياً: مئة عام من النكبات والصمود

خلال أكثر من قرن من الزمان نجحت الصهيونية في دعم الهجرة إلى فلسطين بهجرة يهود شرق أوروبا إلى دولة فلسطين (تحت الانتداب البريطاني) بسبب انسداد الهجرة إلى العالم الجديد وصعود النازية والفاشية في أوروبا، ثم هجرة اليهود الألمان الذين نجوا من المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، وتلاها هجرة يهود البلاد العربية والشرق الإسلامي خلال الخمسينيات والستينيات، وأخيراً الهجرة الكبيرة ليهود الاتحاد السوفياتي السابق في التسعينيات. كانت الصهيونية العالمية قد أكملت البنية التحتية لما قبل الدولة (الييشوف) فأدخلت التأمين الصحي عام 1911 وأقامت الجامعات مثل: التخنيون في حيفا 1912، والجامعة العبرية في القدس 1925، ومعهد فايسمان للعلوم في ريهوفوت 1934. نجحت الصهيونية في خلق إطار موحد لدمج المهاجرين اليهود، في إنشاء دولة حديثه أوروبية الطراز وحققت إنجازات علمية واقتصادية وعسكرية بارزة وضعت إسرائيل في المرتبة 22 في سلم الأمم المتحدة للتنمية البشرية.

بمساعدة الولايات المتحدة، وغضّ النظر الأوروبي، واختفاء العامل العربي؛ تمضي إسرائيل في احتلالها واستيطانها رغم تراكم القرارات – بما فيها قرارات مجلس الأمن، غير آبهة بالشرعية الدولية التي ساهمت بتكوينها كدولة – ويزداد الاتجاه الشعبي فيها نحو اليمين، وتترسخ القيم الصهيونية العنصرية المبنية على أسطورة شعب الله المختار وشيطنة واحتقار الفلسطينيين والعرب وحتى المجتمع الدولي والقوانين الأممية. إن سلوك إسرائيل، التي تأسست أيضاً كدولة تجمع الشعب اليهودي المضطهد، يزداد قرباً من تبني البعد التوراتي. وتمثل حدود الدولة بشكلها الحالي جزءاً يسيراً من إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل، وتضم بوجه خاص، الأردن وأجزاء من سورية والعراق ولبنان ومصر وشمال غرب الجزيرة العربية. لقد مثّل ضم الجولان السوري المحتل والانسحاب الإسرائيلي من مستوطنات غزه تأكيداً لهذا النهج لا نقضاً له، حيث إن غزة – على عكس الجولان – لم تكن ضمن دولة إسرائيل التوراتية عبر تاريخها.

أما فلسطين الحديثة فولدت تحت الاحتلال البريطاني، الذي كان منهمكاً منذ البداية في قمع وتدمير الشعب الفلسطيني لمصلحة المشروع الصهيوني، ونشأت منشغلة بالنضال من أجل البقاء. وحاولت الحركة الوطنية الحداثية الرؤية حشد وتعبئة الدعم العربي والإسلامي في وجه الهجمة الصهيونية. وكان لها إنجازات كبرى في مقاومة الاحتلال البريطاني والتوسع الصهيوني توّج في الانتفاضة التاريخية 1936 – 1939 التي قُمعت بوحشية بالغة وتم قتل أو تهجير قيادتها وتدمير بنيتها السياسية والاقتصادية؛ وهو ما مهّد المسرح لنكبة عام 1948. بعد هزيمة 1967 اكتمل نضج الوعي الفلسطيني بالاعتماد أولاً على الذات، وأدى ذلك إلى إعادة تعريف الوطنية الفلسطينية وإلى صعود المقاومة في المنطقة بدعم عربي وعالمي.

كان تبني النموذج الفيتنامي من جانب منظمة التحرير (وجود دولة مساندة وقاعدة للانطلاق) سبباً في وقوع العبء الأكبر في احتضان المقاومة على عاتق الدول العربية الأصغر وإلى صدامات متتابعة – دامية أحياناً – مع كل الأنظمة في المنطقة.

في عقد واحد (1982 – 1991) تلقت المقاومة ثلاث ضربات رئيسيه ضد قواها العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث ضرب الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان عام 1982 – 1983 وخسرت المقاومة الفلسطينية في عام واحد (1990 – 1991) حربين إضافيتين من دون أن تشارك في أي منهما: حرب الخليج والحرب الباردة؛ أي سقوط الاتحاد السوفياتي. وكان اتفاق أوسلو تعبيراً عن حالة الضعف الفلسطيني رغم أنه فتح باباً للتسوية على أساس حل الدولتين، وهو باب أغلقه الجانبان الإسرائيلي ثم الأمريكي.

بينما نجحت الصهيونية في جذب وتوطين الهجرات المتعاقبة منذ عام 1882، وضاعفت سكان إسرائيل من أقل من 27000 بداية الانتداب البريطاني إلى أكثر من خمسة ملايين، حالياً، فإن فلسطين فقدت أكثر من خمسة ملايين، أي نصف سكانها، كلاجئين في موجتين رئيسيتين بعد حربي 1948و 1967. ثلثهم يعيش في 58 مخيماً لوكالة غوث اللاجئين (الأونروا).

يستمر عدد الفلسطينيين في العالم بالتزايد وكذلك يتواصل تهجيرهم وهجرتهم من فلسطين ومن دول الطوق بلا انقطاع. تشير تقديرات إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان انخفض من أكثر من 350 ألفاً إلى 180 ألفاً، وتمت تصفية جزء من الوجود الفلسطيني في بغداد بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، ولحقت كارثة بالوجود الفلسطيني في سورية نتيجة الحرب الأهلية هناك. أما في الأرض المحتلة عام 1967 فيعيش حالياً ما يقرب من خمسة ملايين فلسطيني يمثلون ما يقرب من 40 بالمئة من الشعب الفلسطيني. يتوقع أن يصل عدد هؤلاء إلى قرابة عشرة ملايين في عام 2050 و15 مليوناً عام 2100‏[4]. وبهذا يزيد عدد الفلسطينيين في العالم في مئوية الصراع القادمة إلى أكثر من 37 مليون نسمة.

لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين خلال القرن المنصرم من الصراع، ولكن أكثر من مليون فلسطيني – ضمنهم مئات من النساء وآلاف الأطفال – تعرض للاعتقال من جانب الاحتلال لفترات مختلفة منذ عام 1948‏[5] وأُزيلت 400 قرية من الوجود وهُدم ما يقرب من خمسين ألف منزل في الأرض المحتلة منذ عام 1967‏[6].

ثالثاً: على عتبة القرن الجديد

يعَدّ عام 2017 عاماً متميزاً في تاريخ القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي حيث شهد هذا العام مؤشرات واضحة على نهاية عملية السلام التي بدأت في التسعينيات برعاية أمريكية عندما غادر «الوسيط» الأمريكي باحتفالية كبيرة موقع الوساطة إلى موقع العدو، ومن إسناد الاحتلال الإسرائيلي والدعم الأعمى لإسرائيل إلى المعاداة المباشرة للشعب الفلسطيني، فنقل سفارته إلى القدس المحتلة معلناً إياها العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأغلق ممثلية فلسطين في واشنطن وطرد أعضاءها، وقطع مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية الأونروا وفي ميزانية السلطة الفلسطينية، وأوقف مشاريع المساعدة الأمريكية في الأرض المحتلة، وأعلن عن نيته إعادة تعريف اللاجئين ما يعني محاولة حرمان نحو 6 ملايين لاجئ حقهم في العودة إلى موطنهم وبالتعويض عن معاناتهم وممتلكاتهم.

في تموز/يوليو 2018، السنة الأولى للقرن الجديد من الصراع، صادق الكنيست الإسرائيلي على قانون الدولة القومية الذي يحدد إسرائيل بأنها الوطن القومي لكل اليهود عبر العالم؛ واضعاً هذا القانون ضمن القوانين الأساسية التي يصعب تغييرها ويحصر في بنده الأول حق تقرير المصير في إسرائيل بالشعب اليهودي وحده. يحدد هذا القانون عاصمة إسرائيل بأنها القدس الكاملة الموحدة واللغة بأنها اللغة العبرية نازعاً صفة اللغة الرسمية الثانية عن اللغة العربية، ومعتبراً المستوطنات اليهودية قيمة قومية يشجعها ويدعمها ويثبتها القانون، الأمر الذي يجعل إسرائيل بصورة رسمية دولة تمييز عنصري (أبارتهايد) وينهي من الطرف الإسرائيلي وبضربة واحدة أي إمكانٍ لحل الدولتين ناهيك بحل الدولة الواحدة.

وسط هذه الهجمات المعلنة من القوة العظمى وإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الصغير ومقدسات العرب والمسلمين لم تتجاوز ردود فعل الأنظمة العربية إدانات لفظية خجولة لقرار نقل السفارة إلى القدس بينما استمرت علاقات الأنظمة العربية حميمة مع الإدارة الأمريكية بل تصاعدت. أما ثالثة الأثافي فكانت المبادرات التطبيعية لبعض الدول التي يتزامن تعاونها العلني مع دولة الاحتلال مع التدمير الفظ لشبح عملية السلام وإعلان ضم القدس وقانون وحدانية الحق اليهودي في أراضي الـ 48 وهو ما يرقى إلى موافقة ومشاركة عربية علنية على ضم القدس المحتلة وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني في ما تسميه الإدارة الأمريكية وشركاؤها صفقة القرن، ولهذا تعيش المؤسسة الصهيونية حالة من النشوة والزهو لم يسبق لها مثيل.

فلسطينياً، استمر الانقسام الوطني بين حركتَي حماس وفتح مع انقسام جيوسياسي في الجسم الفلسطيني بين الضفة وغزة، وهو ما خلق إحباطاً للجماهير المناضلة في الأرض المحتلة وفي الشتات وصنع لأول مرة منذ قرن وضعاً مثالياً للتغول الإسرائيلي وللتخاذل العربي وساهم في تفتيت التعاطف الاسلامي والدولي.

يشير الاستيطان المتسارع وهدم البيوت الفلسطينية ومصادرة الأراضي وتهجير السكان إلى حقيقتين مترابطتين: استمرار نكبة فلسطين من ناحية واستمرار إقامة وتكوين الدولة اليهودية التي تُعد نكبة 1948 مجرد بداية لها. من ناحية أخرى يمثل الاعتراف الأمريكي بضم الجولان السوري المحتل دعماً للتوسع الصهيوني باتجاه إسرائيل الكبرى خارج فلسطين.

 

رابعاً: شخصيات وطنية فلسطينية

بينما تبدو أرقام اللاجئين الفلسطينيين للبعض مجرد أعداد للاجئين ينتظرون العودة إلى وطنهم، فإن توزعهم هم وأولادهم وأحفادهم في هذه الأقاليم والدول منذ سبعين عاماً قد ترك آثاراً واضحة في شخصيتهم الثانوية كأفراد وكجوالٍ، ليس بسبب اختلاف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الدول فقط بل لأن الحدود بين الكيانات العربية كانت وما زالت من أكثر الحدود صرامة وعزلاً في العالم. كانت هذه الحدود أكثر صرامة تجاه الفلسطيني القاطن على أحد جانبيها، وتحديداً لحركته، من مواطنيها. ومثلما ساهمت هذه الحدود بنجاح كبير عبر سبعين عاماً في تجزئة الشخصية القومية العربية إلى قطريات منفصلة ومتناحرة، فإنها أنتجت لدى الفلسطينيين المقيمين فيها هويات تحت – وطنية تصل أحياناً إلى حد الاندماج الكامل. تتحد كل هذه الكيانات الفلسطينية تحت – الوطنية في الرواية وفي الرؤية ولكنها تختلف بينها اختلاف الشعوب المضيفة عن بعضها البعض. يشمل هذا الاختلاف الاصطفاف السياسي المحلي واللهجات، والدخل الفردي النمط الاستهلاكي، ومستويات الثقافة والتعليم وحتى توقعات العمر، والمراضة ومعدلات وفيات الأطفال‏[7].

في فلسطين التاريخية هناك فلسطينيو «إسرائيل» أي أراضي الــ 48 وفلسطينيو الضفة الغربية والقدس المحتلة وقطاع غزة، أما في الخارج فهناك، فلسطينيو كل من الأردن ولبنان وسورية والخليج، وهناك فلسطينيو أوروبا وأمريكا الشمالية وفلسطينيو أمريكا الجنوبية.

بينما تتلون الشخصية الوطنية للاجئين في الدول العربية بشخصيات الدول العربية المضيفة فإن نشوء شخصية فرعية إسرائيلية – فلسطينية (أو على العكس) يمكن رؤيته كنتيجة جدلية – هيغلية لتوليفة أو تخليقة مركبة من صراع الفرضية – «الطريحة» الفلسطينية مع نقيضها الإسرائيلي. لقد أشارت الاحتجاجات الفلسطينية العنيفة ضد قانون يهودية الدولة (الحق اليهودي الحصري في تقرير المصير) إلى حقيقة وجود هوية إسرائيلية تحت – الوطنية إلى جانب الهوية الوطنية الفلسطينية لدى المواطن العربي الفلسطيني في إسرائيل رغم التمييز العنصري على كل المستويات.

هذه الشخصية الفرعية المركبة الموجودة الآن ربما تصبح هي الشخصية الرئيسية في أرض فلسطين القرن الثاني للصراع في عملية دينامية يستمر فيها هذا التحول ما استمر هذا الصراع. ويعتمد مداها وشكلها النهائي على الإيمان المثابر طويل النفس بالرواية وعلى ما يستثمره ويدلي به كل طرف في ساحة هذا الصراع داخل فلسطين وخارجها.

خامساً: سؤال الأسئلة… ما العمل؟

 

1 – البعد المئوي للصراع

«رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة»‏[8]

إن إلقاء الضوء على البعد الزمني المئوي – وحتى الألفي – للصراع يستلهم أسبابه أيضاً من قِدم الروايتين الصهيونية والفلسطينية ومن عبور الصراع حافة القرن إلى قرن جديد ينبئ بأن هذا الصراع سيستمر لعهود طويلة وربما لقرن جديد أو أكثر. وبهذا يكون استيعاب وتشرب البعد المئوي للصراع في مستوى استيعاب الحقائق الجيوسياسية الأخرى ضرورياً لتبني أنماط جديدة من التفكير (بارادايم) للقرن الجديد، تؤطر أشكال واستراتيجيات التفاعل والصراع وتحصن العقل الشعبي والسياسي الفلسطيني من الإحباطات الناجمة عن توقعات ووعود وحتميات الخلاص القريب. هذا الخلاص الوهمي الذي يغذي النفَس القصير الذي اعتادت الطلائع السياسية أو المحيط العربي والإسلامي أو الشرعية الدولية أن تؤمن وأن تبشر به أدى إلى سلسلة طويلة من خيبات الأمل وتسرُّب اليأس إلى النفوس.

إن العقل العربي الفلسطيني قادر على العمل بآليتين آنية/يومية وتاريخية/مئوية. هذه القدرة تعمقت باستمرار نكبته وصموده عبر القرن الماضي وترابط التجارب اليومية (العينية) مع استيعاب الوضع العام والذاكرة البعيدة (المجردة) كونه جزءاً مركزياً متطوراً من العقل القومي العربي الذي يتصارع العيني والمجرد‏[9] في أنظمته المعرفية.

2 – ترميم وحفظ وتعميم الرواية الوطنية

إن الذاكرة الوطنية لا تدوم من تلقاء نفسها ويمكن أن تندثر. لذا يجب استثمار كل جهد ممكن في جمعها وتأمين تخزينها وتبويبها بحيث يمكن اللجوء إليها لا لشخصنة الوعي الوطني فحسب وإنما لتوحيد الرؤية بين تجمعات الشعب المختلفة لتقوية الإرادة وتعلُّم النفـَس الطويل. هذه الرواية يجب توضيحها من خلال عمل علمي متعدد الأطراف والمواقع المختصة بدراسة الواقع الفلسطيني كما هو، وتشريح تاريخه القديم والحديث (الذي يتضمن التاريخ اليهودي). وهذه الرواية تم تسجيل معظمها ضمن أعمال أكاديمية جيدة يجب استكمالها‏[10]. لا بد من تحويل الذاكرة من مصدر للحزن والبكاء على الأطلال وجَلد النفس والافتتان بالذات إلى مصدر عملياتي ينطلق من ترميم الرواية، ويستعمل التاريخ كمستودع وذخر للأفكار والتجارب – حتى الفاشلة منها – بنية تجنبها أو خوضها ثانية في المستقبل.

إن أشد أوجه الصراع شراسة كان ولا يزال صراع الروايات، ونقطة التحول فيه تكمن في استعادة العناصر المفقودة في الشخصية الوطنية الفلسطينية. وتبدو محاولة استرجاع العنصر الثقافي اليهودي إليها تحدياً صعباً، ولكن هذا العنصر موجود الآن – وإن بصورة رمزية – ويمكن توسيعه من طريق إعادة إشراك اليهود الفلسطينيين في الحوار الوطني وفي كتابة الوثائق الرئيسية باللغتين العربية والعبرية. كما يمكن ترجمة إشارات الطرق في الضفة وغزة إلى العبرية وكذلك مراسلات الحكومة الفلسطينية بالطريقة نفسها المتبعة إبان الانتداب البريطاني. لا بد من ضم السامريين في فلسطين والعالم كبداية وكذلك اليهود المعادين للصهيونية داخل إسرائيل وخارجها إلى الجسم الوطني الفلسطيني وليس على هامشه. لا بد أيضاً من أن يعي الفلسطينيون بصورة كاملة شاملة ونهائية أن مأساتهم صنعتها بصورة رئيسية معاداة السامية في أوروبا التي توجتها المحرقة من ناحية والصهيونية (غير اليهودية أساساً) من ناحية أخرى. وإن معاداة السامية (من أي طرف كان) تغرّب اليهود في أوطانهم وتخدم مباشرة الاستيطان الصهيوني. إن قدر فلسطين في المئوية القادمة هو أن تقود النضال المزدوج الصعب ضد الصهيونية وضد معاداة السامية في الوقت نفسه وفي كل مكان وبلا هوداة.

أما العمل مع المركب الإسرائيلي فسينتقل من مجرد المقاومة السلمية والمسلحة إلى صراع يتضمن العمل داخل الشرائح الإسرائيلية المختلفة في إطار النضال ضد الصهيونية ومحاولة استرجاع اليهودية الثقافية إلى الصف الوطني في نفس الوقت الذي تحاول فيه هذه المقاومة جعل الاحتلال يدفع ثمناً متصاعداً للاستيطان وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني.

لا بد أن يشمل التغيير في أنماط التفكير (الباراديم) اللغةَ المستعملةَ على مختلف الصعد. على سبيل المثال فإن الحديث – بصيغة الماضي – عن سقوط القدس وضياع فلسطين يطعن الصامدين في رحاب الأقصى ويدمر معنويات الذين يتصدُون للمستوطنين ولجيش الاحتلال. من ناحية أخرى يجب أن يتوقف الفلسطينيون عن نسبة مأساتهم إلى اليهود في اللغة اليومية وتغيير ذلك إلى الجاني الحقيقي وهو الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي.

لا بد أيضاً من ضمان أن يأخذ الخطاب الوطني بالحسبان كل التجمعات الفلسطينية حتى لا تنشأ أوضاع تحس بها بعض هذه الأقاليم بالإهمال أو بالتمييز.

 

تشمل إعادة إنتاج الرؤية – الشخصية الوطنية تكثيف النشاطات الاندماجية فكرية فنية ورياضية عبر تجمعات الوطن، وتشمل كرة القدم وغيرها من الرياضات، وكذلك الموسيقى والأغاني والشعر، ولا بد من نشر وتبادل هذه المنتجات الفكرية بين التجمعات الفلسطينية المختلفة كوسائل لتمتين الشخصية الوطنية ودمج مجتمعاتها المختلفة.

3 – توحيد الشعب والمؤسسة

ينظر البعض إلى كارثة الانقسام الفلسطيني كنتيجة لسوء تفاهم بين الإخوة يمكن إصلاحه بقليل من الجهد. لكن هذا الانقسام أعمق وأصعب مما يبدو على السطح؛ فهو امتداد للصراع بين الإسلام السياسي والنظم القائمة في عرض الوطن العربي وطوله، كما أنه نتيجة الاستقطاب والتناحر بين الأنظمة العربية والقوى الإقليمية والعالمية. رغم هذه الصورة الحالكة فإن المحاولات لرأب الصدع سوف تستمر مع وضع خطط بديلة أو مؤقتة يمكن اتخاذها فوراً للتقدم على محاور النضال في القرن الجديد مثل النظر في أنماط تنسيقية لتقليص أضرار الانقسام التنظيمي بدلاً من النهج التصالحي الشامل على طريقة كل شيء أو لا شيء.

إن السعي نحو الوحدة الفلسطينية ثلاثي الأبعاد. فهو أولاً سعي لرأب الصدع بين فتح وحماس وتوحيد المؤسسة الفلسطينية، وثانياً محاولة ربط وإعادة تقريب وتوحيد المجتمعات الفلسطينية بشخصياتها تحت – الوطنية في بوتقة العمل الفلسطيني العام (علمياً – واقتصادياً)، وهو ثالثاً محاولة إيقاف التسرب الثقافي المسيحي والإسلامي واسترداد العناصر اليهودية إلى نظم المعرفة داخل العقل (النظري والسياسي) الفلسطيني.

 

يمثل الحفاظ على وحدانية التمثيل الفلسطيني في ظل الانقسام أحد أكبر التحديات التي ستواجه المؤسسة الفلسطينية حالياً وفي العقود القادمة، يليها الخروج من شرنقة الحكم الذاتي إلى تمركز متعدد الوظائف والأماكن رغم صعوبة الوضع العربي والدولي. كما يمثل إيجاد وسائل مقاومة تستفيد من آخر التطورات العلمية وتنسجم مع الشرعية والقوانين الدولية وبناء التحالفات عبر العالم لهذا الغرض تحدياً آخر.

4 – ممارسة حق العودة

يتركز الجهد الفلسطيني على حق تقرير المصير والخلاص من الاحتلال وبناء الدولة المستقلة. لكن النصف الرئيسي الآخر من القضية الفلسطينية، وهو حق العودة، لا يأخذ الاهتمام الذي يستحقه رغم أنه يشمل أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. إن عودة كل الشعب إلى نفس الأماكن نفسها في كل الأرض وفي نفس الوقت هو من المحال، لأن الشعب قد تغير والأماكن تغيرت والوطن تغير، ولأن وعود وأحلام العودة الجماعية لكامل الشعب قد أحبطت لعقود طويلة محاولات العودة الفردية الممكنة لكثير من اللاجئين وحلت محلها بالكامل.

إن عقود الصراع القادمة ستتضمن جهداً هائـلاً ليس في جمع روايات اللاجئين فحسب، ولكن في نطاق جمع الوثاق والمستندات والتقارير من الأشخاص والوكالات والدول (تركيا وبريطانيا وحتى إسرائيل) ومحاولة استرداد هذه الحقوق والممتلكات الفردية من طريق المحاكم المختلفة في هذه الدول. كما أن اللاجئين يتفاعلون مع بعضهم بعضاً مباشرة من طريق الخرائط الإلكترونية الحية ووسائل التواصل الاجتماعي ويتبادلون آخر أخبار المدن والقرى التي قدموا منها أصـلاً ومحاولة زيارتها والتحدث إلى ساكنيها مباشرة أو بالوكالة، ونقل هذه التفاصيل بصورة حية ودينامية إلى الحيّز العام. إن ممارسة حق العودة الفردي ستبدأ من دون انتظار تحقق هذه العودة إلى الوطن جماعياً ضمن الحل النهائي، وسيستمر الفلسطينيون في محاولة دفن موتاهم وشهدائهم في قراهم ومدنهم الأصلية أو في أماكن قريبة منها.

5 – صمود في الوطن وحول العالم

تبدو الثورة الصناعية الرابعة وعلى رأسها المعلوماتية كأنها فُصلت خصيصاً لحاجات النضال الفلسطيني في مئوية الصراع الثانية. ستمكن المعلوماتية – إذا توافرت الإرادة – من ربط الـ 13 مليون فلسطيني بعضهم ببعض لأول مرة منذ 70 عاماً، وتمكينهم من رسم مصيرهم ومن إحداث ثورة في مجال تعميق وتوسيع الممارسات الديمقراطية بما فيها إجراء انتخابات عامة للمجلس الوطني الفلسطيني لتجديد الشرعيات المختلفة داخل فلسطين وخارجها. تتيح المعلوماتية أيضاً إجراء استطلاعات الرأي والدراسات حول الموضوعات المختلفة وتمكِّن من إنشاء برلمانات إضافية للمرأة أو للشباب دون سن الانتخاب ومحافل لفئات واتحادات اجتماعية واقتصادية متعددة. ولأن فلسطين ستحتاج إلى كل الجهد فإن المعلوماتية ستحدث ثورة في دور المرأة الفلسطينية خارج قيود الجندر السائدة، دافعاً إياها إلى المركز على قدم المساواة مع الرجل.

توفر وسائل التواصل الاجتماعي وسائل فعالة لبناء وحدات تنظيمية لمراحل طويلة وكذلك لحشد النشطاء لمراحل متفاوتة تكفي لإنجاز مهمات خاطفة مثل التظاهرات كما حصل في الربيع العربي، وكذلك تظاهرات القمصان الصفر في فرنسا. لكن أحسن مثال على ذلك تبين خلال البحث عن حطام الطائرة الماليزية رقم 370 في أيلول/سبتمبر 2014 حين دخل أكثر من مليوني إنسان عبر القارات تطوعاً وخلال الساعات الأولى موقع التومنود (Tomnod) على الإنترنت للاشتراك في تقييم وفلترة 2400 كم مربع من الصور الفضائية بحثاً عن مخلفات الطائرة المنكوبة‏[11].

يمكن لفلسطين الافتراضية أن تكون مركزاً فلسطينياً ثانياً خارج السيطرة الإسرائيلية إذا نفذت إسرائيل والولايات المتحدة خططهما الرامية إلى تدمير السلطة الوطنية واحتلال غزة، وهي الخطط التي ما عادت سرية والتي تنتظر التوقيت المناسب. وقد تكون فلسطين الافتراضية الموقع المناسب لإقامه الجامعة المفتوحة ومؤسسات وطنيه أخرى وملتقى جامعاً لكل الأطياف.

 

يمكن أن يمثل الوطن الافتراضي (فلسطين الافتراضية) بوتقة عملية ومعلوماتية إضافية لبعث الهوية الوطنية الفلسطينية القديمة – الجديدة وإعادة التنشئة الاجتماعية والسياسية للأجيال القادمة ومساحة للتواصل والاندماج بين الوطن وأقاليم الهجرة المختلفة والفلسطينيين في أنحاء العالم، ولتبادل الخبرات والأخبار الثقافية والعلمية وحتى لعقد الصداقات والزيجات. وكما يُفترض أن يشرف المجلس التشريعي على السلطة الوطنية في الأرض المحتلة فإن فلسطين الافتراضية ستكون بإشراف ودعم المجلس الوطني الفلسطيني (الذي يضم المجلس التشريعي) وستؤلف ممثليات فلسطين والاتحادات والجمعيات والجاليات روابط عضوية بين الوطن الفلسطيني تحت الاحتلال والوطن الافتراضي الموجود في الفضاء المعلوماتي على امتداد العالم.

يمثل دخول الطابعة الثلاثية الأبعاد والأجسام والطائرات المسيَّرة من دون طيار والإنسان الآلي (الروبوت) والذكاء الاصطناعي ثورة في أنماط الإنتاج والحركة والنقل في العالم كله، وسوف تتغير في المدى المنظور معطيات كثيرة حتى على المستوى العسكري. يزداد استعمال هذه التقنيات في الحياة اليومية وتنخفض أسعارها باضطراد ولا تحتاج إلى تدريب متخصص. وبذلك فإنها تكون متاحة أيضاً للمنظمات والأفراد للأغراض كافة، تجارية كانت أم شخصية، نبيلة كانت أم إجرامية، وسيكون ضبط هذه الوسائل والتحكم في تطورها أصعب كثيراً من الحصول عليها واستعمالها.

6 – بناء القدرات البشرية

يعَدّ تزامن الانفجار السكاني في الوطن العربي مع انهيار النظام التعليمي في عدد من البلدان العربية عامـلاً حاسماً في أزمة الوطن العربي الإنسانية والاقتصادية والسياسية وفي تبعية بعض قراراتها السياسية للدول المانحة. إن نفس المصير – بل وأسوأ منه – ينتظر الفلسطينيين إذا لم ينظروا في المئوية الآتية إلى التعليم كما نظروا إليه دائماً: قضية حياة أو موت لشعب سيعبر عتبة الـ 37 مليوناً عام 2100. شعب موزع بين الاحتلال والمنافي والتمييز العنصري ومحروم من ممارسة سيادته على أرض وطنه.

كان مشروع إنشاء الجامعة الفلسطينية المفتوحة في الخارج أحد المشاريع الكبيرة للمؤسسة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات من قرن الصراع المنصرم. تعثر هذا المشروع لأسباب أهمها عدم الحصول على أرض أو دولة تستضيفها. مع نشوء الحيِّز التواصلي في الإنفوسفير لم يعد المكان حاسماً كما كان ونضجت الظروف لإعادة الكرة.

 

رغم الأهمية البالغة للمدارس التي تديرها السلطة الفلسطينية والأونروا فإن الجامعات والمعاهد الفلسطينية الاثنتين والثلاثين (19 في الضفة الغربية و13 في غزة)، وكذلك الجامعات التي يؤمها الفلسطينيون في البلدان العربية، وفي أراضي الــ 48 وفي المهاجر، تحتل موقعاً مركزياً في تحديث العقل الفلسطيني المقاوم في القرن الجديد. لكن دور الجامعات في الأرض المحتلة في تكوين الاقتصاد الفلسطيني بحاجة ماسة إلى إعادة تشكيل وإلى ربطه بحاجات الشعب الفلسطيني حيث إنها كشقيقاتها العربية ما زالت تخرّج كوادر لسوق عربية لم تعد موجودة ولسوق فلسطينية ترزح تحت حواجز الاحتلال.

إن دعم الجامعات قد يكون أقصر الطرق لتسريع تطور القوى البشرية الفلسطينية ونقل المجتمع والاقتصاد الفلسطيني إلى عصر المعلوماتية وإخراجه من قمقم التبعية المطلقة للاقتصاد الاسرائيلي. يمكن أن يتم دعم الجامعات من طريق توأمتها مع جامعات في الدول العربية والإسلامية والصديقة، وهذا يفتح الطريق لتبادل الخبرات والمعلومات والموارد.

7 – العمل داخل نظام عالمي يتغير

تشير الدراسات المتوافرة إلى تغير النظام العالمي من أحادي إلى متعدد الأقطاب مع عودة روسيا وصعود الصين وبروز الهند واحتمال مشاركة أوروبا الموحدة (رغم عثرات هذه الوحدة وخروج بريطانيا). تجمع هذه الدراسات على أن الصين ستكون الاقتصاد الأعظم في العالم بحلول عام 2030. إن الإشارات المتزايدة إلى إنكفاء القوة الأمريكية هي تطور قد يكون جيداً للقضية الفلسطينية، لا بسبب الدعم الأمريكي الأعمى للانفلات الصهيوني فحسب، بل لأن الولايات المتحدة تسيطر أو تؤثر بدرجات مختلفة في القرار السياسي لمعظم البلدان العربية وبخاصة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية.

في ظل القبول الرسمي العربي بتفوق القوة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً فإن الدعم العربي والإسلامي لفلسطين انحصر في المقاطعة العربية لإسرائيل على مختلف المستويات، وبخاصة البضائع والعلاقات الدبلوماسية وغيرها. ولهذا يمثل خرق هذه المقاطعة من جانب الأشخاص والمؤسسات والدول تهديداً لصميم استمرار قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته.

تعَدّ الجماهير العربية رصيداً استراتيجياً هو الأهم بعد العنصر الفلسطيني، رغم الإحباطات الناجمة عن الانقسام الطائفي العربي والسياسي الفلسطيني والأوضاع الاقتصادية والسياسية المنهارة. ولا بد أن توحد القضية الفلسطينية الجماهير العربية حول النضال الفلسطيني في الأرض المحتلة وخارجها.

يمكن الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي أن تتبنيا ثانية قراراً يدين الصهيونية بوصفها نوعاً من التمييز العنصري مدعومة هذه المرة بالقانون الإسرائيلي عن يهودية الدولة الصادر في تموز/يوليو 2018، ومن ثم إعادة عرض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 لعام 1975 للتصويت. هذه الخطوة ضرورية لمواجهة محاولات بعض الدول إدراج معاداة الصهيونية والاحتلال ضمن جرائم الكراهية وتحت معاداة السامية ومنع نشاطات مقاطعة منتجات المستوطنات تحت طائلة القانون.

 

تظل الجامعة العربية رغم ضعفها التاريخي وتفككها الحالي المجال الوحيد لتثبيت الوجود والتمثيل الفلسطينيَّين، في حين ظلت فلسطين خارج النطاق في كل مشاريع وكيانات التعاون والوحدة (ما تحت – العربية) وهي كيانات انهارت أو تجمدت مثل مجلس التعاون العربي والاتحاد المغاربي أو في طريقها للانهيار مثل مجلس التعاون الخليجي.

ستكون فلسطين جزءاً فعالاً في عملية الإصلاح الفكري داخل العقل العربي‏[12]، وبخاصة من الفضاء العربي العام الذي يتوسع باستمرار، وتساند أي تعاون بين الدول والمؤسسات العربية وتدعم بكل الوسائل حل الخلافات بين البلدان العربية دون أن تكون طرفاً فيها.

خلاصة

رغم الصورة الكالحة التي لا يمكن تجاهلها للوضع الفلسطيني، فإن هناك أيضاً معطيات وحقائق قوة لا يمكن القفز فوقها، واتجاهات عالمية يمكن الشعب الفلسطيني أن يستفيد منها في الدفاع عن وجوده ومقدساته، والبدء في مسار جديد لاسترجاع حقوقه، وستكون الغلبة في النهاية للطرف صاحب الرواية الغالبة والرؤية الاستراتيجية طويلة النفَس. ولأن الرواية والرؤية الصهيونيتين إقصائيتان فلا يمكن أن تستمرا إلا بالتدمير الكامل للآخر الفلسطيني والعربي، وبحرب بلا قواعد سياسية بلا حدود وبلا نهاية وصراع يدفع ثمنه الجميع في المنطقة والعالم. ولهذا فإن الرواية والرؤية الفلسطينيتين ستنتصران لأنهما الرواية والرؤية الشاملتان: لأنهما تمثلان رواية التاريخ المثبت ورواية الشرعية الدولية التي تحاول الصهيونية إلغاءها من ذاكرة العالم ولأنها الرؤية الوحيدة التي تسمح بالحل التعايشي وبتسوية تؤمن السلام العادل والشامل.

 

قد يهمكم أيضاً  المصادر التاريخية والرواية القرآنية المغيَّبة في تاريخ فلسطين والقدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسطين_المحتلة #حق_العودة #الهوية_الوطنية_للشعب_الفلسطيني #الشعب_الفلسطيني #النكبة #دراسات