احتفت الجزائر في بحر العام 2013، بالذكرى الأولى لرحيل المفكر القومي والمناضل الكبير عبد الحميد مهري (1926 ـ 2012)، حيث نظمت مجموعة من الجامعات الجزائرية والمؤسسات الثقافية والعلمية لقاءات وملتقيات وندوات احتفاءً بفكره وجهوده. فقد أقامت جمعية مشعل الشهيد في قصر الثقافة «مفدي زكريا» بالجزائر العاصمة ندوة شهدت حضوراً مكثفاً من قبل رفاق وأصدقاء المفكر عبد الحميد مهري إضافة إلى عائلته وعدد من المسؤولين والوزراء، نذكر من بينهم: جمال ولد عباس، وزير الشؤون الاجتماعية سابقاً، وعلي بن محمد، وزير التربية الوطنية سابقاً، والأمين بشيشي، وزير الإعلام سابقاً؛ كما حضر عدد كبير من المناضلين من بينهم: عبد الحفيظ أمقران، ولويزة إيغيل أحريز.

وقد احتفى المشاركون في هذه الندوة بأفكار وجهود مهري، وأعلن ابنه سهيل مهري عن إطلاق الموقع الرسمي لوالده، ودعا الباحثين والدارسين لفكر والده إلى تزويد هذا الموقع بمختلف الأبحاث والدراسات والوثائق والشهادات من أجل إتاحة الفرصة للقراء للاستفادة من فكر المناضل الكبير عبد الحميد مهري وجعل هذا الموقع بمنزلة ذاكرة حيّة تجسد مواقف وجهود هذا الرجل الذي يلقبه الجميع برجل الإجماع الوطني.

وفي مدينة قسنطينة نُظم ملتقى بقصر الثقافة حضره عدد كبير من أصدقاء المفكر القومي الراحل الذين أشادوا بجهوده ودوره الكبير في النضال الوطني والعربي، كما نوهوا بفكره العميق وبقراءاته الاستشرافية لمختلف القضايا الوطنية والعربية.

وفي الجزائر العاصمة أقامت جريدة صوت الأحرار ندوة علمية تطرقت إلى مواقفه وأفكاره وجهوده أجمع المشاركون فيها على أن عبد الحميد مهري كان ضمير الأمة الجزائرية ورجل الإجماع الوطني ومفكر الوحدة العربية الذي قدم خدمات جليلة للغة العربية في الجزائر، وناضل من أجل النهوض والارتقاء بها.

تحدث خلال هذه الندوة علي بن محمد؛ وزير التربية الوطنية الأسبق الذي استذكر مواقفه ومنجزاته وأشار إلى أنه كان حكيم الجزائر الأكبر، وكان الجميع يقصده في المواقف الصعبة، وكان مدافعاً عن قيم الحرية والديمقراطية والتسامح، إضافة إلى تمسكه بقيم الأمة العربية.

وأشار محمد لعقاب؛ الأستاذ بكلية العلوم السياسية والإعلام بالجزائر، إلى أن عبد الحميد مهري كان مؤمناً بالوحدة العربية، وكان دائماً يشدد على ضرورة وحدة شعوب المغرب العربي، ويشارك بأفكاره ورؤاه العميقة في اجتماعات المؤتمر القومي العربي الذي كان رئيساً له في الفترة 1997 ـ 2002، كما كان يدعو إلى التكامل في مختلف المجالات بين أقطار وطننا العربي.

وركز محمد نذير بولقرون على جهوده في النضال الثوري والكفاح السياسي حيث كان ممثلاً لجبهة التحرير الوطني بدمشق أثناء ثورة التحرير الجزائرية، وقد استطاع بحنكته وعمق فكره التأثير في النخب السورية والقيادة حيث كان الجميع يكنون له كل التقدير والاحترام. وقال إن مهري كان حريصاً على تقديم رؤى فكرية معمقة عن وحدة الشعوب العربية وتلاحمها وتضامنها من أجل مواجهة مختلف التحديات التي تواجه الأمة العربية.

ومن خلال هذه الورقة نسعى إلى تسليط الضوء على جانب من سيرة المفكر القومي عبد الحميد مهري النضالية والثقافية يتعلق بمقالاته في جريدة المنار الجزائرية العريقة، التي تعتبر واحدة من أهم الجرائد التي ساهمت مساهمة فعالة في بث الوعي الوطني والقومي وتنمية روح الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، وقد أنشأها الأستاذ محمود بوزوزو، وبرز العدد الأول منها بتاريخ الجمعة 21 جمادى الثانية 1370 هــــ (29 آذار/مارس 1951م)، وتوقفت عن الصدور في يوم الجمعة 26 ربيع الثاني 1373هــــ ـ الموافق الأول من كانون الثاني/يناير 1954م (العدد 51)، وقد كتب بجانب اسم الجريدة، جريدة سياسية ثقافية دينية حرة، نصف شهرية مؤقتاً.

أولاً: أضواء على مساهمته في المشهد الثقافي العربي

ولد عبد الحميد مهري سنة 1926 بمدينة الخروب التابعة لولاية قسنطينة، وانخرط منذ شبابه في صفوف حزب الشعب الجزائري ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وقد زج به في السجن من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1954 بعد اندلاع الثورة الجزائرية، وبعد خروجه من السجن عيّن ضمن وفد جبهة التحرير الوطني بالخارج، ومثّل الجبهة في دمشق، وقد كان عضواً في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، ثم في لجنة التنسيق والتنفيذ، وعند تشكيل الحكومة الجزائرية الموقتة الأولى شغل فيها منصب وزير شؤون شمال أفريقيا، وفي التشكيلة الثانية عين وزيراً للشؤون الاجتماعية والثقافية، وبعد استقلال الجزائر عُين أميناً عاماً بوزارة التعليم الثانوي، ثم وزيراً للإعلام والثقافة، كما انتخب أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي.

1 ـ حديثه عن المناضل فرحات حشاد

من بين المقالات المهمة التي كتبها عبد الحميد مهري في جريدة المنار الجزائرية، ذلك المقال الذي خصصه للحديث عن شخصية الزعيم النقابي والمناضل السياسي التونسي المعروف فرحات حشاد (2 شباط/فبراير 1914 ـ 5 كانون الأول/ديسمبر 1952م) الذي أسس الاتحاد العام لعمال تونس سنة 1946م، بعد أسبوع على اغتياله من قبل عصابة «اليد الحمراء» الإرهابية المدعومة من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي، حيث نُشر مقال عبد الحميد مهري في العدد 13 من جريدة المنار، السنة 2، يوم الجمعة 26 ربيع الأول 1372هـ (12 كانون الأول/ديسمبر 1952).

اهتم مهري في هذا المقال الذي جاء تحت عنوان: «فرحات حشاد المناضل» اهتماماً بالغاً بالأبعاد الأخلاقية في شخصية المناضل فرحات حشاد، ويمكن أن نصف مقاله بأنه بمنزلة مرثية لشخصية فرحات حشاد كتبها وهو في غاية التأثر بعد مضي أسبوع على اغتياله. يقول في مستهل مقاله: «لم يمنعني الحزن العميق لاغتيال المرحوم السيد فرحات حشاد من التفكير في شخصية هذا الفقيد الشهيد وأعماله العظيمة لفائدة بلاده، بل لعلني كنت أجد في إحياء ذكراه في فكري واستعراض أعماله بعض ما يسليني عن مصاب تونس العزيزة ومصاب المغرب العربي في هذا الرجل العظيم.

وقد حدا بي التفكير إلى التساؤل عمن يستطيع أن يخلف فرحات حشاد ذلك المناضل البسيط المتواضع الذي لا يلفت أنظار الناس إليه بمنظره، وإنما يلفت أنظارهم بأعماله التي تطير أنباؤها إلى مختلف أطراف البلاد التونسية، وتتجاوز أحياناً حدود البلاد التونسية إلى أطراف العالم.

هذا المناضل البسيط المتواضع لا يمكن أن يخلفه أحد بعينه، لأن شخصيته الفذة وأفكاره النيرة وأعماله العظيمة طبعت جيلاً كاملاً من الشغالين التونسيين وتركت خطة واضحة المعالم لرفاقه المقربين ومساعديه الأوفياء، فهذه النخبة المختارة من مساعديه وهذا الجيل الذي طبعه فرحات حشاد بطابعه الخاص هو الذي يخلف فرحات حشاد ويضطلع بإتمام رسالته في البلاد التونسية».

يقف القارئ لهذا المقال على جملة من الرؤى العميقة التي قدمها مهري عن فرحات حشاد ويدرك بُعد نظره ودقة تحاليله. فمما لفت انتباه مهري في شخصية فرحات حشاد قوة شخصيته وثباته، وعدم الحياد عن مواقفه، وصبره ودأبه، حيث يقول في هذا الشأن: «كانت شخصية فرحات حشاد شخصية قوية ولكنها كانت لا تفرض نفسها على الناس فرضاً عنيفاً، بل كان الناس أنفسهم يحبون قوتها فينجذبون إليها مختارين ويهرعون إليها يلتمسون العون في الملمات. وكانت هذه الشخصية القوية تتدثر بدثار من الخلق المتين والبساطة في المظهر والحديث والاتزان في الأعمال والأقوال وضبط النفس في الشدة واليسر. وكان هذا الجانب اللين الناعم هو كل ما يظهر من شخصية فرحات حشاد القوية لمن يعرفونه من بعيد أو يجتمعون به مرة أو مرتين».

كما عرض عبد الحميد مهري منهجه في العمل، ورؤيته لطرائق نجاح العمل النقابي والنضالي، كما لم يغفل الحديث عن ثقافته الواسعة واطلاعه العميق، فقد أشار إلى متانة ثقافته، وعمق حسه الاجتماعي، كما أعجب أيما إعجاب ببعد نظر الزعيم فرحات حشاد، وإيمانه بضرورة الوحدة بين أجزاء المغرب العربي، والوطن العربي ككل، وأشار إلى إدراك فرحات حشاد بتفكيره الواقعي الرزين أن الاتحاد العمالي بين الأقطار المغربية ضروري لنجاح قضاياها، فكان لهذا شديد الإيمان بالوحدة المغربية والعربية.

وينبه مهري إلى حس فرحات حشاد وحرصه على الوحدة، وابتعاده عن حب النفس، كما يؤكد أن فرحات حشاد تمكن من تحقيق الكثير من أفكاره في صبر وأناة وعمل متواصل وجعل الكثير من قادة الرأي في المغرب العربي يؤمنون بأفكاره التي لم يتح له أن يشهدها حقيقة قائمة.

وذهب في الختام إلى التأكيد أن فرحات حشاد تمكن من تنظيم الطبقة العاملة التونسية وتحقيق تكتلها حول الحركة التحريرية التونسية ونفخ فيها روح الكفاح والصبر، فكانت دائماً في المقدمة تكافح في سبيل تحسين حالتها المادية والمعنوية وتكافح من أجل تحرير بلادها وكانت تضحي ـ راضية ـ بمصالحها الخاصة في سبيل التحرير القومي العام.

2 ـ شهادة شيخ المؤرخين الجزائريين

إن الأوصاف التي أطلقها عبد الحميد مهري من خلال مقاله هذا تنطبق أتم الانطباق على شخصيته، فعبد الحميد مهري رزئت بفقده الأمة العربية قاطبة، لأنه كرّس حياته في سبيل خدمتها منذ النشأة إلى الأيام الأخيرة من حياته، فهو ابن الجزائر البار الوفي والمخلص والغيور على قيم وثوابت الأمة العربية، وما ذكره عن شخصية فرحات حشاد، وإشادته بجهوده الفذة وأفكاره النيرة وأعماله العظيمة، إضافة إلى تأكيده بساطته وتواضعه، يذكّرنا بشهادة شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله، التي أدلى بها عن شخصيته الفذة، ولا سيِّما في قوله «… كُثر هم الزعماء الذين نسجوا حول أنفسهم هالة الزعامة بحق أو بغير حق. أما عبد الحميد مهري (رحمه الله) فهو زعيم بالطبيعة رغم أنه ابتعد عن الهالة، ولكنها بحثت عنه وأحاطته بضوئها. فأنت إذا رأيته في تواضعه تقول ما أبعده عن الزعامة التي يتبختر في حللها الأدعياء، ولكنك إذا تأملت في عمق تفكيره وطريقة إقناعه حكمت بأن الزعامة خلقت له أو خلق لها…

وأقول بالمناسبة إن سي مهري بعيد عن الحماس والاندفاع، فلا تراه يقذف قادته أو زملاءه بالتهم المباشرة أو يكيل لهم المدح والثناء، أو يجعل من نفسه بطلاً والآخرين أقزاماً. كان يجيب وكأنه يخشى وخز الضمير أو سيف التاريخ أو إدانة قاض صارم الأحكام… رغم أنه رجل سياسي عريق، كانت له قدرة نادرة على إطلاق النكتة ـ وهي غالباً سياسية ـ بشكل عفوي هادئ تنتهي بفرقعات من الضحك البرئ. وله عند سرد النكتة حركات بطيئة، جسمية ويدوية، كالتلفت والإشارة ورفع العينين المختبئتين وراء نظارات سميكة.

بداية من التسعينيات اتسع جرح الجزائر أمام سي مهري، وكمناضل غير أناني كان يرقب السفينة وهي تشق عاصفة هوجاء وتتدحرج على صخور حادة، وكان يريد إنقاذها فكان دائم البحث عمن يمد إليه يده، وفي النهاية بقي في قلة من الأوفياء للثورة في طهارتها الأولى، فكان يكتب الرسائل لأولي الأمر ويرسل إشارات الخطر لأولي الألباب، فيقرأ الناس رسائله وتحذيراته ويعرفون أنه لا يقول إلا الحق. وقد ظهر الفساد في البر والبحر وارتفعت أصوات أغنياء الحرب والإرهاب حتى غطت على صوت الحق، صوت سي مهري وأمثاله ممن بقي على الدرب، فكان حريصاً على نشر مقترحاته لتجاوز الأزمة، وكان كثير التحذير لأصحاب السلطة وحتى لخصومه الذين لا شك أنهم مسرورون اليوم باختفاء صوته وتوقف قلمه…، البيئة التي أنجبت سي مهري قد حملته مسؤولية حماية الهوية الوطنية المتمثلة في الإسلام والجزائر واللغة العربية، ثم زكتها الدراسة بجامع الزيتونة ودعمها وجوده في دمشق خلال حرب التحرير، فكانت العائلة والزيتونة والروح القومية والبيئة العربية في المشرق خلال الخمسينيات قد دفعته إلى الدخول في معترك النضال الوطني والقومي، فكان سي مهري، رغم هدوئه وتحفظه رافعاً لواء الاتجاه العربي في جبهة التحرير والحكومة المؤقتة ومجلس الثورة، وعندما استقلت الجزائر دافع عن العربية والعروبة الثقافية بتوصيات لجنة التعريب المنبثقة عن اللجنة الوطنية العليا لإصلاح التعليم، ثم من خلال المدرسة الأساسية التي دافع عنها وطبقها في الميدان رفقة إخوانه المخلصين لنفس الهدف».

ووفق منظور مهري، تمكّن فرحات حشاد من تغذية بذور الوحدة المغربية والعربية في صفوف العمال من جزائريين وتونسيين ومراكشيين وجعلهم يتطلعون إلى اليوم الذي تبرز فيه جامعة النقابات المغربية إلى الوجود. وقد ظل فرحات حشاد يبشر بأفكاره هذه في الأوساط النقابية العالمية ويكسب لها الأنصار، فأعلن بذلك عن إخراج القضايا المغربية إلى النطاق العالمي، وينتهي في الأخير إلى أن التأثير العميق الذي كان لاغتيال فرحات حشاد في المغرب العربي والعالم هو خير دليل على أن فرحات حشاد نجح في مهمته أيما نجاح، وأدى رسالته خير أداء.

إن تركيز الأستاذ عبد الحميد مهري على شخصية فرحات حشاد له أكثر من دلالة، ومن أبرزها إيمانه العميق والكبير بضرورة تحقيق وحدة المغرب العربي والأمة العربية، وتفاعله مع كل ما يصيب أجزاء الوطن العربي وشخصياته المناضلة والمكافحة من أجل تحقيق الانتصار على الطغيان والمظالم الاستعمارية.

فحين نقرأ مقال مهري عن المناضل فرحات حشاد بعد أكثر من ستين سنة على كتابته نستشف تحقق آمال وتطلعات مهري الذي أراد بعث رسالة واضحة إلى الاستعمار الفرنسي الذي يحتل دول المغرب العربي في تلك الفترة مفادها حتمية تحقق الاستقلال بفضل جهود أبناء المغرب العربي الذين لا يكلون عن الدفاع عن حقوقهم.

3 ـ شهادة معن بشور

والحق أن كل من عرف المفكر العظيم والسياسي المحنك عبد الحميد مهري يستنتج أن الرؤى التي قدمها عن شخصية فرحات حشاد، وإشادته بجهوده وأخلاقه الفاضلة هي صورة لشخصية فقيد الأمة العربية عبد الحميد مهري ولا سيّما حينما يؤكد في مقاله إيمان فرحات حشاد بوحدة المغرب العربي والأمة العربية، فمهري استطاع أن يوفق بنجاح نادر بين اهتماماته بالمغرب العربي والمشرق العربي، وهذا الأمر لا يتحقق إلا لقلة قليلة يأتي مهري في طليعتها. ونستشهد في هذا الشأن بما جاء في شهادة معن بشور عن شخصية المناضل عبد الحميد مهري، حيث يقول: «كان عبد الحميد مهري مؤمناً أن مستقبل أمته مرهون بوحدتها، سواءٌ كانت الوحدة على المستوى الإقليمي كما هو حال بلدان المغرب العربي، أو على المستوى العربي الشامل كما هو حال الأقطار العربية، وسواء كانت هذه الوحدة تنسيقاً أم تعاوناً، كونفدرالية أم فدرالية… لقد كان الراحل الكبير يؤمن بقوة أن هذا العصر هو عصر التكتلات الكبرى، وأن لا مكان فيه للكيانات الصغرى التي لا تستطيع بدون سوق إقليمية مشتركة ودفاع إقليمي مشترك، أو مشاريع اقتصادية وثقافية مشتركة أن تصون أمنها وتحمي أوطانها وتحقق الكفاية لأبنائها.

لذلك كان عبد الحميد مهري ذا نظرة ثاقبة يحاكم السياسات والمواقف والإجراءات بمقياس وحدوي واضح، كما كان يدعو إلى سياسات مواقف وإجراءات تعكس هذه النظرة الوحدوية. من هنا كان للأستاذ مهري دور بارز في العديد من الهيئات والمؤسسات ذات الطابع العربي العام، كما كان يسعى مع إخوان له إلى إطلاق منتدى المغرب العربي ليشكل خطوة باتجاه الاتحاد المغاربي الذي لم يناضل مهري من أجله فحسب، بل عاش حياته متمسكاً به كروح ونهج… كان مهري ككل ثائر متفائلاً بأن مستقبل الأمة العربية مستقبل مشرق، رغم كل الظواهر المحبطة والمحيطة والعقبات التي تعترض مسيرة الأمة نحو تحررها وتقدمها ووحدتها… كان عبد الحميد مهري في دفاعه عن هوية أمته العربية والإسلامية صاحب قيم ومبادئ تماماً كما قاده دفاعه عن القيم والمبادئ إلى أن يكون أحد أبرز المدافعين عن العروبة والإسلام داخل الجزائر وعلى مستوى الأمة… وكان نصيراً ثابتاً للحق الفلسطيني الكامل دون تنازل، وكان مدافعاً عن الشعب العراقي ضد الحصار والاحتلال غير راضخ لأي ضغوط، وكان نصيراً للبنان في رفضه للحرب الأهلية، وكان رائداً في الدعوة إلى وحدة المغرب العربي ووحدة الأمة العربية».

ثانياً: المهري عبر صحيفة «المنار»

كانت للمهري مواقف وآراء وطنية وقومية ساطعة عبّر عنها من خلال مقالات نشرت في صحيفة المنار الجزائرية في بداية الخمسينيات. وقد غطت هذه المقالات مجموعة مواقف حول قضايا سياسية وثقافية جزائرية وعربية.

1 ـ رفع القضية الجزائرية إلى الميدان العالمي

كان ذلك موضوع أحد المقالات التي تضمنت موقفاً انتقادياً واضحاً لسياسة الاستعمار الفرنسي في تلك الفترة، ودعوة صريحة إلى توحد شعوب الوطن العربي في المطالبة بحقوقها واستقلالها.

كتب مهري هذا المقال بمناسبة الذكرى السابعة للإعلان عن ميثاق الأمم المتحدة، ونُشر في العدد العاشر من جريدة المنار بتاريخ الجمعة 4 صفر 1372هـــ (24 تشرين الأول/أكتوبر 1952م)، وقد تساءل في مستهل هذا المقال عن الأسباب التي حالت دون رفع قضية الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة، ووجه الكثير من الانتقادات إلى الأحزاب الجزائرية، لأنها لم تتوحد من أجل الإعلاء من شأن القضية الجزائرية في مختلف المحافل الدولية، إذ كان هم مهري الوحيد منذ شبابه هو تحقيق الوحدة العربية، وقد عبر عن هذا الأمر في قوله «… ولكننا بجانب هذا نرى الأحزاب الجزائرية تغطّ في نومها ونرى الجبهة الجزائرية التي كنا نأمل أن تزدهر وتتسع أهدافها تنقلب إلى (الهدنة) السمجة التي تناقش فيها الأخطاء ولا ينتهج فيها نهج قويم… إن الشعب يطالب بالعمل على الخروج بالقضية الجزائرية من هذه العزلة التي يريد أعداؤها حصرها فيها وهذا جد ممكن إذا قدرت الأحزاب واجبها وضحت بالاعتبارات الحزبية الضيقة، وإذا كانت القضية التونسية والمراكشية قد وصلتا إلى هيئة الأمم المتحدة فذلك راجع إلى اتحاد كلمة التونسيين والمراكشيين على برنامج واضح يعبر عن رغبة الشعب العميقة، وإذا لاقت القضية التونسية والمراكشية العطف والتأييد من جميع الديمقراطيين في العالم لأن المعاهدات التي تربط بينها وبين فرنسا أصبحت لا تتماشى مع العصر الحاضر، ولا مع تطور البلاد التونسية والمراكشية، فكيف لا تلاقي القضية الجزائرية هذا العطف وهذا التأييد والحال أن الجزائر لا تربطها أية معاهدة ولا اتفاقية تحدد علاقتها بفرنسا اللهم إلا العلاقة التي نشأت عن حرب استعمارية خرجت منها فرنسا ظافرة وفقدت فيها الجزائر سيادتها واستقلالها.

هذه رغبة الجزائريين وهذه أيضاً رغبة التونسيين والمراكشيين الذين يريدون ـ كما صرح زعماؤهم بذلك ـ أن يروا القضية الجزائرية تسير جنباً إلى جنب مع القضية التونسية والمراكشية، وإذا اتحدت كلمة الأحزاب على تحقيق هذه الخطوة التي يطالب بها الشعب الجزائري فإنها تكون قد خدمت القضية الجزائرية خدمة مباركة وقدمت خير عون للقضية التونسية والمراكشية».

2 ـ بين ألمانيا والعرب

كتب عبد الحميد مهري مقاله حول هذا الموضوع بعد الاتفاقية التي عقدت بين ألمانيا الغربية وإسرائيل في 10 أيلول/سبتمبر 1952، التي تنص على التزام ألمانيا بدفع 3 مليارات و450 مليون من الماركات إلى حكومة إسرائيل، وذلك تعويضاً عمّا لحق اليهود في العهد النازي من خسائر في الأنفس والأموال. وقد قدم من خلال هذا المقال تحليلاً لوقائع العلاقات العربية – الألمانية بعد توقيع هذه الاتفاقية، وأوضح تأثيرات هذه الاتفاقية في هذه العلاقات، وقد نشر هذا المقال في العدد 12، بتاريخ الجمعة 11 ربيع الأول 1972هـ (28 تشرين الثاني/نوفمبر 1952م).

انطلق في مقاله من تأكيد توتر العلاقات بين ألمانيا والعرب بعد توقيع الاتفاقية المذكورة، وأشار إلى أن ألمانيا تريد بهذه الاتفاقية تنفيذ التزاماتها الأدبية للغربيين بتعويض المضطهدين في العهد النازي عمّا لحقهم من أضرار، بيد أن البلدان العربية لا تزال قانونياً في حالة حرب مع إسرائيل رأت في هذه الاتفاقية خطراً يهدد كيانها، لأن إسرائيل ستستعمل هذه التعويضات في تقوية إنتاجها الصناعي والحربي. وقد اجتمعت كلمة الدول العربية في الاجتماع الأخير الذي عقدته اللجنة السياسية للجامعة العربية على مقاطعة ألمانيا اقتصادياً إذا صادق البرلمان الألماني على هذه الاتفاقية.

من خلال المقال المذكور تتجلى رؤى عبد الحميد مهري الذي أشاد بوحدة الكلمة العربية في تلك الفترة، وتأكيد البلدان العربية على المقاطعة، وكأنه يدعو ضمنياً إلى ضرورة الاستفادة من التجربة وتعميق العمل العربي المشترك لمواجهة أعداء الأمة.

3 ـ دفاع عن المكافحين السياسيين

تحدث عبد الحميد مهري في هذا المقال الذي نُشر في العدد 14، بتاريخ الجمعة 11 ربيع الثاني 1372هـ (26 كانون الأول/ديسمبر 1952م)، عن المحاكمات المتتابعة التي تنهال على الوطنيين الجزائريين، وسلط الضوء على ظروف اعتقالهم السيئة جداً، وقد دافع باستماتة عن المناضلين الشرفاء، وقدم دعوة صريحة إلى ضرورة تخليصهم من الموت البطيء، حيث يقول «إن واجب تخليص هؤلاء المكافحين الأبرار من الموت البطيء ملقى على كواهلنا نحن الذين لا نزال نتمتع بالنور والدفء والطعام اللذيذ… فلنرفع أصواتنا بالاحتجاج الصارخ في كل مكان، ولنُفهم الإدارة الاستعمارية أن الشعب الجزائري لا يسلم أبناءه وإننا سنكافح متحدين لنخلص من السجن هؤلاء الذين كافحوا لتخليصنا من الاستعمار والاستعباد».

4 ـ الرسالة الأدبية

كتب عبد الحميد مهري هذا المقال مساهمة منه في المناقشة الأدبية والفكرية التي شارك فيها عدد كبير من الكتاب والأدباء، وقد أثار هذه المناقشة الفكرية والأدبية الأديب عبد الوهاب بن منصور في مقاله المعنون «مالهم لا ينطقون». وقد نُشر مقال مهري في العدد 15، بتاريخ الجمعة 22 ربيع الثاني 1972هـ (الموافق لـ 9 كانون الثاني/يناير 1953م). ويُبرز هذا المقال ثقافة مهري الأدبية، وحسه الفني والنقدي الرفيع، كما يجلي عمق تحاليله ورؤاه لحقيقة الرسالة الأدبية.

وقد قسم مقاله هذا إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

أ ـ البطالة الفكرية

أرجع عبد الحميد مهري أسبابها إلى الجمود في ما يكتب وينشر بين الناس، وفي ما يكتب ولا ينشر بين الناس، وفي أفكارنا حين نكتب أو نحاول الكتابة. وفي نظره أن تطور هذا الجمود تدريجياً هو الذي أصبح عند الكثير من أدبائنا بطالة فكرية، يشقى بها أصحابها، ويشقى بها من ينتظر من أصحابها إنتاجاً يسد حاجته الأدبية التي تزيد إلحاحاً كلما زادت البطالة الفكرية استفحالاً.

ب ـ صعاب لا أسباب

يعترف مهري في هذا القسم من مقاله بأن الظروف القائمة في الجزائر في تلك الفترة (سنة 1952)، حينما كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي لا تساعد على الإنتاج، كما أن الظروف المادية ليست متوافرة كلها أو بعضها على الأقل.

ويقرر مهري في الأخير أن سبيل النهضات الأدبية لم تكن دائماً مفروشة بالورود، فكان الأدباء الذين يحملون مشعل الأدب في مستهلها يلاقون من العنت والسخرية والجحود الشيء الكثير، ولكنهم كانوا يستمدون من هذه السخرية وهذان العنت والجحود مادة لإنتاج قوي خصب ظل خالداً على مدى الدهور وكانوا ينتصرون آخر الأمر، لأنهم كانوا يؤمنون برسالة الأديب إيماناً لا يخامرهم فيه شك ولا يتطرق إليهم فيه ريب.

والحق أن هذه المقولة تقدم صورة واضحة عن مسيرة المفكر القومي عبد الحميد مهري الذي قضى حياته كلها في كفاح مستميت ونضال مستمر في سبيل بث الوعي الوطني والفكر القومي، فقد ظل ـ رغم تقدم سنه ـ يتمتع بحيوية عجيبة، وحضور عقلي واجتماعي متميز. كما ظل طوال مسيرته دائم الحركة والعمل، بشوشاً خلوقاً مع كل من يلقاه أو يتحدث إليه. حمل الوطن العربي وقضايا وحدته في عقله، وقلبه، ووجدانه، وحسه. كما تميز بالتواضع والبساطة، ورحابة الصدر، والمثابرة، والصبر، والدأب، فهو لا يكل ولا يمل من البحث والتنقيب في سبيل ترسيخ الفكر القومي، بحيث ينطبق عليه قول الشاعر:

جبلٌ من الفولاذ تلاطمُه الأمواجُ فلا تكلُّ

فلا الجبلُ منهارٌ ولا الأمواجُ من عبثٍ تمِلُ

ج ـ السبب الأصلي

يذهب مهري في ختام هذا المقال إلى التأكيد أن السبب الحقيقي لسكوت الأدباء هو أنهم لا يؤمنون إيماناً صادقاً برسالتهم الأدبية، حيث يقول عن هذا الأمر موضحاً رؤيته بقوة ومستنداً إلى أدلة دامغة: «لو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون برسالة أدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لما رضوا لأنفسهم الانهزام أمام هذه العراقيل التي عرفتها النهضات الأدبية في كل بلاد دون أن يحاولوا حتى الدفاع عن هذه الرسالة التي يؤمنون بها ويطمئنون إليها. ولو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون برسالتهم الأدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لحاولوا على الأقل جمع شتاتهم في فئة تنافح عن الأدب وتدافع عن رسالته وتجمع من حولها المنتصرين له والمشتغلين به من الأجيال الناشئة. ولو فعل أدباؤنا ذلك لضمنوا لأنفسهم على الأقل حياة أدبية خالصة لهم من دون القراء ومن دون أصحاب المطابع، ودور النشر».

يبقى أن نشير بالنسبة إلى الجوانب الأسلوبية واللغوية في كتابات عبد الحميد مهري، أنها تتميز باستقامة العبارة والوضوح والدقة، ويعجب المتأمل في كتاباته بأسلوبه الجذاب، ويشعر بلذة في يسره وانتقاله بالقارئ من فكرة إلى أخرى، ومن معنى إلى آخر، إضافة إلى تميز كتاباته بشحنات دلالية عميقة ومواقف إنسانية نبيلة. وقد وصف علي بن محمد مقالات عبد الحميد مهري بأنها تتميز ببساطة لامتناهية وفيها يسجل الكثير من المواقف التي لا بد من صفحات وصفحات للتعبير عنها، إذ ينطلق دائماً من مقاربات سياسية وسرعان ما يربطها بالواقع، فهو براغماتي وواقعي وبارع في اختيار الكلمات، ومن هنا كان نجاحه في المؤتمر القومي العربي، وفي دعوته طوال حياته إلى ضرورة تحقيق الوحدة العربية مهما طال الزمن.

والحق أن مقالات مهري المنشورة في مختلف الصحف والمجلات الوطنية والعربية هي كنوز متناثرة تستصرخ الباحثين والدارسين للنهوض بجمعها ولملمة شتاتها وطباعتها، وإنجاز أبحاث ودراسات عنها لاكتشاف مضامينها العميقة، وأفكارها النيرة التي تعود بالفائدة الجمة على شباب هذه الأمة. فعبد الحميد مهري كتابٌ يختزن مسيرة شعب ونضال أمة.

وما ينبغي التأكيد عليه هو أن عبد الحميد مهري وإن كان قد رحل عن الوجود بشخصه المادي، فإن رؤاه وأفكاره ومواقفه الخالدة ستظل نبراساً يضيء دروب الأجيال، ولا ريب في أن خلوده يمنح الأمة بعض الصبر والعوض لفقدانه، ويدفع الأجيال إلى التنقيب عن آثاره، والاقتداء بعلمه وفكره وأخلاقه، والسعي الحثيث إلى تحقيق ما لم يتحقق من آماله وأفكاره وطموحاته وفي طليعتها الوحدة العربية.

 

قد يهمكم أيضاً  جبران خليل جبران

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #سير #أعلام #شخصيات_جزائرية #شخصيات_عربية #شخصيات_قومية #الجزائر