في لقاء تلفزيوني أجريته مع السيد محمود عباس عقب انتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية (2005)، خلفاً للمرحوم ياسر عرفات، خطر لي أن أسأل الرجل الذي أشير إليه دوماً بوصفه «مهندس» اتفاق أوسلو، عما إذا كان نادماً، بعد مرور اثني عشر عاماً على توقيع الاتفاق الذي لم يأتِ بخير إلى الشعب الفلسطيني. يومها قاطعني قبل أن أُتم السؤال، وبلهجة حاسمة، قال: «نعم، لو عاد الزمن بي مرة أخرى لقمت بتوقيع الاتفاق نفسه». واسترسل قليـلاً في عرض حسنات هذا الخيار، مشدداً على كونه في مصلحة الشعب الفلسطيني، وأنه الأنسب للفلسطينيين. لم يكن هدفه أن يقنعني، أو أن يقنع مشاهدي اللقاء، بقدر ما كان مصرّاً على التأكيد أنه مشى ويمشي في الاتجاه الصحيح.

مضت أربع عشرة سنة على هذا اللقاء، ومضت ست وعشرون سنة على توقيع اتفاق أوسلو، تغيرت خلالها أمور كثيرة، لكن رئيس السلطة الفلسطينية، الذي بات يلوّح بوقف العمل بالاتفاق الذي يحمل توقيعه، ما زال مصرّاً على أن أوسلو هو الخيار الأنسب للشعب الفلسطيني.

إذاً، تمرُّ في شهر أيلول/سبتمبر الجاري الذكرى السادسة والعشرون لتوقيع اتفاق أوسلو في حدائق البيت الأبيض في واشنطن (1993)، وإذا كان شهر أيلول/سبتمبر مميزاً بحضوره المأسوي في الذاكرتين العربية والفلسطينية على حد سواء، فإن جزءاً من مأسويته المستمرة يتمثل بانعدام القدرة على الخروج من حالة المراوحة في المكان، وفي اعتماد الخيارات البائسة نفسها للحصول على نتائج أسوأ وأسوأ في كل مرة. من اللافت للانتباه أن ذكرى توقيع الاتفاق الذي تم تصويره كـ «حل تاريخي» للقضية الفلسطينية، تتزامن منذ نحو أربع سنوات مع تهديدات من السلطة الفلسطينية بوقف العمل به، وحتى بالانسحاب منه، لكنها حتى اللحظة مجرد تهديدات، يتم تصويرها هي أيضاً بوصفها سلاحاً استراتيجياً بيد السلطة التي نشأت من الاتفاق.

لا حاجة هنا إلى استذكار كارثية اتفاق أوسلو، ولا إلى مناقشة انعكاساته المدمرة على القضية الفلسطينية؛ ففي الواقع اليومي المعاش ما هو أكثر بلاغة من الكلمات، أو محاولات الاستدلال، على هول ما خلّفه الاتفاق، من طريق إعادة قراءة المتون الشائكة والمفخخة؛ غير أنه من الضروري التوقف عند ظاهرة الواهمين ومسوِّقي الأوهام الذين يتباكون على أوسلو الذي لم يطبّق، وكذا توابعه المتعددة، زاعمين أن تطبيقه (وتطبيقها) بصورة صحيحة كان كفيـلاً بالوصول إلى «نتائج جيدة»، ومنها «قيام دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967». يصر أولئك باستمرار على أن ما أحبط الاتفاق هو عدم التزام العدو الصهيوني (يستخدمون تعبير الشريك الإسرائيلي) تنفيذ بنوده ومدرجاته، وهو ما يعكس القصور الكبير، لا في فهم طبيعة العدو وحسب، بل كذلك في إدراك أن النتائج السياسية هي حصيلة طبيعية لموازين القوى، ولكيفية توظيف عناصر القوة المتوافرة للوصول إلى الأهداف المتوخاة، أو إلى جزء منها.

من المعروف أن الاتفاق جاء ملبّياً حاجات العدو الصهيوني أساساً، واستمر بفضل الاستعداد الدائم من السلطة لتلبية تلك الحاجات، وبخاصة على الصعيد الأمني، وهو ما عنى موضوعياً إحباط أي تهديد للعدو، من خلال ضرب كل عناصر القوة الفلسطينية القائمة والفاعلة، وحتى المحتملة، وصولاً إلى الوعد الدائم بقمع كل تفكير في المقاومة والمواجهة، حتى من ذلك النوع الذي يهدف إلى دفع قوة الاحتلال إلى إظهار التزامها اللفظي بالاتفاق، وفق أكثر التفسيرات تواضعاً. وقد جرى العمل بدأب على منح العدو تطمينات لفظية وفعلية، إلى أن صار السلاح الوحيد المتوافر هو التلويح بالانسحاب من الاتفاق نفسه.

يستبطن التلويح بالانسحاب من الاتفاق أو وقف العمل به، إقراراً بأن أوسلو هو في مصلحة العدو، إذ لو كان غير ذلك لما بقيت هناك قيمة للتهديد بالخروج منه، أو حتى وقف العمل ببعض بنوده، لكن هذا التلويح يكاد يفقد قيمته، إذ لا يمكن منطقياً أن يستمر أحدٌ بالتهديد باستخدام سلاح من دون أن ينفذ تهديده، ولو جزئياً، ولمرة واحدة.

في أواخر تموز/يوليو الماضي، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن قرار «بوقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل» وعن تأليف لجنة تتولى وضع آليات لتنفيذ هذا القرار الذي جاء بعد أيام على قيام جرافات دولة الاحتلال بهدم العشرات من منازل الفلسطينيين في بلدة صور باهر المقدسية، بدعوى قربها من الجدار الفاصل.

لم يكن ممكناً أول وهلة تقدير مدى الجِّدِّ في القرار، إذ إنه ليس الأول في نوعه، فقد سبق للمجلس المركزي الفلسطيني أن اتخذ قراراً في آذار/مارس 2015، بسحب الاعتراف بـ «دولة إسرائيل»، وبوقف التنسيق الأمني، وإلغاء الاتفاقات الموقعة معها. في حينه استُقبل قرار المركزي بترحيب كبير، وبنى عليه البعضُ مطالبةً بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، عبر إنهاء الانقسام والتوافق على برنامج نضال وطني يرتكز إلى تعيين وضع الشعب الفلسطيني بوصفه شعباً تحت الاحتلال، ويخوض مرحلة تحرر وطني. لكن قرار المركزي تآكل مع الوقت، لتعقبه قرارات وتلويحات أخرى بوقف التنسيق الأمني، ووقف العمل بالاتفاقات الأخرى، وقد تجاوز عدد هذه التلويحات والقرارات الخمسين من دون أن يجد واحد منها طريقه إلى التنفيذ العملي الكلي أو الجزئي. وصارت القرارات من هذا النوع تمر من دون أن تجد من يعلق عليها، أو يهتم لأمرها. وفي المرة الوحيدة التي أصرّت فيها السلطة على أنها أوقفت التنسيق الأمني، خرج أحد كبار المسؤولين فيها، ليؤكد أن «التنسيق مستمر، لما فيه من مصلحة للمشروع الوطني، وللشعب الفلسطيني».

لكن حين أعلن الرئيس عن قراره، رأى كُثُرٌ أنه يوجد هذه المرة ما هو مختلف عن المرات السابقة، فالقرار هذه المرة صادر عن الرئيس نفسه، لا عن هيئة من هيئات السلطة أو منظمة التحرير، كما أن الإعلان تميّز بلهجة حاسمة وحازمة، وهو جاء في ظرف استثنائي، إذ إن هدم المنازل يحصل في القدس، وضمن منطقة مصنفة تحت السيطرة الفلسطينية بحسب تقسيمات أوسلو، والحاجة ماسّة إلى موقف متناسب مع حجم الجرائم الصهيونية (وليست جريمة هدم المنازل سوى واحدة منها)، ومع سلسلة الإجراءات الأمريكية التي تتم تحت عنوان صفقة القرن؛ وكل هذا يتطلب في الواقع موقفاً مغايراً لحالة الميوعة، والاكتفاء بالخطابات ذات اللهجة العالية. لهذا، فإن ما أعلنه رئيس السلطة، حظي بترحيب من الفصائل الفلسطينية كافة، ومنها تلك التي تقف في موقع الخصومة معه، إذ لعلها بنت على أن المعطيات الراهنة ستقود إلى تفعيل القرار ووضعه (خلافاً للعادة) موضع التنفيذ. ومرة أخرى تم التعامل مع القرار في حال تنفيذه بوصفه فرصة لإعادة بناء الحركة الفلسطينية وإنهاء الانقسام… إلخ. في المقابل، كان هناك من ذهب إلى التشكيك، وعَدِّ ما يجري سيراً في طريق التكتيكات البائسة نفسها، أو نوعاً من «فشة الخلق» التي لن تقود إلى أي مكان.

مع مرور وقت قصير، دخل القرار غرفة التبريد التي تحوي جثث عشرات القرارات السابقة. وقيل إن خلافاً وقع بين أعضاء اللجنة التي أُلّفت لوضع آليات التنفيذ، بين من رأوا ضرورة التريُّث، وبين من طالبوا بخطوات عملية وشبه فورية. وما تم تناقله حول أجواء الاجتماعات يحمل إشارات متكررة إلى أن من يدعون إلى التريث هم الأقرب إلى توجهات الرئيس.

هنا يمكن التوقف عند نقطة مهمة؛ ففي كل مرة يتم فيها التلويح بوقف العمل بالاتفاقات، يضاف إلى الحالة الظرفية التي استدعت التلويح المتجدد، حديث عن عدم التزام العدو «اتفاقات السلام الموقعة معه»، وتَنَكُّره لها، وهو حديث يُظهَّر بوصفه اكتشافاً جديداً، ويتصنَّع مطلقوه حالة من الدهشة والاستغراب، ويُبدون أسفهم على «فرصة السلام» التي تتم إضاعتها. وهذا يعني أمراً واحداً: استمرار التمسك بالاتفاقات حتى في لحظة التهديد بالانسحاب منها. بالطبع، يحتاج المرء إلى قدر كبير من السذاجة كي يعاود طرح تساؤل يقول: «ما دام الانسحاب من الاتفاقات، أو مجرد تعليق العمل بها، يؤلم العدو، ويُعدّ رداً قوياً عليه، فلماذا يتم تأجيل هذا الأمر؟ وما هي المرحلة الأشد وقعاً، التي يتم انتظار الوصول إليها كي يكون هناك قرار فعلي بوقف التنسيق الأمني على الأقل»؟

من المتصوَّر أن قرار رئيس السلطة، قد وصل إلى خواتيمه المأسوية المتوقعة، وسوف يبقى معلقاً في غرف اللجان إلى أن يتم نسيانه، أو يحين موعد القرار التالي؛ هذا إن بقي وقت لمثل هذا النوع من القرارات، فالوقت متاح فقط لقرار جاد ومطلوب فعـلاً، يبدأ بوقف التنسيق الأمني تماماً، وبصورة عملية، بالتزامن مع تأليف لجنة عمل وطني، تضم كل القوى الفلسطينية الفاعلة، تضع خيارات وبدائل فعلية لما سوف يترتب على وقف العمل بالاتفاقات مع دولة الاحتلال؛ فمن المعروف أن السلطة قامت بفعل اتفاق أوسلو، وهناك نتائج كثيرة وكبيرة لانسحابها من هذا الاتفاق ينبغي الاستعداد لها، وهي في أي حال تظل أفضل بما لا يقاس من الاستمرار في التزام اتفاق لم يأتِ إلا بالضرر الكبير على القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني الذي تجمعه المقاومة وتفرِّقه الخيارات البائسة.

 

قد يهمكم أيضاً

لماذا التحامل المستمر على «القوميين العرب»!!

حيثيات وتداعيات تفكك الحقل السياسي الفلسطيني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القضية_الفلسطينية #إتفاق_أوسلو #محمود_عباس #السلطة_الفلسطينية #السياسة_الفلسطينية #وقف_التنسيق_الأمني_الفلسطيني_الاسرائيلي