أولاً: ناصيف نصار الفيلسوف

نصار فيلسوف حقيقي.

أولاً، لأنه مؤمن بالفلسفة، وإن كان إيمانه بها لا يمنعه من أن ينفتح على التحليل الأيديولوجي وعلى الرؤية الدينية… إلخ. وقد دفعه إيمانه بدور الفلسفة في خلق وجود جديد للتاريخ العربي، إلى اعتبار الفلسفة شرطاً لضمان نجاح النهضة العربية الثانية. واللافت للنظر أن نصار كان استثناءً بين المفكرين العرب، الذي بالرغم من اهتمامه بابن خلدون، لم يُصَب بعدوى مناهضة الفلسفة التي ينشرها صاحب المقدمة في كل من عُني بفكره، كالجابري والعروي وأومليل.

وثانياً، هو فيلسوف حقيقي، لكونه أصر وبعناد كبير على تجديد القول الفلسفي العربي على مستوى الإشكالية واللغة والمنهج. وتجلى تجديده بخاصة في محاولته لإعادة تحديد غاية الفلسفة، بأن جعلها خادمة للمدينة لا للملّة، أي جعل الفلسفة خادمة للسياسة باعتبارها عدالة، لا للأيديولوجيا. غير أن ما يميز مشروع نصار عن مشروع الفارابي هو أنه لم يكتف بإعادة قراءة وتأويل نصوص الفلاسفة السابقين عليه أو المعاصرين له، بل أقدم بجرأة ومثابرة ومكابدة على مواجهة القضايا التي تواجهها إنسانية اليوم، من خلال الإنسان العربي بتحليل وتركيب جدلي ذي نفَس فلسفي عالٍ.

وثالثاً، هو فيلسوف حقيقي، لأنه أبَى إلا أن يوجه خطابه للإنسانية بعامةٍ، بأن يضفي عليه مضموناً كونياً غير منحاز لملّة دون أخرى، أو لقومية أو أمة دون أخرى. كان حريصاً في كتاباته الأخيرة على أن تكون فلسفته إنسانية لا جهوية، أي أنه كان يبحث عن الحق من أجل ذاته، لا تسخيره لقضاء مآرب سياسية أو أيديولوجية. وبهذه الجهة، قد تُتهم فلسفة نصار بأنها فلسفة تجريدية ومتعالية عن الجمهور، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تنطلق من الإنسان العربي، ومن اللغة العربية، ومن الالتزام بالمصير العربي. بهذا تكون قد تحررت من ضيق الأفق الأيديولوجي لتتوجه بخطابها إلى الإنسان بما هو إنسان.

ورابعاً، هو فيلسوف حقيقي لأن البحث عن الماهية كان لازمة من لوازم تفكيره الفلسفي (ص 605)؛ فهو إذا كان أمام أي مفهوم، كمفهوم الذات أو الحضور أو الزمن أو الكرامة، أو الذل، أو العدل أو الطموح أو الأمل أو الإيمان أو الرجاء، الأمل، الأمنية، النوم… إلخ، فإن أول ما يبحث عنه هو ماهيته. لكن الماهية لديه لا تتخذ المعنى الحصري الذي لا يتجاوز الجنس والفصل النوعي، بل تتسع لتشمل كل الخصائص التي يتحلى بها المفهوم أو الموضوع في فعله وانفعاله، في استقلاله وإضافاته، وما ذلك إلا لكونه التزم بالمفهوم الفينومينولوجي للماهية لا مفهومها الأرسطي.

وخامساً، هو فيلسوف حقيقي لأنه كان يفكر فلسفياً من داخل اللغة العربية، فتأتي فلسفته سلسة غنية ملونة، من دون صنعة ولا تقعّر. بهذا يكون قد أعاد الثقة للغة العربية على التعبير عن دقائق الفلسفة الحديثة والمعاصرة[1]. لقد برهن أنه يملك قدرة كبيرة على توليد الأفكار وربطها وانتقادها، وتحويل أي موضوع في مجرى الحياة العادية إلى موضوع فلسفي عميق، إما من خلال الاستقصاء اللغوي والصرفي، وإما من خلال توليد الحجج للبرهنة، وإما عبر تقسيم المعاني وتشقيقها، كأن يميّز الماضي المنصرم، والماضي المستمر، والماضي المحفوظ والماضي المفقود (ص 475 ـ 476)؛ أو بين الحضور والإحضار والاستحضار (ص 481 ـ 482)، أو أن يميّز بين الأمل والتمني والرجاء (ص 603)، وبين التوقع والتحسب. كان مولعاً بإثارة الانتباه إلى الفروق الدقيقة بين المترادفات، مستعملاً إياها أداة للاستقلال الفلسفي، والانفلات من الوقوع تحت سحر المذاهب والمفاهيم وحتى الأسئلة المعهودة. فهو يفرّق بين العام والمشترك، بين المصلحة والمنفعة، بين الرغبة والشهوة، بين التسامح والحرية، بين الغرض والهدف، بين الوجود والواقع، بين الوجود التاريخي والواقع التاريخي، بين العلاقات والروابط، بين الفكرة السياسية والنظرة السياسية والمعرفة السياسية والعمل السياسي. فالأشياء الصغيرة والبسيطة تصبح كبيرة بفضل ولعه الشديد بالتدقيق والتحليل والتلوين.

وسادساً، هو فيلسوف حقيقي لأنه نجح في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكاره ومنعرجات مسائله ومساقات حلوله بعبارات شفافة رقراقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصطلاحية التي يصعب على المرء مجاراتها ببادئ الرأي. استطاع أن يكتب بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط في مقتضيات الصناعة الفلسفية. تخلّت كتابته عن الطابع الدّعَوي، وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيّال. يمتلك قدرة كبيرة على تطويع المعجم العربي لمقتضيات قولٍ فلسفي متجدد في مفاهيمه ولغته وآفاقه ومشاكله وآلياته؛ قولٍ لا عجمة فيه ولا حذلقة ولا رطانة. وما كان ليتأتى له ذلك لولا درايته العميقة بالنص العربي في ألوانه المختلفة، الفلسفية والكلامية والصوفية والفقهية والأدبية. كان همه الأول التبليغ، وبهذا يمكن اعتباره مناضلاً بلاغياً، يريد أن يوصل خطابه لا إلى الخواص من الفلاسفة، بل إلى الطبقة السياسية، وإلى جمهور المثقفين من شتى المشارب. لو تتبعنا القاموس الذي يستعمله لوجدنا فيه من الغنى ما لا يستطيع بحث واحد أن يستوفيه[2]. كان يؤمن بأن المرء لا يمكنه أن يتفلسف إلا داخل لغته الوطنية. وكانت تخريجاته الفلسفية نتيجة توغّلاته اللغوية واشتقاقاتها الصرفية. من يريد أن يعرف الفرق بين القول الفلسفي والقول الأدبي فعليه أن يقرأ هذا الكتاب: الذات والحضور.

سابعاً، إنه فيلسوف حقيقي لأنه وجد لفلسفته اسماً يميزها من غيرها، هو فلسفة الحضور، وهو ما سنعود إلى التفصيل فيه في ما بعد.

كل ما سبق، يطرح علينا سؤال استقبال فلسفة نصار: هل الجسم الفلسفي العربي اليوم مهيأ فعلاً لتمثلها ومناقشتها والذهاب بها إلى أبعد مداها؟

ثانياً: مقاربات نصار ومنهجياته

إن ما يعزز أصالة نصار الفلسفية هو ممارسته لعدة مناهج، كالجدلية، والاستكشاف، والفينومينولوجيا، والتأويل، والتحليل التشخيصي، والنظر الكياني، والنظر الأكسيولوجي، والنظر الإيبيستيمولوجي. وكما قلنا، كان البحث عن الماهية هو الذي يحدد اتجاه بوصلته الفلسفية، لكن عبر معاينة الواقع سواء كان لغوياً أو وجودياً. وتعدد مقارباته جعلت ممارسته الفلسفة تجمع بين الهدم والتشييد، بين انتقاد الأفكار وتوليدها وتحليلها وبعث الروح فيها والربط بينها والبرهنة على خلاصاتها. لن نتطرق إلى كل هذه المناهج والمقاربات، وحسبنا أن نقف قليلاً عند المقاربة الجدلية والمقاربة الفينومينولوجية.

أدت «المقاربة الجدلية» دوراً محورياً في كتابته. ولعل السبب في ولعه بهذه المقاربة، حرصه على اتقاء تهمة التوفيق أو التلفيق بين المواقف والمذاهب المختلفة والمتعارضة. ومن بين محاسن النظرة الجدلية أنها تضفي على الفلسفة صفة الكلية، التي تجعله يتحاشى التناول الجزئي للظاهرة الذي لا ينظر إليها إلا من أحد جوانبها. والسعي للإحاطة بكل ما يتصل بالموضوع المطروق من تفاصيل يكون من طريق اللغة حيناً، ومن طريق تحليل الموضوع تحليلاً فينومينولوجياً حيناً آخر. فعندما يكون بصدد تحليل التخيل الأيديولوجي مثلاً، لا ينظر إليه عبر الانتقادات الفردانية التي تعلن فرحها بموت الأيديولوجيا، بل يصر على أن يثبت للأيديولوجيا منفعتها ومشروعيتها وقدرتها على تحريك الشعوب للدفاع عن وجودها ومستقبلها، بالرغم مما لحق طموحاتها من خيبات أمل مؤلمة؛ وتحليله لموضوع الغياب أو النوم أو الوفاء يتم في جو من الاستقصاء الكبير لمعظم العناصر الممكنة.

وبفضل النظر الجدلي الكلي يتلافى إقصاء أي عنصر من العناصر التي تنفع في التحليل؛ فمثلاً في دراسته لأي موضوع نجده ينوّع من زوايا النظر إليه، فيراه من زاوية التراث العربي الإسلامي الفلسفي والكلامي والفقهي والصوفي، ومن زاوية التراث الإغريقي، ومن زاوية التراث المسيحي والفلسفة الحديثة والمعاصرة، هذا علاوة على دراسة أبعاده الواقعية. فتحليله لماهية المحبة أو الصداقة مثلاً قاده إلى الاستئناس في الوقت نفسه بتحليلات ابن حزم والغزالي وأوغسطين وأفلاطون وابن الفارض وأرسطو وبالفلاسفة المحدثين، مع الحرص على إبراز أوجه النقص فيها جميعاً، بحثاً عن موقف شخصي شامل. وتدفعه النظرة الجدلية إلى «الجمع بين المتقابلين» في عملية متفاعلة ومتبادلة واحدة، أي الاستفادة منهما وانتقاد جوانبهما المتطرفة. باختصار، كان تفكيره الفلسفي نتيجة «حوار» مع الفلاسفة من كل الأزمنة ومن كل الأصناف؛ حوار يستثمر أطروحته الفيلسوف ليثمنها أولاً وينتقدها ثانياً ثم يستكملها أخيراً. وبهذا النحو الجدلي والكلي يتلافى السقوط في «الانحياز» إلى أحد المذاهب الفلسفية دون غيره. فهو عندما يعرض مثلاً رأي ابن سينا أو كانط أو أرسطو في الزمن، أو رأي ابن حزم في الوفاء وفي الحب، أو عندما يعرض رأي هيدغر في نسيان سؤال الكينونة، فإنه يقوم بذلك ليأخذ الجانب الصائب من آرائهم، وينتقد الجوانب الخاطئة أو التي لا تصمد أمام الانتقاد، فيفتح الباب أمام تعويضه بمفهوم أغنى يشترك في صوغه أكثر من فيلسوف.

هكذا يستطيع أن يجمع بين هايدغر وابن حزم والجرجاني وأدونيس والمتنبي في آن واحد. وهكذا تجتمع في تحليله كل الإسهامات الإنسانية من دون إقصاء ولا تقديس ولا خوف من النقد لأكبر السلطات الفلسفية. بعبارة أخرى، تأمله في المسألة المطروحة بالواسطة، أي من طريق تحليل وانتقاد مفكر ما، هو فقط توطئة لممارسة فعل التأمل المباشر فيها. وفي جميع الأحوال كانت «أناه المفكرة» ترافق كل أفعاله الفكرية على حد عبارة كانط. وبهذا النحو تمكنه الرؤية الجدلية من اتخاذ «مواقف وسطية متزنة»، نزيهة عادلة (مثلاً من الأيديولوجيا ـ ص 494) علمياً وأخلاقياً، فيعطي لكل ذي حق حقه. وبسلوكه الجدلي والكلي هذا، الذي يحيط بكل الجوانب، يكون قد شق الطريق لنموذج متكامل وشامل لتاريخ الفلسفة، وأنهى مع تقليد مؤرخي الفلسفة الغربيين الذين كانوا يتجاهلون تراثنا، كما قطع مع تقليد مؤرخينا العرب والمسلمين الذين كان الكثير منهم لا يهدأ له بال إلا إذا كال الشتائم لزملائه الغربيين.

أما بالنسبة إلى المقاربة الثانية، فيمكن وصف ناصيف نصار بأنه فيلسوف فينومينولوجي من جهتين على الأقل: فهو أولاً، يذهب توّاً نحو موضوعاته الفلسفية، فيعمل على وصفها وصفاً دقيقاً وشاملاً، وعلى تقليبها على أوجهها المختلفة؛ وهو فينومينولوجي، ثانياً، لأنه كان يقصد من وراء معاينته المباشرة للظواهر، البحث عن «ماهيتها». فشغفه بوصف الجوانب المتعددة للظاهرة هو تمهيد لممارسة التقليص الفينومينولوجي للنفاذ إلى معناها الحقيقي، ماهيتها الخاصة. وهو حينما يجمع بين محايثة موضوعه والتعالي عنه لرؤية ماهيته، لا يخشى الدور الفينومينولوجي. إلا أنه كان لا يتوقف عن البحث عن بداية أصلية للتفلسف غير التي توجد في تاريخ الفلسفة أو في الأيديولوجية، بداية تجد أصلها في الانطلاق من الأنا كحامل للمعنى والحقيقة.

ثالثاً: التعريف بكتاب «الذات والحضور»

بعد أن وقفنا عند فلسفة الرجل ومنهجه، ننتقل إلى التعريف بكتاب الذات والحضور، الذي يتكون من سبعة أبواب و28 فصلاً، تغطي 636 صفحة. وتكاد هذه الفصول تشكل موضوعات مستقلة ومستوفية، بحيث لو أراد نشرها على شكل كتب منفصلة لكان لديه 28 كتاباً. وتؤم هذه الأبواب والفصول غاية واحدة هي إثبات حضور الذات، وكيف تصنع الذات ماهيتها وهويتها. فإذا ترجمنا هذه الغاية بلغة أرسطية، أي إذا ترجمنا الحضور بالفعل، أو بالخروج من القوة إلى الفعل، فإنه يحق لنا أن نقول إن موضوع الكتاب هو النظر في إخراج الذات لنفسها من القوة إلى الفعل.

إلا أن صاحب الكتاب يفاجئنا بتعريفه له بأنه بحث موجز في «مبادئ الوجود التاريخي»، أو بأنه بحث في وجود الفعل أو الوجود بالفعل، معتبراً إياه استكمالاً أو تتويجاً لمشروع كبير ابتدأ بكتابيه: منطق السلطة وباب الحرية «وتندرج مواضيعه من الهاهنا والآن حتى المطلق اللامتناهي». وتدور أبواب الكتاب وفصوله «على سؤال واحد: ماذا يعني أن الإنسان يصنع نفسه؟ وأنه… قادر على تقرير مصيره بنفسه، وليس فقط على معرفة نفسه بنفسه. وتقرير المصير يعني… أن الإنسان قادر على أن يكون ذاته بأن يصير ذاته… وهذا هو منطق الحاضر ورهان الحضور». وهذا يعني أن معرفة الذات لذاتها ليست كافية، بل لا بد من أن تنتقل من ذلك إلى تقرير مصيرها بنفسها بأن تصنع نفسها بنفسها بأداتَي العقل والحرية.

ويثير عنوان الكتاب، الذات والحضور، أكثر من سؤال. من بينها، هل كانت وراء جمعه بين هذين الاسمين رغبة في إثارة الانتباه إلى «الطابع التقابلي» بين الذات والحضور، أم الإشارة إلى طابعهما «الإضافي والتضافري»؟ في تقديرنا، لا يستقيم القول بالتقابل بين الذات والحضور، إذ ليست الذات شيئاً آخر سوى الحضور (حضور الموجود)، أي وعيها بنفسها وتقريرها لمصيرها. في حين أنه لو وضع عنوان «الوجود والذات» (الذات بمعنى الماهية)، لفهمنا منه وجود نوع من التقابل بينهما.

1 ـ الذات

من بين هذه الأسئلة التي يثيرها عنوان الكتاب سؤال الموضوع: هل موضوع الكتاب ميتافيزيقي أو أنثروبولوجي (بالمعنى الفلسفي للأنثروبولوجيا)؟ قناعتنا أن كتاب الذات والحضور هو بحث في الإنسان، هذا الإنسان الذي أصبح له اسم آخر في هذا الكتاب هو الكائن الذاتي «وليست هذه حال الإنسان، الكائن الذاتي في اصطلاحنا»، معوّضاً إياه بالتعريف الأرسطي الشهير بالحيوان العاقل. وقبل أن أعود إلى هذه التسمية الجديدة للإنسان، أشير إلى أن كتاب الذات والحضور ذكّرني في البداية بـ كتاب النفس لأرسطو، الذي هو كتاب في الإنسان بنفوسه الثلاث، الحسية والعقلية والنزوعية. ولكن بعد تقليب النظر في الموضوعات التي تطرق إليها كتاب الذات والحضور، تبين لي أنه يتجاوز كتاب النفس (بموضوعاته المختلفة كالعقل والشوق والإرادة والتخيل، والمعرفة والحقيقة…) إلى كتاب الأخلاق (القيم والفضائل) وكتاب السياسة (العدل، الأمن، السلطة…)، وكتاب البرهان (الحقيقة والعقل)، وكتاب ما بعد الطبيعة (الوجود والماهية والذات والواحد والعدم). إذن كتاب الذات والحضور كتاب شامل لكل الموضوعات الفلسفة الكلاسيكية، إلا أنه يوجهها نحو غاية واحدة هي الإنسان بتجلياته التي توزعته الأبواب السبعة.

والزاوية التي ينظر منها هذا الكتاب إلى الإنسان هي زاوية «حضوره الذاتي». وقد رأينا أن هذا الحضور يتجلى أولاً في الوعي بالذات، وثانياً في تقرير مصيرها بنفسها، فيكون معنى الحضور هو صناعة الذات، أو الكائن الذاتي، من حيث إنه ينقسم إلى ماهية وهوية.

لكن لو سلّمنا بأن العقل والحرية هما الأداتان الأساسيتان لفعل الحضور باعتباره وعياً وتقريراً للمصير، وبأن معنى الحضور هو انتقال الكائن إلى الذات، فإننا سنستخلص بأن عنوان الكتاب ينطوي على نوع من التكرار، لأن الذات هي الحضور والحضور هو الذات. ولهذا نعتقد أنه من حقنا أن نساوي بين عبارتي «الكائن الذاتي» و«الكائن الحاضر» أو «الكائن الحضوري»، ما دامت الذات تساوي الحضور. ولا ننسى في هذا السياق أن حضور الإنسان، أو الكائن الذاتي، بالنسبة إلى نصار لا يتم بالعقل وحده، أو بالحرية وحدها، وإنما يتم بهما معاً وبأفعال وانفعالات أخرى لا تكاد تحصى موزعة على أبواب وفصول الكتاب.

أعود إلى تسمية الإنسان بالكائن الذاتي، المشتقين من اسمين مختلفين، إن لم يكونا متقابلين، هما الكينونة والذات، أي الوجود والماهية. لماذا يصرّ على الربط بين هذين الاسمين، الكينونة والذات، للتعبير عن حقيقة الإنسان؟ أليس الإنسان في حقيقته ذاتاً، بخلاف الكائنات الأخرى التي لا ذات لها، ومن ثم كان بإمكان نصار أن يسميه باسم واحد فقط هو «الذات»، بدل الاسم المزدوج؟ أليست الذات تنطوي على الكينونة وإلا لما وجدت، كانطواء اسم الحيوان عليها في تعريف «الحيوان العاقل»؟ أليست الذات هي العقل الذي يميز الإنسان عن غيره من الكائنات؟ أليس الجانب الذاتي هو الجانب الحضوري من الإنسان؟ فإذا كان الحضور الإنساني لا يتم إلا بالعقل، فلماذا لا يكتفي نصار بتعريف الإنسان بالكائن العقلي أو الحيوان العاقل؟ ومنطقياً، أليس في ربط الإنسان مباشرة بالكائن إخلال بقواعد التعريف المنطقية، إذ بدلاً من ربط الإنسان بجنسه القريب، وهو الحيوانية أو الحياة، جرى ربطه بـ«الكينونة» التي هي أبعد الأجناس عن الإنسان؟

وفي ما يخص الفصل النوعي للإنسان، أبَى نصّار إلا أن يستبدل «العاقل» بـ «الذاتي»، والحال أن حصول الذات هو ثمرة استعمال الإنسان لعقله، بدليل تسميته للإنسان من حين لآخر «الكائن العاقل». طبعاً، من حقه أن لا يقنع بتعريف الإنسان بالعقل، لأن صفة العقل لا تستغرق حضور الكائن الذاتي بكل أبعاده، «على أن هذه المكانة [مكانة العقل] تبقى موضوعاً للبحث في نطاق علاقة الكائن الذاتي بالوجود، لأن الحضور العقلاني شكل من أشكال الحضور، وليس الحضور كله». إلا أننا نعرف جيداً أن جنس «الحيوان» في التعريف الكلاسيكي للإنسان يشمل ما كان يريد نصّار إدراجه في تعريفه الجديد للإنسان، كالإحساس والتخيل والإرادة والانفعال والأمل والطموح… إلخ. وإذا كان الحضور يساوي الذات، لماذا لم يعرّف الإنسان بالكائن الحضوري بدل الكائن الذاتي؟ هذه الأسئلة لا تنتظر جواباً، لأننا من خلالها أعطينا بدائل للطروحات التي قدمها نصار.

2 ـ الحضور

ما يميز هذا الكتاب عن كتبه السابقة أن صاحبه أصرّ فيه أن تكون له فلسفة خاصة به، وأن يكون لها اسم خاص بها، وهو ما يعني أن تتوافر لفلسفته لغتها ومنهجها، أو مناهجها، ورؤيتها الخاصة. وقد ترجم تطلعه هذا بإعلانه عن أسماء كثيرة لفلسفته، منها «فلسفة الحضور»، أو «فلسفة الحضور الفاعل»، و«فلسفة الوجود التاريخي»، و«فلسفة الوجود والفعل»، أو الوجود بالفعل، كما نجده يُعرّف موضوعها بالبحث في مبادئ الوجود التاريخي، هذا عدا الاسم التي ردده سابقاً، «الفلسفة الواقعية الجدلية».

ولكن الاسم الذي يبدو أنه استقر عليه هو «فلسفة الحضور»، لكن ليس بالمعنى السارتري، بل بمعنى أوسع. واهتم ناصيف نصار، جرياً على عادته، بتنويع أشكال الحضور. فهناك الحضور والحاضر، وحضور الذات الذي هو حضور إلى، وحضور الواقع الذي هو حضور بالنسبة إلى أو حضور عند، وحضور الذات إلى ذاتها، وحضورها إلى غيرها، والحضور القصدي، والحضور الفيزيائي (نشير إلى أن ربطه الحضور بحرف الجر «إلى» يشوّش علينا كثيراً). لكن حضور الذات إلى ذاتها هو الحضور الأساسي بالنسبة إلى ناصيف نصار. وحضور الذات إلى ذاتها حضور مركّب لأنه يقتضي، من جهة، الوعي بها، ومن جهة ثانية انفصال الحاضر والمحضور داخل الذات. والوعي «هو عين الذات في حضورها إلى ذاتها»، أي أن الوعي «ليس كياناً منفصلاً عن الذات، وإنما هو الذات عينها في حال اليقظة وفاعلية الشعور بوجودها». ومع ذلك، فإن «وحدة هذا الحضور ليست كاملة ومطلقة، لأن الرائي لا يتطابق تطابقاً مطلقاً مع المرئي»، «على هذا النحو تعيش الذات حال «الها ـ أنا ـ ذا» بينها وبين نفسها». وبالرغم من أن «الحضور إلى الآخر تجربة وجودية، مصاحبة لتجربة الحضور إلى الذات»، فإنها تختلف عنها، علماً بأن الآخرية مركزية في وجود الذات.

ولا ينبغي أن ننسى البعد الزمني للحضور؛ فالحضور، كما هو واضح، مشتق من أحد تجليات الزمن الذي هو الحاضر، ولذلك «لا يمكن فهم الحاضر فهماً كاملاً إلا على أساس أنه حاضر زمني… فالحاضر هو الزمن الحاضر، كما هو الذات الحاضرة والواقع الحاضر». والزمن وإن كان ليس عرضاً على كيان الكائن، بل هو ذاتي فيه، فإنه ينقسم إلى زمن ذاتي وزمن موضوعي، جانب وجودي وجانب معرفي.

رابعاً: الحضور والزمن والفعل

والحضور وإن كان مشتقاً من أحد أقسام الزمن، فإنه ليس مجرد واقعة أو علاقة زمنية، بل هو، كما مَرّ بنا، فعل أو تحقق واقعي. فأن نقول إن الإنسان كائن حاضر معناه أنه كائن فاعل، أو أنه «ما يتحقق فينا وبنا بالفعل ـ أي بوصفنا كائنات فاعلة ـ». والأفعال الحضورية متعددة «بعضها عاطفي وبعضها الآخر اعتقادي، بعضها عملي وبعضها الآخر معرفي، بعضها حاجي وبعضها الآخر أخلاقي، بعضها فردي خالص وبعضها الآخر اجتماعي… إلخ». ومعنى هذا أن العقل، في فلسفة نصار، لم يعد يستأثر وحده تمثيل الإنسان أو بفعل إخراجه إلى الفعل، كما الحال عند ابن رشد والسابقين عليه، بل أضحى يشاركه في هذه المهمة أفعال النفس الأخرى.

وبالرغم من «أن الحضور جزء لا يتجزأ ليس فقط من كيان الإنسان، بل من تاريخه أيضاً»، فإن «الزمن لا يظهر حاضراً إلا لكائن يتمتع بنوع من العلوّ عليه»، وهذا الكائن هو الإنسان، وفعل التعالي على الزمن هو الوعي الذي ينفرد به دون غيره من الحيوانات. و«وحده الإنسان، على ما يبدو، يتمتع بهذا الوعي ويعرف أن زمنه هو ذاته وليس ذاته، وأنه فيه وليس فيه، ولذلك يستحق وحده أن يتكلم عن زمنه بوصفه تاريخاً له…». ويحتل الحاضر مقام المركز بالنسبة إلى الإنسان، وإن كان ذا طبيعة بينية ويرتبط ارتباطاً صميمياً بالماضي والمستقبل. «الكائن الذاتي يتمركز في الحاضر، لأن وجوده الفعلي هو أصلاً وجوده حاضراً، ولكنه يتموقع ذهنياً في أي بُعد شاء من أبعاد الزمن. والتمركز «كياني»، ولكن التموقع «ذهني» فقط». إن فلسفة الحضور فلسفة زمنية، فلسفة تاريخية تحرص على عدم نسيان الحاضر وتطالب بإعطائه حقه في وجود الإنسان التاريخي. «والحاضر بلغة الحدوث، هو المايحدث بكل مكوناته ومستوياته».

في المقابل، إذا تمركز الكائن الذاتي في الماضي، فمعناه أنه يهرب «من التمركز في الحاضر، من مسؤولية صنع الذات بالذات، وتعطيل للعقل والإرادة والمخيّلة والشعور في مواجهة أوضاع الحاضر». بيد أنه إذا كان «الإنسان محكوماً عليه بالتعاطي مع الحاضر بأقصى درجات الجدية»، فإنه لا ينبغي أن يغرق فيه، فـ «اللحظة الراهنة هي لحظة تمتعه بالوجود، وليس له سواها. غير أنها لا وجود لها من دون ما قبلها وما بعدها».

وللحضور معنى آخر غير المعنى الآني للزمن، وهو معنى الفعل، فـ «الحضور فعل، ومن دونه لا سبيل للكائن الذاتي إلى «المعرفة»، ولا إلى «العمل»»، أي أن «فعل «الحضور» لا يعني للكائن الذاتي سوى شرط لتحقيق أفعال أخرى… فكل فعل يقوم به الكائن الذاتي يحافظ على فعل الحضور وينهض محمولاً عليه… وهذا يعني أن الكائن الذاتي لا يفصل بين فعل الحضور وحضوره بالفعل. فالحضور للكائن الذاتي هو الحضور بوصفه فعلاً حاملاً لأفعال لا حصر مسبقاً لها. إنه بالضبط حضور فاعل». باختصار، الحضور فعل كياني، وليس فقط فعلاً زمنياً أو ذهنياً!

وهذا الفعل، الذي له تجليات معرفية وسياسية وانفعالية، «مرتبط بالطلب»، أي «أن الكائن الذاتي لا يعيش حضوراً مكتفياً بذاته، لأنه كائن زمني طالب»، إذ إن فعل المعرفة هو حضور يطلب المعرفة، وفعل السياسة حضور يطلب السياسة لممارستها… إلخ. هكذا أصبح الحضور «فعلاً»، والفعل «طلباً»، والطلب «نقصاً». وبالفعل يتميز حضور الكائن الذاتي بكونه كائناً ناقصاً، وهذا يعني أن «الكائن الذاتي لا يملك طبيعة مكتملة ومنغلقة على نفسها، بل طبيعة منفتحة من داخلها على الانبناء بأفعالها».

وكلاهما، الطلب والنقصان، يشيران إلى الطابع الزمني والتاريخي للحضور، باعتباره بداية ومنطلقاً لكل فعل «ومن هنا، يمكننا أن نفهم معنى الحضور كبداية في وجود الإنسان. إنه بداية بالمعنى الكياني، وليس بالمعنى الزمني. الإنسان ليس موجوداً لذاته من دون حضوره إلى ذاته… وإذن، فإن «الحضور» لا يعدو كونه «منطلقاً»، محايثاً لكل أفعال الإنسان، ووظيفته أن يكون مدخل الإنسان إلى إنسانيته…».

معنى ذاتية الإنسان حضوره. ويكون الحضور عبر مقولات وقيم وأطوار وشبكة مترابطة من العلاقات. الحضور هو إضفاء المعنى الفعلي على الكائن الذاتي. وهذا الإضفاء يكون عن طريق القيم العليا. وهنا نتساءل، هل تختلف صناعة الهوية عن صناعة الذات؟

خامساً: الانوجاد أصلاً للحضور

أعتبر أن فكرة «الانوجاد» كانت تحدياً كبيراً للفلسفة والتيولوجيا الكلاسيكيتين، إذ يوحي مصطلح الانوجاد بأن فعل الوجود يقوم به الفرد، أي أن الفرد هو يمنح الوجود لذاته. وقد جاء هذا المفهوم في سياق فلسفة للحضور باعتباره فعلاً لاستدراج الوجود إلى حقل الذات، وأن الإنسان، باعتباره كائناً ذاتياً، هو الذي يقوم بفعل الحضور.

والإنسان لا يمارس الحضور بوعيه فقط، بل بكيانه الذي تعبّر عنه الحياة بوصفها طاقة تتفرع إلى طاقات، لها أفعال حضورية مختلفة تحيط بالذات من كل جانب. وفعل الانوجاد هو تحقيق حضور الذات، أو إخراجها من القوة إلى الفعل بأفعال الطاقات الحيوية التي يؤطرها فعلاً الوعي والحرية. ومن ثم «الانوجاد حركة وجدان وإيجاد داخل الذات وفي علاقة الذات بالعالم». ولما كانت «حقيقة الكائن الذاتي، من حيث هو حاضر فاعل، إنما هي الانوجاد»، من حيث هو حركة لا تتوقف لتشكيل الوجود الإنساني بأشكال مختلفة. ودخول الحركة في هذا المضمار يسمح بتدقيق تعريف الانوجاد بوصفه تلك «الحركة التي يخرج بها الكائن الذاتي من مجرد الوجود في ذاته إلى الحضور إلى ذاته وإلى العالم حوله»، أو قل إن الانوجاد هو «حركة اقتبال [الكائن الذاتي] لذاته وإتيان إلى الوجود من ذاته بما تتيحه له طاقته من أفعال. إنه بعبارة أخرى، انفتاح الكائن الذاتي على موجودية ذاته… واندفاعه المتواصل إلى تحقيق ذاته بأفعال من ذاته. على هذا النحو يتبين كيف أن الانوجاد أصل الحضور». لكن ليس بمعنى أن الحضور «فرع للانوجاد… وإنما هو فعل مشروط بالانوجاد».

نلاحظ أن الحدود كادت أن تزول بين الوجود والذات (الماهية)، حيث بوسعنا أن لا نفهم الانوجاد على أنه الإتيان بالوجود، وإنما هو الإتيان بالذات إلى الوجود، أي تحقيق هذا الأخير في وجودات مختلفة. ويأبى نصار إلا أن يمعن في لعبة الإغماض واللبس عندما يدخل مفهوماً آخر ليزاحم به كلاً من الوجود والماهية والذات والهوية، وهو مفهوم «الكيان» الذي هو جماع أفعال الكائن الذاتي الحيوية والخاضعة إلى رقابة الوعي والحرية. كما يضيف إلى ذلك مفهوماً عتيقاً هو مفهوم «الطبيعة»، حيث يجعل «الانوجاد بمثابة مجال فصل ووصل بين طبيعتين في الكائن الذاتي… طبيعة تأتي إليه من الحياة، وطبيعة تأتي إلى الحياة به»، الطبيعة الأولى المعطاة هي الماهية وتتكون من الوعي والحرية، والطبيعة الثانية المصنوعة بالوعي بالذات والحرية هي الهوية. والهوية «في حال انبناء دائم»، وهو ما يعني أنها «مفتوحة على التعدد من داخل وحدته [الكائن الذاتي] من حيث هو نفسه»، أو أنه «هويات في هوية واحدة». والهوية ليست هي الانتماء لأن «كل فرد يحمل تركيبة خاصة من الانتماءات لا تتطابق مع أي تركيبة أخرى». إذ إن «الهوية الخاصة بالفرد هي حصيلة أفعاله كلها، في تفاعله مع انتماءاته وفي تفاعله مع مقومات كيانه وظروف وجوده الزمني… وما دام الكائن الذاتي فاعلاً، فإنه يواصل صنع هويته». ومعنى ذلك أن إمكان أو ممكنات الكائن الذاتي لا نهاية لها، وأن «هوية الكائن الذاتي متعلقة بكيفية تعاطيه مع الممكنات… وتحويلها إلى واقعات».

وكما سبقت الإشارة إليه، الانوجاد يقوم بدور «الوصل بين ماهيته وهويته، بمعنى أن ماهيته تستدعي تحركه لكي يصنع كيانه»، والفرق بين الماهية والهوية، أن الماهية نوع، والهوية تشير إلى الجانب الفردي من الكائن الذاتي، والمجموع منهما هو الإنسان. والإجابة عن سؤال الهوية في الكائن الذاتي رهن بالإجابة عن الإجابة عن سؤال الماهية. ومع ذلك، فإن «النظرة الصائبة إلى طبيعة الإنسان هي النظرة التي تميز بين ماهيته وهويته، وتحتفظ بهما معاً، فلا تفصل ماهيته عن هويته، ولا هويته عن ماهيته».

خاتمة

أن يجعل نصار فلسفته تحت عنوان «الذات والحضور» معناه أنه أعطى للذات معنىً زمانياً وفعلياً. ففي الزمان الحاضر والحضوري تتحقق الذات فعلاً وجودياً وانوجادياً. في هذه الفلسفة، تتآلف الهوية والماهية، الوجود والذات، الحضور والفعل، الحضور والزمن، العقل والفعل، الفعل والانفعال، كل ذلك في تفاعل مستمر يفتح للذات آفاقاً جديدة كلما حققت حضوراً جديداً.

إنه مركب هائل ومعقّد من المفاهيم والأفكار. ما نخشاه أن تكون كثرة أبطال «رواية» الذات والحضور، وتعقّد العلاقات فيما بينهم، عائقاً لفهم المقصود من هذا العمل الفلسفي الكبير.

 

للمزيد عن ناصيف نصار اليكم  الذاتية والوعي الفلسفي بالوجود في نظرات ناصيف نصار