إن التساؤل عن الذات والهوية ليس جديدًا، فمنذ بدء المجتمعات الإنسانية في الانتظام صارت مسألة الهوية والكيان وإبرازها في مواجهة الآخرين موضوعًا للجدل والصراع المتواصل. ولقد ساهم بروز الدولة الوطنية في توجيه الفكر والعلاقات الإنسانية إلى التركيز على الهوية الوطنية وملحقاتها من أمة ودولة وطنية (قومية) وسيادة وغيرها. ورغم ما حدث من تسويات أو تناقضات شهدها القرنان التاسع عشر والعشرون فإن التصورات حول الأمة والهوية واختلاطها بالمقدسات والأساطير وبالأوهام ظلت ماثلة تسكن كل ثنايا الفكر والعمل الإنساني، وبخاصة في إثر حروب القرن العشرين. في هذه الدراسة نعرض للهوية والأمة والتصورات عنهما في الفكر والواقع العربي ونتناول التحديات التي تدفع نحو إعادة طرح التساؤل وتقدير ما يتصل بالمستقبل العربي.

أولاً: الهوية: جدل لم ينتهِ: «من نحن»؟

تؤمن كل شعوب الدنيا وتعيش تحت سيطرة تصورات معينة حول ذاتها وحول الآخرين، الأنا والآخر[1]. ليس هناك من ثقافة في هذا الكون إلا وتعتمل بها أسئلة تتصل بهذه التصورات التي قد تستند إلى مقومات مادية ومعنوية، كما قد تعكس مخيالًا أو أوهامًا وأساطير تتصل بالقومية أو الهوية العرقية أو الثقافية أو اللغوية وتمثلاتها وتعبيراتها المختلفة. يرتبط بذلك الكيفية التي تنظر بها أي جماعة بشرية لدورها في العالم وتصوراتها عن الآخرين أو برؤيتها لما ينبغي أن يكون عليه العالم. ومع أن الجماعات الإنسانية والدول أيضًا تعمل وتتفاعل وسط عملية بناء وتطور التصورات والأوهام، إلا أنه لا بد من التوضيح أنه كلما كانت الدولة أو الأمة كبيرة وقوية كان لموقع تصوراتها أو أوهامها وأساطيرها دور أكبر، وربما أخطر، والذي يحدد الخطر ودرجته يعتمد على عوامل متعددة كالقيادة أو النخبة الحاكمة والنخب الفكرية القائدة والموارد المتاحة وتوظيفها مثلما يعتمد على شكل وطبيعة النظام السياسي والنظام الدولي السائد.

وبينما تم الترويج منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين لمفهوم المواطنة العالمية كنتاج للعولمة في بعدها الثقافي ضمن المقاربة القائلة بأن العولمة والديمقراطية ستفرضان قدرًا مناسبًا من الهوية المشتركة يمكن أن تتجاوز الهوية بمفهومها الميتافيزيقي أو السوسيوتاريخي، فقد برزت أو عادت لدائرة الفعل الهويات المستندة إلى الدين أو الإثنية، ولم تفلح العولمة وطروحات الديمقراطية في استيعاب أو تجاوز القيم المرتبطة بالدين والإثنية لتحقق استجابة كونية أو قبول للاشتراطات التي تندرج ضمن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة في مقابل القيم والخصائص التي تميز الجماعات بعضها عن بعض.

في المقابل، أتاحت العولمة للجماعات الثقافية أو الإثنية المختلفة فرصًا أكثر للتعبير والتواصل والعمل والتأثير. هنا ظهر ما صار يعرف بالقومية المدنية (Civic Nationalism) التي تشير إلى أن الأمة تتكون من كل أولئك الذين ينتمون إليها بصرف النظر عن العرق أو الإثنية أو اللون أو المعتقد أو النوع الاجتماعي أو اللغة، بل أعضاء في الجماعة يتساوون سياسيًا وقانونيًا في المواطنة والحقوق ويتحدون في ارتباطهم بقيم وممارسات سياسية مشتركة، وحيث الأمة بناء أو تشكل سياسي يضع الالتزامات ويعطي الحقوق للجميع من دون تمييز. هذا المفهوم ينافس مفهوم القومية الإثنية (Ethnic Nationalism) التي تعد سابقة للسياسة (Pre-political) بما هي نتاج للماضي وليست تعبيرًا عن المنتمين إليها، وحيث الأمة أو الدولة ليست كيانًا أو تشكلًا طوعيًا بقدر ما هي ما تحقق في التاريخ ويستند للغة والثقافة ورابطة الدم أحيانًا كما ترى التصورات العرقية.

هذا الجدل بين المفهومين كان له أثره في تطوير مفهوم الهوية، فظهر ما صار يعرف بالمواطنة المتعددة الثقافات كمحاولة للتعامل مع ظواهر التنوع اللغوي والثقافي. لكن هذا لم يؤدِّ إلى إلغاء بل استدامة فكرة القومية والهوية وليس تجاوزها[2]. ومع أن ما حصل في الاتحاد الأوروبي كنموذج تجاوز الحدود الوطنية بمفهومها التقليدي المعروف كان أمرًا لافتًا من شأنه أن يقود إلى تحولات على الهوية والوطنية وتعبيراتها السياسية، فقد انتهى الأمر بالاتحاد والاندماج إلى العودة من حيث بدأ تقريبًا حيث مصيره لا يرتبط بفكرة تجاوز الهوية الوطنية بل بالمآل الذي ستصير إليه التدابير المتعلقة بمعالجة التحديات والمشاكل التي تواجهها كل دولة بعيدًا من صيغة المواطنة الأوروبية ما-بعد القومية. كان هذا واضحًا مؤخرًا في الاختلافات، بل التناقضات، في شأن حرية التنقل بين الحدود والعمل والمهاجرين والعملات، وهو ما قاد إلى خروج بريطانيا من الاتحاد وتلويح دول أخرى بذلك، وبخاصة أثناء أزمة المهاجرين؛ وهو ما صار أكثر وضوحًا عند انتشار جائحة كورونا واتجاه كل دولة للاعتماد على ذاتها وتجاوز كل ترتيبات الوحدة.

ورغم أن التطور بلغ حدًا يجعل الإحساس بأن العالم قرية واحدة صغيرة أقوى مما كان عليه الأمر في أي مرحلة سابقة مع وجود منظومة عالمية لها أبعادها الاقتصادية والتكنولوجية والبيئية والثقافية والإعلامية التي تنقل نماذج الغرب إلى كل مكان في ذات الوقت، فنحن في الواقع أمام تأثيرات مختلفة أو متعاكسة لكنها تحدث في آن معًا. هكذا لم تؤدِّ العولمة، مع عدم الإنكار لما ولدته من «قيم ومثل» تجاوزت الحدود الوطنية، إلى ذوبان الهويات أو نهاية الدولة الوطنية التي نشهد اليوم في ظل جائحة الكورونا حاجة أكثر قوة إلى وجودها كدولة قوية وقادرة. وبينما تطرح العولمة فرصًا أمام ترجمة هويات جامعة أو آفاق حضارية وثقافية مشتركة إلى تعبيرات سياسية تتجاوز حدود الدولة الوطنية حيث الفضاءات الكبرى حقيقة واقعة في السياسة العالمية اليوم، وفرت العولمة وهي تروّج لنهاية الهويات والثقافات والقوميات والإثنيات المجال الرحب، لكي تحافظ على تمايزاتها وتتمسك بخصوصيتها وبطاقتها التعبيرية وباستنادها إلى سمات ومشاعر وقيم وذكريات وأساطير مشتركة وإحساس بهوية تاريخية ومصير مشترك. بات واضحًا أن هذه الهويات والثقافات نجحت في مواجهة أو استيعاب تحدي العولمة وثقافتها التي روجت لروح جديدة لا يمكنها أن ترتبط أو تنتسب إلى أية هوية تاريخية. لذلك عادت الهويات والثقافات لتؤدي دورها، لأن الشعوب على ما يبدو غير قادرة على الحياة بلا ذاكرة، ولأن ثقافة العولمة لم تجب عن حاجات حياتية معاشة، كما أن السمات الجديدة لمستقبل النظام العالمي لم تتبلر بعد، وبالتالي فإن هناك احتمالات متباينة ممكنة.

ترتبط عمليات إضعاف الرابطة الوطنية أو القومية بسياق التحدي الذي تواجهه فكرة الاندماج والانصهار القومي كمهمة تاريخية وأصيلة للدولة القومية. أيضًا هناك احتمالات حقيقية من أن تؤدي العولمة في سياقها الاقتصادي أو الإعلامي إلى التأثير في الثقافات القومية والهويات القومية كما تبين دراسات اللغات، ومن بينها اللغة العربية وما تواجهه من تحديات في التعليم والإعلام والإنترنت بسبب الانتشار الواسع للغة الإنكليزية، وكيف يؤثر ذلك بقوة في الهوية العربية الجامعة ويضع مستقبلها أمام تحد كبير، وبخاصة أن تعريف العربي يعتمد على اللغة بوجه أساسي[3]. لذلك فإن قيام جماعات قومية وإثنية بالتعبير عن هوية يمثل تحديًا للمفاهيم السائدة ودخول مفاهيم جديدة حول الجماعة السياسية والمواطنة والسيادة والدولة والأمة. ويطرح ذلك التحدي أمام «الأمم» التي لم تتحقق بعد أو التي لم تحقق كيانًا قوميًا جامعًا ينسجم مع الشكل السياسي السائد عالميًا منذ معاهدة وستفاليا في 1648. ذلك يعني ببساطة أن الجماعات الثقافية أو الإثنية المتعايشة، وبأي صيغة، داخل ما يعدّ إقليمًا لتلك «الأمة» تصبح رأس حربة سياسات الهوية مجدداً، وبخاصة أن الدولة الوطنية هي وحدها الفاعل الرئيسي الأول في النظام الدولي السائد وهي تترسخ رغم كل الصعوبات في سياقات متعددة ومنها الوطن العربي.

وسيراً في هذا الاتجاه، فإن المجتمعات المتنوعة والمتعددة إثنياً، كتلك التي تقطن ما يعرف بالعالم العربي، ليست بحاجة إلى أن تدفع ثمن تجاهل الحاجات والقيم المعبرة عن تنوعها الطبيعي أمام مغريات تحقيق الاندماج الذي قد يقود إلى هيمنة جماعة أو إثنية ما (والعبرة هنا ليست للحجم) على غيرها بهذه الذريعة حيث لا مبرر لأن تتنافس الحاجات البشرية المتنوعة بما فيها الطموح للاندماج مع الهوية الوطنية. في المقابل، فإن تبني موقف مناقض في التعامل مع هذه الحاجات وبخاصة ضمن مقاربة الهويات الفرعية سيقود إلى سعي الأفراد لتحقيق حاجات جماعتهم، ولو تم ذلك بتكلفة التمزق الاجتماعي وتفتيت كيان الدولة. إن ذلك يجد تفسيره في حقيقة كون الحاجات والقيم لها أهمية مركزية وهي غير قابلة للتفاوض والمساومة بالطريقة ذاتها كالمصالح في عالم السياسة.

ثانياً: جدل الهوية والعروبة

لم يكن الوطن العربي (المنطقة، الوطن، أو كما تروق لك التسمية) بمنأى من الجدل والتطورات في شأن كل ما يتعلق بالهوية والأمة والقومية والدولة، فقد انقسم العرب حيالها (فكرًا وممارسة) واختلفوا حول ما ارتبط بها إلى درجة يمكن معها القول إن التاريخ المعاصر للمنطقة لم يكن سوى جدل وتفاعل وصراع تمحور حولها وما يلحق بها وما نتج منها على كل المستويات، وبخاصة بعد صعود المنافسة بين دعاة العروبة السياسية ودعاة الإسلاموية. كان ذلك حاسمًا في جعل السؤال المتصل بالهوية والأمة والدولة من محاور حياة المنطقة وسكانها ضمن سياقات التحرر من الاستعمار وبناء الدولة ونمط علاقاتها الإقليمية ومع جيرانها أيضًا.

يتصل جدل الهوية والعروبة بالطموح إلى تحقيق النهضة والوحدة التي تجمع مكونات «الأمة العربية» كما عبر عنها الفكر القومي العروبي. لذلك نجد أن الخطاب حول النهضة يستحضر النهضة المأمولة ضمن تصور لماضٍ عربي يراه ترجمة لفكرة الهوية الجامعة والدولة الواحدة المعبر عنها، كما تنتصب الفكرة والطموح كعلامة أو مرشد وطريق أو حلم بالمستقبل. لذلك نجد الفكر النهضوي منقسمًا بين الماضي والمستقبل بينما يبقى الحاضر مهمشًا ولا يحظى بالدراسة والتفكير بما يستكشف ديناميات الواقع وآفاق النهضة المستقبلية إلا في حدود ضيقة. ولا غرابة أن يحفل الفكر العربي[4] بتلك الإشكاليات التي لا يمكنه أن يؤطرها إلا ضمن الماضي والحلم، وقد يكون ذلك نتيجة طبيعية ومباشرة لما نجم عن حقبة الاستعمار الأوروبي والاحتكاك أو الاصطدام بالغرب منذ حملة نابليون على مصر. هكذا رأينا الفكر العربي الذي انطلق في عصر النهضة يحاول استكشاف أسباب التقدم الغربي فاتجه للبحث في الموروث والهوية والذات والخصوصية والثقافة والدين كرد فعل ضد الاستعمار. ينطبق هذا على الأدبيات العربية باستثناء ما بدأ يظهر مؤخرًا من أعمال ودراسات تستند إلى منهجيات العلوم الاجتماعية المعاصرة التي لا تزال، رغم ذلك، تواجه التحديات والمحددات التي يعرفها الإنتاج المعرفي والمتعلقة باللغة والتواصل وضعف بنية الجماعة العلمية والآثار السلبية للاستبداد الطويل[5]. تلك الإسهامات تبقى محدودة الأثر لسببين على الأقل: أولهما أن هذا الانتاج لا يزال يعتمد مرجعيات ومنهجيات هذه العلوم كما هي في الغرب ولم ينتج معرفته الخاصة به ويبقي محدودًا بجماعة المختصين، وثانيهما أنه يقوم في مواجهة خطاب يستند إلى العلوم الشرعية أو الدينية التي تخوض معركة تنزيل الفقه على الواقع من دون أن تتسلح بالعدة المناسبة وتزداد الهوة بينها وبين العلوم الاجتماعية الحديثة ومناهجها اتساعًا.

تلك ليست خاصية استثنائية للفكر العربي (المكتوب أساسًا باللغة العربية والموجه إلى ناطقيها) بل سمة يشترك فيها مع غيره في مناطق أخرى من العالم واجهت أيضًا ذات الأسئلة والتحديات. وكما تبين إليزابيث كساب، فإن التواريخ الاستعمارية والموروثات الثقافية في الأقاليم الثلاثة (الوطن العربي وأفريقيا وأمريكا الجنوبية) أثرت فكريًا أكثر فأكثر في كل منها، وبخاصة التشابه في سجالات ما بعد الاستعمار المتعلقة بالاستقلال الفكري، النزعة الكونية والخصوصية، الرأسمالية، النزعة الثقافوية، التحديث، والنزعة النسوية[6]. يصدق ذلك مثلًا على أمريكا الجنوبية وأفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار (Post-colonialism) حيث انطلقت بداية دعاوى تأكيد الهوية والتاريخ والاستقلال الفكري والنزعة الثقافية.

لكن بينما حدث تطور محدود في الفكر العربي انتقلت التجارب الأخرى إلى الاهتمام بجوانب وقضايا مختلفة تحددت وفقًا للأوضاع العالمية. انفرد الفكر العربي، وشقه القومي بخاصة، بتصور يمكن عدّه هوسًا بحالة مناقضة لفكرة الدولة الوطنية عبر تصدير القول بأنها وافدة وغريبة وتجزيئية تحول دون قيام الدولة الحقيقية، دولة العرب جميعًا[7]. وكما حاجج عبد الله العروي، فقد ظل التركيز منصبًا على مقتضيات الفكرة العروبية التوحيدية وإنكار شرعية الدولة القطرية والتركيز على السلطة وليس الدولة ذاتها كمفهوم فلسفي واجتماعي وسياسي كما يشير وضاح شرارة[8]. يصدق ذلك أيضًا على الفكر العربي – الإسلامي الذي رأى في الدولة القطرية تناقضًا مع مفهوم الأمة الإسلامية ووحدتها في دولة واحدة. هكذا كان هذا التمسك أو الرغبة في رؤية دولة واحدة وبفكرة الوحدة ذاتها، عربية أو إسلامية، جوهر الفكر السياسي العربي. فالوحدة جزء من التاريخ والتراث الثقافي، وقد تحققت في الماضي (رغم الكثير من التناقض في هذه الفكرة، على الأقل بمعايير الدولة الحديثة)[9].

وبصرف النظر عما إذا كانت وافدة أو أن لها جذورها المحلية، فقد كان لظروف الولادة المتأخرة للدولة العربية[10]، ورغم توظيف الدولة والنخب الحاكمة وداعميها لوسائل متعددة، أن فشلت في تحقيق الدولة بالمفهوم المعاصر فأنتجت دولة «وطنية» ضعيفة في الداخل ومنكشفة أمام الخارج. ولعل ذلك يفسر لنا لماذا يحفل تاريخ الدولة العربية المعاصرة بتجارب سعت من خلالها لتوظيف رؤى وأيديولوجيات وسياسات لتقوية موقفها وتعزيز مناعتها في مواجهة الداخل والخارج ولو على المستوى الإقليمي فقط. لقد قادت هزيمة 1967 إلى إثارة الحاجة إلى النقد الذي تجاوز نقد السياسة والحكومات إلى نقد الهوية والثقافة والمجتمع، إلا أن هذا التفكير النقدي ظل محدودًا محاصرًا بالقيود وبخاصة ما فرضته الدولة التي أصبحت أكثر تسلطًا وقدرة لتجعل التفكير النقدي أقل قيمة. وحتى عندما اندلعت الثورات والاحتجاجات عاد الصراع إلى ثنائية الدين والقومية والعلمانية والإسلام وغيرهما من ثنائيات زمن الفكر النهضوي التي لم تكن من مقومات النهضة الممكنة بل كانت مجرد ردود فعل أو خطابات انفعالية في مواجهة التحدي الخارجي ولم تكن نابعة من إدراك للدافع وإرادة تنتج فكر النهضة والتغيير.

لقد تم توظيف واستغلال الهوية القومية بمعنى العروبة على نحو قاد إلى نتائج كارثية على كل المستويات. ويمكن بمراجعة سريعة للتاريخ المعاصر أن نعرف كيف سعت الدولة العربية لتوظيف رؤى وأيديولوجيات وسياسات لتقوية موقفها وتعزيز مناعتها في مواجهة الداخل والخارج الإقليمي (أو العربي!). رأينا كيف وظفت دول عربية مثلًا السياسات الوحدوية التي من شأنها لو تحققت أن تقود عملياً إلى نفي الدولة الوطنية ذاتها، بل إن كل دولة عربية استخدمت تلك السياسات في مواجهة الأخرى وبما حقق عظيم الضرر للفكرة العروبية ومفهوم وأهمية التكامل أو الاندماج أو التعاون العربي ذاته، وصارت العروبة والوحدة في أحيان كثيرة غطاء وأداة للتسلطية والتدخل في الشؤون الداخلية وغير ذلك.

كما استخدمت الدولة العربية سياسات وتبنت مواقف كثيرة للهدف نفسه، كالدعوة إلى الوحدة الإسلامية، أو الدعوة إلى الحرب واستخدامها لدعم جهود بناء الدولة واستقرار نظام الحكم، واستخدمت الدين مصدرًا لشرعية مبتغاة، بينما قاد ذلك في الواقع إلى تجهيز الأرضية للمنادين بشرعية بديلة تتوخى دولة تستند إلى تصور إثني أو ثقافي-إثني أو تحلم وتعمل لأجل خلافة مأمولة، وهو ما أدخل المنطقة لاحقًا في أتون عنف متوحش وإرهاب عبرت عنه تنظيمات جهادية وإرهابية معروفة[11].

النتيجة كانت حلول الإحباط واليأس في الفكر العربي فاندفع مجددًا إلى الأيديولوجيا وبأشكال عنيفة كما في الحركات الإسلاموية الجهادية. هكذا فإن كلًا من الدولة الوطنية والأيديولوجيا بصيغها المتنافسة لم تسهم في جعل النهضة ممكنة بل ربما جعلتها مستحيلة عمليًا وقادت إلى تهاوي الدولة ومؤسساتها أمام أول هزة للربيع العربي عرضت المجتمع أيضًا للتدمير لعجز العقد الاجتماعي السائد على تلبية حاجاته وانسداد أفق صوغ عقد اجتماعي جديد يحرر الطاقات والإبداع لنغوص مجددًا في سياسات الهوية والطائفية والأممية أيضًا. هكذا نرى انكفاء نحو ما قبل الدولة فصار الفكر منشغلًا بالغيبيات أو يعيد إنتاج أدبيات وفقه الهوية بمستوياته التجزيئية بدل الانشغال في مواجهة المشكلات النظرية والعملية المنبثقة من واقع المجتمعات العربية لتصبح أكثر قدرة على التمييز بين الواقع والحلم الأيديولوجي[12].

الفكر العربي مضطر وبحاجة ماسة إلى أن يعيد طرح الإشكاليات والأسئلة من أجل نهضة تستوعب التجربة المرة وتتعلم الدرس القاسي مما عاشته بلادنا وشعوبها وتتفهم حياة المجتمعات ونهضتها من دون إصرار على تميز ربما لا يكون عمليًا. كما عليه أن يستوعب حركة التاريخ وموقعنا فيه ضمن نظرة شاملة إلى تاريخ المجتمعات البشرية وتحديدًا لصورة واضحة عن الإنسان بمختلف أبعاد حياته. لقد أكدت التجربة الفاشلة في تحقيق النهضة أنه لا مجال للسير قدمًا ضمن ثنائيات وصراعات الهوية والدين والعلمانية، والقومية والإسلاموية والطائفية أو الإثنية. وقد بدا هذا واضحًا خلال تجربة الربيع العربي القصيرة (لكن الغنية بالدروس) وبخاصة على مستوى العلاقة بالدين الذي لا يمكن أن يكون هو فقط محدد كل شيء أو مبررًا لشمولية أو استبعاد لا يقل سوءاً عما سبقه[13]. وبقدر ما يتأكد أن الحداثة لم تتحقق ينشغل المفكرون اليوم بهذه الانقسامات والصراعات ويعودون إلى نظرية المؤامرة أو المناداة باستقالة العقل والعودة إلى التراث في العصر الذهبي بينما لا تُطرح الأسئلة عن وسائل الخلاص: هل هي ذاتية؟ أم خارجية؟ وهل يمكن صناعة النهضة بالذات فقط؟ أم أننا بحاجة إلى إدراك حقيقة البنى الكونية الطابع وبخاصة في عصر العولمة التي أضافت بعدًا عالميًا وعززت البعد المحلي للهوية أيضًا؟

غابت عن موضوعات الفكر العربي مسائل من صميم النهضة، وهي تحرير المجتمع والفرد من أسار السلطة وقيودها وضبط حدود الدولة والسلطة مقابل أنظمة الرعاية والتبعية والقمع التي تجعل المواطن أو الفرد والمجتمع بكامله رهينة لدى الدولة، فيصبح السياسي أو الحاكم ليس خادمًا لدى الشعب، بل سيداً أولى بالطاعة. لذلك هناك كما يبدو اليوم حاجة ماسة إلى الخروج من أسر التصورات والأساطير والأوهام التي سادت على مدى نحو قرنين من الزمان والقيام بشجاعة ووعي كافٍ بإعادة طرح أسئلة تتصل بالحياة والمستقبل على كل المستويات. علاوة على تحدي التنمية المرتبط بالتعليم وتحرر المرأة وإطلاق طاقات الشباب، يواجه الفكر العربي اليوم أسئلة تتعلق بأفضل السبل لمواجهة التشرذم الذي أصاب الدولة القطرية أو الوطنية بعد أن أصاب الفكرة العروبية الجامعة. إن مواصلة الانقسام في الفكر النهضوي ليس سوى تعبير عن فقر معرفي وعجز منهجي عن استخلاص الدروس والتمسك بسردية أصولية ما أو أخرى (عروبة/ إسلام/قومية/ وطنية/ إثنية) وهو ما يؤدي تمامًا إلى تراجع التفكير في مسألة النهضة والإجابة عن أسئلتها المباشرة.

يحتاج الفكر اليوم إلى البحث في ما يمكن أن ينهي التشرذم والانقسام بمستوياته المختلفة بأفكار تتلاءم مع المعطيات والتحديات وكيف يمكن اقتران هذه الأفكار والطروحات بالأدوات اللازمة التي تصبح بها أكثر فاعلية وواقعية. كيف يمكن التعامل مع الحقائق المجتمعية والحياة اليومية؟ كيف يمكن تقديم مشروع نهضة بديل لما فشل من عروبة سياسية أو إسلام سياسي أو دولة قطرية على السواء؟ كيف نتصدى لمسائل الوحدة والسلم الاجتماعي داخل كل بلد على حدة؟ هذه أسئلة حاسمة بخاصة بعد أن عجزت أيديولوجيا الدولة أن تصبح وريثًا للقومية أو الدين الذي يعجز هو الآخر عن صيانة الدولة والمجتمع وتقديم نموذج مقبول بل إنه لم ينجح حتى في الحفاظ على ما بدا من مكاسب برائحة الياسمين في تونس مثلًا بما يهدد كيان الدولة ذاته وليكرر التجربة الفاشلة نفسها التي اختصرت المسألة كلها في سرديتين برؤية هوياتية استبعادية أو إقصائية أو ضمن الهويات المتنوعة تناقضًا.

تبدو الصورة بعناصر متداخلة ومتشابكة، وبخاصة أن تحولات وتطورات مهمة تحصل في المنطقة العربية منذ انطلاقة موجة ما عرف بالربيع العربي عام 2010 وارتداداتها وما نتج منها من بروز لهويات وفاعلين ما دون الدولة الوطنية وإعادة إحياء لرؤى تنحدر إلى ما قبل الدولة الوطنية أو تتجاوز فكرة العروبة نحو أممية إسلامية أو مشرقية جديدة أو شرق أوسط جديد. لا مناص من الخروج من أسر التصورات والأوهام التي سادت على مدى نحو قرنين من الزمان والقيام بشجاعة ووعي كافيين بإعادة طرح أسئلة تتصل بكل المستويات. جانب من هذه الأسئلة يتصل حتمًا بالهوية وما الذي يشكل الهوية، وماذا تعني الهوية في مرحلة ما وكيف تختلف في مرحلة أخرى؟ كيف يمكن أن تتحول الهويات من مرحلة إلى مرحلة؟ ماذا كانت تعني الهوية العربية قبل خمسين عاماً؟ وماذا تعني اليوم؟ ما هي الهوية الإسلامية وهل هي مطابقة لفكرة الدولة؟ ماذا تعني الهوية لأية دولة أو قطر عربي أمس واليوم وغداً؟ هل الهوية حالة ثبوتية ساكنة أم أنها حالة دينامية؟ ويرتبط بهذه أسئلة أخرى بشأن التعامل مع قضايا كانت جامعة وفي مقدمها القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، ومع التحديات الحاضرة والتصور عن المستقبل والتعامل مع الجوار والعالم الأبعد جغرافيًا.

ثالثاً: ارتدادات الربيع العربي وتحدي الهوية

يجمع المثقفون والدارسون على استمرار حالة الانفصال بين المجتمع والدولة التي لم تتمكن من استيعاب الكيان الاجتماعي بما فيه من تنوع وتعدد فلم تتجاوز الحدود الشكلية والسلطوية. والنتيجة المترتبة على ذلك هي عدم تحقق إنجاز الدولة الوطنية بالاندماج في أمة حديثة تفارق الحدود التي رسمتها المفاهيم الأوسع للأمة سواء أكانت إسلامية أو عربية أو غيرها من التصورات لنزعات مرتبطة بكيانات أو تصورات تاريخية أو جغرافية أو عرقية أو مذهبية. هذا الفشل أعاق أيضًا التمكن من معظم مقومات الحداثة السياسية الضرورية لمشروع الدولة الوطنية المتسلحة بالمفاهيم الأخلاقية اللازمة للاستمرار والازدهار والاستقرار. قاد ذلك بالطبع إلى استمرار العناصر والعوامل والقوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ما قبل الدولة الحديثة لتفعل فعلها، وبخاصة استمرار الثقافة والمقومات المذهبية والقبلية، لتجعل من مسألة الهوية التحدي الأبرز أمام الدولة العربية.

قاد الربيع العربي إلى ارتدادات ظاهرة جعلت الحلم أبعد منالًا ولم يسفر عن اتجاه لتقوية الدولة القطرية وتمتين أسس وجودها عبر تحقيق الاندماج الوطني وهوية المواطنة أو تكامل إقليمي. أظهرت العوامل نفسها التي قادت إلى احتجاجات الربيع العربي الحاجة إلى قدر ومستوى من التكامل بما يمكن الدولة القطرية من الاستجابة ضمن جهد تكاملي لمتطلبات التنمية والحياة الكريمة بتعاونها الوثيق مع جيرانها الذين تقاسمهم فضاء واحد من المشتركات التاريخية والثقافية والمصيرية. لم تتمكن الدولة العربية القطرية من تحقيق أيٍّ من الأهداف، ولم تتمكن حتى من مجرد تحصين ذاتها أو الحفاظ على تماسكها، وما إن اتضحت معالم المرحلة الجديدة حتى بدا واضحًا للعيان أن الدولة العربية لم تصبح بعد الدولة المأمولة بل تستمر في كونها مجرد ممارسات سلطوية تراكمت عبر عقود من الزمن غاب المجتمع بكل تفاصيله عنها. هكذا تبدو الدولة القطرية اليوم غير قادرة على التمسك بكيانها واستدامة ما كانت ترسمه لذاتها من هوية، وظهر تمامًا كيف أن غياب المواطنة الحقيقية جعل الدولة تغرق في سردية هوية خادعة أُصيبت بمقتل بمجرد أن انطلقت الهويات الفرعية من عقالها وصارت مسيسة على كل المستويات.

هكذا رأينا كيف أصبحت مسألة الأقليات مثلًا تطرح بقوة وبدعم خارجي مكشوف على المستويات الإثنية والمذهبية والثقافية واللغوية في صيغ سياسية تناقض الدولة في أساسها وجوهرها كفكرة ومؤسسات تسمو على ما قبلها من هويات لتصوغ هوية وطنية جامعة. هذا يفسر لنا، جزئيًا على الأقل، كيف تواجه الدولة بعد الربيع العربي تحديات وجودية حيث «الأقليات» قوى ضغط سياسي تطالب بالتمثيل والحصص والاستقلال الذاتي والفدرالية والتقسيم، وغير ذلك من الصيغ التي تجعل الدولة الوطنية كفكرة ومشروع في مأزق حقيقي. يجري ذلك بينما تغرق دول وتترشح أخرى للصراعات والحروب الأهلية إضافة إلى الصراعات الهوياتية المختلفة المستويات بما فيها تلك العابرة للحدود التي لا تعترف بالدولة الوطنية ولا تقبل تعايش الهويات المحلية أو الأقلوية.

إن أحد أهم دروس التجربة هو أن الدولة العربية لن تنجح في سعيها لصوغ هوية خاصة بها، ما دامت هذه المحاولة تصطدم بقوى وديناميات الواقع الاجتماعي، وستظل عرضة لذلك ما دامت تتعمد الانفصال عن جوهر خصوصيتها التاريخية والثقافية والاجتماعية الحافلة بالتنوع؛ بما في ذلك الارتباط بين العروبة والإسلام. هكذا لم يتعدّ ما أنجزته الدولة بناء مؤسسات سلطوية أو رفع شعارات الوطنية والهوية والتمسك بهياكل وبنى سلطة لم تحقق، أو لم تتحصل على، خصائص المؤسسات التي ترتبط بالدولة الحديثة، وافتقرت إلى مضامين المواطنة والمشاركة والسيادة فأصبحت محل شك وضعف وتواجه خطر التفتت والفشل على المستويين السياسي «الدولتي» والاجتماعي. كل ذلك يمثل تحديًا أمام مهمة إعادة بناء الدولة أو صيانة كيانها من خلال مجانسة الهوية الوطنية بحيث تتناغم المكونات المتنوعة في هوية جامعة معاصرة وليس ماضوية وهو ما يتطلب رفع هدف الوحدة الوطنية والمواطنة إلى مرتبة الهوية.

لقد أبانت تجربة ما بعد الربيع العربي الضعف والفشل المتراكم في قدرة الدولة على تلبية المطالب الاجتماعية ولم يعد ممكنًا الاتكال على عقد اجتماعي وضعت مضامينه في عقود ما بعد الاستقلال ليُنظم العلاقة بل ليفرض العلاقة على المجتمع وفقًا للصيغة التي أرتأتها النخب المسيطرة مناسبة لاستدامتها وإخضاع المجتمع لها. ولا جدال أن ذلك يشترط الإجماع على عقد اجتماعي ومبادئ جامعة حاكمة تترسخ في الثقافة وفي عقول الأفراد والجماعات وضمائرهم ومخيالهم وشعورهم الجمعي الذي لا مناص من الاعتماد عليه في بناء واستدامة المنظومة العامة من المبادئ التي تحكم إدارة شؤون الدولة والمجتمع[14].

رابعاً: نحو عروبة جديدة

مرت العروبة بثلاث مراحل رئيسية منذ بدايتها كحركة واتجاه فكري وأيديولوجي موجَّه ضد الإمبراطورية العثمانية. كانت العروبة في مرحلتها المبكرة تعبيرًا عن الرغبة في هوية أو كيان أو وجود مستقل، ولذلك كانت الأهداف الأساسية تحرير العرب أولاً من هيمنة الأتراك، ثم تبلورت بعد ذلك في النضال من أجل التحرر من الاستعمار الأوروبي كمرحلة ثانية. وعكست المرحلة الثالثة الانشغال بالتغيير الاجتماعي والتنمية بينما أجلت الدول العربية إعمال الديمقراطية وحرية المواطن بحجة أن الأولوية هي تحقيق التغيير الاجتماعي والتنمية والعدالة الاقتصادية. استند هذا الاختيار للأولويات إلى الاعتقاد الضحل بأن بلوغ هذه الأهداف كان يلوح في الأفق، وأنه لن يمر وقت طويل قبل أن تتحقق الديمقراطية ويتم تمكين الشعب سياسياً. ومع ذلك فقد ثَبُت خطأ هذا التفكير بعد تجارب مُرة وتلقي الدرس المؤلم بأنه لا يمكن تعريض الديمقراطية للخطر أو تأجيلها من دون المخاطرة بخسارة أي إنجازات اجتماعية تبين لاحقًا استحالة الحفاظ عليها من دون حماية الديمقراطية. لقد تعلم العرب هذا الدرس بالطريقة الصعبة، فقد احتجنا لهزيمة العرب في حرب «الأيام الستة» عام 1967 مع إسرائيل وموت جمال عبد الناصر، ثم تبرز الحاجة إلى درس أكثر مرارة حينما اندلعت احتجاجات الربيع العربي لتعيد إلى الأذهان أنه لا حياة واستقرار من دون حرية وكرامة.

تضم الصورة اليوم عناصر أكثر إثارة للتساؤل والقلق وهو ما بدا واضحًا من تخلي النظام العربي الرسمي عن آخر معاقله وتنازل عن قضيته المركزية (فلسطين) ومواجهة العدو الاستيطاني الصهيوني العنصري ليدخل في مسلسل من التطبيع المشين. كما يبدو ذلك أيضًا عبر ما يجري التسويق له من صياغة جديدة للأمن القومي العربي بإعادة تعريف العدو (إيران هذه المرة) وليصبح الدفاع العربي المشترك أمرًا غير لازم بحد ذاته إلا ضمن إدراجه ضمن منظومة دفاع تكون جزءًا من ترتيبات قوى خارجية توظفها لخدمة أهداف استراتيجيتها الكونية ليست صفقة القرن سوى آخرها، وهذه التطورات تمثل أسئلة وتحديات لا بد من وضعها في الحسبان.

كما اتضح أن الدولة القطرية التي أدانها كلٌّ من القوميين والإسلاميين لم تكن مجرد نمر من ورق لكنها ورغم عمرها الطويل نسبيًا لم تتأسس بعد كدولة وطنية بالدرجة نفسها التي لم تصبح فيها «الأمة» على أي مستوى واقعًا قائمًا، فهي لم تتشكل بعد وتعيش تغيرًا واستمرارية في أفق مفتوح على شتى الاحتمالات. وبينما يتراجع المشترك ويفشل في إحداث التأثير الإيجابي أمام قوى تدفع إلى التذرّر نجد المنطقة حبلى بالتصورات والأفكار التي تقدم رؤى جديدة للمستقبل بعضها ينطلق من موروث ديني أمام موروث قومي، وأخرى تزعم الاستناد إلى حضارة مشرقية وثالثة تنادى بكيان متوسطي ورابعة تحلم باتحاد لأمم المشرق الكبرى متناسية أن واحدة منها على الأقل لم تحقق كيانًا قوميًا بعد، وأن تحقيق الكيان القومي لأخرى يتعارض مع هدف الأولى، أو أن القسم الأعظم من المنتمين إلى واحدة هم خارج هذا الشرق الجغرافي، حيث يستوطنون أفريقيا التي يعيشون فيها مع أمم أخرى شريكة لهم وبعضها تنازعهم هدف الكيان القومي الموحد.

لا ينبغي، وليس ممكنًا، إهمال أو تجاهل الربيع العربي ونتائجه وارتداداته وعدم الانتباه لآثارها السياسية والفكرية بخاصة مع اشتداد الصراع بين التأصيليين والتحديثيين، أو بين قوى التغيير وتلك التي تريد الحفاظ على الوضع الراهن (أو ما يطلق عليها قوى الثورة والثورة المضادة، أو قوى الثورة وقوى الدولة العميقة). عندما انطلقت مساعي بناء المؤسسات الديمقراطية وعملية صوغ الدساتير أصبح الخلاف تناقضًا وحربًا باردة أحيانًا، وحروبًا ساخنة أحايين أخرى، كما تشهد ساحات كثيرة. ولعل ما جرى مؤخرًا في تونس التي تُقدَّم كنموذج ناجح يؤكد أن الأسئلة الأساسية لم تزل ماثلة للعيان تبحث عن إجابات. كما يؤكد أن ما جرى منذ 2010-2011 لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من الهدر والدم والتدمير والانكشاف أمام الخارج وأنتج صراعًا مقيتًا ينذر بخطر حقيقي في ضياع كل فرص التغيير والنهضة، بل ويهدد البقاء عندما يجري استهداف كل ما تبقى مما كان يعدّ جامعًا على كل المستويات الوطنية أو الاقليمية ويتم نكء جروح غائرة وهدم ما تحقق من توافقات وتحميلها مسؤولية التردي بدل التفكير الجاد في العوائق والتحديات الحقيقية.

لذلك لا بد من وجود مراجعة شاملة، حيث لم يعد يجدي النظر إلى العروبة كاستنساخ للماضي، بل لا بد من إعادة تعريفها وتحديد مقوماتها وضمان ممازجتها لبقية مكونات الهوية في المنطقة التي تمثل إطارها الجغرافي والثقافي. لا بد من إعادة التفكير في مضامين غير تناقضية وتقديمها في صيغة جديدة مشروعًا مستقبليًا تمليه تحديات العصر والحاجات الفعلية، وليس مجرد ركون لهوية ميتافيزيقية أو تاريخ مؤدلج. لا مناص من القبول بأن الهوية والتاريخ والتصورات عن الذات والآخر تخضع اليوم لإعادة نظر وتقف أمام بوابة تحولات شاملة ترتبط باستخلاصات التجربة ومقتضيات العصر. لقد أثبت نموذج الدولة القطرية فشله رغم تضخمه والمبالغة في الأساطير المتصلة بكيانه وجاء الربيع العربي ليكشف عن سطحية جذوره فيعيد التساؤل حول ما إذا كان أصيلًا أم وافدًا[15]. كما يتأكد أن الاستمرار في التمسك بالنموذج السابق «التاريخي أو المتصور» للعروبة بعامة وتصورها السياسي بخاصة لن يقود إلا إلى المزيد من التناقض بين بناء الدولة الوطنية اللازمة للنهضة والتكامل الذي لا ينبغي عدّه مؤطرًا في نموذج أو تصور واحد بل يرتبط وتتحدد خصائصه بالتطورات التي حدثت في المنطقة وخصائص النظام العالمي السائد، فيتغير وفقًا للظروف والتحديات والحاجات التي لن تتحدد إلا وفقًا للدولة وطبيعة النظام الدولي الذي تعيش فيه.

وبقدر ما يفرض ذلك تبني الخيار الديمقراطي لتحقيق النهضة التي لا يمكن تحقيقها إلا بمواطنة فاعلة ومشاركة تحمي كيان الدولة ووجودها من التلاشي، فلا بد أن يتضمن نموذج العروبة الجديدة الاستيعاب والتكيّف، وأن يعكس رغبة مدركة لأهمية تحويل الأطروحات الأيديولوجية المتضاربة إلى خلافات مثمرة يمكن من خلالها الخروج بنموذج جديد للعمل المشترك. لا ينبغي لأي نموذج فكري أو خيار أيديولوجي أن يفرض هيمنة، وإن بدا أنه يحوز قبول الأغلبية كون الهيمنة مهما بدت جذابة لأي تيار فكري أو سياسي لن تفلح سوى في تكرار المرارة والإحباط وإجهاض النهضة عندما يرفض ذلك التيار التنوع ويسعى للتغلب على التناقضات بإنكارها ويسعى لإلغاء الاختلافات والخصوصيات كشرط للتجديد والولوج إلى النهضة[16].

وإذا كان بروز الإسلام السياسي والنزعة الإسلاموية عمومًا يجبر الفكر العربي على إعادة النظر في مفاهيمه وأفكاره وأهمية التفكير مجددًا في مفهوم العروبة فإن ذلك لا يعني أن نغفل أن تلك القوى ليست منفردة كما ينبئ التاريخ، وكما أظهرت نتائج الانتخابات والتطورات التي أُجريت في عدد من الأقطار كتونس مؤخرًا. العروبة الجديدة المبتغاة تنقل العلاقة بين تيارات الفكر والسياسة الرئيسية من دائرة التناقض إلى التنافس الديمقراطي وتدخلها في علاقة جدلية تكون فيه قوة وتأثير كل تيار خاضعة لقانون النسبية الذي يعكس التغيير في الوزن النسبي لكل تيار وفقًا لاعتبارات الواقع والتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي. كما يعكس ذلك الحاجة إلى التعاون والتكامل استجابة للتعقيدات والاهتمامات الحالية لسكان المنطقة التي يمكن أن تؤدي إلى سد الثغر وتنشيط الاقتصادات الوطنية كما كشف عنها المؤشر العربي عن اتجاهات السكان حيث أولوياتهم اقتصادية وحياتية رغم استياء أغلبيتهم من الأوضاع السياسية في بلدانهم[17]. يرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بقضايا التحدي التي تطرحها الطبيعة الاجتماعية من دون أي تمويه أيديولوجي أن تلك الطبيعة ستؤدي بدورها، افتراضيًا، إلى المزيد من التحقق والتأكد من رؤية إقليمية للتكامل والتعاون تعززها الرغبة في سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط في عالم يتسم بالعولمة التنافسية[18].

وبقدر ما تحتل الديمقراطية والمواطنة والتنوع المركز الرئيسي في أي تصور إقليمي في القرن الحادي والعشرين، تكون الفرصة قائمة أمام نهضة تستجيب لحاجات راهنة وجزءًا من أدوات الوصول إلى آمال المستقبل وليست طوطمًا أو مقدسًا ميتافيزيقيًا دوغمائيًا لا يخضع للتغيير والتطوير وتتنوع وتتعدد صيغه وفقًا للظروف والأحوال. هنا يكتسي التكامل الفعال الذي لا يقتصر على نموذج سياسي أو اقتصادي جامد أهمية بخاصة حيث تتسع آفاقه لتصوغ مواطنة متكاملة تيسر امتلاك مقومات النهضة التي لا وجود ولا معنى لها إلا بوجود حر ومستقل للإنسان.

 

قد يهمكم أيضاً  “الهوية المتخيلة” للدولة العربية وتحديات الانتماءات الفرعية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الهوية_العربية #القومية_العربية #الربيع_العربي #الأقليات #حال_الأمة #الهوية_الوطنية #الديمقراطية #المواطنة #العروبة #الفكر_العربي #الإسلام_السياسي