مقدمة:

في حياة الأمم والشعوب وعلى سلَّم التطور التاريخي للبشرية، ثمة محطات رئيسة لتحولات عميقة أصابت صيرورة هذه الشعوب نحو تطورها وتقدمها، على الرغم من التباين والاختلاف بينها في الزمان والمكان، وفي طبيعة التحول ذاته، إذ شهدت المرحلة الحالية من تاريخنا المعاصر تناقضاً بين مساراتها المتعددة، وعلى الرغم من المخاض الصعب والمتناقض هذا، يبدو أن صوت الحرية والديمقراطية أضحى طاغياً على غيره من الميادين الأخرى، لذا يجب وضع مجموعة الأفكار والتصورات حول قضية حركيات التحول الديمقراطي في مركز الاهتمام، بحيث تشكل في منطلقها سبيـلاً إلى إعادة تأسيس المفاهيم في ظل العولمة التي تعيد إنتاج أدواتها ومفاعيلها بصور جديدة. من هذا المنطلق، نجد أن لكل دولة نسختها من التحول هذا، ولكل مجتمع عناصر الدفع التي أدت إلى أو أعاقت ذلك التحول، وهذا التفاعل بين العناصر المختلفة هو الذي شكل لكل نظام نسخته النهائية.

بناء على ما تقدم، ظل الارتباط قائماً بين حركيات التحول الديمقراطي وبين الحرية؛ فبالعودة إلى بعض المفاصل التاريخية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، نجد أن كل الاتفاقيات الدولية والإقليمية نصت على أن حرية الرأي والتعبير هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي، من منطلق أن الحرية في معناها العام هي الخلاص من القيود والعبودية والرق والظلم والاستبداد، ومنح الفرد القدرة على الاختيار، وأن يفعل الفرد ما يشاء‏[1]، لذلك تكون الديمقراطية هي الشكل الأساسي الوحيد الملائم للحرية. من هنا، فقد ارتبطت بالحرية برباط لا انفصام فيه؛ فالحرية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل النظام الديمقراطي، بحيث يمكن القول إنه لا حرية من دون ديمقراطية، ولا ديمقراطية دون حرية، ومن مظاهر الحرية السياسية التي أشار إليها المفكرون السياسيون، وربطوها بالديمقراطية، هي حرية الرأي والتعبير.

وغاية ما يرمي إليه هذا المقال هو طرح فكرة العلاقة بين حرية الرأي والتعبير، وحركيات التحول الديمقراطي. وبتعبير آخر، هل تسهم حرية الرأي والتعبير في تحقيق خطوات متقدمة في عملية التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أولاً التفرقة بين أدبيات الديمقراطية (والتي لا تدخل في نطاق دراستنا) وأدبيات التحول الديمقراطي، ومنهج كل منهما ومجال اهتماماته؛ فمن الخطأ المنهجي اعتبار العوامل التي تدعم استمرار الديمقراطية هي نفسها التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي، لأن البحث في الديمقراطية هو بحث في العوامل التي تؤدي إلى الاستقرار والاستمرارية لنظام ديمقراطي، في حين أن دراسة التحول الديمقراطي تتطلب منهجاً حركياً يركز على عناصر التغيير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، وليس على عناصر الثبات‏[2].

أولاً: حرية الرأي والتعبير والحراك الديمقراطي:
نقاشات نظرية

إن الحديث عن العلاقة بين التحول الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير، يطرح تساؤلات كثيرة، نظراً إلى عدم وضوح العلاقة بينهما: ما هو دور حرية الرأي والتعبير في حركيات التحول الديمقراطي؟ وهل ممارسة هذا الحق يؤدي بالضرورة إلى التحول الديمقراطي؟ أم يمكن أن يؤدي إلى استمرار نظام استبدادي؟ هل معيار التحول الديمقراطي هو ممارسة حرية التعبير عن الرأي؟ وهل يمكن أن يتم التحول الديمقراطي من دون التمتع بحق التعبير عن الرأي؟ أدبيات حرية الرأي والتعبير والتحول الديمقراطي لا تقدم إجابات حاسمة عن هذه الأسئلة، بل نلمس أحياناً الكثير من الآراء المتضاربة، حيث إن حالات التحول الديمقراطي ظهرت في ظل أحوال وظروف وبيئات مختلفة في الكثير من البلدان.

في إطار الإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، علينا في البداية، أن نسلم بأن حرية الرأي والتعبير – كما يرى بعض المفكرين – هي روح الفكر الديمقراطي، لأنها صوت ما يجول في خواطر الشعب وطبقاته؛ فحق الرأي هو ما يكمن في النفس، أما حق التعبير، فهو ما يفصح عن الرأي الكامن في النفس، الذي يكتشف حقيقة المجتمع ويعطي السلطة العامة دائماً صورة صادقة عن رغباته، وما يحتاج إليه من خدمات‏[3]، وحرية الرأي والتعبير وسيلة أساسية من أجل تقدم المجتمع، ولا نستطيع أن ننكر أن التطور والتقدم هما إحدى ثمار هذه الحرية، وأن تنمية المجتمع لن تحدث من دون رقابة فعلية ومباشرة من جانب أصحاب الرأي، لتشجيع الجمهور على الوعي وإدراك مدى ضخامة مسؤولياته الحاضرة والمستقبلية، كما أن تلك الحرية هي السياج الحامي الحقوق والحريات كافة، فضلاً عن كونها مؤشراً عن وجود حركية ديمقراطية من عدمها، لأن توافر الحرية في وسائل التعبير والنشر المختلفة، ضرورة حياة ووجود، ولأن سلطات الدولة على تنوعها وتشعبها تجد نفسها في أفعالها كافة، أمام رأي عام واعٍ ومستنير، نتيجة لحرية النقد والتعبير والمكاشفة والمساءَلة السائدة، حيث ينشأ ما يسمى المجتمع المفتوح‏[4].

إن الارتباط الوثيق بين حرية الرأي والتعبير والتحول الديمقراطي، يجعل التعددية السياسية والفكرية مستحيلة من دون إطلاق تلك الحرية التي تعتبر من مكونات النظام الديمقراطي، ومن خلال ذلك وحده، يمكن التعبير عن الإرادة الحرة للمواطن وعن الإرادة العامة للمجتمع، من خلال المشاركة في اتخاذ القرارات من طريق الانتخابات؛ فتحقيق حالة التعددية مرهون بإطلاق حرية التعبير، وتالياً حرية المساجلة والحوار والاجتماع، وحرية الرأي والرأي الآخر.

لقد تناول الكثير من الدراسات والأبحاث والنظريات الآثار السياسية لحرية الرأي والتعبير على عملية التحول الديمقراطي، إلا أن هناك اختلافات شديدة بين من تناولوا تلك التأثيرات؛ فمن ناحية هناك جدل محتدم حول التأثيرات القوية مقابل التأثيرات المحدودة، ومن ناحية أخرى ظل هناك خلاف بين الذين يفترضون وجود تأثيرات قوية حول ما إذا كانت حرية التعبير عن الرأي تسهم في حركيات التحول الديمقراطي، أم في تعزيز الأنظمة السلطوية.

وسنركز هنا على جملة ما ظهر بحلول التسعينيات من النظريات التي لم تحسم الجدل حول الدور المحدود أو المتوسط أو القوي، ومن الواضح أن الصراع حول اتجاه الدور الذي تلعبه حرية الرأي والتعبير وقوته، يحمل بعض الشبه في ما يخص أسباب التحول الديمقراطي ونتائجه، ففي ظروف معينة ومن زوايا بعينها تبدو التأثيرات قوية، وفي ظل ظروف أخرى قد تبدو ضعيفة، وعندما تكون هذه التأثيرات قوية تسهم في بعض الحالات في المزيد من الديمقراطية، وفي بعضها الآخر في حجبها‏[5]، وهما موقفان متناقضان اتخذهما كل من فيكي راندل وليز غارون، وسيكون من المفيد النظر إلى هذين النموذجين النظريين بمزيد من التفصيل، حيث إنهما يمثلان مراجع أولية حول ما يمكن لوسائل التعبير بصفة عامة فعله في عمليات التحول الديمقراطي.

تبني المؤلفة الأولى أي «راندل»، تقييمها النظري لتأثير وسائل التعبير، وبخاصة الإعلام في عملية التحول الديمقراطي، على ملاحظات مستمدة من التحول في أمريكا اللاتينية وأفريقيا على وجه الخصوص، إلا أنها تتضمن أيضاً حالات من أوروبا الشرقية وآسيا، وتزعم «راندل» أن دور الإعلام في التوجه الأخير نحو الديمقراطية، لم يقدَّر حق قدره إلى حد كبير، فهي تميز بين ثلاث مراحل للديمقراطية، إلا أنها توضح أن الحدود الفاصلة بين كل مرحلة وأخرى، غير واضحة، وأنه ليس ممكناً على الدوام تحديد متى تنتهي مرحلة بعينها، ومتى تبدأ التالية.

لا تكون حرية الرأي والتعبير في الأنظمة الشمولية أو السلطوية المتشددة في حالة ملائمة لمناصرة الديمقراطية، إلا أن ذلك لا يمنع الإعلام والصحافة وغيرها من وسائل التعبير عن الرأي من انتقاد النظام، وإن كان ذلك يشكل خطراً، وعندما تتراجع شرعية النظام السلطوي وتمنح المزيد من الحريات أو تكتسب، ويبدأ التغيير السياسي، فإن الوضع يتغير أيضاً بالنسبة إلى حرية الرأي والتعبير، إلا أنها تبقى تحت سيطرة الكثير من القيود المفروضة من جانب الحكومة، على سبيل المثال، من طريق قوانين الصحافة الصارمة وملكية الدولة لوسائل الإعلام، أو من طريق العقوبات والتهديدات الاقتصادية، وفي بعض الأحيان التهديدات والعقوبات الجسدية‏[6].

على الرغم من هذه العوائق، إلا أن تلك الحرية الناشئة الفتية تسعى جاهدة إلى تأسيس تقاليد نقدية، ومساءلة شرعية النظام المتآكلة، وطرح قيم وأفكار بديلة. كل هذه الأنشطة وغيرها مهمة من أجل إحداث تأثيرات على المدى الطويل، قد تشكل دعائم مهمة يعوَّل عليها في مراحل لاحقة من عملية الديمقراطية، لأن النقد الأولي قد يحفز على التحرك نحو انتخابات حرة تعددية نزيهة، ويرفع الوعي بالقضايا المصيرية، ويساعد على تأطير الأحداث وتنظيم الاحتجاجات الشعبية، التي تزيد من حدة الضغوط المفروضة على السلطات من أجل المزيد من المرونة السياسية والتحرك نحو انتخابات حرة تنافسية‏[7].

من هنا، تبدأ مرحلة أخرى وهي التأسيس لخطاب ديمقراطي دائم، والمساعدة على وضع جدول أعمال لتطور المشروع الديمقراطي من الناحية العملية، إلا أن هذه المرحلة تعد صعبة نوعاً ما، وتتجلى صعوبة المهمة تلك، وبخاصة بالنسبة إلى وسائل التعبير عن الرأي المختلفة، حيث غالباً ما يحصل في مرحلة التأسيس ميلُ السلطات الحاكمة إلى استمالة تلك الوسائل، واعتبار تلك الوسائل بمثابة لسان حال لها، وبخاصة الإعلام والصحافة، أو قد تنحرف هذه الأخيرة وتسيء استخدام الحرية المكتسبة حديثاً، إلى التشهير والقذف وترويج الشائعات لأسباب تجارية.

وبإيجاز فإن حرية التعبير عن الرأي وبوسائلها المختلفة يمكن أن تؤدي دوراً؛ إما داعماً وإما مقيداً للديمقراطية، إلا أن إسهاماتها توصف بالحاسمة في التحول الديمقراطي.

أما المؤلفة الثانية ليز غارون التي تناولت دور وسائل التعبير في الاتجاه العالمي الأخير نحو الديمقراطية، حيث نجدها أقل تفاؤلاً من سابقتها، في ما يخص قدرة تلك الوسائل على الإسهام في الدمقرطة، فإن تحليل غارون يقوم على ملاحظة دور الصحافة الجزائرية في التجربة الديمقراطية من عام 1988إلى عام 1992، وكذلك على تجارب بلدان عربية، وبعض دراسات الحالة الإضافية من كوريا الجنوبية، وألمانيا الشرقية.

لقد قادت ملاحظات «غارون» إلى طرح أربعة استنتاجات موقتة حول دور الصحافة في عملية التحول الديمقراطي؛ فخلال العملية بأكملها من الحكم السلطوي، وأثناء التحرير إلى الديمقراطية الفعلية، فإن الصحافة ليست قوة دافعة، ولكنها فاعل سلبي وهش يساير مجريات الأمور، فحتى عندما يتسبب التوتر الاجتماعي في الانهيار الموقت لسلطة الدولة، مثلما حدث سنة 1988 في الجزائر، وإجبار الدولة على توسيع نطاق الحريات العامة والمشاركة السياسية، فليست الصحافة هي التي تحدد هذه الأحداث، أو تدفعها. وعلى الرغم من توسيع سلطة المجتمع المدني، تحافظ الدولة على قدرتها على استغلال الصحافة من طريق الدعم والإيقاف والمحاكمة، وتصف غارون هذا الوضع بالأساس بناء على حالة الجزائر‏[8]؛ ففي نظام الحزب الواحد السلطوي قبل 1988، كانت الصحافة وكيـلاً للنخب الحاكمة، وقد عانت التسريح أو الطرد، حتى بعد الانهيار الموقت لسلطة الدولة في عام 1988، حيث استخدم الرئيس الجزائري – حسب تحليل غارون – وسائل «ترغيب» مثل توفير المقارّ للصحف والتجهيزات وخدمات التوزيع، وكذلك رواتب الصحافيين في الصحافة المستقلة حديثاً. وفي تأكيد ذلك، فقد تزايد النقد عندما ضعفت سلطة الرئاسة، وسقط الكثير من المحظورات، واتسع الخطاب حول الديمقراطية، إلا أنه وفقاً لـ «غارون»، فإن مظاهر حرية الرأي والتعبير، كانت دائماً تابعة لأحداث سياسية وليست محددة لها أبداً‏[9].

إنّ الدول صاحبة الخبرة التي شهدت تحولات ديمقراطية في نهاية التسعينيات من القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، تعرف ما يمكن أن نطلق عليه «البنية الأساسية للديمقراطية»؛ سواء على المستوى البنائي الدستوري – القانوني، أو على مستوى الممارسة السياسية ذاتها. في هذه الدول، دساتير ديمقراطية وانتخابات حرة وسلطة قضائية وخبرة في العمل الاحتجاجي السلمي؛ سواء على صعيد التظاهرات أو الإضرابات، فضـلاً عن أن النخب السياسية التي ناضلت من أجل الديمقراطية، اتسمت بخيال سياسي، مكّنها من توظيف ملكات الشعب وموروثه الثقافي، وخبراته التاريخية في إنتاج وسائل تعبير سياسي ضد الاستبداد، وهو أمر لم يجعل عملية التحول الديمقراطي في هذه الدول تأتي من فراغ‏[10].

لقد ظلت حرية الرأي والتعبير غائمة، أي أن الخطوط الحمر التي يجب عدم تخطيها، لم تكن واضحة، نتيجة المنع المتكرر للصحف وغيرها من نشر صور تعدي الدولة إلى حرية التعبير، ومن ثم تظل فاعـلاً هشاً، كما لا يمكن تفسير ضعف الصحافة وغياب دورها القيادي بضعفها المالي أو بانتشار الأمية، وإنما بعلاقات القوة بين الفاعلين، وفي حالة الجزائر – بحسب «غارون» – تقيد آليات الحزب الواحد السلطوي الصحف ووسائل التعبير المختلفة، من معارضة وتجمع سلمي وعمل نقابي وتعددية إعلامية، والثقافة النافية للتدفق الحر للمعلومات وضعف الحلفاء الطبيعيين لتلك الحرية، ومن برلمان ومحاكم وقوانين. وتخلص غارون إلى‏[11]:

  • عندما لا تتمكن وسائل التعبير وخصوصاً الصحافة من حشد أي مجتمع مدني نامٍ وقوي، ومعارضة ذات مصداقية وبرلمان شرعي، وقضاء مستقل يدافع عنها ضد انتهاكاتها من طرف السلطة الحاكمة، فحينئذٍ تصبح عرضة لأن يكون موقفها ضعيفاً وغير ثابت في التعامل مع النخب الحاكمة، التي هي فاعل بمقدوره أن يقرر مصيرها.

 

  • على الرغم من التقييد المفروض على حرية الرأي والتعبير ووسائلها المختلفة، يمكن أن تؤدّي دور المحفز للانتقال ولكن من دون عمد. يحدث ذلك، عندما يكون النظام في أزمة شديدة، حيث تفضح للعامة ضعفه وارتباكه؛ ففي الجزائر – وفقاً لغارون – أكدت التغطية الدقيقة لخطاب سياسي رئاسي مضلل كشف بشكل غير حكيم الشائعات عن انقسامات وفشل النخبة الحاكمة، مما أدى في نهاية المطاف إلى أحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988. وعليه، فإن هذه المسايرة لمسار التاريخ غير المقصودة وفقاً لـ: «غارون»، قد تمثل جيداً الدور الأساسي لوسائل التعبير في عملية التحول الديمقراطي‏[12].

 

على الرغم من تشكيك غارون في دور وسائل التعبير، وبخاصة الصحافة في حركيات التحول الديمقراطي، إلا أنها تخلص في النهاية إلى أنه يمكن أن تعقد أي محاولة لتعزيز الممارسات السلطوية‏[13]. فمن خلال مقالات حول انتهاكات حقوق الإنسان ومسيرات وتجمعات سلمية وبيانات وعرائض، يمكن توسيع حماية الحريات التي يتمتع بها المواطن جزئياً، وجعل العودة إلى الحكم السلطوي أكثر صعوبة.

من خلال هاتين الدراستين لكل من فيكي راندل وغارون ليز، في ما يتعلق بإسهام وسائل التعبير المختلفة، وبخاصة الإعلام والصحافة في عملية الدمقرطة في مراحلها المختلفة، يمكن أن نلاحظ ما يلي:

1 – يتبع معظم الباحثين فكرة «راندل» القائلة إن الإعلام المحلي أو الأهلي (في مقابل الإعلام الدولي) نادراً ما يؤدّي دوراً في الدفع نحو انفتاح النظام في مرحلة الشمولية أو السلطوية الصارمة.

2 – سياسات النظام الحاكم وممارساته، هي المتغيرات التي تؤدّي الدور المهم والحاسم في تحديد جدوى اتجاه الانتقال وسرعته، نحو مستويات أعلى من حرية الرأي والتعبير‏[14].

3 – يتفق الكثير من المراقبين بعامة، بالنسبة إلى مرحلة التحرير – بداية الحصول على بعض الحقوق والحريات من الأنظمة الشمولية والتسلطية – التي تشهد عادة ظهور بعض وسائل التعبير عن الرأي المستقلة، ونمو بعض الحريات، إلا أنها تظل تواجه عدداً من المصاعب والعقبات مثل: الرقابة المباشرة أو غير المباشرة، وعدم الوصول إلى المصادر الرسمية، وقوانين الصحافة الصارمة، ومصادرة المؤسسات الإعلامية والعجز الاقتصادي وحالات الطوارئ المعلنة، والعنف المسلح، إلا أن المراقبين يختلفون حول قدرة حرية الرأي والتعبير على التغلب على هذه العقبات، ويختلفون أيضاً في تحديد أسباب تلك المقدرة أو ذلك العجز.

إن فكرة غارون القائلة إن الصحافة تتبع دائماً التيار السياسي، لم تتأكد في الحالات كافة، فقد وجد باحثون آخرون دلائل على أن الصحافة في مرحلة التحرير يمكنها الدفع بفاعلية نحو المزيد من الدمقرطة على مختلف المستويات، وعلى سبيل المثال كتب ف. كاسوما (F. Kasoma) عن الإعلام الأفريقي قائلاً: «كان للإعلام المستقل في أفريقيا شرف الإسهام في التغيير السياسي بوساطة إسهامين:

الإسهام الأول، لقد أدارت الصحافة المستقلة ظهرها للأسطورة التي سادت القارة في وقت من الأوقات بأن الرؤساء الأفارقة الدكتاتوريين كانوا لا يقهرون، ومن ثم لا يمكن انتقادهم…

أما الإسهام الثاني، فيتمثل في حقيقة أن قليـلاً من القراء الذين كانوا أشد الداعمين للصحف المستقلة، كانوا هم أنفسهم طامحين سياسياً إلى نظام جديد، وقد استخدموا الصحف في ترويج أفكارهم للانشقاق، والدعوة إلى نظام جديد‏[15].

وفي روسيا، دفع الإعلام بعد تردد إلى التحول السياسي بشكل صريح، حتى بعد الانقلاب الذي قاده الجيش في آب/أغسطس عام 1991، حافظ الإعلام بعامة على نهجه النقدي، على الرغم من بعض القيود المفروضة‏[16].

اعتماداً على دراسات كل من «راندل» و«غارون»، يمكننا أن نخلص إلى تحديد دور حرية الرأي والتعبير في حركيات التحول الديمقراطي؛ فهذه الحرية لها تأثيرات ممكنة في المراحل كافة، وقد تحدث هذه التأثيرات عن عمد وغير عمد، قوية أو ضعيفة، إلا أنه يستحيل عملياً تقدير ماهية تأثيرات وسائل التعبير عن الرأي في حركيات التحول الديمقراطي، أو قياسها؛ حيث إن الواقع عادة ما يكون شديد التعقيد، فقد يفتقد أصحاب الرأي في الأنظمة الشمولية إلى وسائل الإسهام في التغيير السياسي، وقد يصبحون مجرد وكلاء للسياسات الحكومية، ويواجهون في حالات النقد والمكاشفة عقوبات شديدة، وقد لا يتمكنون من توجيه النقد لمدة طويلة، إلا أن ذلك لا يعني الإذعان الكلي في الأحوال كلها.

تؤثر علاقات القوة بين وسائل التعبير عن الرأي والجمهور والنخب الحاكمة والمجتمع المدني في مجال حرية الرأي والتعبير ومساحتها، وقدرتها على الإسهام في المزيد من التحول نحو الديمقراطية، وبقدر الدعم الذي تتلقاه وسائل التعبير المختلفة، تزداد الأدوات الدافعة المحتملة إلى مراقبة السلطات التنفيذية، ومحاربة الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ونشر الخطاب الديمقراطي، والانضمام إلى حركات المجتمع المدني وتعزيزها، ولكن كل هذا لا يتحقق دفعة واحدة، وإنما على مراحل – كما ذكرنا سابقاً – بدءاً بمرحلة التحرير ومحاولة التأقلم مع سلوكيات ديمقراطية ومسؤولة، ثم مرحلة التحول والانتقال بتعبئة عامة لفرض ضغوط على السلطات وتسريع وتيرة التحول، وغالباً ما تواجه هذه العملية تحديات جديدة من قبيل ضعف الدعم الشعبي، وتزايد جهود الأنظمة في الحد من المساحات الممنوحة لهذه الحرية، كإعلان حالات الطوارئ والقيود الاقتصادية…، إلا أن مواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء، تصبح بإمكانها الإسهام في تأسيس الديمقراطية.

وتأكيداً لكل ما سبق، فإن المتتبع لما شهده العالم في السنوات الأخيرة من نشوء الكثير من الحركات السياسية المطالبة بالتحول الديمقراطي؛ تلك الحركات ظهرت في ظرف استثنائي دولي يدفع في اتجاه الدمقرطة، وفي خضم الاحتجاج والتفاؤل جرى استعادة خبرة حركيات الاحتجاج المدني الديمقراطي في أوروبا الشرقية، وهذا ما انشغل به كثيرون من الباحثين أمثال: «لاري دايمون»، و«مايكل ماكفول»، محاولة منهم تحليل موجة التحول الديمقراطي التي اجتاحت دولاً ذات أنظمة حكم استبدادية، وأجهزة أمن قمعية مسيطرة على وسائل الإعلام، ومضيّقة على مساحات حرية التعبير، لكن من خلال مخاض الجدل والحراك وأحياناً الصدام، حدثت ثغرات في جدار الاستبداد، واتسعت بمرور الوقت، بحيث تمتعت المعارضة بمساحة من العمل من خلال الدور الذي أدّته حرية التعبير في التعبئة الجماهيرية، والتنافس السياسي السلمي‏[17].

بناء على ما تقدم، فقد ظل الارتباط قائماً بين حرية الرأي والتعبير والتحول الديمقراطي، بل إنه لا يمكن تصور قيام نظام ديمقراطي من دون تقرير ما لهذه الحرية، وجعلها في مأمن من كل اعتداء أو تقييد من جانب السلطة الحاكمة، بحيث يمكن القول إنه لا حرية من دون ديمقراطية ولا ديمقراطية من دون حرية الرأي والتعبير. إذا كانت الديمقراطية تعني الحرية، فإنها تعني بذلك مشاركة الشعب في ممارسة السلطة بمختلف الوسائل السلمية المشروعة (الانتخابات، التظاهرات السلمية، التجمعات، الاعتصامات الإضرابات…) من أجل تحقيق تلك الحرية‏[18] وما المطالبة والمناداة بسيادة الشعب وضرورة الحد من السلطان المطلق للحاكم، لم يكن ذلك كله إلا بقصد ممارسة حرية الرأي والتعبير وتقريرها وتنظيم الضمانات الكفيلة بتمتع الأفراد بها. أي أن الدعوة إلى الديمقراطية وسيادة الشعب، كانت على مر التاريخ مقترنة بالدعوة إلى تقرير حق حرية الرأي والتعبير للفرد‏[19].

ثانياً: حرية الرأي والتعبير والوعي الديمقراطي

إنّ حرية الرأي والتعبير، وما تؤديه من دور في حركيات التحول الديمقراطي بصرف النظر عن المدى الزمني الذي يستغرقه هذا التحول، فإنها تسعى إلى تعميق الوعي الديمقراطي لدى النخبة والجماهير؛ الوعي الذي يرسّخ لدى الطرفين التسليم بضرورة الديمقراطية كأسلوب للممارسة السياسية، وكفاية لها والتسليم بها كخيار أولي ونهائي، مهما استبدت بالمجتمع السياسي منغصات عدم الاستقرار، ووعي مثل هذا، ينبني في الحقيقة على فهم مقومات الوعي الديمقراطي الأربعة، واستيعابها:

– المقوِّم الأول: وعي المبدأ الديمقراطي الذي ينبغي أن تتفق النخبة والجماهير على مضمونه العام وإطاره المرجعي، والثابت والمتغير فيه وآلية تجديده وتطويره، وفق ضوابط تكفل التوازن بين الطرفين في صياغة هذا المبدأ.

– المقوِّم الثاني: وعي الموقف الديمقراطي الذي يستدعي أن تتحول الديمقراطية إليه، من طور المبدأ إلى طور العمل، ومن طور الفكرة إلى طور الحركة، بما في ذلك من الإحاطة بعناصر الموقف ومداه ومستوياته وطبيعة المشاركين فيه، وأنماط تفاعلاتهم وعلاقاتهم وأهدافهم ومصالحهم.

– المقوِّم الثالث: وعي الانفتاح الديمقراطي الذي يأبى أن تنغلق النخبة والجماهير على نموذجها الديمقراطي – أياً كان محتواه – والاكتفاء به من دون أن تستفيد من الآخر في نماذجه أو تنفتح على تجاربه، لتعرف أين يقف نموذجها من هذه النماذج في سياقاتها الزمنية والمكانية والحضارية، وما هي أوجه النقص فيه، وما هي أوجه التمايز، وكيف يمكن أن تضبط العلاقة بين إرادتها في انفتاح على الآخر، وبين رغبتها في مبدأ ديمقراطي يحفظ لها ذاتها وخصوصياتها الحضارية.

– المقوِّم الأخير: وعي التأزم الديمقراطي الذي قد يطرأ لأسباب متعلقة بالنخبة أو لأخرى متعلقة بالجماهير، أو لثالثة مرتبطة بهما معاً، وقد يتدرج من مجرد الخلاف في المبدأ الديمقراطي وحوله إلى أن يصل إلى حد القطيعة بين الطرفين، وما يتبعهما من معوقات وصدمات ومواجهات (كما حدث في الجزائر بعد وقف المسار الانتخابي)، إن لم تجد من يديرها ويسوّيها لمصلحة الديمقراطية.

إن نشر ثقافة حرية الرأي والتعبير وتعزيزها من طريق مشاركة سياسية فاعلة، وتعزيز الالتزام الشعبي النخبوي بالديمقراطية وتحديد البنية السياسية والسلوك السياسي للجميع، بما يعظم في النهاية المشترك العام في ما بين مختلف قوى ذلك المجتمع ويدعم التماسك الديمقراطي، ويرسخ الاعتدال والتخطيط للحركة السياسية مع هذا التماسك. إذا كان الحديث السابق عن الوعي الديمقراطي بمقوماته يعبر عن ضرورة حيوية، فإنه لا ديمقراطية من دون كفالة ممارسة حرية الرأي والتعبير وضمانها، والتي تعمق هذا المبدأ وتضبط انفتاحه وتحوله‏[20].

يمكن القول إن نشر هذه الثقافة (ثقافة التمتع بحرية الرأي والتعبير) بكل ما فيها من تحديات، هو أحد مصادر تحصين الوعي الديمقراطي من محاولات العدوان عليه من طرف النخب الحاكمة خصوصاً، لكن ينبغي أن نفهم جيداً أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة به، ولكنها الثقافة القابلة للتغيير والتطوير والتحول وليست الثقافة الحتمية التي تأبى ذلك؛ الثقافة التي تحرص على إيجاد قنوات اتصال وتعبير واضحة ومستمرة تكفل التفاعل بين النخب الحاكمة، وبين الجماهير المحكومة في الاتجاهين معاً، وإيجاد مسالك مناسبة لها، والاستجابة السلمية لعمليات التحول من موقف سياسي إلى آخر، ومن ممارسة إلى أخرى، بعيداً من العنف أو المفاجئة أو الطفرية في الحركة‏[21].

ثالثاً: حرية الرأي التعبير والربيع العربي: قراءة في الخبرة المصرية

عرفت المنطقة العربية عدداً من حركيات التحول الديمقراطي، ظهرت في غضون عقود سابقة وهي اللحظة القصيرة التي ارتفعت فيها الآمال بإمكان تحقيق تحول ديمقراطي، في ظل وجود حراك سياسي داخلي ومتغيرات خارجية، صبَّت جميعاً في اتجاه دمقرطة المجتمعات العربية، حيث ظهر عدد من الحركات السياسية التي رفعت شعار التغيير السياسي، تباينت بياناتها الأساسية واستراتيجيات تحركها، في واقع سياسي مضطرب، ولكنها جميعاً اشتركت في الحاجة إلى الديمقراطية، وتجمعت لديها أسباب مشتركة للصعود النسبي وأسباب مشتركة كذلك لحالة الخفوت التي بدأت تمر فيها حتى الوقت الراهن.

إنّ قراءة في تأثير حرية التعبير تحتاج إلى فحص الخبرة القصيرة لحركات التغيير الديمقراطي المصرية، وما حملته من مظاهر للتعبير عن الاحتجاج السياسي وتحليل وقراءة معمقة، تستقرئ حالة الصعود والهبوط في مسيرة هذه الحركات.

من هذا المنطلق، اقترب هذا العنصر من واقع الحراك الديمقراطي في مصر، بهدف طرح إشكالاته البنيوية ومحتوى خطاباته، ونقد أساليبه في التنظيم والتعبير، ولم يكن الغرض هو إعادة النظر في ثنائيات معتادة، وأشهرها: هل الإصلاح من الداخل أم من الخارج؟ هل العامل الداخلي له الثقل ذاته في إحداث التحول الديمقراطي مقارنة بالعامل الخارجي أيضاً؟ لم يكن الغرض إعادة إنتاج الخطابات الهجائية للنظام المصري، وإنما كان الهدف التركيز على طبيعة العلاقة بين حرية الرأي والتعبير وعملية التحول الديمقراطي متجاوزين في ذلك الخطابات العامة والشائعة في المحيط العربي، إلى قضايا أكثر تركيزاً على أزمة البناء السياسي والتعبير الخطابي والتعبئة الجماهيرية‏[22].

لقد مرت مصر بمرحلة مهمة في تطورها وهي مرحلة التحول الديمقراطي؛ وكان لحرية الرأي والتعبير دور بارز فيها، من خلال التظاهر والاحتجاج ووسائل الإعلام المختلفة، وغيرها من صور التعبير المباشر والجماعي عن الرأي.

وفي ما يلي رصد وتحليل لأهم وسائل التعبير عن الرأي وصورها، ودورها في الحراك الديمقراطي الذي شهدته مصر منذ ثورة 25 كانون الثاني/يناير عام 2011.

1 – الحركات الاحتجاجية: آلية التغيير من خلال الشارع

جاء التغيير في مصر، من الباب الذي لم يتوقعه الجميع: باب الشارع، ممثلاً بثورة شعبية، نقلت المطلب الديمقراطي المصري خطوات إلى الأمام، وسجلت جملة سوابق في التاريخ السياسي المصري، أهمها – على الإطلاق – إسقاط نظام حكم عمّر لأكثر من ثلاثة عقود، وتغييره.

لتحليل دور الحركات الاحتجاجية في الحراك الديمقراطي المصري، لا بد في البداية من التمييز بين نمطين من الحركات الاحتجاجية: احتجاجات سياسية وأخرى اجتماعية؛ فالسياسية بدأت مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وانتقلت إلى قضايا الداخل مع تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية» عام 2004، التي كان لها الأثر الواضح في نشر ثقافة الاحتجاج‏[23]، لأنها كانت التجربة الميدانية الأولى التي أتاحت للشباب المصري النزول إلى الشارع واكتساب خبرة التظاهر السلمي والتصادم مع أجهزة الأمن دفاعاً عن مطالب التغيير الديمقراطي، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام ممارسة ثقافة الاحتجاج السلمي لكل فئات المجتمع المصري، ورفع سقف المطالب السياسية والاجتماعية، مما شكل تدريباً ميدانياً خلال خمس سنوات‏[24].

لم يكن مفاجئاً أن تشهد مصر ما يمكن أن نسميه الجيل الثاني من الاحتجاجات التي كانت هذه المرة اجتماعية وفئوية، للتعبير عن المطالب الحياتية الملحة والمباشرة، تلك الاحتجاجات التي تصاعدت حدتها بقوة لتتحول في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير من العام 2011 من كونها مجرد لحظة احتجاجية أخرى تضاف إلى قائمة طويلة من الحركات الاحتجاجية‏[25]، إلى فعل حقيقي يلامس معنى الثورة، حيث أثار مقتل الشاب خالد سعيد على يد الشرطة المصرية موجة غضب شعبية عارمة شاركت فيها إلى جانب الفئات المحرومة والطبقة الوسطى قوى وحركات ذات مطالب سياسية: كحركة «كفاية» والجمعية الوطنية للتغيير وشباب «6 أبريل» وغيرهم من النشطاء، ممن خرجوا إلى الشوارع في القاهرة، وبقية المدن المصرية لإجبار مبارك على ترك السلطة، وعلى الرغم من القمع العنيف للمتظاهرين، الذي قامت به أجهزة الأمن، استمرت الاحتجاجات والتظاهرات، ولا سيَّما في ميدان التحرير وسط القاهرة، وبعد 18 يوماً تنحى مبارك عن الحكم‏[26].

2 – دور الإعلام الجديد

مع بدء التحولات التي اجتاحت الوطن العربي نهاية عام 2010 في ما بات يعرف بالربيع العربي، والذي لا تزال تفاعلاته مستمرة حتى الآن، كان لشبكات التواصل الاجتماعي دور مهم في الأحداث، فأي دور لهذه الشبكات الاجتماعية؟

منذ 2005 ومع ظهور حركة كفاية حول الشباب المصري المجال الافتراضي إلى مجتمع موازٍ يهتم بالشأن العام، ويناقش قضاياه بمنتهى الحرية، وهي الحوارات التي شارك فيها ملايين الشباب، كما يشير الجدول الرقم (1).

الجدول الرقم (1)

عدد مشتركي الإنترنت في مصر سنة 2005

المجالأعداد المشاركين
عدد مستخدمي الإنترنت5.14 مليون مستخدم
عدد المدوّنات (2008)160.000 مدوّنة
نسبة المدوّنات السياسية18.9 بالمئة
نسبة الشباب 20/30 سنة بين المدوِّنين53.1 بالمئة
عدد مستخدمي الفيسبوك2.4 مليون
نسبة الشباب (19/30) سنة من مستخدمي الفيسبوك64.8 بالمئة

 

المصدر: عماد صيام، «25 يناير الثورة السلمية لشباب الطبقة الوسطى وتحديات المستقبل،» في: الربيع العربي: ثورات الخلاص من الاستبداد: دراسة حالات (بيروت: الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية، 2013)، ص 70.

وفي عام 2009 أشار تقرير للشبكة العربية لحقوق الإنسان أن مصر هي البلد العربي الأكبر من حيث عدد مستخدمي الإنترنت بحوالى 16 مليون مستخدم، ليصل العدد سنة 2014 إلى 42.16 مليون مستخدم والجدول الرقم (2) يوضح ذلك.

الجدول الرقم (2)

يبن تطوّر عدد مستخدمي الإنترنت في مصر من 2005 إلى 2014

(بالمليون)

السنة
2005200620072008200920102011201220132014
مستخدمي الإنترنت05.140.608.6210.2816.8823.022932.638.7542.16

 

المصدر: «نشرة مؤشرات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات،» وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية (آذار/مارس 2014).

نلاحظ من خلال الجدول، تعاظم معدلات استخدام الإنترنت في مصر، حيث أصبحت ساحة لممارسة نوع جديد من التعبير الذاتي وغير الموجه عن الرأي، إذ لا تقود هذه العملية جهة أو مؤسسة رسمية أو غير رسمية.

ويُعد موقع الفيسبوك من أشهر وسائل التفاعل الالكتروني وأكثرها تأثيرا في مصر؛ فعلى الرغم من أن تأثيره كان محدوداً للغاية داخل المجتمع المصري خلال مرحلة بدء انتشار ظاهرة الفيسبوك عالمياً منذ 2006 تقريباً، إلا أنها بدأت تظهر بشدة مع حال الحراك السياسي التي وجدت في الشارع المصري بعد تفجّر التظاهرات والاعتصام والاحتجاجات بين عدد كبير من القطاعات الفئوية الموجودة في نسيج المجتمع، إذ شكل الموقع الافتراضي مخرجاً تقنياً لعدد من الإشكالات السياسية والاجتماعية التي ساعدت على ترسيخ مبدأ اللامبالاة بالشأن السياسي في مصر، مثل مشكلة الرقابة على وسائل الإعلام، وضيق مساحة حرية التعبير، وصعوبة الحصول على المعلومة وتداولها.

تالياً، إن ظاهرة الفيسبوك في مصر لم تكن أبداً ارتجالات طائشة لشباب تتراوح أعمارهم بين (15 – 30 سنة)، كما اعتقد الكثيرون في البداية، بل عبَّرت عن نمط جديد للمشاركة في الحياة السياسية، وكسرت حواجز حرية الرأي والتعبير وقيودها، لتنطلق في فضاء افتراضي حر، معبرة عن حالة من النفاذية الفكرية بين الآراء والمعتقدات، المنفكة من أسر كل المؤسسات السياسية والأمنية والإدارية والدينية المألوفة التي تتحكم بحياة المواطن المصري‏[27].

ففي مصر، ومثل باقي البلدان العربية التي شهدت الاحتجاجات الشعبية، تضاعف عدد مستخدمي الفيسبوك ما بين عام 2010 ومطلع عام 2012 بحسب ما نعرضه في الجدول الرقم (3). (وهذه الزيادة تفسر أهمية هذا الوسيط التواصلي في تحريك الثورة المصرية)‏[28].

إذا ما تابعنا قراءة الجدول الرقم (3)، سنلاحظ الزيادة المتصاعدة لمستخدمي الفيسبوك في البلدان العربية كافة، وخصوصاً تلك التي شهدت حراكاً شعبياً، مما يعبِّر عن اهتمام المستخدمين بهذا الوسيط الإعلامي الذي أمّن خدمات تواصلية وتفاعلية، لم تكن متاحة لدى وسائل الإعلام التقليدي.

الجدول الرقم (3)

تصاعد عدد مستخدمي الفيسبوك في البلدان العربية بحسب تسلسل السنوات

الدولة201020112012عدد مستخدمي الفيسبوك من عدد السكان (بالمئة)
مصر4.313.1806.586.2609.544.40011.86
السعودية2.962.0004.092.6004.918.62019.11
المغرب2.283.7803.203.4404.175.56013.11
الجزائر1.134.5671.947.9003.177.08009.19
تونس1.707.8002.356.5202.925.84027.63
الإمارات2.039.5802.406.1202.832.20056.92
الأردن1.083.0201.402.4402.057.50032.11
لبنان944.0601.093.4201.430.14034.57
العراق355.000723.7401.377.26004.64
الكويت601.360795.100886.28031.74
فلسطين437.860595.120850.18033.81
قطر492.980481.280433.26051.52
ليبيا240.080310.563428.04006.62
عمان206.920277.840398.74013.41
اليمن158.280340.800396.62001.69
البحرين265.020302.940332.18045.07
المجموع19.170.48726.916.08336.163.900

 

المصدر: نديم منصوري، «دور الإعلام التواصلي الجديد في تحريك الثورات العربية،» الأخبار (بيروت)، 28/3/2012، ص 4 – 5، <https://www.al-akhbar.com/sites/default/files/pdfs/20120328>.

بالعودة إلى ما حدث في مصر، يمكن ملاحظة الدور الذي أدّته شبكات التواصل الاجتماعي في التعبئة والتنظيم لحركة الشارع، من خلال تقديم المعلومات، وإلقاء الضوء على قضايا الفساد، ففي تصريح لأحد المتظاهرين في القاهرة قال: «نحن نستخدم الفيسبوك لتنظيم التظاهرات وتحديد مواعيدها، ونستخدم تويتر للتنسيق، ونستخدم اليوتيوب لإطلاع العالم على ما يحدث»‏[29]. هذه العبارة تلخص استخدامات شبكات التواصل الاجتماعي في الثورة المصرية، لقد جعلت من عملية التجمهر وتنظيم التظاهرات والاحتجاجات أمراً سهـلاً، في مقابل أنها صعَّبت مهمة النظام المصري في التحكم بالشعب، حيث فشلت كل محاولات الحجب أو المنع أو حتى القطع في إخماد شرارة الثورة.

وترصد بعض الدراسات المتخصصة ست مساحات أساسية للدور الذي أدّاه الفيسبوك في الثورة المصرية، وذلك على النحو التالي‏[30]:

– الأولى: ساهم في خروج عدد كبير من الشباب المصري من ظاهرة «الشيخوخة السياسية المبكرة» التي فرضت عليهم خلال السنوات الماضية، من جانب كل هياكل ومؤسسات وأجهزة المجتمع الرسمية وغير الرسمية، حيث أتاح لهم فرصة التحرك والعمل بعيداً من أنظار الرقابة والسيطرة والقمع التي مارستها الأجهزة التنفيذية للدولة ومؤسساتها الأمنية.

– الثانية: تتعلق بالدور الذي أدّاه هذا الموقع الافتراضي في نشر ثقافة الديمقراطية وتعزيزها، وتوعية الشباب على الحقوق والحريات الأساسية للمواطن.

– الثالثة: تأكيد مستخدمي شبكة الفيسبوك في مصر على مشروعية حق المواطن في التعبير عن احتجاجه لمنع حقوقه، بالوسائل الجماعية ومنها الإضراب والاعتصام والاحتجاج والتظاهر السلمي، وحتى العصيان المدني.

– الرابعة: تحقيق قدر كبير من التواصل والتشبيك بين عدد من المجموعات الشبابية والأكاديميين والحقوقيين والسياسيين والصحفيين والمهتمين بقضايا الإصلاح والتغيير السياسي في مصر.

– الخامسة: دور موقع الفيسبوك في انتشار ما يُعرف بصحافة المواطن.

– السادسة: تدشين جيل جديد وغير مألوف من منظمات المجتمع المدني في الواقع المصري، وهو جيل المجتمع المدني الافتراضي.

ويظل الدور الأبرز لموقع الفيسبوك والإنترنت بعامة في مصر، مرتبطاً بأحداث ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، إذ بدأت الدعوة للثورة بصورة أساسية، عبر موقع الفيسبوك؛ فشبكات التواصل الاجتماعي عموماً، لم تعد فقط مجرد أداة للتواصل الاجتماعي كما يوحي اسمها، وإنما أداة قوية في يد الشعوب الباحثة عن الحرية والإصلاح والتغيير أيضاً. قد يكون صحيحاً أن شبكات التواصل الاجتماعي ليست السبب في قيام الثورة المصرية، لكنها جعلتها ممكنة وعجلت بها، كما أنها منحت المتظاهرين القدرة على النمو والتزايد، وأكسبتهم مزيداً من التأييد والتعاطف داخلياً وخارجياً، بما لم يكن له أن يحدث من دونها‏[31].

3 – دور الإعلام التقليدي

أ – الصحافة المكتوبة

إنّ الكثير من التحليلات، أثنت على الدور الكبير الذي أدّته الشبكات الاجتماعية الرقمية في دائرة الحركات الاحتجاجية التي أدت إلى رحيل حسني مبارك يوم 11 شباط/فبراير عام 2011، ويتجاهل بعضهم الدور الحاسم والمهم لوسائل الإعلام التقليدية في نقل هذه الأحداث.

بعد تضاعف الحركة الاحتجاجية في الشارع، بدأت حرب إعلامية على عدة جبهات، وانتشرت هذه الحرب عبر الأعمدة الصحفية(*)، ومن المثير للاهتمام في هذا الصدد، مقارنة عناوين الصحف القومية، بعناوين الصحف «المستقلة»، لتبيان الفجوة القائمة داخل «الميدان» الصحفي، التي برزت بخاصة في أحداث كانون الثاني/يناير، وشباط/فبراير عام 2011‏[32].

في بداية الحركة، بذلت الصحافة القومية قصارى جهدها لتجاهل ما يحدث في شوارع مصر، فلم تتحدث في الأيام الثلاثة الأولى، إلا عن الأحداث الخارجية، وخطاب مبارك بشأن السياسة الاجتماعية.

أما عند ذكر الأحداث في مصر، فكانت تؤكد أن «المتظاهرين يعرقلون حركة المرور» (الجمهورية 26 يناير)، أو تدق جرس الإنذار من الإخوان المسلمين، وكانت هذه استراتيجية النظام الحاكم، من أجل قمع الثورة، في حين استمرت الصحافة «المستقلة»، في تغطية أحداث «الثورة» خلال ثمانية عشر يوماً من الاحتجاجات‏[33]، لكن بعد رحيل مبارك، وفي لحظة نادرة، اتفقت مختلف مكونات الصحافة المصرية، على وجهة نظر واحدة، واحتفلت بهذا التغيير.

ب – المحطات الفضائية

إضافة إلى الشبكة الإلكترونية، ساهمت المحطات الفضائية في فتح المجال السياسي قسراً في البلدان العربية، وأشارت أبحاث كثيرة إلى التحولات التي أحدثها الإعلام الفضائي الإخباري بالأساس في الوعي السياسي، وتعميق الخطاب الديمقراطي.

غير أن المتتبع وسائل الإعلام التقليدي قبل ثورة 25 يناير في مصر، يلحظ الواقع الهامشي الذي يشغله الجمهور في التلقي، باعتباره مستهلكاً لا مشاركاً أو محاوراً، حيث أفرغ الإعلام من محتواه الاجتماعي التواصلي، ليصير مجرد أداة دعائية إقناعية ذات اتجاه أحادي يخدم النظام القائم، الذي يتحكم بصورة مطلقة في صياغة السياسات الإعلامية والاتصالية، بما يحقق أهدافه الأساسية‏[34].

تحولت بذلك وسائل الإعلام المصرية الحكومية في مرحلة من المراحل إلى قنوات دعاية مباشرة للحكومة المصرية، بل إنها في الأيام الثلاثة الأولى من الثورة اختصرت نفسها في مجرد «مرفق» لتلقّي نداءات استغاثة من المشاهدين «المروَّعين بالفوضى»، مما أتى بنتائج عكسية، وساهم في إشاعة المزيد من الذعر بينهم.

اتبع الإعلام الحكومي الرسمي ثلاث معادلات في تعامله مع الثورة، وهي التعتيم والترويع والترقيع، وتأتي المراوغة انطلاقاً من أجندة سياسية قائمة على نظرية العمى، أما المعادلة الثانية، فهي معادلة الترويع، وهي قائمة على ترويع الجمهور من المساجين الهاربين وتصوير الأمر على أن المتظاهرين في ميدان التحرير هم المسؤولون عن غياب الأمن، حيث كانت تقدم رسالة أمنية خالصة، من بعد جمعة الرحيل، بدأ التلفزيون يحاول التوازن بين عرض ما يحدث في الشارع، وفي الوقت نفسه، الاستمرار في محاولة إقناع المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم، وأتاح التلفزيون خلال هذه المرحلة الفرصة لعدد من الشباب للحديث عن رأيه في الأحداث، إلى جانب عدد آخر من المحللين السياسيين لتفيد آراء الشباب، وأطلق عليها أسم مرحلة «الترقيع».

اتّسم الإعلام الرسمي للدولة «بالضعف» لعدم وجود مساحة للرأي والرأي الآخر، وقال إنها مشكلة الإعلام الحكومي الرسمي منذ وقت بعيد وليست وليدة أحداث ثورة التحرير، وذلك يرجع إلى طبيعية ملكية هذه القنوات لرجال أعمال مقرَّبين من النظام، وتالياً تبقى الرسالة الإعلامية تحت الخطوط والقيود.

أما الإعلام الخاص، فقد سمحت ظروف الهامش الديمقراطي والحريات النسبية المتاحة في مصر بتحفيز الفضائيات الخاصة، وتوظيف أدوات ما صار يعرف بالإعلام الجديد في التمرد على ثوابت الإعلام الرسمي، وتحرير قطاعات واسعة من الجمهور من سطوته. ومن غير المبالغة في هذا السياق القول، إن التضافر والتلاقح الفريد الذي نشأ بين وسائط الإعلام التقليدية الأكثر حرية، وبين تقنيات الإعلام الأحدث التي عجز النظام الإعلامي الرسمي المصري عن احتوائها، قد أدّيا الدور الأهم في تهيئة أجيال الثورة وبلورة توجهاتها السياسية والمجتمعية. هنا، يمكننا التأكيد أنه إذا كان القهر السياسي والاجتماعي لأنظمة الاستبداد والاستغلال هو المفجّر لثورات الشعوب، فإن الإعلام الحر والمستقل هو الذي هيأها، وعجّل في إنجازها‏[35].

يستطيع المدقق في جدلية الثورة والإعلام أن يلحظ ذلك الارتباط المتبادل بين مقومات الثورة وحالة الإعلام في شروط مكانية وزمانية محددة؛ فالثورات كتجسيد مباشر لإرادة الشعوب لا يمكن تصورها في غياب نظام اتصالي ومعرفي قادر على حشد قوى الثورة، وتنظيمها في اتجاه الهدف، وفي الظروف التي تهيمن فيها الأنظمة الحاكمة على الآلة الإعلامية لا يجد الثوار بُداً من السعي إلى إحداث ثغرات في النظام الإعلامي القائم، واحتلال مساحات مؤثرة فيه، أو العمل على إنتاج بدائل اتصالية ومعرفية جديدة، لتجسيد رؤى الثورة ومتطلباتها. وتؤكد شواهد الثورة أن قوى التغيير في الواقع المصري مضت ولا تزال، في هذين الدربين معاً، وهو الأمر الذي يفسر المكانة البارزة التي تحتلها شعارات حرية الصحافة والإعلام ضمن مطالب الحراك الثوري، وحرص القوى والحركات السياسية على استثمار معطيات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال.

وإجمالاً، يمكن القول إن وسائل الإعلام التقليدي أدّت دوراً بارزاً في تغطية أحداث الثورة المصرية، وكان لها الحضور الإعلامي البارز والمؤثر في نجاحها، من خلال‏[36]:

– استكمال التعبئة الحاصلة على شبكة الإنترنت من خلال عرض الأحداث اليومية للثورة.

– المساعدة على اكتساب تعاطف بالغ مع المحتجين، من خلال عرض تصريحاتهم ومرافقة ذلك بعرض آراء محللين سياسيين وناشطين حقوقيين أكدوا أحقية الحراك الديمقراطي، وشرعية مطالبه، ووجوب استمراره ليحقق أهدافه.

– نقل مظاهر الثورة وسلوكياتها ومفرداتها وأساليبها بين البلدان العربية، حيث إن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بات شعاراً موحداً، لا نعرف للوهلة الأولى أين يُهتف.

صحيح أن الإعلام وحده لا يصنع التغيير، وأن التغيير هو نتاج إرادة عامة، يحركها دافع الناس الطبيعي نحو هذا التغيير، والإعلام إنما هو أداة من مجموعة أدوات. يقول ميشيل فوكو: «إن الثورة الإيرانية انتشرت بشريط الكاسيت»، ولم يقل إن شريط الكاسيت – الذي كان في حينه إعلاماً بديـلاً – هو الذي صنع الثورة! فالإرادة الشعبية من دون وسائل الإعلام الجديد لا تساوي شيئاً، كما أن الإعلام الجديد قام بدور ملموس في حشد المتظاهرين وتوجيههم، لكنه لم يكن مفصلياً في تسيير الأحداث في مصر؛ فالاحتجاجات استمرت بشكل كبير بعد قطع الإنترنت، لذا يجب تأكيد أن الثورة المصرية نتاج عوامل تفاعلت لتنتج لنا تغييراً بأسلوب لم يعهده وطننا العربي من قبل.

وأخيراً، وفي مقولة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ادّعى فيها أن السلطة لا تمارس قمعها إلا على الأحرار! قد يبدو هذا التصور متناقضاً لأول وهلة؛ فالمفترض أن يجردَ القمعُ من يُمارَس عليه من حريته التي لا يستردها إلا إذا رفع القمع عنه، ولكن فوكو رأى أنه في اللحظة التي يتم فيها تجريد إنسان من حريته؛ لا يصبح ثمة ضرورة لأن تمارس السلطة قمعها ضده.

يصلح هذا المفهوم لأن يكون خاتمة دراستنا لحالة حرية الرأي والتعبير في مصر، حيث الصورة توحي للوهلة الأولي بأن ما قد بدأ في عام 2011 من حراك شعبي، رفع شعار الحرية كأحد أهدافه الأساسية، قد فقدَ زخمه مع الوقت، حيث استعادت السلطة زمام المبادرة وباشرت هجوماً مضاداً لا يهدف إلى إعادة خطوط المواجهة إلى ما كانت عليه عشية اندلاع الثورات المصرية فحسب، وإنما يطمح إلى خلق واقع جديد يستدرك ما تراه هذه السلطة كثغرات سمحت بتهديد هيمنتها واستقرارها. في هذا الواقع، يضيق هامش الحرية حتى يكاد يختفي، ويقطع الطريق على كل ممارسات حرية التعبير التي أدّت دوراً بارزاً في إذكاء روح الثورة في قطاعات واسعة من الشعب المصري.

خاتمة

ختاماً، وكما سبقت الإشارة، فإن القيمة الحقيقية لحرية الرأي والتعبير تمثلت في أنها تساعد على ظهور قوى سياسية واجتماعية تتمتع باستقلالية، وتعيش في إطار مجتمع له مناعته السياسية والقانونية تجاه سلطة الدولة، لتنتج لنا في نهاية المطاف مجموعة قيم ومفاهيم، تشكل جوهر الفكرة الديمقراطية ومحورها؛ كسيادة الشعب، والمشاركة السياسية، والإرادة العامة، والانتخابات الحرة والنزيهة.

وعلينا هنا أن نأخذ بعين الاعتبار، أن هذه الحقيقة لم تنشأ وتترعرع في وسط مفرغ، إنما تفاعلت مع عناصر البيئة الاجتماعية، وعلى امتداد مراحل تاريخية طويلة، لتأتي بنموذج مطور للفكرة الديمقراطية التي هي أولاً، وقبل كل شيء، منظومة من القيم والأفكار المتعلقة أصـلاً بالسلطة والمواطن والعلاقة بينهما، مثل الحق في التعبير والقدرة على المشاركة السياسية والحق في التصويت والترشح والتجمع…ما يعطي للفكرة الديمقراطية مضمونها الحقيقي وأبعادها الفعلية.