شغلت إديث براون ويس (Edith Brown Weiss) منصب أستاذة في معهد القانون في جامعة جورجتاون الأمريكية، وقبل ذلك عملت أستاذة للهندسة المدنية ودراسة السياسات بجامعة برنستون. وتقلّدت براون مناصب كثيرة، منها الاشتغال بمديرية المراقبة بالبنك الدولي (WB) (2002 – 2007)، ورئيسة الجمعية الأمريكية للقانون الدولي (ASIL) (1994 – 1996)، وعملت بالوكالة الأمريكية لحماية البيئة (EPA)، وعينت مديرة أو مستشارة لمراكز أبحاث متعدّدة، منها: المجلة الأمريكية للقانون الدولي، ومجلة الاقتصاد الدولي والقانون، كما عملت في هيئات تحرير عدد من المجلات العالمية.

ألّفت براون عدّة كتب، منها: المياه العذبة وقانون الاقتصاد الدولي‏[1] (مؤلف مشترك، 2005)، تناغم البيئة والتجارة‏[2] (مؤلف مشترك، 2001)، وانخراط الدول: تعزيز الامتثال للاتفاقيات البيئة الدولية‏[3] (مؤلف مشترك، 1998)، والقانون الدولي البيئي والسياسات‏[4] (مؤلف مشترك، 1998، 2007). واشتهرت براون بكتابها إنصاف الأجيال المقبلة: القانون الدولي، الميراث المشترك، والعدالة ما بين الأجيال‏[5] الذي حصدَ عدّة جوائز وتُرجم إلى لغات متعدّدة، وتناولت فيه الكاتبة نظرية الإنصاف ما بين الأجيال، ومبادئ الإنصاف ما بين الأجيال، و«تحديد» واجبات وحقوق الأجيال المقبلة في شأن الحفاظ على (صلابة) الكوكب ووحدته، وصيانة موارده الطبيعية والثقافية.

أهمية الدراسة ونفعيتها

يلاحَظ أن جلّ الدّراسات والبحوث الجامعية في الدول المغاربية، المهتمة بالمقارنة بين الأنظمة والقوانين والدّساتير… إلخ تتناول بالتّحليل ما تُسمّيه النّموذج الفرنسي. ومن أجل تعميق النقاش حول التّجارب الإنسانية الأخرى، نعرض جزءاً من فكر المدرسة الأنغلوسكسونية وبالتالي الانسلاخ عن دراسة «النّموذج الفرنسي» الأرثوذكسي، وبناءً عليه نتطرّق إلى تجربة فقهية فريدة في نوعها للباحثة براون باعتبارها تشكل أنموذجاً في الاهتمام بالعدالة بين الأجيال منذ الثّمانينيات من القرن العشرين، حيث واكبت براون موضوع العدالة لما يزيد على ثلاثين سنة. وهو ما يُوحي بنظرة ثاقبة عن الموضوع وإمكانية الاستفادة من هذه المقاربة.

أولاً: مفهوم الإنصاف(*) ما بين الأجيال

حدّدت براون الإنصاف ما بين الأجيال (Intergenerational equity) بقولها: إن تعريف الإنصاف ما بين الأجيال يستدعي النّظر إلى الجماعة الإنسانية كشريك لكلّ الأجيال المتعاقبة. أما نظرية الإنصاف ما بين الأجيال فتجدُ مصدرها – بحسب براون – في القانون الدولي، وديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1945 حيث تمّ الاعتراف بــ «توريث/أو انتقال» الكرامَة والمُساواة والحقّ في الأسرة الإنسانية كقاعدة أساسية لإرساء الحرية والعـدالة والسّلـم في العالم أجمع. وعلى المستوى الدولي، تُوجد مجموعة من الوثائق الدولية المتعددة – كميثاق الأمم المتحدة للعام 1945، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، والاتفاقية الدولية للطّفل للعام 1989، والإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان لسنة 1948 – تنص على حماية كرامة كل النّاس وضمان مساواتهم في الحقوق‏[6].

ولإيجاد تطبيق للإنصاف ما بين الأجيال، على الدول أن تُساعد الجماعات الفقيرة من أجل استعمال البيئة الطبيعية وفق أسُس مقاربة الاستدامة؛ وأن تساعدها – هذه الجماعات – على ضمان الرّبح المُنصف لولوج المنافع الاقتصادية للكوكب، كالاستفادة من الماء الصّالح للشّرب، وأن تحمي أيضاً الجماعات الفقيرة من اندثار نوعية (جودة) البيئة‏[7].

وكمستفيدين من الميراث المُشترك للكوكب، يحقّ لكل أعضاء الجيل الحالي الوُلوج المُنصف لاستعمال هذا الميراث. ومن أجل ضمان ما أسمتهُ براون المستقبل الوطني؛ على كل الدول أن تستفيدَ من جُهود الجيل الحالي لحماية البيئة العالمية المشتركة للأجيال المقبلة، وحتماً، سُيعاني الجميع إذا لم يَقُم الجيل الحاضر بهذه الجُهُود‏[8].

الدروس المستفادة عربياً

تحدّث الباب الأول من القانون المغربي، الإطار رقم 12 – 99 (المادة الثانية)، وهو بمثابة ميثاق وطني للبيئة والتنمية المستدامة، عن مبدأ التّضامن، بأن هذا الأخير يسهم كقيمة وموروث متجذّر داخل المجتمع في التماسك الوطني، فهو يتيح في بُعده الثلاثي: الاجتماعي والتّرابي والمشترك بين الأجيال، الرّفع من قُدرات البلاد على الحدّ من الهشاشات وتشجيع الاستعمال العقلاني والمقتصد والمتوازن للموارد الطبيعية والفضاءات‏[9].

من ميزات هذه المادة أنها تذكر قضايا مهمة كالمشترك بين الأجيال، لكن العمل على حماية ما هو مشترك هو مسؤولية الجميع، لذا على الدولة والمجتمع أن يبذلا المزيد من الجُهود لضمان استدامة الموارد الطبيعية بين مختلف الأجيال. وإجمالاً، يمكن البلدان العربية ألّا تهتمّ فقط بدراسة الجدوى الاقتصادية ودراسة التأثير في البيئة في مشاريع الاستثمار، وهو ما يستوجب أولاً الاهتمام بالبعد الجيلي كنقطة انطلاق تضمن تمويل هذه المشاريع، لأن استدامة الموارد تعني استدامة الوطن العربي وبقائه على قيد الحياة؛ وثانياً توضيح محدودية العدالة التّوزيعية، حيث إن مبدأ التوازن الإيكولوجي وصيانته له الأرجحية على جميع المبادئ الأخرى.

ثانياً: ضوابط ومبادئ الإنصاف ما بين الأجيال

نستطيع أن نستعملَ موارد النظام الطبيعي بطُرق مستدامة، وقد يؤدي تصرّفنا إلى تآكل هذا النّظام، ويعود السّبب في ذلك إلى قُدرتنا التمييزية للحفاظ على النّظام الطبيعي. كما أن جميع الأجيال مرتبطة باستمرار الأرض واستدامتها‏[10]؛ فما هي ضوابطُ الإنصاف ما بين الأجيال، والمبادئ التي يرتكزُ عليها هذا المفهوم؟

1 – ضوابط الإنصاف ما بين الأجيال

قبل التّطرق إلى مبادئ الإنصاف ما بين الأجيال، تُحَدّدُ براون الضّوابط المؤطّرة لتطوير مبادئ الإنصاف ما بين الأجيال وهي‏[11]:

– أن تشجّعَ المبادئ على المُسَاواة بين الأمم، وصيانة الموارد للأجيال المقبلة.

– لا يمكنُ لهذه المبادئ أن تطلُب من جيل معيّن الارتهان لقيم الأجيال المقبلة.

– أن تكونَ المبادئ واضحة ومعقولة عندما تتناول أوضاعاً في المستقبل.

– أن تكونَ هذه المبادئ مقبولة من مختلف الثقافات، ومن الأنظمة الاقتصادية والسياسية.

2 – اعتبارات ومبادئ الإنصاف ما بين الأجيال

نتطرق في هذا الصدد لاعتبارات الإنصاف ما بين الأجيال (البند الأول)، ومبادئ الإنصاف ما بين الأجيال (البند الثاني).

أ – اعتبارات الإنصاف ما بين الأجيال

في محاولة منها لصياغة المبادئ التي تُوَجّهُ التّفاعل البشري (الإنساني) نحو الإنصاف ما بين الأجيال، تركّز براون على ثلاثة اعتبارات‏[12]:

الاعتبار الأول: يجب أن نشجّع المساواة عبر الأجيال، فلا نرخّص للجيل الحاضر باستغلال الموارد وإقصاء الأجيال المقبلة، وألّا نضع أعباء غير معقولة على الجيل الحاضر لمواجهة حاجات المستقبل غير المحدّدة.

الاعتبار الثاني: يجب ألّا نطلب من أحد الأجيال التنبؤ بأفضليات الأجيال المقبلة، بل على العكس من ذلك، يجب أن نمنح الأجيال المقبلة مرونة لتُحَقّق غاياتها طبقاً للقيم الخاصّة بها.

الاعتبار الثالث: يجب أن نأخُذَ في الحُسبان التّقاليد الثّقافية المختلفة، وأن نجدَ المبادئ التي تجتذبُ الجميع إليها.

ب – مبادئ الإنصاف ما بين الأجيال

في شأن الإنصاف ما بين الأجيال، تقترحُ الباحثة براون ثلاثة مفاهيم أساسية هي: الحفاظ على الخيارات المُتاحة للحفاظ على قاعدة تنوّع الموارد الطبيعية والثقافية؛ والحفاظ على نوعية الموارد الطبيعية والثقافية؛ والحفاظ على حرّية الولوج إلى الميراث الطبيعي والثقافي الذي تمتّعت به الأجيال السّابقة.

(1) خيارات الحفاظ: يعني مفهوم خيارات الحفاظ (Conservation Options) حسب براون صيانة قاعدة تنوّع الموارد الطبيعية والثقافية، ولكلّ جيل الحقّ في التّنوع مقارنة بما أتيح للأجيال الماضية. وهذا لا يعني الحفاظ على الوضع القائم للموارد الطبيعية والثقافية؛ بل يمكنُ أن تُصاحب عملية الحفاظ على قاعدة تنوّع الموارد عملية تطوير التكنولوجيات الجديدة التي تخلقُ البدائل من أجل ضمان استدامة الموارد الموجودة، أو أن يتمّ استغلالها بنجاعة أكبر‏[13].

إن التّطور التكنولوجي يُسهم في الحفاظ على قاعدة التنوع الطبيعي والثقافي بفضل المنتوجات البديلة الهادفة إلى تعويض الموارد الموجودة حالياً، أو السّماح بعمليات استغلالية للتنوع تكون أكثر فاعلية‏[14].

لذلك، على كل جيل أن يُحافظ على تنوّع الموارد الطبيعية والموارد الثقافية الأساسية، ويسمح بوضع ضوابط ملائمة على الأجيال المقبلة من أجل إيجاد حلول لمشاكلها وإرضاء القيم الخاصّة بها، مع أهمية السّماح بالاستفادة من التّنوع مقارنة بما تمتّعت به الأجيال الماضية (مبدأ المُسَاواة)‏[15].

إن مبدأ خيارات الحفاظ يستلزم صيانة قاعدة التنوع البيولوجي في مجموعه، ويعتبر هذا المبدأ بمثابة رادع لكل من يعتدي على التنوع البيولوجي كقطع أشجار الغابات الاستوائية، أو القضاء على كل الموارد الثقافية‏[16].

(2) الحفاظ على نوعية الكون: «على كل جيل أن يصُون نوعية الكون بحيث يسلّمه بصورة ليست أسوأ من الحالة التي تسلّمها من الأجيال الماضية»‏[17]، و«أن يمنح نوعية ذات طابع كوني مقارنة بما تمتّعت به الأجيال الماضية»‏[18]. وهذا لا يعني أنه لا يمكنُ إحداث تغييرات في البيئة الطبيعية، فحماية البيئة تتطلّبُ مساراً متوازناً ووضع قيود على (الاستعمال) من أجل ضمان هذا التّوازن‏[19].

ولتحديد الجيل الذي يحافظُ على نوعية البيئة، من الأهمية بمكان تطوير مؤشّرات تنبُّئية لتنوّع الموارد ونوعيتها، وبلورة الإجراءات الأساسية، وتعزيز القُدرة على التنبؤ بالتغييرات التي ستحصلُ في مجال التكنولوجيا‏[20].

(3) الحفاظ على حرية ولوج الميراث: على الجيل الحالي أن يُوفّر لأفراده حقوقاً مُتساوية من أجل وُلوج الميراث الذي تمتّعت به الأجيال السّابقة، وصون حقّ الولوج للأجيال المقبلة‏[21]. بعبارة أوضح، لهؤلاء «حقّ ولوج واستغلال الموارد من أجل تنمية الرّفاه السوسيو اقتصادي شريطة احترام واجباتهم الإنصافية تُجاه الأجيال المقبلة، ولا يجوز وضع مُعوّقات أمام الآخرين بشأن حقّ الولوج»‏[22]؛ مع العلم أن «مفهوم حماية ولوج الميراث يندرجُ ضمن مبادئ الإنصاف ما بين الأجيال»‏[23]، كما تقرّ براون.

إن الولوج إلى الموارد الطبيعية هو تجسيد (حقيقي) لمبدأ العدالة ما بين الأجيال، وفي الوقت نفسه العدالة بين أعضاء الجيل الحالي نفسه. ويترتّب على ولوج الموارد الطّبيعية والثقافية من الجيل الحالي حقوق مُتوازنة لمفهوم عدم التّمييز في استعمال الموارد الطّبيعية لهذا الكون. بمعنى آخر إمكان استعمال الأجيال الحالية للموارد بُغية تطوير الاقتصاد والرّفاهية الاجتماعية، لكن مع احترام الواجبات المُنصفة للأجيال المقبلة وعدم التّعارض في ولوج الأجيال وحقّها في الموارد نفسها. ويفترضُ ضمنياً المساواة عبر أعضاء الجيل الحالي نفسه، وقبول توسيع الوُلوج غير التّمييزي للموارد المُتاحة كمعيار للمُساواة‏[24].

إنّ الحقوق الكونية لما بين الأجيال، يجبُ أن يُنظر إليها كحقوق جماعية لا كحقوق فردية؛ بهذا المعنى تتّصلُ الحُقوق الجماعية بالأجيال الماضية والحاضرة والمقبلة على حدّ سواء. لذلك تتحدّث براون عن الحُقوق الجماعية ما بين الأجيال لا الحقوق الفردية المقبلة‏[25]؛ فالأجيال باختلافها (الماضي والحاضر والمستقبل) مُترابطة بحكم استعمالها للتّراث الكوني المُشترك‏[26].

3 – الدروس المستفادة عربياً

يبدو أن الخيارات المطروحة للحفاظ على نوعية البيئة قليلة مُقارنة بالضّغوط التي تتعرّض لها البيئة في الوطن العربي، وفي غياب منظور جيلي يسعى إلى ضمان الاستدامة البيئية ستضيع الفُرص التي تتوافر في المنطقة العربية. ومع استمرار النّزاعات والاقتتال الداخلي وتدخّل الأطراف الإقليمية والدولية لتأجيج الأوضاع في الوطن العربي، تمّ تغييب المنظور الجيلي في تحليل الاستراتيجيات الواجب اتباعها، فالأولوية للاقتتال وتدمير الأرض والشّجر والإنسان، ولا يُـعْرَف الحجم الحقيقي للدّمار البيئي الذي حصل في الوطن العربي منذ 2011 (الربيع العربي).

ثالثاً: واجبات استعمال الموارد الطبيعية والثقافية

من أجل الوفاء بالالتزامات الكونية المتعلّقة بصيانة تنوع الموارد الطبيعية والثقافية، وصون جودة البيئة، وضمان حرية الولوج إلى الموارد الطبيعية والثقافية، من الضروري احترام رُزْمَة من الواجبات، إذ يجبُ أن يُنظر إلى هذه الواجبات كالتزامات قانونية ذات صبغة دولية تندرجُ ضمن سياق تعزيز الاتفاقيات الدولية، ويمكنُ النّظر إليها أيضاً في بعض الحالات كأعراف في القانون الدولي‏[27].

وتبعاً لذلك، توجدُ خمس فئات من الواجبات المرتبطة باستعمال الموارد الطبيعية والثقافية وهي:

1 – واجبات اتخاذ خُطوات إيجابية لصيانة الموارد الطّبيعية والثّقافية.

2 – واجبات ضمان عدم التّمييز في استعمال الموارد والانتفاع بها.

3 – واجبات تجنّب أو تخفيف الآثار السّلبية التي تتعرّضُ لها الموارد، أو نوعية البيئة‏[28].

4 –  واجبات الإبلاغ(*) ومنح المُساعدة في أوقات الطّوارئ.

5 – واجبات تحمّل تكاليف تضرّر الموارد الطبيعية والثقافية‏[29].

وتقرّ براون أن الواجبات التي تسهم في تجنّب الضّرر‏[30] من جهة، وإمكانات منح المساعدة أثناء الطوارئ من جهة ثانية تطوّرت أكثر من واجبات صيانة الموارد الطبيعية، وأحقية الولوج إليها وهي مقبولة من منظور القانون الدولي. وعليه يجبُ على الدول أن تُدمج الواجبات عبر الزّمن (Intertemporal Duties) في عقيدتها.

الدروس المستفادة عربياً

إن المعضلة الحقيقية التي ستواجه صانعي السياسات في البلدان العربية هي الاستجابة الناجعة لمنظور العدالة الجيلية من أجل الحفاظ على الموارد التي تتوافر في هذه البلدان لمصلحة الأجيال المقبلة، ولا شك أن قضايا مثل الانحباس الحراري وفُقدان التّنوع البيولوجي وشُحّ المياه ستقوّض جُهُود بناء منظور جيلي يسعى إلى عدم المساس بقُدرات الأجيال المقبلة في الانتفاع المنصف من الموارد الطبيعية المُتاحة.

ويمكن تعزيز المنظور الجيلي في مجالات بيئية كثيرة، منها الطّاقات المتجدّدة، لذلك فـ «الاستثمار في هذا المجال رسالة سياسية واضحة إلى المجتمع الدولي عن مدى التزام البلدان العربية باستراتيجيات التّكيف مع السياسات العالمية في مجال التغيُّرات المناخية»‏[31].

 

رابعاً: الحقوق الكونية (Planetary Rights)

تُخصّص براون جانباً من مشروعها حول الأجيال المقبلة لطبيعة الحقوق الكونية (البند الأول)، ونظامها الأساسي (البند الثاني).

1 – طبيعة الحقوق الكونية

الحقوق هي مصالح تحميها العدالة، وترتبط دائماً بالواجبات أو الالتزامات. وعلى عكس ما هو معروف في منظومة حقوق الإنسان، لم تقم الدول – من خلال أعمالها أو تصرفاتها – بتحديد الحقوق الكونية، لذلك استمدت الحقوق الكونية «شرعيتها» من العلاقة ما بين الأجيال، كما أسهمت في تحديدها الالتزامات المُلقاة على عاتق كلّ جيل تُجَاه الأجيال اللاحقة وأعضائه. بهذا المعنى فهي حقوق جماعية تُوجد من أجل الأجيال أو للأجيال‏[32].

من الأسئلة التي تثيرها براون في هذا السياق: كيف يمكن الأجيال أن تكون لها حقوق؟ فالحقوق توجدُ أصـلاً حين نتمكّن من تحديد المصالح، ويحدثُ ذلك – أيضاً – عندما نستطيع أن نُحدّد مصالح الأفراد الواجب حمايتها. وعلى العكس من ذلك، إذا لم نتمكن من معرفة من هُم أفراد الأجيال المقبلة وكم يبلغُ عددهم، يبدو أنه من غير المفيد الحديث عن حقوق الأجيال المقبلة.

إن الحقوق الكونية في شأن الأجيال المقبلة المقترحة في هذا الصّدد، ليست حقوقاً تُمتلكُ من قبل الأفراد لكن تُدرك فعـلاً باستعمالها كـ «حُقوق جيلية» (Generational Rights)، أو ذات أفُق جماعي. إنها الحُقوق التي تندرجُ ضمن شُروط التّنوع والحفاظ على جودة الموارد الطّبيعية والثقافية للأجيال، ويمكن تقييمها وفق شُروط موضوعية ومؤشّرات تطبيقية لهذا الكون من خلال انتقالها من الجيل السّابق إلى الجيل اللاحق. إن تعزيز الحقوق الكونية سيكونُ بمثابة تمثيل الأجيال المقبلة كمجموعة وككلّ، وليس كأفراد للمستقبل فَهُم بالضّرورة غير محدّدين وغير معروفين سلفاً.

2 – النّظام الأساسي للحقوق الكونية

إذا وُجدت الحقوق والواجبات الكونية، فما هو نظامها الأساسي؟ وهل تعكسُ وضع القانون الطبيعي؟ وهل ما زلنا في مرحلة القيم المعنوية، أم أنّنا نناقش الحقوق والالتزامات القانونية‏[33] ؟

في الوقت الحاضر، يمكن اعتبار مهمّتنا في شأن الأجيال المقبلة واجباً معنوياً (أو أخلاقياً)‏[34]، أو حماية للمصالح المعنوية. وتعكس هذه المهمّة قيمة عَقْدية عميقة يريدُ أن يحميها المجتمع ككل. وتتمثلُ الخُطوة الأساسية للمجموعة الدولية في بلورة الالتزامات الكونية والحقوق الكونية في شكل إعلان رسمي‏[35].

ويجب أن نأخذ في الحُسبان مسودة إعلان الحقوق والالتزامات الكونية الذي تكرّر ظُهورها منذ عام 1945، والذي يشكلُ فقط وسيلة للقانون المرن (Soft Law) غير المُلزم، لكن كخطوة أساسية ومهمة لبروز ما يسمى قواعد القانون الصلب (Hard Law)، أو الإسهام في إحداث قواعد وأعراف القانون الدولي في هذا المجال‏[36].

عملت المدارس التي تنتمي إلى مجال حقوق الإنسان على الاهتمام بالحقوق الكونية، إذ حثّ بعض فقهاء القانون على توسيع عقيدة حقوق الإنسان لتشملَ الحقّ في بيئة سليمة، وصحية، ولائقة. وبالرغم من عدم وجود اتفاقية دولية تقنّنُ وتنظّمُ حق العيش في بيئة صحية وسليمة «أقرّ» البروفيسور سون (Sohn) بأن هذا الحق يشكّل جزءاً من العُرف في القانون الدولي ويستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، والإعلانات والاتفاقيات التي أصدرتها‏[37].

وقد أثار الحق في بيئة نظيفة جدالاً واسعاً من جهة وُجوده وكيفية التّعامل معه لإدماجه ضمن حقوق الإنسان الأساسية، وكأساس للحاجات الإنسانية العَقْدية، أو ضمن منظومة الجيل الثالث لحقوق الإنسان‏[38].

إن الحقوق الكونية تمنحُ لهذا الجدال الفقهي قوّة قرارية، حيث تمثّل – هذه الحقوق – القيم العالمية المشتركة، فهي تتضمّن جوانب متعدّدة حاول النّاس تحديدها كحقوق الإنسان في بيئة صحية ونظيفة. وتتأسّسُ الحقوق الكونية – من جهتها – على خلفية تقاسم المُواطنة بين الأجيال؛ ومن جهتها تمثّل هذه الخلفية توسّعاً للفقه نحو دراسة حقوق الإنسان‏[39].

كخاتمة، نحتاجُ إلى الاعتراف بالمُواطنة الكونية (Planetary Citizenship) لكلّ أفراد النّوع البشري، إذ تُلزمنا المُواطنة الكونية أولاً، إنجاح العدالة ما بين الأجيال، و«انسياب» العدالة عبر أفراد الجيل الحالي؛ وثانياً حفظ تنوّع وجودة الميراث الثّقافي والميراث الطبيعي لفائدة الأجيال المقبلة؛ وثالثاً؛ أن تمنح لنا حقوقاً متوازنة لولوج الميراث الذي تسلّمناه من الأجيال السّابقة. وتفرضُ المواطنة الكونية بعض الإكراهات في شأن ما يمكن أن تقوم به الكيانات ذات السيادة، وتُلزم المواطنة الكونية جميع الشّعوب بالالتزامات الائتمانية (المُحاسبية) لفائدة الأجيال المقبلة‏[40].

خامساً: من الذي يمثل الأجيال المقبلة؟

سؤال وجيه يطرحه الفقه الدولي المهتمّ بالمستقبليات، وتُجادل براون في أن مبادئ العدالة (الإنصاف) ما بين الأجيال يجبُ أن يُقدّم كرزمة من الحقوق والواجبات بين الأجيال. وتعتقدُ – إلى جانب مدارس فقهية أخرى – أنّ الحقوق بين الأجيال ربما يجبُ أن تُضاف إلى حقوق الإنسان الدولية الموجودة حالياً. ففي سياق المقاربات القانونية التقليدية، ترتبطُ الحُقوق فقط بإمكانات تحديد الأفراد، في حين يصعبُ تحديد أعضاء الأجيال المقبلة لأنهم يجب أن يكونوا بيننا. مع العلم أن حقوق الأجيال المقبلة ليست حقوقاً فردية، ولكنّها حقوقاً عَقْدية يحملها كل جيل كطبقة (as a class) متجانسة.

مع ذلك، ما هي أفضل طريقة لحماية حقوق الأجيال المقبلة؟

للإجابة عن هذا التّساؤل، تقترحُ براون وُكَلَاء للأجيال المقبلة بإمكانهم أن يؤدوا دوراً في هذا الصّدد، وفي رأيها أن الحكومات الوطنية التي تمثّلُ الأجيال المقبلة (على المستوى العالمي) يمكنها القيام بهذا الدّور. وتستندُ إديث براون – في ذلك – إلى مُبرّر قانوني، إذ تتحدّث عن المصالح غير الحكومية، أو اللجوء إلى وسيط (Ombudsman) للقيام بمهمّة المحامي عن الأجيال المقبلة. فبنفس الطريقة التي تُعَيّن بها محاكم الولايات المتحدة الأمريكية وصياً (A Guardian) لتمثيل مصالح الطّفل في إجراءات الطّلاق (يمكن كذلك للمناطق المحلية أو المصالح غير الحكومية أن تمثّل الأجيال المقبلة في اتخاذ القرارات ذات البُعد المالي الكبير في شأن إزالة التّلوث). وتعتقد براون أنهُ يمكن اختيار أفراد أو مجموعات المصالح غير الحكومية لتتحدّث نيابة عن الأجيال المقبلة.

1 – الوسيط من أجل الأجيال المقبلة

تذكر براون، بُغية تعزيز مقاربتها حول تمثيلية الأجيال المقبلة، الجهود الدولية لإرساء مؤسّسَة الوسيط انطلاقاً من السّويد خلال العام 1809، وشملت مهمات مؤسّسَة الوسيط عدة قضايا، منها تساوي الفُرُص والدّفاع عن حقوق المستهلك والدّفاع عن مصالح الأطفال (اقترحت السويد إنشاء وسيط دولي للأطفال)؛ وقد ظهرت محاولات متعددة لخلق وسيط في المجال البيئي، ففي العام 1967 تأسّس بـ «ويسكونسن» (Wisconsin) مكتب التّدخل العام (Office of Public Intervenor)، الذي يهتمّ بحماية الوضع البيئي والموارد الطبيعية، وعندما تم إحداث برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) لاحظت بعض الدول أنه بمثابة وسيط لتحسين نجاعة القضايا البيئية العالمية. كما تعملُ شبكات ومجموعات كثيرة غير حكومية كوُسَطاء للدفاع عن البيئة، مثل الصندوق العالمي للحياة البرية (WWF) والاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)‏[41].

إن إحداث وسيط لفائدة الأجيال المقبلة، يجب أن يكون مُكلفاً بضمان تدبير المسؤولية الكونية، وتعزيز القوانين والنّظر في الشكايات التي يتقدّم بها المواطنون أو المؤسّسات غير الحكومية، وكذلك تنبيه الجماعات إلى الإكراهات التي تمسُّ رفاهية الأجيال المقبلة. ومن أجل ضمان النّجاعة والفاعلية في الأداء، على الوسيط أن يؤدي دور التوسّط لتقريب وجهات النّظر المختلفة أو المتناقضة أحياناً، ويُتقن مَهمات التّواصل والتّربية العامة؛ ولتعزيز وظائفه يستعملُ الوسيط بعض الوسائل كتقوية دور القانون (فمن مهماته الأساسية النّظر في مدى صيانة القانون والاتفاقيات لقضايا المسؤولية الكونية، ومدى التزام المؤسّسَات العامة والشّركات والمواطنين) وتدبير شكايات المواطنين (ويشملُ ذلك التّحقّق من الشّكايات، والتّوسط أثناء وُجُود المُنازعات، والتّدخل لدى الإدارة أو القضاء)‏[42].

تعترف براون بصعوبة مهمات الوُسَطاء على السّاحة الدولية بسبب وجود «حاجز» السيادة بين الدول؛ ومن أجل تطبيق المسؤولية الكونية بنجاعة تدعو الكاتبة إلى أهمية إحداث مؤسّسات الوُسَطاء على الصعد المحلية والوطنية والدولية. والأخذُ في الحُسبان وسيطاً مكلفاً بالمشاكل الخاصة بالبيئة. وقد تكونُ مهمات الوُسطاء المكلّفين بالأجيال المقبلة منفصلة أو تتلاقى حول معالجة مصالح معينة، إلا أن الأهمّ حسب براون هو اعتراف المجموعة الدولية بتأثير اتخاذ القرارات الحالية على مستقبل الأجيال المقبلة‏[43].

2 – الدروس المستفادة عربياً

ينصّ الدستور المغربي للعام 2011 في المادة 162 على مؤسسة الوسيط، لكن ليس من خلال ما تطرقنا إليه عند براون، حيث يكتفي بحصر اهتمامات مؤسّسة الوسيط في الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمُرتفقين. ويستوجب الأمر تطوير وتوسيع اختصاصات مؤسّسة الوسيط لتقوم بأدوارها تجاه الأجيال المقبلة، والتحدث نيابة عن مصالحهم وحقوقهم. ويمكن أن تؤدي مؤسسة الوسيط دوراً مهماً في مجال حقوق الإنسان والتنمية المستدامة والدفاع عن حقوق الأجيال المقبلة.

ولا شك في أن إحداث صناديق للأجيال المقبلة من شأنه أن يدعم تعزيز دور ووظيفة مؤسّسات الوسيط، وسيكون باعثاً من أجل تطوير مقاربة التّوظيف الملائم للثّروات الوطنية وعقلنة استعمال مواردها على نحوٍ مُنصف بين مختلف الأجيال. لكن واقع مُدن الصفيح (العشوائيات) في الوطن العربي والافتقار إلى الخدمات الأساسية (المياه، الصرف الصحي، والبنى التحتية… إلخ) سيؤدي حتماً إلى الإضرار بحاجات الجيل العربي الحالي، والإضرار بقُدرات الأجيال العربية المقبلة في العيش في بيئة صحية وآمنة.

سادساً: تطبيقات الإنصاف ما بين الأجيال

يبدو أن التّغيرات المناخية تشكلُ أبرز تجسيد عملي للإنصاف ما بين الأجيال (البند الأول)، كما أن الإنصاف ما بين الأجيال يبدو نفعياً، وذا أسس متعددة (البند الثاني)، ويبدو أن البشرية تحتاج إلى إعلان عالمي من أجل حماية الحقوق الكونية (البند الثالث).

1 – التغيرات المناخية أبرز تجسيد عملي للإنصاف ما بين الأجيال

من أجل تحديد تطبيقات الإنصاف ما بين الأجيال، أنجزت براون دراسة بعنوان: «الاحتباس الحراري، الإنصاف ما بين الأجيال، والقانون الدولي». فالتغيرات المناخية – حسب الباحثة الأمريكية – تجسّدُ بطبيعتها مشكلة ما بين الأجيال اعتباراً لأنها تتضمّنُ آثاراً خطيرة جداً في شأن العدالة ما بيننا والأجيال المقبلة من جهة، وعبر الجماعات في ما يتعلق بالأجيال المقبلة من جهة أخرى‏[44]. «وللحفاظ على الوضع المُناخي القائم» تُوصي براون بــ: اتخاذ إجراءات للتّخفيف من تأثيرات التّغييرات المناخية، والتّقليص من الأضرار المباشرة إلى الحدّ الأدنى، وتوفير الوسائل والموارد الأساسية للأجيال المُقبلة من أجل أن تتكيّف مع التغير المناخي‏[45].

2 – نفعية وأسس الإنصاف ما بين الأجيال

تُقرّ براون بأن رفاهية الأجيال المقبلة تتوقّف على الأفعال التي نقومُ بها حالياً، وبذلك أشارت إلى كتابها إنصاف الأجيال المقبلة: القانون الدولي والميراث المشترك والعدالة بين الأجيال الصادر في العام 1989 وما تضمّنهُ من مقتضيات حول مبادئ الإنصاف ما بين الأجيال التي أشرنا إليها سابقاً وهي الحفاظ على الخيارات، والحفاظ على النّوعية، وضمان حرية الوُلوج إلى الميراث‏[46].

وذكّرت براون بنفعية بعض الاتفاقيات الدولية‏[47] كاتفاقية فيينا حول حماية ثُقب طبقة الأوزون لسنة 1985‏[48]، والاتفاقية الإطارية للتنوع البيولوجي لسنة 1992‏[49]، وإعلان ريو دي جانيرو للعام 1992‏[50]، وبروتوكول كيوتو للعام 1997‏[51]. ولم تُغفل الباحثة الإشارة إلى محورية إعلان اليونسكو (UNESCO) في شأن مسؤوليات الأجيال الحاضرة تجاه الأجيال المقبلة لسنة 1997‏[52]، وقرار مجلس حقوق الإنسان (التّابع للأمم المتحدة) الرقم 7/23 في شأن حقوق الإنسان والاحتباس الحراري للعام 2008‏[53].

وذكّرت الباحثة الأمريكية – أيضاً – بمبادئ الإنصاف ما بين الأجيال وهي الحفاظ على الجودة، والحفاظ على التّنوع، والحفاظ على حرية الولوج إلى الميراث. كما أقرّت بتأثير التّغيرات المناخية في رفاهية الأجيال المقبلة. فصحيح أن البعض «سيستفيدُ» من التّغيرات المُناخية في مناطق معينة، لكن سيعاني الجميع عدم القُدرة على التّكيف السّريع مع تغير المُناخ. ومن أجل تطبيق استراتيجية تدبير التّغيرات المناخية الشّمولية، يتوجّب تطوير معايير واجبة التّطبيق على الصعيد الدولي والوطني والمحلي‏[54].

3 – نحو إعلان عالمي للحقوق الكونية

تتحدّث براون عن أهمية التّوافر على إعلان يهتم بالحقوق الكونية ويتضمّن الحقوق والواجبات تجاه الأجيال المقبلة، وذلك بُغية وضع مبادئ للإنصاف ما بين الأجيال. وبغرض بلورة استراتيجية لمواجهة التغيرات المناخية في بعض جوانبها (كمراقبة التّلوث) توجدُ بعض الاتفاقيات كاتفاقية فيينا في شأن حماية طبقة الأوزون‏[55]، وبروتوكول مونتريال حول المواد المستنفذة لطبقة الأوزون، وتوجد أيضاً، بعض الاتفاقيات على المستوى الإقليمي (خاصة على مستوى الاتحاد الأوروبي)، كما تقوم الدول محلياً من خلال تشريعاتها ببعض الجهود لإنقاص تأثيرات التّغيرات المناخية‏[56].

وتستندُ جهود براون إلى مفاهيم أساسية في شأن تحمّل المسؤولية الكونية تجاه قضايا الأجيال المقبلة، وهي: 1 – العمل على استدامة أنظمة تعزيز حياة الكوكب؛ 2 – العمل على استدامة المَسَارات الإيكولوجية والحاجات البيئية الضرورية لبقاء النوع البشري؛ 3 – العمل على استدامة الصحة والبيئة النقية. وتتوقّف هذه الاستدامة على تهيئة الظّروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حيث ستسمحُ لأفراد الجماعات بإثارة انتباههم إلى أهمية مقترحات المسؤولية والأمانة تجاه الأجيال المقبلة‏[57].

4 – الدروس المستفادة عربياً

ينصّ تصدير الدستور المغربي على ضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به المملكة المغربية على الصعيد الدولي، لذا فهي تلتزم بما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً. ومن منطلق حقوق الإنسان، على الدولة والمجتمع المدني أن يعملا معاً من أجل تجسيد وتفعيل حقوق الأجيال المقبلة كجزء أساسي من منظومة حقوق الإنسان، ومقاربة الاستدامة. لكن طُغيان البيروقراطية والزّبونية وعدم الأخذ في الحسبان متطلبات العدالة الاجتماعية والجيلية هي عوامل أدّت إلى تكوين طبقات تتداول فيما بينها الأموال والموارد. وهذه النتيجة تنطبق على المنطقة العربية حيث يتمّ التركيز على السياسات النّفعية القريبة المدى، بينما (إنجاح) المنظور الجيلي يركّز على السياسات المستدامة والخُطط البعيدة المدى التي تهتمّ في أساسها بالانتقال السّلس للموارد من جيل إلى آخر، مع العلم أن الخُطط والبرامج والسياسات البعيدة المدى تتطلب المال والوقت والتّضحية من الجميع.

سابعاً: الانتماء إلى مجتمع الأجيال

يعني مجتمع الأجيال الإحساس بالانتماء إلى الأجيال الماضية والحالية والمقبلة. لذلك يبدو أساسياً تشجيع صناديق اعتمادات بين الأجيال تُموّل عن طريق أجْر أو رسْم عالمي (مثل ضريبة الكربون)، ويمكن أن يُنْظر إلى هذه الصّناديق على أنها الثّمن الذي يجبُ على كل جيل أن يدفعه من جرّاء استعمال موارد الكوكب والوفاء بالتزاماته تجاه الأجيال المقبلة.

والإنصاف بين الأجيال لا يتطلب فقط إحداث صناديق الادخار للأجيال المقبلة، فهو يعني أيضاً حسب براون «حماية ثقافات الشّعوب الأصلية، وتمكين هذه الشّعوب من الولوج المنصف للمزايا الاقتصادية للمجتمع المعاصر»‏[58].

الدروس المستفادة عربياً

في ما يخص الوُلوج المنصف للمزايا الاقتصادية، يمكن القول إن الدستور المغربي ينص على الحقّ في الحصول على المعلومات؛ لذلك نرى أهمية تطوير مفهوم الحصول على المعلومات البيئية من جهة، ونفعية جرد جميع الثّروات الوطنية وتبيان أهميتها الطبيعية والثقافية لضمان الانتقال السلس لها للأجيال المقبلة.

في ما يتعلق بصناديق الادخار للأجيال المقبلة، يملك المغرب ثروات فوسفاتية هائلة على الصعيد العالمي، الأمر الذي يستوجب عليه التّفكير في صناديق الادخار من أجل أن تستفيد الأجيال المقبلة؛ وينطبق الأمر نفسه مثـلاً على الجزائر في مجالات البترول والغاز، ولا يمكن أن تتنصّل الدول العربية، وبخاصة النفطية منها، من هذا «الالتزام الجيلي» تُجاه الأجيال العربية المقبلة، وعليها أن تتفادى الفجوة بين السياسات التّنموية المُوجّهة للمدن والقرى، وتتجاوز تباين مُستويات تقديم الخدمات بين أفراد المجتمع ككلّ.

ثامناً: موقف الفقه الدولي من أطروحات براون

تعرّضت أطروحة براون لانتقادت متعدّدة من قبل الفقيه لورانس إ. سيسكند في كتابه: الدبلوماسية البيئية: التفاوض من أجل اتفاقيات عالمية أكثر فاعلية.

ففي تعليقه، يُقر سسكند، بأن أفكار براون واعدة، ولكنه غير متفائل، ولا سيَّما أثناء الكساد العالمي، في شأن الاستراتيجيات التي تعتمدُ على أن يتحمّلَ المستخدمون الحاليون نفقة الآثار التي يُسبّبونها للأجيال المقبلة. ومن سوء الحظّ عدم إمكان أن تُصوّت الأجيال المقبلة في وقتنا الحالي. يضافُ إلى ذلك أن هذه الاستراتيجيات شأنها شأن أغلب مقاربات توجّه السّوق (مثل محاولة ضمان أن التّكاليف الحقيقية للأضرار البيئية تنعكسُ على الأسعار الحالية للسلع والخدمات) تقلّل اعتبارات حماية النّظام الإيكولوجي، والتّنوع البيولوجي، والأهمية الاجتماعية لأنماط معيّنة لاستخدام الموارد التي لا يمكن تسعيرها بالدولار الحالي‏[59].

وتكمنُ الاستراتيجية المعقولة لحماية مصالح الأجيال المقبلة في التّصميم على تطبيق قاعدة التنمية المستدامة في اتخاذ القرارات البيئية العالمية وعلى المستوى الوطني أيضاً. ولمجموعات المصالح غير الحكومية دورٌ حيويٌّ في التّأكد من أن الحكومات والوكالات مُتعددة الأطراف تلتزمُ بغاية الاستدامة. وإذا أصرّت مؤسّسات تقديم القُروض المتعدّدة الأطراف على أن المشاريع «المُستدامة» وحدها هي التي تحصلُ على التمويل، فهناك فُرصة معقولة لخدمة منافع الأجيال المقبلة‏[60].

ومن أجل «تفنيد» أطروحة براون، افترض سيسكند جدلاً أنه يمكنُ العُثُور على مثل الأفراد والجماعات التي تمثل الأجيال المقبلة، لذلك تساءل هل يمكن أخذهم مأخذ الجدّ؟ وفي النّموذج الذي وضعته براون سيتمّ الدفاع عن مصالح الأجيال المقبلة أمام المحكمة الدولية. وفي حال تبنّي الأمم المتحدة تصريحاً بشأن «الحقوق والواجبات الكونية»، فإن المحكمة الدولية يُمكنها أن تحكم في الدعاوي بأن حقوق الأجيال المقبلة تُنتهك بسبب أعمال الجيل الحاضر(العلاقة السّببية في منظورنا)، ويمكن للمُمثّلين غير الحكوميين للأجيال المقبلة أن يُقدّموا حواراً معقولاً في مثل هذه الدعاوي. وطالما كان هناك قاض ليحكم في هذه الدعاوي ونصّ صريح في القانون يُحدّد حقوق الأجيال المقبلة وواجبات الجيل الحاضر، فإن فكرة براون يمكن أن تكون عملية‏[61].

ولكن كيف يمكن تمثيل مصالح الأجيال المقبلة في شأن المفاوضات حول المعاهدات (الاتفاقيات) الدولية حيث لا يوجد قاض لتقييم الدليل وفرض قرار معيّن؟ وأيّ سلطة يملكها هؤلاء الوُكلاء في مفاوضات صُنع المعاهدات البيئية العالمية، حيث لا تكون «القاعدة القانونية» هي المعيار المحدّد ولكن المعيار هو الأخذ والعطاء السياسي الذي يأخذ النّصيحة من المعلومات العلمية؟ ومن دون وجود قاض ونصّ صريح عن الحُقوق والواجبات التي يجبُ احترامها، فإن مضمون الوصيّ لمباشرة النّازلة (القضية) في شأن تمثيل الأجيال المقبلة سوف يفشلُ‏[62].

ورغم هذه الانتقادات، وهي وجيهة في أساسها، إلا أن الطّرُوحَات التي تقدمها براون – كما يقرّ سيسكند نفسه – تظلّ واعدة كونها تمثّل نقلة نوعية في التّفكير البشري من ثقافة اللامبالاة تُجَاه الأجيال المقبلة إلى ثقافة بديلة تعتمد المقاربة الأخلاقية والقانونية وحماية مصالح وحقوق الأجيال المقبلة من أجل الانتماء إلى مجتمع الأجيال.

تاسعاً: خلاصات أولية موجزة

من خلال التطرق إلى أطروحات براون، يمكن المرء أن يُفكّر ملياً في مفاهيم «جديدة» كالانتماء لمجتمع الأجيال، والمُوَاطَنة العالمية، والإنصاف ما بين الأجيال، والوسيط ما بين الأجيال، والحقوق الكونية. وقد يكون من المفيد تعميق النّقاش حول هذه المفاهيم، وربط ذلك بالسياق العام الذي تعرفه البلدان العربية، حيث إن التّطورات الأخيرة (الحراك العربي) قد تكون حاسمة في تعزيز الحوار حول مستقبل الأجيال المقبلة وخلق فُرص لها، وأهمية إيجاد أرض مشتركة للعمل على إصدار إعلان عربي لحقوق الأجيال المقبلة ومتابعة تنفيذ آلياته بالتّشاور مع الجامعة العربية ومنظمة التّعاون الإسلامي. ولا شك في أن عملية قياس المنظور الجيلي في الوطن العربي صعبة لعدم توافر الأرقام الحقيقية عن الاستثمار في المستقبل، لكن المجتمع المدني العربي يتحمّل مسؤولية جسيمة من أجل الضّغط على صانعي القرار، قصد، أولاً، إدماج مقاربة المنظور الجيلي، وثانياً، استحضار نُدرة الموارد المائية وزيادة التلوث وتدهور الأراضي والتزايد السكاني السّريع وأثر التّغيرات المناخية في كل مستويات السياسات العمومية.

وأخيراً، نقول مع روبرت دال: «توجدُ في التحليل السياسي حاجة لا غنى عنها إلى الخيال الذي يستند إلى المعرفة، وإلى التنبؤ الذي تقوده المعرفة والذي يتخطّى الحقائق المتلقاة، وإلى بناء المُدن الفاضلة والتأمّل فيها، وإلى الاستعداد والرّغبة في التّفكير بجدية في البدائل التي لا تخطر ببال»‏[63].

الملحق الرقم (1): إعلان حقوق الأجيال المقبلة

المادة 1: للأجيال المقبلة الحق في العيش في أرض سليمة وغير ملوّثة، ولها الحق في التمتع بالأرض لأنها الدّاعم لتاريخ البشرية، ولها الحق في الثّقافة والروابط الاجتماعية التي تضمن الإنماء للأسرة البشرية الكبيرة لكلّ جيل ولكلّ فرد على حدّ سواء.

المادة 2: يقع على كل جيل يرث جُزئياً الأرض، واجب تدبيرها تجاه الأجيال المقبلة؛ ومنع كل الأضرار غير القابلة للإصلاح، ومنع الأضرار التي تمسّ بالحرية وبالكرامة الإنسانية.

المادة 3: لكلّ جيل مسؤولية أساسية تهدف إلى صيانة حقوق الأجيال المقبلة ورقابة نتائج التطور التقني الذي من شأنه أن يُضرّ بالحياة على الأرض، ويُضرّ بالتوازنات الطبيعية وبتطور البشرية.

المادة 4: سيتمّ اتخاذ جميع الإجراءات الملائمة في كل القطاعات كالتعليم والبحث والتشريع، من أجل ضمان هذه الحقوق والحرص على أن لا يتمّ التضحية بها من أجل الحتميات الخدماتية أو من أجل التّوافقات الفورية والآنية.

المادة 5: على الحكومات والمنظمات غير الحكومية والأفراد أن يُطبّقوا هذه المبادئ، وأن يتخيلوا كأنهم «يعيشون جنب» الأجيال المقبلة التي نحاول تحديدها والدفاع عن حقوقها.

 

قد يهمكم أيضاً  نحو مقاربة جيلية للعدالة المناخية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العدالة_الجيلية #المقاربة_الجيلية #البيئة #المناخ #التغيرات_المناخية #إديث_براون_ويس #التنمية_المستدامة #العدالة_بين_الأجيال #الإنصاف_ما_بين_الأجيال #الموارد_الطبيعية_والثقافية #الميراث_الثقافي #الميراث_الطبيعي