مدخل:

منذ أواخر القرن التاسع عشر، يواجه الوطن العربي من خليجه العربي إلى المحيط الأطلسي العديد من التحديات الداخلية والخارجية، حيث تعرّض ـ ولا يزال ـ لهجمات استعمارية ـ صهيونية بكل صورها وأدواتها الإجرامية، بهدف واحدٍ رئيسي يتمثل بفرض التبعية والوصاية، وتقطيع أواصر الترابط الأزلي بين مكونات أبناء هذا الوطن؛ وفي سبيل ذلك سعت ـ وتسعى ـ القوى المعادية لهذه الأمة إلى تجريدها من مختلف وسائل البقاء والتطور والنهوض. وحتى تتمكن القوى الاستعمارية ـ الصهيونية من تحقيق أغراضها العدوانية، وضعت استراتيجيات للسيطرة على مقدّرات هذه الأمة وخيراتها، التي يبرز من بين أهمها وأخطرها مواد استراتيجية مهمة جداً، كالنفط والمياه.

وفي هذا الصدد، فإن أكبر المخاطر التي تواجه المياه العربية، ما يسعى إليه الكيان الصهيوني من سيطرة عليها بمختلف الوسائل. وكان رواد المشروع الصهيوني متيقظين ـ منذ البداية ـ بالنسبة إلى أهمية المياه في نجاح مشروعهم الاستيطاني في فلسطين واستمراره، ورفعوا شعارهم المعروف «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وهو ما يؤكد أن البُعد المائي كان حاضراً في تكوين الأبعاد الجغرافية للمشروع بوصفه البُعد الذي يتوقف نجاح المشروع واستمراره وازدهاره عليه. لذلك وضعت الحركة الصهيونية دائماً التحكم بمصادر المياه في أولوياتها، إلى درجة عسكرة المياه. وبعدما نجح اليهود في تحقق هدفهم الأول (إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين)، شرعوا في السعي لتحقيق هدفهم الثاني: تعيين وترسيم حدود سياسية وقانونية لدولتهم تحوي ضمنها المناطق الغنية بموارد المياه.

إن التحديات المائية في الوطن العربي آخذة في التعمق والتأثير السلبي الخطير في مستقبله بالأبعاد كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، وهي أهم الأدوات التي يسعى الطامحون إلى السيطرة عليها لفرض التبعية والوصاية عليه، وبخاصة أن الكثير من مصادر الوطن العربي المائية تأتي من خارج حدوده الجغرافية والسياسية، كما هي الحال بالنسبة إلى مياه النيل والفرات. حتى إن المياه التي تنبع من داخل الوطن العربي، لم تخلُ من مخاطر السيطرة عليها.

إلا أن ما يزيد هذه الأزمة خطورة هو أن قرابة نصف الموارد المائية العربية السطحية المتجددة تأتي من مصادر مائية مشتركة مع الدول المجاورة غير العربية (كالنيل ودجلة والفرات)، كما أن هناك محاولات من قبل هذه الدول للاستئثار بأكبر كمية ممكنة من المصادر المائية المشتركة معها في أحواض هذه الأنهار. أضف إلى ذلك أن الكثير من القوى المحيطة بالوطن العربي، تعمل بشكل صريح أو ضمني للتنسيق والعمل مع الكيان الصهيوني، ولم يتوقف الأمر على القوى المحيطة فحسب، بل بات أكثر حرجاً مع بوادر التعاون العربي ـ الصهيوني في إقامة مشاريع مائية مشتركة، حتى مع من يتصدّرون العمل السياسي في فلسطين المحتلة غافلين عن أنها كلها تصب في مصلحة العدو الصهيوني.

إن مسألة الأمن المائي لا بد من أن توضع في قمة سلّم مصالح جميع البلدان العربية، لأن الأعداء ومسانديهم كثُر. وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الأمن المائي العربي، في ضوء التطورات السياسية الدولية وانعكاساتها على وطننا العربي، تفوّق من حيث الأهمية على الأمن العسكري. ولكن ـ للأسف ـ رغم الإدراك المتنامي لخطورة قضية المياه في المنطقة وارتباطها الوثيق بقضية الأمن القومي العربي، إلا أن هذا الإدراك لم تتم ترجمته حتى الآن إلى سياسة عربية موحدة تجاه قضية المياه، وغياب استراتيجية أمنية عربية جدية فاعلة لحماية هذه الثروة القومية، سوف يفاقم المشكلة، ويعمّق من أبعادها الخطيرة.

هناك عدد من العوامل والتفاعلات الداخلية والخارجية أدت إلى تعاظم حدة مسألة الأمن المائي، ولعل ما مرت به المنطقة منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، وما يحلو للبعض أن يطلق عليه «الربيع العربي»، يعكس مدى رغبة وسعي الدول الكبرى الاستعمارية للسيطرة على مقدرات الوطن العربي من خلال الاستقطاب السياسي للقوى المتصارعة سياسياً وعسكرياً. من هنا فإن الأمن المائي لا يقل أهمية عمّا سواه، بل يمكن القول إن الأمن المائي يفوق كل ما سواه؛ نظراً إلى أن إمكان تأمين المزيد من الحاجات الغذائية بسبل زراعية وصناعية مختلفة لشعوبنا محدودة لأن إمكانية زيادة المصادر المائية العذبة محدودة، كما أنه لا يوجد بديل من الماء، في الوقت الذي تجد فيه الطاقة ـ على سبيل المثال ـ عدة بدائل.

لا يمكن فصل مسألة الأمن المائي العربي عن مسألة أهمية ودور الموقع الاستراتيجي للوطن العربي، وما يواجهه من تحديات متعددة الجوانب، وفي مقدمها مشكلة الحفاظ على موارده المائية، لِما لها من تأثير خطير في خطط التنمية على الآماد القصيرة أو المتوسطة أو البعيدة. وما يجعل قضية الأمن المائي العربي أكثر خطورة، أن أغلب البلدان العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها، إذ إن إثيوبيا (الحبشة) وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وكينيا وأوغندا وربما زائير أيضاً، هي بلدان تتحكم بأغلب الموارد والمصادر المائية في المنطقة العربية.

ويمكن القول إن المياه في القرن الحادي والعشرين أصبحت واحدة من أكثر أدوات الصراع في العالم بشكل عام، وفي المنطقة العربية بشكل خاص، لأن الدول التي تمتلك مصادر المياه لا تخفي بطريقة أو بأخرى ميولها نحو فرض التبعية والأتاوى على البلدان العربية التي لديها مصابّ الأنهار، دون مراعاة للاتفاقيات الدولية التي تنظّم العلاقة بين الدول صاحبة منبع الأنهار والدول التي تمر عبرها الأنهار إلى نقطة المصبّ.

وفي خضم التطورات المتلاحقة، وبخاصة التغيرات السياسية المضطربة والغامضة المعالم في المنطقة العربية، وبخاصة في ما أطلق عليه مرحلة الربيع العربي، يحاول الغرب أن يعيد سيطرته على المنطقة العربية تحت مبررات كثيرة، ويسعى لإصدار نسخة جديدة أكثر سوءاً من اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916، ووعد بلفور الصهيوني عام 1917.

ستنتناول في هذا البحث المخاطر المحدقة بالموارد المائية للوطن العربي، من خلال مناقشة مختلف الجوانب ولا سيّما الجوانب القانونية منها.

أولاً: القانون الدولي وموقفه من المسألة المائية

تعاملت الاتفاقيات الدولية مع مشكلة المياه الدولية، كما عالجت بعض المعاهدات على مدار السنين قضايا من بينها الحصص المائية وتنظيم الملاحة وصيد الأسماك، وبناء المنشآت العامة مثل السدود، وتم تعديل بعض المعاهدات ـ ولا سيّما منذ مطلع السبعينيات ـ لتعكس القلق المتزايد حول مختلف المشكلات المائية الآخذة في التزايد والمخاطر.

تعامل القانون الدولي مع قضايا الأنهار، وبخاصة الأنهار العابرة للدول، من الناحية القانونية. ومع أواخر القرن التاسع عشر بدأت الاهتمامات في مفهوم النهر الدولي، من أجل الحدّ من الصراعات الدولية حول استخدام الأنهار بين الدول ذات الشأن.

خلاصة القول إن مفهوم المجرى المائي الدولي وفق التطورات المعاصرة يشمل بإطاره الواسع ـ إضافة إلى الأنهار ـ مساحات المياه العذبة الأخرى كالبحيرات والقنوات والخزانات والمياه الجوفية، أي أن النهر الدولي هو جزء من المجرى المائي الدولي. وفي هذا السياق يحدد القانون الدولي عدة أنواع من الأنهار الدولية، منها:

1 ـ أنهار وطنية ذات أهمية دولية: وتنبع أهمية هذا النوع من مدى صلاحيته للملاحة بأكمله، وبخاصة إذا كان النهر ينبع عند حدود دولة مجاورة ويصب في بحر عام لا اتصال لهذه الدولة به.

2 ـ الأنهار الحدودية أو المتاخمة: وهذه الأنهار تستعمل بين دولتين أو أكثر، وتشكل حدوداً (متشاطئة) دولية لها مثل نهر شط العرب بين العراق وإيران. وغالباً ما تتسبب أنهار كهذه في مشاكل تتعلق بقياس حدود الدولة النهرية، وما يرتبط بها من نواحٍ سياسية وعسكرية.

3 ـ الأنهار المتتابعة أو المتعاقبة: ففي هذه الحالة تكون الدول النهرية هنا دولة منبع أو دولة مصب للنهر، أو دولة المجرى الأوسط للنهر مثل نهر النيل الذي يجري في أقاليم عشر دول أفريقية.

التزمت البلدان العربية بالاتفاقات الدولية التي تنظم علاقاتها مع الدول التي تمتلك منابع الأنهار الدولية، لكن العديد من الدول المالكة لمنابع الأنهار لم تلتزم بالاتفاقات، وكان لحالة عدم الاستقرار السياسي في البلدان العربية دور هام في عدم اهتمام الدول المالكة للمنابع النهرية بمصالح البلدان العربية. وقد شجع على هذا التوجه التدخل الصهيوني وتعاون الدول المالكة للمنابع معه، حيث لا يخفي هذا الكيان عداءه للعرب، منذ زمن طويل جداً. ويرى قادة الكيان الصهيوني أن أخطر المعارك ستكون مع العرب حول المياه. وكما أشرنا، فإن هذا الكيان لا يلتزم بأي اتفاقيات ومعاهدات، ولا يتوانى عن ممارسة الضغوط، حيث أقام تعاوناً مع إثيوبيا للضغط على مصر، بعدة أساليب، منها تقديم مساعدات مالية لإقامة السدود على نهر النيل (سد الألفية)، والتوسع في علاقاته مع جنوب السودان ولا سيّما بعد انفصاله عن السودان في شهر تموز/يوليو عام 2011، مع عرضٍ مقابلٍ لذلك ألا وهو شراء مياه النيل من جنوب السودان.

وقد أدركت البلدان العربية المخاطر التي قد تواجه مياهها، لذا نجد الكثير منها يلجأ إلى المؤسسات الدولية القانونية أو ذات الاختصاص. وتعزز ذلك من خلال المبادرات العربية، ومن بينها مؤتمر عام 2000 الذي عقد بدعوة من مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي بباريس، وجامعة الدول العربية.

توصل معهد القانون الدولي في عام 1991 إلى مجموعة من القواعد العامة بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية، حيث راعت هذه القواعد معيار العدالة عند توزيع المياه بين الدول المشتركة في الأنهار. وتعني العدالة هنا حصول الدول المشتركة في نهر معيّن على حصص متساوية من مياه النهر، وهذا مرتبط بطبيعة النهر، وحجم المنطقة التي يمر بها في أرض الدولة، والظروف المناخية في حوض النهر ككل وفي كل دولة على حدة، وتاريخ استغلال مياه النهر وحجم السكان، وتكاليف الحصول على المياه من مصادر بديلة، ومدى توافر هذه البدائل.

ولم يتوقف الأمر على المعهد الدولي، بل نجد مدى اهتمام هيئات ولجان دولية بقضية المياه، إذ اعتبرت لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في اجتماعها في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002، أن الحق في المياه يتضمن حماية الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، بما فيها المنشآت المائية والإمدادات، وأعمال الري وحماية البيئة الطبيعية من الأضرار.

تأسست دراسة القانون الدولي بشكل عام على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: مبدأ العدالة والاستعمال المعقول، ومبدأ عدم الإضرار بالغير، ومبدأ التعاون الدولي المائي لإنجاح المبدأين السابقين، كاتجاه عام نحو تحقيق التنمية المستدامة. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه إذا كان من حق الدول النهرية قانوناً أن تقيم سدوداً على الجزء المار بإقليمها، فإن ثمة قيدين جوهريين يردّان على هذا الحق هما: عدم التسبب في إلحاق الضرر بباقي دول النهر، والالتزام بإجراءات الإخطار المسبق، المتمثلة بوجوب قيامها بإرسال كل الدراسات والبيانات الفنية المتعلقة بالسد إلى جميع دول المجرى المحتمل تضررها من إنشائه، مع التزامها قانوناً بعدم البدء في الإنشاء، إلى أن تتمكن هذه الدول من دراسة وتقييم الآثار المحتملة في فترة معقولة.

لكن إذا كانت المنظمات والهيئات واللجان الدولية تبدي اهتماماً واضحاً في مشكلة المياه، فما هو دور المنظمات العربية في هذا الشأن؟

بالعودة إلى الستينيات من القرن العشرين نجد أن مشكلة المياه العربية فرضت حالتها بشكل قوي على القيادات العربية، وتحديداً الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي دعا إلى عقد قمة عربية عام 1964 لمواجهة الأطماع الصهيونية في المياه العربية، وبخاصة مشروع تحويل نهر الأردن لمصلحة الكيان الصهيوني، حيث نتج من ذلك قرارات هامة، لم يتم تنفيذها ومتابعتها بشكل جدي حتى وصلت الأوضاع المائية العربية إلى ما وصلت إليه من سوءٍ وضياع، إذ لم تقْدم الجامعة العربية على تبني مشروع ملزم لجميع الأقطار العربية، وبخاصة بعد هزيمة عام 1967، ورحيل عبد الناصر، وما تبع ذلك من استسلام لأمريكا والانفتاح على الكيان الصهيوني، بدءاً بمعاهدة كامب دايفيد (1978)، مروراً باتفاقية أوسلو (1993)، إلى وادي عربة عام 1994 واتفاقية إقامة قناة البحرين في أواخر عام 2013، بين الأردن والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني. وهكذا فإن الهيئات العربية ومن خلفها الدول العربية، ما زالت غير قادرة على تبني استراتيجية مؤثرة في التعامل مع القضايا المائية، حتى إن العديد من المنظمات الإقليمية لم تستطع إيجاد حل معقول وعادل للمشكلات المائية العربية، والسبب ـ في رأينا ـ أن أصحاب الشأن المباشرين لم يكرسوا جهوداً تتناسب وحجم المخاطر. وقد ازدادت الخطورة أكثر بسبب النزاعات بين البلدان العربية نفسها، حول المشكلات المائية، وبالتالي ازدادت أطماع الدول التي تنبع منها الأنهار التي تجري لمئات بل آلاف الكيلومترات في الوطن العربي.

ثانياً: المشكلات المائية بين سورية والعراق
من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى

لا يمكن فصل الأطماع السياسية وجذورها التاريخية، عندما نناقش القضايا المائية بين عدد من الدول العربية من جهة، وبين الدول التي تحيط بالإقليم العربي من جهة أخرى، إذ نجد دولة مثل تركيا تسعى من خلال إقامة المشاريع والسدود المائية، وبشكل خاص مشروع جنوب شرق الأناضول (الغاب)، إلى تحقيق أهداف سياسية إضافة إلى أهداف اقتصادية، وبخاصة في علاقاتها مع سورية والعراق. أصبحت الدوافع السياسية التركية وراء مثل تلك المشاريع واضحة في ضوء التطورات السياسية التي تعيشها هذه البلدان العربية (سورية والعراق)، إذ تسعى تركيا ـ إذا تمكنت ـ إلى تغيير خطير في خريطة الجغرافيا السياسة في المنطقة، من أجل بناء مكانة إقليمية متميزة من خلال الربط المائي الإقليمي، واستخدام الموارد المائية كورقة ضاغطة على كل من سورية والعراق، بواسطة التحكم بتصاريف نهر الفرات، فنجد أن تركيا تعارض بشدة أي اتفاق مائي متعدد الأطراف. ويتمثل أخطر الأهداف السياسية المائية التركية في المنطقة بإرغام العرب على قبول الكيان الصهيوني والتعاون معه بصورة دائمة من خلال ربط قضية مياهها بقضية السلام بالمنطقة العربية، وبخاصة بعد التقارب التركي ـ «الإسرائيلي» في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية كافة.

ومع انتهاء تركيا من مشروعها الضخم على نهري الفرات ودجلة، أصبح بإمكانها أن تتحكم بتدفق مياه الفرات، وامتلكت سلاحاً تستطيع أن تشهره بوجه العراق وسورية إذا ظهر أي خلاف في الرأي حول أي مشكلة من المشكلات الثنائية أو الثلاثية، وخصوصاً بعدما أفصح الأتراك، من أجل استمرار تدفق مياه الفرات إلى سورية، عن ثلاثة شروط:

أولاً: إقرار سوري بالتنازل عن لواء الإسكندرون.

ثانياً: عدم السماح للعناصر الكردية ذات الأهداف القومية الكردية بالتحرك، وضربها داخل سورية.

ثالثاً: عقد اتفاقية للمياه تشمل مياه العاصي بوصفه نهراً دولياً، ويمر في دولة ويصب في أخرى.

كانت الأزمة المائية بين تركيا وسورية ـ وما زالت ـ تؤجج الصراع في المنطقة، وبخاصة بعد التطورات التي تشهدها سورية منذ ثلاث سنوات. وفي عام 1990 بلغت الأزمة بينهما ذروتها عندما أقفلت تركيا نهر الفرات بالكامل، وفي العام 1995 اتفقت مع مجموعة شركات أوروبية و44 مصرفاً لتمويل سد «بيرجيك» على نهر الفرات.

تتميز الممارسات التي تقوم بها الحكومة التركية بعدم الإذعان للتعهدات والمعاهدات الدولية ولا سيّما في ما يتعلق بالمسائل المائية، وبرفض التوقيع على الاتفاقية الدولية حول قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، رغم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا يعني أن الحل وفقاً للنظرة التركية، لا بد من أن يكون سياسياً، حيث تستغل التطورات السياسية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص، ولا تخفي رغبتها في التمدد والتوسع تحت العديد من المظلات، ولكن الهدف الأعلى سياسي.

وإذا كانت هذه هي بعض الأمثلة على التوجهات السياسية المائية التركية في علاقاتها مع سورية، فإن الوضع مع العراق ليس أفضل حالاً، فقد لعبت تركيا على نغمة الطائفية، آملة أن يكون أمامها فرصة لتعويض ما فقدته في مجالات ومناطق دولية أخرى، وعبر التمدُّد في العراق، ولكن الرياح ـ على ما يبدو ـ لم تجرِ كما تشتهي السفن. وفي أيار/مايو 2011 رفض العراق توقيع اتفاقية اقتصادية مع تركيا تضمن لها حصة مائية محددة. والحقيقة أن الخلافات بين تركيا والعراق ليست وليدة مرحلة معينة أو محصورة بمسألة بعينها، وقد تمثلت جوانب الخلافات في مسألة المياه بين البلدين بأبعاد مختلفة، وفي مقدمها الأبعاد الفنية، ومن بينها:

أولاً، عدم استجابة تركيا لنداءات العراق المتكررة بشأن زيادة حصته من مياه الفرات، وعوض ذلك طالبته بجدولة مياه نهري دجلة والفرات في حساب الحصص وهي الطريقة ذاتها التي اعتمدتها مع سورية.

ثانياً، استغل سكان وادي الرافدين الخاصية الطبيعية الجغرافية لنهري دجلة والفرات، وهي ارتفاع وادي الفرات عن وادي دجلة تارة، وعلى العكس تارة أخرى. فنهر دجلة في قسمه العلوي، يجري بمناسيب تعلو على مجرى نهر الفرات، وحين يصل إلى بغداد ينخفض عن نهر الفرات بسبعة أمتار تقريباً، ثم إذا سرنا جنوباً يعود فيصبح بالقرب من الكوت أعلى من نهر الفرات من جديد. وهنا ينحدر شط الغراف الذي يأخذ من الضفة اليمنى لنهر دجلة وينتهي إلى نهر الفرات عند الناصرية، وهذه الخصائص تساعد على تأمين الري من النهر الواحد والصرف إلى النهر الآخر بالتناوب بحيث يمكن شق جداول عديدة بين النهرين تمتد بصورة موازية لجريانها بالنسبة إلى النهرين، وهذا يتوقف على المنطقة التي تقع فيها هذه الجداول.

ثالثاً، يرفض العراق المطالبة التركية ويعتبرها تدخلاً في سيادته الإقليمية، وأن مشاريع الري داخل العراق شأن داخلي، وهذا ينسجم مع ما أقرّته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة عام 1994. وفي هذا الخصوص فإن العراق يدفع ثمن عدم التزام الطرف الثاني (تركيا) بما اتُّفق عليه وفقاً للمواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمياه، حيث وقع وسورية مع تركيا كثيراً من الاتفاقيات عبر مراحل زمنية وفقاً للمعاهدات الدولية، بدءاً من عام 1923، مروراً بمعاهدة الصداقة بين البلدين عام 1946، وبروتوكول التعاون عام 1971 واتفاق العام1990.

وعندما نتحدث عن مشكلة المياه بين كل من سورية والعراق من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، نجد أن سلوك تينك الدولتين يكاد يكون واضحاً. وفي ما يتعلق بإيران والعراق، تؤدي السياسة والأطماع التوسعية دوراً خطيراً في صيغة الاتفاقيات، وبخاصة في مسألة شط العرب. فعلى الرغم من استجابة العراق للكثير من المطالب الإيرانية، إلا أن إيران ما زالت مستمرة في السياسات المائية عينها، من خلال تحويل مسارات الأنهار والروافد التي تنبع من أراضيها وتصب في شط العرب والأراضي العراقية من تاريخ وجود البلدين.

وقد تصاعد السلوك الإيراني المناوئ، حيث انعكس تحويل الأنهار وجفافها سلباً على الثروة النباتية والحيوانية. ومن بين السلوكيات الضارة الإيرانية، نجد أنها عمدت عام 2010 إلى تصريف مياه الصرف الصحي فيها إلى جنوب العراق، وهو ما أدى إلى تضرر مساحات واسعة من الأراضي، فضلاً عن زيادة الملوحة في شط العرب.

خلاصة القول إن هناك العديد من المشكلات المائية بين سورية والعراق من جهة وتركيا وإيران من جهة أخرى، والمشكلة الرئيسية القاتلة أن معظم مصادر المياه العربية تنبع من مصادر غير عربية، إضافة إلى أطماع الدول، وأكثرها خطورة أطماع الكيان الصهيوني.

إن الصراع على مياه النهرين (دجلة والفرات) قد تطور بشكل مختلف عما كان عليه، مع بدء مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين. وكان للكيان الصهيوني المعادي للعرب دور خطير في تأجيج الصراع، وهو لم يُخف أطماعه في المياه العربية للوصول إلى النيل والفرات. فمنذ عام 1944 أعد خبير صهيوني مشروعاً يعتمد على تجميع مياه المنطقة (الأردن ـ اليرموك ـ العوجا ومياه الينابيع الجوفية والسيول)، وفي الفترة التي كان فيها أيزنهاور رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، كلف أريك جونستون لمعالجة أزمة المياه، إلا أن الأخير لم ينجح في ذلك، وجاء بدلاً منه كونون، فشمل مشروعه نهر الليطاني وإنشاء فاصل كبير بين الأردن والكيان الصهيوني من خلال تخزين مياه اليرموك في الأردن بدلاً من بحيرة طبرية.

ثالثاً: أهم المشكلات المائية في حوض النيل: إثيوبيا ومصر

مع دخول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأ الوطن العربي يواجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية على الصعيد السياسي والاقتصادي والفكري، ومن أهم التحديات الداخلية الصراع السياسي على السلطة، إذ شهدت الساحة العربية حالات عديدة من الاحتجاجات الشعبية والثورات التي نجحت في كثير منها في تغيير القيادات الحاكمة، ووصول فئات سياسية دينية إلى سدة الحكم، غير أن الوضع السياسي والاجتماعي والأمني فيها لم يستقر بعد، وما زالت القوى الوطنية والدينية تتصارع بهدف الوصول إلى السلطة، وهذا ما تعانيه مصر. وبالتالي، فإن مسألة النظر في ما يجب فعله تجاه المشكلات المائية تراجعت كثيراً، وهذا بدوره أعطى الدول الطامعة في مياه النيل المزيد من الفرص لفرض الأمر الواقع.

تجدر الإشارة إلى أن لمصر ـ وبالرغم من أنها تقع في أفريقيا ـ واجهة آسيوية قوية وأخرى متوسطية؛ إذ تمتد سواحلها لتلامس البحر المتوسط، وإلى الشرق منها تقع الأراضي الفلسطينية عتبة الشرق إلى الشام وبلاد الرافدين وجزيرة العرب؛ أما في الغرب، فتحدّها الأراضي الليبية التي تصل مصر عن طريق الشريط الساحلي المتاخم للبحر المتوسط، في حين تحدّها من الجنوب الأراضي السودانية ومنابع نهر النيل العظيم؛ ويحف بالواجهة الشرقية لمصر من نقطة حدودها البرية مع فلسطين في الشرق خليج العقبة فالبحر الأحمر.

يعتبر نهر النيل شريان الحياة الرئيسية في مصر، فلا عجب إذن، عندما نقرأ قول المؤرخ اليوناني هيرودوتس إن مصر هبة النيل. ويتميز نهر النيل بأنه أطول الأنهار في العالم ويمر في عشر دول هي: إثيوبيا وزائير وكينيا وإريتريا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا والسودان ومصر، التي تعد أكثر الدول حاجة إلى مياهه، لموقعها الصحراوي وقلة الأمطار فيها، وهذا ما دفع جمال عبد الناصر إلى بناء السد العالي لتوليد الطاقة وتطوير البنية الاقتصادية وتوفير مياه الشرب. ولقد أصبح النيل بعد ذلك نهراً دولياً. وقد برزت أهمية مشروع السد العالي لاحقاً، لِما يمثله هذا المشروع من أهمية وما له من انعكاسات متنوعة داخلياً، وخارجياً على الدول التي تشترك مع مصر في هذا النهر من المنبع إلى المصب.

بعد رحيل عبد الناصر، ومع التغيرات السياسية التي شهدتها مصر في القرن الحادي والعشرين بوجه خاص، أخذت المخاطر المائية تتراكم بشكل واضح جداً على مصر، وهي تتمثل بإقامة السدود على نهر النيل وبخاصة السدود الإثيوبية، لذا فإن من بين أسباب الأزمات المائية بين دول حوض النيل محاولة الاستئثار بالمياه من قبل طرف على حساب طرف آخر، وهذا الواقع يمكن إدراكه من قبل الدول المشتركة في النيل، ولا سيّما مع وجود قوى خارجية تحاول إثارة الخلافات كي تصبح طرفاً مؤثراً في صوغ معادلة الاستفادة من المياه الإقليمية والدولية. وقد تناولنا ذلك بإسهاب عند مناقشة مشروعات السدود الإثيوبية التي أقيمت والتي ستقام على مجرى النيل، حيث يتضح مدى الاختلاف والتعارض بين دول الحوض، وفقاً لما تقره القوانين الدولية والاتفاقيات التي وقعت بشأن الوسائل والطرق التي يمكن اتباعها للاستفادة من النيل، على أساس من العدالة والالتزام.

ومن المفيد الإشارة إلى أن أهم الآثار السلبية للسدود الإثيوبية في مصر تتمثل بسعتها التخزينية وباستهلاك المياه في الزراعات المروية، إذ إن السعة التخزينية ستُخصم من مخزون المياه أمام السد العالي، وبالتالي ستعود ظاهرة الجفاف والعجز المائي في سنوات الفيضان المنخفضة إلى الظهور، أما المياه التي سوف تستخدم للري فستكون خصماً مباشراً من حصتَي مصر والسودان السنوية.

وعليه، فإذا كانت هذه السدود تعكس بعض المؤشرات على الوضع المائي في نهر النيل، فإن بدء إثيوبيا في إقامة سد النهضة على نهر النيل الأزرق يدق ناقوس الخطر وما يتبع ذلك من توترات في العلاقات بين دول حوض النيل، وتحديداً بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، كونها مسيطرة على منبع نهر النيل. فما هو سد النهضة، وما هي آثاره وتداعيات إنشائه على الأمن القومي لمصر والسودان، ولا سيّما بعد دخول قوى معادية للوطن العربي (الكيان الصهيوني) طرفاً خطيراً ومحرضاً على إشعال الفتنة المائية، ليس في حوض النيل فحسب، بل في جميع البلدان العربية المحاذية لهذا الكيان.

لم تقتصر مخاطر إقامة السدود الإثيوبية على مصر، فللسودان حصة من هذه المخاطر، ويمكن القول، إن النزاع حول نهر النيل له جذوره العميقة، ولكن حدته تنحصر بين ثلاث دول رئيسية، هي مصر والسودان وإثيوبيا؛ أما بقية الدول في حوض النهر فتؤدي دوراً هامشياً إلى حد ما في النزاع. ويبدو أن انفصال جنوب السودان في التاسع من شهر تموز/يوليو 2011، خلق وضعاً أكثر صعوبة، نتيجة محاولات دول معادية التدخل في النزاع المائي وتأجيج الصراع بين دول حوض النهر. وأكثر هذه القوى حقداً هي الكيان الصهيوني، الذي يسعى بكل الوسائل لتأجيج الصراع بين دول الحوض، وبخاصة بين السودان ودولة الجنوب الانفصالية، علماً أنه لا تخفى المشاركة العلنية للكيان الصهيوني في ذلك، بل إن التدخل ازداد بعد انفصال الجنوب.

رابعاً: المطامع الصهيونية في المياه العربية

قامت الاستراتيجية الصهيونية لسرقة المياه ـ مدعومة من القوى المعادية للأمة العربية ـ ، على مبدأ أساسي في غاية الخطورة على الأمن المائي العربي، بل وعلى الأمن القومي العربي ككل، حيث عمدت إلى العديد من الأساليب، منها التحالف مع تركيا وإثيوبيا، وتوقيع ما أطلق عليها اتفاقيات السلام، بما يعني أن أكبر نهرين في المنطقة (النيل والفرات) سيكونان تحت سيطرة هذا الكيان، إضافة إلى سعيه لإقامة مشاريع مائية مشتركة.

من هنا، باتت الأهمية الكبرى للمياه واضحة في الاستراتيجية الصهيونية التي انبثقت منها سياسة تعمل ضمن مخطط في إطار عقائدي على تحقيق حلم إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات. من هنا بدأت المياه تظهر جنباً إلى جنب مع الحدود، منذ بدء التفكير في إنشاء الكيان الصهيوني، لذلك كانت المرحلة الأولى السيطرة على الموارد المائية الفلسطينية، ومن ثم التطلع إلى المياه العربية القريبة منها والبعيدة.

تعود الأطماع الصهيونية في المياه العربية إلى مراحل تاريخية قديمة، مدعومة بمعتقدات دينية. وتشير الدراسات المتخصصة في المعتقدات الدينية الصهيونية إلى أن تيودور هرتزل ـ مؤسس الصهيونية العالمية ـ كان له الفضل والدور الأبرز في الربط بين فكرتي الوطن والماء، وزرع هذه القناعة في المدركات اليهودية الفكرية لإقامة دولة «إسرائيل الكبرى». وعن طبيعة وحدود الدولة التي يتوقعها «هرتزل»، يقول في رده على الإمبراطور الألماني: «لقد سألني الإمبراطور الألماني أيضاً عن الأرض التي نريد، وعن حدودها، وما إذا كانت ستمتَدُّ شمالاً حتى بيروت، أو أبعد من ذلك، ولكننا سنطلب ما نحتاجه. إن المساحة تزداد مع ازدياد عدد المهاجرين، علينا أن نطل من البحر؛ بسبب مستقبل تجارتنا العالمية، ولا بدّ لنا من مساحة كبيرة للقيام بزراعتنا الحديثة على نطاق واسع، إن إسرائيل التي نريد هي إسرائيل سليمان وداود».

اعتمد الكيان الصهيوني في أمنه المائي على سرقة المياه العربية، سواء من الأراضي المحتلة (فلسطين والجولان) أو من الأراضي العربية المجاورة كالعراق وسورية ولبنان والأردن ومصر. ومنذ أيام الانتداب البريطاني، وقبيل الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كان زعماء الحركة الصهيونية والساسة البريطانيون يدركون أن مشكلة المياه ستشكل حجر عثرة في أي تسوية سياسية مستقبلية، لذا فإن الصهاينة طالبوا بعد صدور وعد بلفور بأن يمتد احتلالهم (حتى جنوب لبنان) كي يتسنى لهم السيطرة على مياه نهر الليطاني.

يتبين مما تقدم أن الفكرة الصهيونية قد تبلورت بشكل صريح حول هدف الاستيلاء على الشجر والحجر والماء وطرد البشر منذ أوائل القرن العشرين. وكما أشرنا، فقد تقدم الصهاينة إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، بطلب أن تبدأ حدود فلسطين من نقطة على البحر الأبيض المتوسط شمال مصبّ الليطاني ممتدة شرقاً بحيث تستحوذ وتتحكم في جميع المنابع التي تغذي نهر الأردن ونهر الحاصباني في لبنان ونهر بانياس في سورية والسواحل الشرقية لبحيرة طبرية وكل جداول وروافد نهر اليرموك.

ظهرت مساعي العدو الصهيوني من خلال طروحات قادته حول قضايا المياه في المنطقة لترويج «رغبته في تحقيق السلام» أن هذا يتطلب الدخول في مشاريع مشتركة مع البلدان العربية. فها هو سفّاح قانا شمعون بيريز يزعم أن قضية المياه تعتبر دليلاً على مدى الحاجة إلى إقامة نظام إقليمي يهدف إلى التخطيط لمشاريع تنمية المياه وتوزيعها على أساس اقتصادي بأسلوب عادل ومؤتمن، وينطلق من هذه الرؤية للقول بضرورة إنشاء هيئة إقليمية تشارك فيها جميع الأطراف المعنية بالنيل وتوزيع مياهه، وهو ما يسهم في النهاية في تخفيف أسباب التوتر والعمل من أجل السلام (حسب زعمهم وتضليلهم).

وعند الوقوف على ما تضمنته اتفاقية «وادي عربة» لعام 1994 الموقعة بين الأردن والكيان الصهيوني، نجد إلى أي مدى فرض هذا الكيان الغاصب شروطه ومتطلباته حيث تم انتزاع اعتراف رسمي من المملكة الأردنية الهاشمية بحقِّه في مياه «وادي عربة» ونهر اليرموك، وتحدّث الاتفاق المذكور عن تقاسم مياه اليرموك (متجاهلاً سورية)؛ علماً أنه رغم إقرار الكيان الغاصب بضرورة تزويد الأردن بنحو 50 مليون متر مكعب سنوياً، من مياه بحيرة طبرية إلا أنّ هذا الاتفاق لم ينفذ بصورة عملية. وإضافة إلى هذا الإجحاف والسيطرة والاعتداء على الحقوق العربية في المياه، فقد سيطر الكيان الغاصب على 900 مليون متر مكعب من مياه حوض الأردن، من دون أن يقتصر الأمر على هذا الحد، إذ اعتدى على المياه الجوفية في الحوض الغربي الفلسطيني، حيث أقام 500 بئر ارتوازية غرب حدود 1967.

وعليه يمكن القول إن موضوع المياه مرشح لإشعال الحروب في منطقة الشرق الأوسط وفقاً لتحليل دوائر سياسية عالمية. يقول الخبير الأمريكي توماس ناف: «إن المياه في الشرق الأوسط قضية اقتصادية وسياسية واجتماعية، وتمتد لأن تصبح مصدراً محتملاً للصراع، وهو ما يجعلها ذات بعد عسكري»، وبخاصة أن أغلب الأقطار العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها، فإثيوبيا وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وكينيا وأوغندا وإريتريا والكونغو هي بلدان تتحكم بنحو 60 بالمئة من منابع الموارد المائية للوطن العربي. ويدور الحديث الآن حول ارتباط السلام في الشرق الأوسط بالمياه، بعد اغتصاب الكيان الصهيوني لمعظم نصيب دول الطوق العربي من المياه، كما أن بعض الدول أخذت تتبنى اقتراحاً خطيراً يتمثل بمحاولات إقناع المجتمع الدولـي بتطبيق اقتراح تسعير المياه، وبالتالي بيع المياه الدولية، وفي مقدمة هذه الدول تركيا وإسرائيل.

خامساً: تحديات المياه في دول مجلس التعاون الخليجي

إن مشكلة المياه آخذة في التفاقم، وليست مقتصرة على جهة أو منطقة بعينها في الوطن العربي، فجميع الأقطار العربية معرضة لمخاطر مائية، وهذا ما يمكن تعميمه على أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

مع تطور مفهوم الأمن القومي وعناصره ومقوماته على الصعد العربية والإقليمية والدولية أدركت بلدان الخليج هذا التطور ولم تعد رؤيتها للأمن القومي تقتصر فقط على القدرات العسكرية لصد العدوان أو تحقيق الشعور بالأمن، بل أصبحت منسجمة ومتوافقة مع حاجتها الفعلية للأمن كما هو معمول به في مختلف دول العالم. وأصبحت مسألة تأمين دولها من الداخل وحمايتها من التهديد الخارجي بما يكفل لشعوبها حياة مستقرة توفر لها أسباب النهوض والنمو والتعبير عن هويتها بين الأمم وممارسة حريتها في استغلال طاقاتها البشرية وثرواتها المعدنية والطبيعية، لتحقيق أهدافها في التقدم والازدهار والسلام، هي من أبرز عناصر التطور الاستراتيجي في مفهوم الأمن الخليجي. وبهذا المعنى وسّعت مفهومها للأمن ليتعدى الجانب العسكري إلى نظرة استراتيجية شاملة تعكس تطلعات شعوبها لتحقيق أمنها القومي بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية.

وكان الأمن المائي من أهم ما سعت إليه بلدان مجلس التعاون الخليجي في إطار تحقيق الأمن القومي لها، إذ لا يمكن إغفال الحقائق المتعلقة بتلك المسألة وأبعادها للمنطقة. وبات معروفاً أن بلدان المجلس، شأنها شأن بقية البلدان العربية، تواجه الكثير من التحديات والمشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية والمائية والبيئية، التي يمكن أن يكون لها انعكاساتها الخطيرة على الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، ولا سيّما مع تصاعد حدة المشكلات المائية في الإقليم العربي، سواء منها الداخلية لكل دولة، أو المتصلة بدول الجوار العربي. وربما كان ارتفاع درجات الحرارة، وقلة سقوط الأمطار في فصل الشتاء من أكثر ما يفاقم المشكلة المائية والبيئية لبلدان الخليج ويعرّضها للجفاف والتصحر.

ومن المعروف أن دول مجلس التعاون تلجأ إلى أساليب لتوفير مياه تستخدم في مجالات متعددة من التنمية الزراعية، حيث تشكل معالجة مياه الصرف في المنطقة مصدر مياه زائداً، نتيجة استهلاك المياه في المناطق الحضرية. وتستخدم مياه الصرف المعالجة بشكل أساسي في ري محاصيل العلف والحدائق والمناظر الطبيعية على الطرق السريعة والمتنزهات.

غير أن الأمر الأكثر خصوصية والأشد خطورة ـ في الوقت ذاته ـ بالنسبة إلى الأمن المائي لبلدان الخليج العربية، أنها تقع في منطقة صحراوية فقيرة مائياً، وخالية من أي نهر، وتعتمد في تلبية حاجاتها من المياه العذبة ـ بشكل محدود ـ على مياه الأمطار، والمياه الجوفية غير المتجددة، وبشكل شبه كامل على تحلية مياه البحر؛ على سبيل المثال يبلغ حجم مياه البحر المحلّاة هناك نحو 85.1 مليار متر مكعب، بما نسبته نحو 90 بالمئة من إجمالي إنتاج المنطقة العربية من المياه المحلاة.

وما ورد في تقرير صادر عن البنك الدولي، أيار/مايو 2011، أشد دلالة على الوضع الحرج للأمن المائي الخليجي، إذ وصف الوضع المائي في الخليج بأنه أكثر تعقيداً وخطورة، حيث تواجه بلدان المجلس مشكلة حقيقية في شح موارد المياه، وأنها في جميع الأحوال لا تمثل أكثر من نسبة 3 بالمئة من مجموع الموارد المائية العربية المتجددة. وهكذا فإن الأمن المائي عرضة لمخاطر متعددة الجوانب، وهي ذات أبعاد وطنية وقومية خطيرة، تهدد الأمن الخليجي على المستويين الوطني والجماعي.

ونحن نتحدث عن المشكلات المائية لهذه البلدان، لا يمكننا أن نغفل مطامع الدول المجاورة، وبخاصة في شط العرب، ودوره في الصراعات المائية بين دول الخليج العربية وإيران، وفي توفير موارد مائية لها، فضلاً عن أنه ممر ملاحي استراتيجي لهذه الدول للتواصل مع بقية دول العالم بحراً.

خاتمة واستنتاجات

تكتسب قضايا المياه في الوطن العربي أهميتها وخطورتها من تعدد الأبعاد المتعلقة بها. فهي تشتمل على أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، جعلت المياه في الصدارة، وإنْ كان ذلك غير معلن، في استراتيجيات الدول الكبرى كهدف رئيسي يجب امتلاكه والسيطرة عليه أو التحكم فيه. ويبدو ذلك جلياً في مؤامرات وخطط الكيان الصهيوني المتعلقة بالمياه؛ فمنذ القدم وقبل احتلال فلسطين كانت هناك تحركات ومؤامرات صهيونية تختص بالمياه، بما يؤكد أهمية هذا العنصر في تحقيق الأمان السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أي دولة.

لا يمكن فصل الوضع المائي العربي عن الحالة السياسية والاقتصادية والأمنية، لأنه يقدم إشارات ودلائل قوية على أن التحديات القادمة كبيرة وخطيرة جداً، لذا فالأمر لا يحتمل الانتظار حتى تقع الكارثة ومن ثم نتنادى للالتقاء والبحث ورمي التهم، والندب والبكاء على الأطلال.

ولم يعد مقبولاً أن تتحكم دولة أو مجموعة إقليمية بموارد مائية وتجعلها حكراً عليها، لأن ذلك السلوك سيؤدي حتماً إلى صراعات إقليمية دبلوماسية وربما تتحوّل في كثير من الأحيان إلى صراعات مسلحة. ومن ناحية أخرى، يتسم التوزيع الجغرافي لموارد المياه العذبة في العالم بكونه مشتركاً في كثير من الأحيان بين دولتين، وثلاثة بلدان أو أكثر، كما حال نهر النيل، وهناك أحواض (لا تقل عن 23 حوضاً) تشترك فيها من 4 إلى 12 دولة. وتقع نسبة 75 بالمئة أو أكثر من إجمالي مساحة 50 بلداً داخل أحواض الأنهار الدولية في حين يعيش بين 35 و40 في المئة من سكان العالم في تلك الأحواض.

في هذا الصدد، وفي ضوء ما تقدم من المعطيات يبقى التساؤل: هل هناك استراتيجية عربية واضحة في ما يتعلق بالأمن القومي المائي العربي؟ وهل الأمن القومي المائي لبعض الأقطار العربية سوف يفرض عليها خيارات قد تكون خارج إطار العمل العربي المشترك؟ وهل يمكن لنا التنبؤ بطبيعة العلاقات العربية البينية في ظل الأزمة المائية؟ ماذا سيحدث ـ مثلاً ـ في المستقبل بين مصر والسودان؛ العراق وسورية؛ الأردن وسورية؟ وهل هناك رؤية واضحة للمستقبل المائي ولكيفية التعامل مع الخيارات الحتمية المائية التي سوف تفرض نفسها على الصراع العربي ـ الصهيوني؟

إن تصاعد حدة أزمة المياه في الوطن العربي يرجع إلى عدة أسباب رئيسية، منها:

1 ـ ارتفاع عدد السكان من دون مواكبة لتطور مصادر المياه، وهو ما ينعكس على مصادر المياه المتاحة على سطح الأرض.

2 ـ إساءة التصرف بموارد المياه المتاحة من خلال استخدام الأساليب الخاطئة والقديمة التي تتبعها العديد من الدول وفي مختلف المجالات، وبخاصة الزراعية التي تؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من موارد المياه.

3 ـ التلوث الذي يجعل أكثر مصادر المياه غير صالحة للاستخدام البشري. وغالباً ما تكون مصادر المياه المتضرر الأكبر من مصادر التلوث، التي تتزايد بسبب الأسمدة الكيميائية والمبيدات الزراعية المستخدمة لأغراض الزراعة وبقايا المواد الكيميائية في عمليات التصنيع مياه الصرف الصحي غير المعالجة التي ترمى في مجاري الأنهار وتحوي الكثير من الملوثات.

4 ـ الأطماع التي تحرّك القوى المعادية لهذه الأمة للسيطرة على أهم أداة من الأدوات الاستراتيجية في إدارة الصراع بين الوطن العربي والدول المعادية تاريخياً وسياسياً وعقائدياً.

لم يعد الصراع على المياه قضية اقتصادية أو تنموية فحسب، بل أصبح مسألة أمنية واستراتيجية. وما زالت قضية المياه محل صراع بين دول المصابّ العربية ودول المنابع، وتلك الصراعات تهدد الدول العربية بالوقوع تحت خط الفقر المائي وذلك نتيجة لخضوعها لمحاولات الاستحواذ التركية والصهيونية، وهو ما يتطلب مزيداً من التعاون العربي وتكوين استراتيجية عربية للمياه.

ونحن نتحدث عن الوضع المائي العربي، لا يمكننا أن نتجاهل ما يسعى الكيان الصهيوني لتحقيقه. فمهما تظاهر بالرغبة في إقامة علاقات سلام، يبقى من غير الممكن إغفال أو تجاهل أطماعه التاريخية، حتى قبل إعلان هذا الكيان الغاصب على فلسطين سيبقى المصدر الأكثر تهديداً على هذا الصعيد. لقد سرق المياه العربية في فلسطين بعد استيطانها، ثم زاد في معدلات استغلاله للمياه العربية الجوفية في الضفة وغزة بعد الاحتلال إلى درجة التهديد بنضوبها، ويهدد الأردن ولبنان في مياههما، ويحاول البحث عن صورة من صور استغلال مياه النيل، ومدخله إلى ذلك الضغط على مصر عبر إثيوبيا. وجاء التدفق الكثيف للمهاجرين من دول أوروبا الشرقية ليزيد أطماع الكيان الصهيوني في المياه العربية.

إن هذا يتطلب مراجعة دقيقة لسلوكيات هذا العدو، ومن ثم تبني وتنفيذ إجراءات تتناسب والمصالح القومية المرحلية والاستراتيجية، والبحث عن أساليب جديدة لإعادة بناء علاقات عربية متكاملة في أطر المصلحة القومية.

 

للمزيد من المواضيع ذات الصلة:  التدهور البيئي في الوطن العربي: التحدي لاستدامة الحياة