سأحاول أن يكون حديثنا اليوم خارج الصندوق. هناك نمطية ميّزت الحياة السياسية الفلسطينية بعد هزيمة 1948. ونمطية أخرى لازمت حقبة المقاومة الفلسطينية، ونمطية ثالثة جاءت بعد اتفاقية أوسلو، وهي لا تزال قائمة بمفرداتها وأساليبها وتوجهاتها. هذا التغيُّر في الواقع السياسي الفلسطيني لم يرافقه تغيُّر مماثل في التفكير الاستراتيجي الصهيوني أو الأمريكي. هناك مثابرة حقيقية صامتة ممنهجة طوال الوقت وكانت تستغل التشتت العربي والفلسطيني وغياب التركيز على ما هو أهم على حساب ما هو مهم في حياتنا. ومن أكبر المشكلات التي تواجهنا هي الفردية والانفراد والتفرد في عملية إدارة الشؤون السياسية للشعب الفلسطيني. البارحة سمعنا كلاماً من قائد فلسطيني يُفترض أن يكون مسؤولاً عن كلامه، إذ تفوّه بكلام مؤسف. يقول هَزَمنا صفقة القرن وقضينا عليها. كيف هذا؟ صفقة القرن حصلت وهي لا تنتظرنا. فقد أُعلن العنوان من دون المحتوى ثم تم القفز على عملية تنفيذ المحتوى، لأن الإعلان عن خطة تتطلب موافقة من حكومات عربية هي موافقة أصـلاً، كان سيسبب ارتباكاً وإحراجاً وربما ثورة في الشارع العربي. فالتعامل العربي بوجه عام مع صفقة القرن كان بمفهوم الفزعة، بمعنى حصول تطور معين مفاجئ يستدعي القيام بفزعة إما ضده أو معه. مفهوم الفزعة هذا رافق الفهم العربي لما طرح تحت شعار صفقة القرن وما نتج أو سينتج منها متجاهلين أن العملية هي تصفية للقضية الفلسطينية منذ عام 1948 تحت عناوين مختلفة. منطق الفزعة انطلق بصورة عجيبة وكأن صفقة القرن أمر طارئ جديد. العنوان فقط هو الجديد، لكن المحتوى قديم منذ 1948، ولكن طرحه تحت عنوان صفقة القرن كان مؤشراً على أنها محاولة لتكون الصفقة الكاملة والنهائية التي لا تستدعي بعدها صفقات أخرى، أي عملياً العمل على إغلاق الملف الفلسطيني والقضية الفلسطينية. هذا الأمر ليس جديداً أو طارئاً، هو عبارة عن مجموعة خطوات تنسجم بصورة طبيعية جداً مع المسار الاستعماري للعدو الصهيوني، والدعم اللامحدود الذي توفره أمريكا لإسرائيل.

ما مثّل منعطفاً جديداً في الموضوع هو طريقة تعامل الأنظمة العربية مع هذه الصفقة، كونها تمثّل المدخل العلني والرسمي للتطبيع بين عدد من الأنظمة العربية وإسرائيل، والأخطر من هذا كله أنه يعكس نمطاً جديداً من التطبيع وهو التطبيع الأيديولوجي العقائدي الذي لا يعكس قبولاً واعترافاً رسمياً وعربياً بإسرائيل فقط، بل يعكس أيضاً اعترافاً وقبولاً بنظريتها وأيديولوجيتها وبمقولة أن فلسطين هي لليهود، والنتيجة القبول بالنظرية العنصرية في حق اليهود في استعمار فلسطين كونها أرضاً يهودية في الأساس كما يزعمون. هذا التطبيع العقائدي، الذي لم يكن يجرؤ أحد على التحدث فيه، بدأنا نتلّمس ملامحه وبخاصة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، حيث بات ينتشر الكلام على أن هذه أرض اليهود وأن الفلسطينيين شعب طارئ وجديد عليها. الكثير ممن يتكلمون على هذا النحو هم من بلدان الخليج. وهذا النوع من التطبيع العقائدي هو أخطر أنواع التطبيع، لأنه يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ المنطقة وإلى موافقة عربية رسمية على العقيدة الصهيونية وما يرافقها من روايات صهيونية مبنية على خرافات تطالب بأن يتم القبول بها واحترامها على حساب الحقوق الواقعية والتاريخية للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين. المطلوب استبدال كل هذه الحقائق بخرافات تاريخية يهودية مبنية لأسباب سياسية.

في هذا السياق، يجب التشديد على عدم إساءة فهم أن شرعية الحقوق العربية الفلسطينية ترتبط بالوجود التاريخي للعرب على أرض وطنهم فلسطين، وتستند إلى الحقائق التاريخية والموضوعية والثقافية المرتبطة بذلك الوجود، ولا تعتمد في أحقيتها على الموافقة والدعم العربي حصراً. فشرعية هذه القضية مستمدة من القضية نفسها ومن الواقع الفلسطيني نفسه لا من التأييد العربي بأوجهه المختلفة. حقيقة ذلك الوجود التاريخي والمادي والواقعي تعطي الفلسطينيين، تماماً كأي شعب آخر على وجه الأرض، حقوقه الوطنية والسيادية على وطنه. وعلاقة العرب بالقضية الفلسطينية تعكس تلك الحقوق من زاوية ترابطها مع العقيدة القومية لها. هنا المسار واضح، ووحدة المصير والمصلحة العربية المشتركة من جهة أخرى، كلها تهدد المطامع الاستعمارية التوسعية للعقيدة الصهيونية؛ فالدعم العربي لقضية فلسطين مهم ومطلوب لكن هو لا يعَدّ الأساس لشرعية القضية الفلسطينية المستمدة من داخل فلسطين.

هذا الكلام هو من أجل تبيان أن الرفض الفلسطيني الحقيقي والعلني المطلق هو حجر الأساس لقتل صفقة القرن ومسارها وأحداثها، وإذا كان هناك من تعارض بين الموقف العربي الرسمي والموقف الفلسطيني الرافض، ففي حال قبول الموقف العربي بتبعات صفقة القرن، فإن الموقف الفلسطيني يبقى الأساس والأهم والمقياس للقبول أو الرفض، لا الضغوط العربية الموافقة على صفقة القرن. من هنا ننطلق في محاولة جادة لاستيعاب حقيقة ما يجري الآن تحت ستار صفقة القرن وما يتبعها.

سوف أتكلم هنا على عدة محاور وعناوين بهدف فتح باب الحوار والنقاش. وهي: الأهداف؛ الوسائل؛ التأثيرات في الداخل الفلسطيني والتأثيرات الإقليمية؛ خطة العمل موجزة.

1 – الهدف الحقيقي والوحيد لصفقة القرن هو إغلاق القضية الفلسطينية، والأمر يتطلب تفكيك الثوابت التي تؤلف في مجموعها القضية الفلسطينية: الاعتراف بيهودية القدس كعاصمة للكيان الإسرائيلي وجعل القدس خارج نطاق أي مفاوضات إذا ما كانت هناك مفاوضات؛ وإلغاء قضية اللاجئين ووكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين كتجسيد دولي، وقد أعلنت أمريكا أن اللاجئ الفلسطيني هو الجيل الأول فقط وأن أولاده وأحفاده والأجيال التالية ليسوا لاجئين، وبالتالي يجب إغلاق الملف وإلغاء وكالة الغوث؛ هذا الإلغاء يفتح الباب للنقطة الثالثة هنا وهي إلغاء حق العودة؛ والهدف الرابع هو إلغاء صفة الاحتلال عن الأرض الفلسطينية وبالتالي مطلب إلغاء الاحتلال أصـلاً، أي أن الأرض كونها لم تعد محتلة تصبح يهودية وتتم استعادتها، وهذا صلب تفكير صفقة القرن. النقطة التالية إلغاء حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كمبدأ من خلال التأكيد والتصريح؛ والنقطة الأخيرة هي بت مصير الأراضي الفلسطينية فوراً، أي تهويدها والاعتراف بيهوديتها وتأجيل بت صفة الشعب الفلسطيني حتى يتم إلغاء صفة الشعب عن الفلسطينيين، وتحويلهم من شعب إلى تجمعات سكانية فلسطينية دون صفة سياسية، بل تحمل فقط صفة إثنية موجودة في غزة وشمال فلسطين والصحراء… إلخ. هذه نقطة في غاية الخطورة وتنفيذها يحتاج إلى وقت، وبالتالي تم تنفيذها، ويتم العمل الفوري على إلغاء صفة الاحتلال.

2 – في الوسائل، أولاً، يتم استعمال استبدال مبدأ أو هوية الحق بمبدأ أو هوية القوة، فما تقبل به القوة أهم مما يقول به الحق. لذلك، فالإنجاز المستند إلى القوة هو الذي يحظى بالأولوية على المطالب المستندة إلى الحق، سواء من خلال القانون الدولي أو من خلال الشرعية الدولية. لذلك، إن أي قرار أمريكي يعتبره ترامب أقوى من القانون الدولي لأنه يستند إلى أولوية القوة وليس أولوية الحق. من هنا الحديث عن تحديد الأحقية بين المطالب الإسرائيلية والحقوق الفلسطينية أصبح الآن يتم وزنه بميزان أولوية القوة الداعمة على نحوٍ مطلق للإسرائيليين. ثانياً، سيتم دعم مزيد من الاستيطان حتى تتم تغطية كامل الأراضي الفلسطينية ومنع التجمعات السكانية الفلسطينية، أو بالأحرى غير اليهود وغير الإسرائيليين. ثالثاً، سَن مزيد من القوانين لتكريس عنصرية الدولة، بمعنى تحويل صفة الفلسطينيين من مواطنين إلى مقيمين بأي طريقة ممكنة، والمقيم لا حقوق له في هذه الدولة العنصرية. النقطة الرابعة، وهي في غاية الأهمية، استعمال الأنظمة العربية والمال العربي لتحقيق هذه الأهداف بصورة واضحة جداً، وكذلك لحل بعض المعضلات العويصة وأهمها توطين اللاجئين في أماكن إقامتهم؛ وأخيراً فتح البوابة الاقتصادية للعبور إلى صفقة القرن السياسية، وذلك من خلال طرح مفهوم السلام الاقتصادي وتجنيب حلفاء أمريكا وأصدقائها حرج القبول بصفقة القرن السياسية. من يدخل من البوابة الاقتصادية في البحرين هو عملياً موافق على كل الأبعاد السياسية لصفقة القرن من دون أن يضطر إلى الإعلان عن ذلك.

3 – التأثيرات في الداخل الفلسطيني: تهدف هذه الصفقة إلى فرض الوقائع الجديدة التالية على الأرض والشعب: إلغاء صفة الأرض المحتلة عن فلسطين من خلال عدّها أرضاً يهودية، أي أن الاستيطان الذي لا يقبل به القانون الدولي بات قانونياً وحقاً مشروعاً. حتى إن الجولان، فهي وفق سياسة الأمر الواقع وطغيان القوة على الحق، خوّلت أمريكا الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان. وهذه إشارة إلى الجميع بأن منطق القوة هو الذي سيسود في الحقبة المقبلة. هناك أيضاً تحويل الفلسطينيين إلى مقيمين على أراضيهم والتعامل معهم كمجموعات سكانية (هذه كلها على الصعيد الداخلي الفلسطيني). أما التأثيرات على الصعيد الخارجي الإقليمي، فيتم استعمار الأرض الفلسطينية وإلغاء حالة الصراع القائمة، وخصوصاً الصراع الأيديولوجي، من خلال أخذ موافقة العرب والفلسطينيين على يهودية الأرض الفلسطينية وليس من خلال سياسة الأمر الواقع. لا يريد اليهود تطبيق كلام الولايات المتحدة في هذه المسألة بالتحديد (من خلال سياسة الأمر الواقع)، فهم في هذه الحالة يريدوننا فقط أن نعترف لهم تاريخياً بفلسطين والتنازل عنها والتخلص من الفلسطينيين بوصفهم أفراداً لا شعباً تحت الاحتلال، من خلال تغيير وضعهم القانوني أو بعثرتهم في البلدان العربية. بالطبع قام محمد بن سلمان وتبرّع مشكوراً بمشروع نيوم الذي يعمل على امتصاص الفلسطينيين خارج أرض فلسطين وتشغيلهم.

4 – ما العمل؟ هناك 7 نقاط سأتكلم عليها هنا، وهي: (1) رفض الفلسطينيين العلني والحقيقي لصفقة القرن (رفضه على شاشات التلفزة والموافقة ما بين الكواليس)؛ (2) رفض فلسطين الاعتراف بنتائج ما تم تطبيقه من صفقة القرن وما تمخّض عنها، إذ لا قيمة حقيقية للقبول العربي إذا ما كان هنالك رفض فلسطيني، فالقبول الفلسطيني هو الأساس؛ (3) دعم نهج الرفض الجماهيري العربي وتشجيع بقية العرب على رفض هذه الصفقة؛ (4) حل السلطة الفلسطينية وإجبار إسرائيل على ممارسة دورها كسلطة احتلالية أمام العالم وعدم الاختباء وراء السلطة الفلسطينية؛ (5) تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية على نحو يشمل كل الشعب الفلسطيني (داخل أراضي الـ 48 وأراضي الـ 67)، وهذا هو الرد الوحيد على محاولة تفكيك الشعب طبعاً. الوحدة الوطنية لا تكون بأي ثمن بل ضمن الحفاظ على الثوابت الوطنية الفلسطينية لا على حسابها؛ (6) العودة إلى المقاومة بأوجهها كافة، (7) عدّ مفهوم الاحتلال الهادئ العدو الأكبر للفلسطينيين، فقد ظهر مصطلح الاحتلال الهادئ عندما وصفنا الإسرائيليين قبل ثورة العمل الفدائي والانتفاضة حيث قال الإسرائيليون ذلك عنه.

 

اطّلعوا أيضاً على ورقة العمل الثانية من الحلقة النقاشية ذاتها  نحو برنامج للمواجهة التي لا بديل منها

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #صفقة_القرن #القضية_الفلسطينية #السياسة_الفلسطينية #فلسطين #وجهة_نظر

يمكنكم مشاهدة فيديو الحلقة النقاشية: