في الحروب العربية – الإسرائيلية القائمة منذ عام 1948، تبقى حرب «طوفان الأقصى» المستمرة منذ تسعة أشهر هي الأطول زمنًا، والأكثر قسوة، والأشد تعبيرًا عن، ومساهمة في، التغيير في موازين القوى الإقليمية والدولية، والأكثر إفصاحًا عن تكامل الألم والأمل بأبهى صوره، وهو ما تجلى عبر حقائق جمّة، وتتطلّب أيضًا القيام بمهمات كثيرة كي تتوّج هذه التضحيات الهائلة بنصر يُحدث فارقًا في صراع كاد يبدو أن العدو الصهيوني وداعميه كانوا على مدى سنين يملكون تفوقًا يصعب تجاوزه.
الحقيقة الأولى: أن ملحمة «طوفان الأقصى» منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 (تاريخ العملية النوعية التي نفذتها كتائب عز الدين القسّام في حركة حماس) حتى اليوم ما زالت مليئة بالمفاجآت داخل قطاع غزة وعموم فلسطين، أو على مستوى كل جبهات المقاومة في المنطقة والإقليم. فلقد فاجأ المقاومون في فلسطين ولبنان واليمن والعراق الأمةَ، كما فاجأوا العدوَ، ونجحوا في إزالة ركام من اليأس والإحباط كان مسيطرًا على كل أبناء الأمة.
الحقيقة الثانية: لقد أثبتت هذه الملحمة أن المقاومة فعل تكامل وتراكم استطاعا أن يُحدثا فارقًا في مواجهات الأمة مع العدو الصهيوني وحلفائه، فالتكامل كان ضروريًا بين تيارات الأمة الملتزمة بتحرير فلسطين وبين أقطارها، كما أن التراكم جاء بعد حروب ومعارك كثيرة، خسرنا بعضها، وحوصرت بسياسات مشبوهة نتائجُ حروب أخرى انتصرنا فيها، كما نجحنا في تطوير مقاومات بدأت فكرية وسياسية وباتت اليوم ميدانية وعسكرية شملت أكثر من جبهة ومعركة …
وحتى داخل غزة، كانت الملحمة تتويجًا لبطولات أبناء القطاع منذ الاحتلال عام 1967، بل قبله منذ النكبة عام 1948، حيث سمعنا شارون في عام 1971 يصرّح «إننا نسيطر على غزة في النهار والمقاومة تسيطر عليها في الليل»، ويومها كان رمز المقاومة الشهيد القائد محمود الأسود (غيفارا غزة) عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..
الحقيقة الثالثة: هي أن ملحمة «طوفان الأقصى» ساهمت في كشف هشاشة الكيان الصهيوني وفسحت في المجال لبروز تناقضات سياسية واجتماعية وعرقية داخل هذا الكيان الذي لم تتوقف داخله التظاهرات المطالبة بوقف الحرب وإطلاق الأسرى الصهاينة المحتجزين عند المقاومة، بل الداعية إلى إسقاط نتنياهو وحكومته… ناهيك بما يشهده الكيان الصهيوني من صراعات مكشوفة وغير مسبوقة بين المستويات السياسية والعسكرية، كما داخل كل مستوى. كذلك كشفت هذه الملحمة هشاشة تمسُّك الصهاينة بوجودهم في فلسطين المحتلة.
الحقيقة الرابعة: لقد ساهمت ملحمة «طوفان الأقصى» في كشف هشاشة الأوضاع الداخلية، والسياسية والاقتصادية والمالية والأخلاقية، داخل الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الاستعمارية التي تقودها، وكشفت عن أمرين في آن معًا: أولهما عمق الارتباط بين واشنطن وتل أبيب، وهو ارتباط أكد لكثيرين أن الحرب التي يخوضها الكيان في فلسطين هي حرب إسرائيلية – أمريكية – أطلسية في آن، وأن الإدارة الأمريكية والحكومات التابعة لها هم شركاء في حرب الإبادة الجماعية. وثانيهما هشاشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية داخل الولايات المتحدة التي بات الكثير من المواطنين الأمريكيين يشعر بأن هذا الكيان الذي أنشئ أصلًا لحماية المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة يتحول إلى عبء عسكري وسياسي واقتصادي وأخلاقي.
لا بل كشفت هذه الملحمة احتمالات تورُّط الولايات المتحدة وحلفائها في حروب مباشرة في المنطقة، إذا أصرّت حكومة تل أبيب على توسيع رقعه الحرب كما يبدو من تصريحات مجرمي الحرب الصهاينة تجاه لبنان وتبني الإدارة الأمريكية لهذه التهديدات، وهو أمر سيهدد المصالح والقواعد الأمريكية في المنطقة، وهو ما بدأت بوادره تظهر من خلال عمليات المقاومة اليمنية في بحرَي الأحمر والعرب، ومضيق باب المندب، وصولًا إلى المحيط الهندي، وربما إلى البحر الأبيض المتوسط، بكل ما يؤدي ذلك إلى تداعيات قد تصل إلى حرب عالمية ثالثة تجد واشنطن نفسها أنها تواجه فيها أغلبية بلدان العالم.
ولم يكن انكشاف هشاشة الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية هو الوحيد في العالم ، بل كشفت ملحمة «الطوفان» هشاشة الأوضاع الداخلية في البلدان الأوروبية، بل في الاتحاد الأوروبي نفسه، والتي تعددت مظاهرها، ولا سيّما في النتائج الأخيرة لانتخابات البرلمان الأوروبي.
الحقيقة الخامسة: ساهمت هذه الملحمة أيضًا في كشف الهوة العميقة بين مشاعر أبناء الأمة العربية في كل أقطار الأمة تجاه ما يجري في غزة خصوصًا، وفلسطين عمومًا، وبين مواقف النظام الرسمي العربي والإسلامي الذي يبقى واقعه نقطة الضعف الرئيسية في هذه المعركة التاريخية التي تخوضها الأمة، والذي يتقلب في مواقفه بين التأييد اللفظي والخطابي وبين العجز المدقع عن نصرة أهلنا في غزة، وصولًا إلى التواطؤ المريب الذي لمسه الجميع في أكثر من مناسبة.
كما ساهمت ملحمة طوفان الأقصى أيضًا في كشف عمق الهوة بين موقف شعوب العالم وقواه الحرة، وبين موقف معظم حكومات الغرب التي تجاهلت القانون الدولي والأعراف والمواثيق الدولية، وكل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، والادعاءات بالحرص على حقوق الإنسان التي ملأت هذه الحكومات الدنيا بها ضجيجًا.
الحقيقة السادسة: حسمت هذه الملحمة أيضًا جدلًا قائمًا داخل الأمة بين خيار التسوية السياسية الذي لم يؤدّ إلا إلى تراجع القضية الفلسطينية في الأمة والعالم، وبين خيار المقاومة الذي أعاد هذه القضية إلى موقع الصدارة في اهتمامات الشعوب وهموم العالم. كما أكدت هذه الملحمة من خلال قوى المقاومة ترابط العروبة والإسلام ممثلًا بالدعم الكبير للجمهورية الإسلامية في إيران لقوى المقاومة العربية.
الحقيقة السابعة: أظهرت هذه الملحمة أهمية الإعلام الحر، ولا نقول الإعلام المقاوم، لأن كل إعلام حر هو إعلام مقاوم بالضرورة ، فالانتصار للحرية والحقيقة هو مواجهة مستمرة مع الظلم ومقاومة متصاعدة ضد كل أوجه الاستعمار والاستبداد والطغيان. هنا، من الضروري الإشارة إلى الدور المهم الذي قام به الإعلام الحر، بما فيه الإعلام الحربي، في هذه الملحمة خصوصًا، والأعداد الكبيرة من الإعلاميين والإعلاميات الذين بذلوا أرواحهم مع عائلاتهم في هذه الملحمة.
الحقيقة الثامنة: تميّزت المقاومة الممتدة من فلسطين إلى ساحات المواجهة كافة بدرجة عالية من التكتيكات العسكرية البارعة التي حاصرات العدو منذ السابع من أكتوبر وما تزال حتى اليوم، وهي كفاءة عسكرية مقرونة بحنكة سياسية نجحت في أن تحافظ على الالتزام بالثوابت الوطنية من جهة، وبابداء مرونة سياسية نجحت في إسقاط كل محاولات عزلها وتحميلها مسؤولية عدم وقف إطلاق النار، ولقد كان شعار «الكلمة للميدان» هو أحد الشعارات المهمة التي رفعتها المقاومة في اليوم الأول للحرب والذي مكنّها من تفاوض عبر الوسطاء بالطريق الأجدى والأفعل.
الحقيقة التاسعة: نجحت ملحمة «طوفان الأقصى» في التميّز من غيرها من المعارك ضد الاحتلال في أنها فتحت لهذا الصراع مسارًا قانونيًا وقضائيًا كان يبدو مستحيلًا في ظروف سابقة، ولا سيّما حين نجحت دولة جنوب أفريقيا في نقل قضية اتهام الكيان الغاصب بالإبادة الجماعية إلى محكمة العدل الدولية، وحين نجحت أيضًا المحكمة الجنائية الدولية في إصدار مذكرات توقيف بحق مجرمي الحرب الصهاينة نتنياهو وغالانت، رغم مراعاتها للضغوط الأمريكية المستمرة حتى اليوم بإصدار مذكرات مماثلة بحق قادة حماس (هنية، السنوار، الضيف).
أما المهمات التي ينبغي الاضطلاع فيها من أجل ترجمة إيجابيات هذه الملحمة بما يتناسب مع حجم تضحياتها فيمكن إدراجها كالتالي:
التركيز على مقاومة المحتل في الداخل الفلسطيني، ودعم مقاومته في الخارج، والسعي إلى ترجمة المتغيرات المهمة التي جاءت بها ملحمة «طوفان الأقصى» إلى وحدة ميدانية فلسطينية تترجم نفسها في وحدة سياسية في الأداء والأدوات ترتكز على نهج المقاومة وإسقاط منطق التسوية واتفاقاتها التطبيعية مع العدو في ظل الخلل القائم في موازين القوى.
التمييز بين الموقف الرسمي العربي والإسلامي المخزي في مجمله، وبين الموقف الشعبي العربي والإسلامي المتنوع بين مقاومة في أكثر من جبهة، وتحركات شعبية في أكثر من قطر، وتحرك داخل الأقطار الأخرى يعبّر عن نفسه عبر الرسائل والأدوات المتاحة.
ضرورة رفع شعارات محددة لدعم المقاومة في غزة، أبرزها إسقاط التطبيع واتفاقاته، وطرد السفراء الصهاينة من العواصم العربية، ودعم المقاومة بكل الوسائل واستخدام سلاح المقاطعة والأسلحة المتاحة، كالتلويح بحظر النفط مثلًا، والخروج من منطقة الدولار، وسحب الودائع العربية من البنوك الغربية، وإحكام سبل المقاطعة ولا سيّما عبر إحياء مكتب المقاطعة وتفعيل قراراته.
تنظيم حملات دعم صمود أهلنا في غزة وعموم فلسطين بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة، والضغط لفتح المعابر الإنسانية إلى عمق غزة المجاهدة وتعزيز مبادرات الدعم على أنواعها.
تنقية العلاقات البينية بين الدول العربية ومع دول المحور الإسلامي والأفريقي، والسعي لإقامة أطر التشبيك الاقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدان العربية والإسلامية والمجموعات الاقتصادية الناشئة كمجموعة «البريكس» و«شانغهاي» و«مبادرة الحزام» و«الطريق الواحد» الصيني.
تطوير صيغ التلاقي والتفاعل بين تيارات الأمة الملتزمة بالمقاومة والنهضة وإلغاء خطاب الإقصاء والإلغاء والإبعاد ولمنطق غلبة الاعتبارات الفئوية والذاتية والحساسيات التاريخية على العلاقات بين بعض هذه التيارات المدعوة أيضًا إلى مراجعة تجاربها لتحصين استقلاليتها وتياراتها وبناء الأطر التنسيقية بينها.
تطوير علاقات الأمة بالقوى العالمية، الرسمية والشعبية، التي وقفت إلى جانب فلسطين في معركتها.
دعوة الدول الصديقة إلى اعتماد استراتيجيات سياسية واقتصادية ودبلوماسية وقانونية وإعلامية وعسكرية حين يلزم الأمر، وهي استراتيجية ضرورية من أجل الضغط على الكيان الصهيوني لوقف العدوان، وعلى الحليف الأمريكي والغربي لوقف انحيازه ومشاركته هذا العدوان.
الارتقاء بالملاحقة القضائية والسياسية لمجرمي الحرب الصهاينة لتشمل كل داعميهم ولا سيّما في واشنطن ولندن وغيرهما من دول الحلف الأطلسي بوصفهم شركاء في حرب الإبادة الجماعية.
الاطلاع على المبادرات التي أقرتها الدورة 33 للمؤتمر القومي العربي التي انعقدت في بيروت في 31/5 و1 و2/6/2024 والسعي للمشاركة في تطويرها وتعزيزها، إضافة إلى السعي لإقامة صندوق غزة الذي جرى إقرار الدعوة إلى إنشائه في الدورة نفسها والسعي لتشكيل الأبحاث الخاصة.
ومن هذه المبادرات مبادرة الدعم الطبي ودعم الإسناد للمقاتلين، ودعم الأسرى المعتقلين في سجون الاحتلال، ومبادرة الإسناد الشعبي في دول المهجر، والإسناد الطلابي والإسناد التعليمي، والإسناد الإبداعي، والإسناد الثقافي، والإسناد الطبي والصحي، ومبادرة مقاطعة للمنتجات الصهيونية والداعمة للكيان الصهيوني، ومبادرة مقاومة التطبيع.
الاهتمام بالمشاركة في مختلف المنتديات والمؤتمرات والفعالية العربية والإسلامية والدولية من أجل نصرة غزة وعموم فلسطين، وبخاصة في المؤتمر القومي – الإسلامي الذي ستنعقد مبدئيًا دورته الثانية عشرة في السابع من أكتوبر عام 2024، وفي المنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين الذي نأمل أن نعقده في غزة المنتصرة في 29/11/2024، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني أو في الجزائر أو في لبنان وذلك في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
ولعل من أبرز المهمات المطلوبة هو التحسب لإمكان توسيع الصهاينة وحلفائهم للحرب في المنطقة من خلال شن عدوان على لبنان بهدف ضرب المقاومة فيه، وهو عدوان يحمل أخطارًا كبيرة على وجود الكيان الصهيوني نفسه، ولكنه يحمل أضرارًا كبيرة على لبنان وأمنه واستقراره ومنشآته الحيوية.
وأيًا كانت التباينات حول احتمال حصول هذا العدوان، فإن المطلوب من الأمة العربية والإسلامية، أن لا تترك لبنان وحده، كما كان الأمر مع غزة وفلسطين، والمطلوب بوجه خاص من القوى الحيّة في الأمة، ولا سيّما في الهيئات المنضوية في إطار المؤتمر العربي العام، أن تستنفر كل مكوناتها الشاملة لمعظم قوى الأمة في عملية الانتصار للبنان والضغط بمختلف الوسائل على العدو لوقف هذا العدوان.
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذه المقالة هي افتتاحية العدد 545 من مجلة المستقبل العربي الخاص بشهر تموز/يوليو 2024.
معن بشور: رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.