مقدمة:

سنعمل في هذه الدراسة على التنقيب عن إمكان حضور التسامح (Tolérance) داخل القول الفلسفي التراثي العربي الإسلامي، متخذين من أبي الوليد ابن رشد أنموذجاً، وهو فيلسوف ولد في قرطبة سنة 520 هـ، درس فيها الأدب والشريعة والحكمة والطب، إلى أن قدمه الفيلسوف ابن طفيل إلى الخليفة أبي يعقوب يوسف في مراكش، هذا الأخير الذي طلب منه رفع قلق العبارة عن كتب المعلم الأول أرسطو، وقد عني فيلسوفنا بذلك عناية بالغة إلى أن توفي سنة 595 هـ بمراكش، ونقلت رفاته بعد ذلك إلى قرطبة[1].

ألف ابن رشد مصنَّفات عديدة في الفلسفة وغيرها «يبلغ عددها ثمانية وسبعين مصنَّفاً»[2]، من أهمها شروحه لمؤلفات أرسطو، حتى إنه لقب بالشارح، «ويمتاز شرحه بالموضوعية والأمانة»[3]، اشتهر بكتب أخرى مثل تهافت التهافت الذي رد فيه على حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. وهذا المصنَّف الأخير هو الذي سنركز عليه القول في هذه الدراسة، لكي نرصد مظاهر وأوجه حضور التسامح في تراثنا من خلاله.

أولاً: التسامح كاحترام لاختلاف طرق بلوغ الحق

ينطلق فيلسوف قرطبة في مصنَّفه فصل المقال من سؤال جوهري مفاده: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعاً أم محظور أم مندوب أم واجب؟ ويجيب قائلاً: إن فعل التفلسف هو النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، والاعتبار يكون بالعقل، وهو ما دعا الشرع إليه من خلال قوله تعالى ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[4]، وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي والشرعي معاً. من ثم يكون النظر في الموجودات الذي هو فعل تفلسف مندوباً إليه شرعاً أو مباحاً[5].

يتضح إذاً منذ البداية أن فيلسوف قرطبة يسعى إلى إقرار مبدأ الحق في الاختلاف المنهجي، وبالتالي الاختلاف الفكري بما هو وجه من أوجه التسامح، فالاعتبار هو «استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس»[6]، والقياس العقلي هو النوع الأكمل من أنواع القياس «المسمى برهاناً»[7]، يستعمله الفيلسوف، في مقابل القياس الفقهي الذي يستعمله الفقيه، وكلاهما لم يكن في الصدر الأول حسب ابن رشد، غير أن هناك من يقول إن القياس العقلي بدعة بذريعة عدم وجوده في الصدر الأول، فحتى القياس الفقهي «استنبط بعد الصدر الأول وليس يقال إنه بدعة»[8].

هكذا يتقرر وجوب «النظر في القياس العقلي وأنواعه كما يجب النظر في القياس الفقهي»[9]، فلا بد من معرفة هذه الأمور لأنها «تنزل من النظر منزلة الآلات في العمل»[10].

إن مجموع المعارك التي دارت بين الفقيه والفيلسوف هي التي تشكل المجال المستهدف من طرف قول ابن رشد، فهو ضد التعصب الفكري الذي كان يتبناه الفلاسفة والفقهاء، وبالتالي فهو صوت من الأصوات المجسّدة والمنادية بالتسامح في التراث العربي – الإسلامي، من حيث هو احترام لأفكار الآخرين وطرقهم في الوصول إلى الحقيقة، مع الاعتراف بأن الحقيقة لا يملكها هذا ولا ذاك، وإنما هي حصيلة تعاون وتفاعل بين مختلف الأفكار، وهذا هو التسامح الفكري كما عرفته المرحلة الفلسفية الحديثة، فللفقيه منهجه وأفكاره وللفيلسوف مثل ما للفقيه، وتفاعل أفكارهما هو الكفيل بالكشف عن حقيقة الموجودات من حيث هي دلالة على وجود الواجد.

لقد سعى ابن رشد إلى خلق جو من التواصل، بما هو تراضٍ عقلاني «تقترن فيه الثقافة الديمقراطية بثقافة الاعتراف بالآخر وبالحق في الاختلاف والحوار بين الثقافات المختلفة والتجارب المتعددة التي يجب اعتبارها متكافئة من حيث كونها أجوبة محدودة عن أسئلة عامة ومشتركة»[11]، وهو ما جسدته مختلف المناظرات التي عرفتها الثقافة العربية الإسلامية عموماً.

ثانياً: التسامح احترام للمخالفين لنا في الملة وإعلاء من شأن الحق

يستمر ابن رشد في فصله للمقال في ما بين التسامح والتراث من اتصال، حيث يؤكد أنه إن لم يكن قد ابْتُدئ النظر في أنواع القياس العقلي فينبغي أن يبتدئ أهل زمانه، ولكن بما أن القدماء فحصوا ذلك فينبغي الاستعانة بهم، سواء كان هذا «الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة»[12].

هنا أيضاً ينبغي أن نتوقف هنيهة من أجل فحص أبعاد هذا القول، إن ابن رشد هنا يدعونا إلى أن «نضرب بأيدينا في كتبهم [القدماء]، فننظر في ما قالوه من ذلك، فإذا كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه»[13]، ويضيف في مكان آخر «فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم»[14].

يظهر أن فيلسوف قرطبة يشدد على ضرورة الاستفادة والتفاعل مع الآخر المختلف دينياً وثقافياً وعرقياً ولغوياً، من طريق تبني الصحيح من أقواله وتصحيح الخاطئ، والتماس الأعذار له، فكل الصنائع حسبه «ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة؟»[15].

هذا يعني ضمنياً أنه يقر بضرورة الالتزام بالتسامح في شكله الديني والثقافي والعرقي واللغوي، بل إنه في هذه الحالة يمارسه قولاً وفعلاً، فهو لم يجعل الاختلاف الثقافي ولا التمايز الديني ولا التباعد التاريخي والمجالي، حاجزاً أمام التواصل والاندماج والتفاعل، بل الأكثر من ذلك نجده يطلب التماس الأعذار لهذا الغير إذا كان مخطئاً، مؤكداً أن الحقيقة تراكمية موزعة بين الناس.

ثالثاً: التسامح احترام لمن ينشد الحق حتى لو أخطأ

يستمر ابن رشد في تجسيده لمختلف أشكال التسامح، مؤكداً أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مقصدهم هو مقصد الشرع؛ حيث يقوم هنا بعملية تأصيلية لمفهوم التسامح في الشرع نفسه، مؤكداً أن «من صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله… فذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى»[16]، وإن أخطأ واحد وزل نظره فيها، فلا ينبغي منع الآخرين إذا كانوا أهلاً لذلك، ومن يفعل ذلك مثله مثل من «منع العطشى من شرب الماء البارد العذب حتى ماتوا من العطش، لأن قوماً شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض وعن العطش أمر ذاتي وضروري»[17].

إن ابن رشد يؤكد الحق في الاختلاف الفلسفي والفكري، فيمكن أن يؤدي النظر في تلك الكتب إلى الوصول إلى ما هو ضد المجتمع، وذلك لا ينبغي أن يمنعنا من إعادة النظر فيها، لأنه لا تحاسب الجماعة بخطأ الفرد، وإن أخطأ فينبغي تنبيهه إلى الصواب.

إلى هنا يتأكد أن خطاب الفلسفة لا يمكن إلا أن يكون خطاب تسامح، فالمعرفة حسب ابن رشد تراكمية، والفلسفة ليست امتلاكاً للحقيقة وإنما هي بحث مستمر عنها، بحيث يشترك فيها القدماء والمتأخرون، الخلف والسلف، الحضارة والأخرى، من هنا إيمان صاحبنا بالتعددية والاختلاف، ودفاعه عن قيمة التسامح وسعيه إلى ممارستها فعلياً.

هنا يحق لنا أن نقول بتهافت قول أركون الذي يدعي فيه أننا لم نفكر في التسامح عبر تاريخنا، ويؤيد أن «فكرة الحقيقة في العصر الوسيط كانت تفترض أن الإقصاء المتبادل أمر طبيعي، ولم تكن تسمح بتنويع الأدوار واختلاف الآراء وتعايش الأجناس واللغات والمذاهب داخل نفس المدينة الواحدة»[18]، فهو لم ينتبه إلى أنه «يوم كان الإسلام سيد النظرة إلى العالم بلا منازع نشأ اتجاه عقلاني إنساني شاركت فيه عقول نابغة، لم تخشَ من التفكير في الدين، بجرأة لافتة من موقع لاهوتي كالمعتزلة، أو من موقع فلسفي كالفارابي وابن طفيل»[19]، وهو ما استمر مع ابن رشد الذي جمع القول في الاثنين، وحدد ضوابط  الاتصال بينهما داعياً إلى التسامح بأوجهه المختلفة.

لقد أثقل محمد أركون القول، عندما أكد في مصنَّفه نقد العقل الديني أن ابن باجه وابن رشد وغيرهما من فلاسفة الإسلام، حاولوا تأسيس عقلانية فلسفية ضداً على العقلانية الفقهية ولكنهم لم يتوفقوا في ذلك، بحكم أن هذه العقلانية «تفترض وجود يقين واحد ينفي كل ما عداه… فإن العقل الفلسفي الحديث يؤمن بنسبية الحقيقة وتعدديتها على عكس السابق»[20].

إن هدف ابن رشد لم يكن هو إقامة هذه العقلانية ضداً على العقلانية الفقهية، بل دعا إلى عملهما معاً على الوصول إلى الحقيقة، فهو يؤاخي بين الحكمة والشريعة، ويؤمن بتراكمية الحقيقة، مثل ما فعل مع علوم القدماء مؤكداً أن استكمالها يتحقق عبر الزمن، أي أن ما كان يبدو حقيقة للقدماء في عهدهم، هو حقيقة نسبية تُغيّر فيها أشياء وتُضاف إليها أشياء.

ابن رشد السمح: حوار الفيلسوف مع الفقيه

بعد هذا ينتقل صاحبنا إلى التشديد على أنه إذا كانت الشريعة حقاً ودعت إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإننا نعلم أن «النظر البرهاني [لا يؤدي] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يُضاد الحق بل يوافقه ويشهد له»[21]، فالنظر البرهاني إذا قاد إلى المعرفة بشيء ما، فإن هذا الشيء «يكون قد سُكت عنه في الشرع، أو عُرف به، فإن كان مما قد سُكت عنه لا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سُكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان أو مخالفاً، فإن كان موافقاً فلا قول هنالك، وإن كان مخالفاً طُلب تأويله»[22]، والتأويل هو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يُخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجاوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء»[23]، والفقيه يفعل ذلك، والأَولى أن يفعله صاحب البرهان.

هكذا يؤكد ابن رشد من جديد ضرورة فسح المجال للتفاعل بين الشريعة والحكمة، وبين المنهج البرهاني والمنهج الفقهي، أي ما بين الفقيه والفيلسوف، اللذين هما من أبرز الشخصيات العالمة في المجتمعات العربية الإسلامية؛ إن تأكيد الاتصال بينهما هو تأكيد لضرورة جعل الفضاء العمومي والفضاء الفكري قابلاً لاحتوائهما معاً، بل وضرورة تعاونهما من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهذا لن يكون إلا دعوة إلى التسامح الفكري، فلكل واحد منهما الحق والحق يشهد للحق ولا يُضاده.

هنا يؤسس ابن رشد لضربٍ آخر من ضروب التسامح، وذلك عندما يؤكد أن صاحب التأويل عليه أن يأخذ في الحسبان المحددات التي تحكم تأويله، كتسمية الشيء بشبيهه أو نقيضه… إلخ. فهنا دعوة إلى الأمانة العلمية والتاريخية، وعدم جعل معاني هذا الزمان تغلب على معاني ذاك الزمان، فقد يحيد بنا ذلك عن طريق الحقيقة، ويمكن أن نسمي هذا التسامح بتسامح الأجيال.

رابعاً: التسامح كاحترام لاختلاف أفهام الناس وطرق تصديقهم بالحق

يمر ابن رشد بعد هذا إلى تأكيد أن سبب وجود ظاهر وباطن في الشرع هو «اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق»[24]، فمنهم الخطابيون ومنهم الجدليون ومنهم البرهانيون، والعامة لا يقبلون البراهين ولا الأقاويل الجدلية لما في تعلمها من عسر، لذلك كانت طرق الشرع في التصديق طرقاً خطابية أساساً، لأن غايته هي تعليم الجميع[25].

لقد أكد ابن رشد أن الشرع يشمل جميع أنواع التصديق، وما كان من هذه الأنحاء قد جاء على شكل مثالات أو كانت مقدماته مشهورة أو مضنونة فيتطرق إليه التأويل، ويأخذه الجمهور على ظاهره، فالناس ثلاثة صنوف: صنف ليس من أهل التأويل، وهم الخطابيون؛ وصنفان من أهل التأويل إما الجدلي وإما البرهاني، وهم الجدليون والبرهانيون، وهذا التأويل الأخير لا ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل، فضلاً عن الجمهور، لأنه مفسد لإيمانهم، ومن يفعل ذلك فهو كافر[26].

إن التصريح بالتأويلات نشأت عنه فرق الكلام في الإسلام حتى كفَّر بعضها بعضاً، فقد ظنوا أن هناك طريقاً واحداً، ولم يقيموا اعتباراً لتعددية طرق الناس في التصديق، وتعددية الطرق الموصلة إلى الحقيقة فأخطأوا مقاصد الشارع وضلوا بذلك وأضلوا[27].

هكذا تبقى الطرق القرآنية حسب ابن رشد أفضل الطرق إلى تعليم الجمهور؛ ففيه وجدت الطرق الثلاثة الموجودة لجميع الناس، والطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس، والخاصة، بغية الوصول إلى السعادة الإنسانية، ومن ثم تكون الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة، والأذية ممن ينتسب إليها هي أشد الأذية[28].

إن ابن رشد هنا يدافع مرة أخرى عن التسامح الفكري، فأفهام الناس مختلفة، والتعامل معهم بالطريقة نفسها غير سليم، فلكل مقام مقال، والذي يفعل ذلك لا يعدو كونه أحادياً لا يؤمن بالتعددية والاختلاف، حتى إن ابن رشد من كثرة دفاعه عن التسامح المتأصل في الشرع، وصل به الحد إلى تكفير هذا المتعصب، فهو لا يتسامح مع اللامتسامحين وهو نفس ما دعا إليه جون لوك خلال المرحلة الحديثة في رسالته عن التسامح[29].

إن ابن رشد يعطي الأحقية للجميع في المعرفة بالطرق التي تناسب كل واحد منهم، والانزياح عن هذا المقصد لا يؤدي إلا إلى التعصب والتكفير كما حصل مع بعض الفرق الكلامية.

احترام ابن رشد للغزالي واختلافه معه

هؤلاء المتكلمون شكلوا أيضاً دفاعاً عن قيمة التعدد والاختلاف بما هو جوهر التسامح، وهو ما سيدافع عنه ابن رشد خلال فتحه حواراً مع الغزالي؛ فهو يؤكد أنه لا إجماع في المسائل النظرية، قائلاً إن الغزالي نفسه لا يقطع بتكفير من خرق الإجماع، فهو لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني على عكس الفقهيات، وهو نفس ما سيؤكده إيمانويل كانط عندما يقول إن الميتافيزيقا لا يمكن أن نصل فيها إلا إلى المتناقضات[30]، من هنا ضرورة مراجعة العلاقة بين الحداثة والحضارة الإسلامية.

لكن رغم أن الغزالي دعا إلى أنه لا تكفير لمن يَخرقُ الإجماع في هذه القضايا، إلا أنه تناقض في بعض الأحيان مع نفسه، حيث كفَّر الفلاسفة في قضايا علم الله بالجزئيات والمعاد وقدم العالم، وتكفيره هذا مسألة فيها نظر، فتلك القضايا لا يمكن أن يكون حولها إجماع، ولا ينبغي أن يُفصح بها إلا إلى الراسخين في العلم، لأن إيمانهم لا يكون إلا بالبرهان أي أن لها «تأويلاً هو الحقيقة»[31].

سيبين ابن رشد تهافت ما دعا إليه صاحب التهافت في القضايا الثلاث السابقة، مؤكداً أن «الحكماء لا يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات»[32]، بل يؤكدون أن علمنا ليس كعلمه، فعلمه سبحانه «علة للمعلوم الذي هو الموجود»[33]، أما علمنا فهو تبع لها، فهو لا يعلمها بنفس طريقة علمنا. وهذا اعتراف منه بضعف الإنسان واختلاف علمه عن علم الله سبحانه، وهذا شرط من شروط الإقرار بمبدأ التسامح بيَّنه فولتير في دراسته للتسامح أيضاً[34].

أما قضية قدم العالم فقد كان الاختلاف حولها حسب فيلسوف قرطبة «اختلافاً حول التسمية»[35]؛ فوجود العالم فيه شبه من القديم وشبه من المحدث، فهو وسط بين الخالق القديم والمخلوق المحدث، ومن غــلُب القديم قال إنه قديم، ومن غلُب المحدث قال إنه حادث، والحقيقة أنه «ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة»[36].

لذلك كان «المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطئين معذورين… يقول عليه السلام: إذا اجتهد الحكيم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر…؛ وهؤلاء الحكماء هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل»[37]، إن خطأ هؤلاء معذورون فيه، أما خطأ الحاكم بالسنة في الحكم فليس له عذر.

هنا يتأكد لنا مرة أخرى أن التسامح لا يعني اللامبالاة كما ذهب إلى ذلك أركون. وما أجمل حديث ابن رشد عن الغزالي بعد أن أنهى القول بعدم تكفير المختلفين حول المسائل النظرية، داعياً إلى التسامح نظراً إلى صعوبة تلك القضايا، حيث يقول إن الغزالي رغم إدخاله الطرق الشعرية والخطابية والجدلية على القضايا البرهانية، ورغم خطئه شرعاً وحكمة، فإنه «قصد خيراً، وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن أكثر أهل الفساد»[38]، ويضيف قائلاً إن الدليل «على أنه رام تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف»[39].

إن الغزالي – بشهادة ابن رشد – مدافع وحامل لواء التسامح والاعتراف بالحق في الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية، التي قيل عنها إنها لم تعرف التسامح، لقد هدف ابن رشد من خلال رده على الغزالي إلى ترسيخ قيمة الإيمان بالاختلاف والتعددية، وحاول البرهنة على ضرورة الاعتراف بهما، وهو ما يوجب ضرورة الرضوخ إلى التسامح كقيمة أخلاقية ومعرفية من شأنها أن تسهم في تطوير البحث عن حقيقة الموجودات الدنيوية والأخروية، لقد سامح ابن رشد الشريعة مع الحكمة، والفقيه مع الفيلسوف، والفيلسوف مع الجمهور، والجمهور مع بعضهم، وتسامح مع الغزالي ودعاه إلى التسامح مع المتكلمين بنفس طريقة تسامحه مع المتصوفة والأشعرية والفلاسفة.

خلاصة

إن حضارتنا حضارة تسامح، وإذا ما غاب ذلك في لحظة تاريخية فلا يعني ذلك غيابه على الإطلاق، لقد سامح ابن رشد المسلمين مع اليونانيين، والخلف مع السلف، وسامح بين الأديان والثقافات.

يمكننا إذاً أن نعيش الحداثة من دون الدعوة إلى القطيعة مع التراث «فما يميز مرحلة الحداثة الدينية هو الانفتاح على قيمة التسامح والتعايش بين الثقافات المختلفة، بالرغم من تعدد المرجعيات الفكرية، وعليه كان بالإمكان المصالحة بين الدين والفلسفة»[40]، وهو ما فعله ابن رشد في السياق الإسلامي.

هكذا ينبغي أن نعلن أنه «لا يمكن لصوت ابن رشد إلا أن يكون صوتاً تسامحياً، وإن لم يكن قد استعمل التسامح بلفظه، لأنه صوت الحكمة والفلسفة والعقل، والفلسفة لا يمكنها إلا أن تكون مجالاً للتسامح والاجتهاد والاختلاف، وإذا انحرفت عن هذا المبدأ تتحول إلى وثوقية تقود إلى اللاتسامح والتعصب، وهذه الأزواج التسامحية نجدها حاضرة في التجربة الفلسفية الإسلامية، بدءاً من الكندي واستمراراً مع ابن رشد الذي كان حريصاً على بيداغوجية التسامح في مؤلفاته»[41].

ولما كانت حسب الجابري «سيرة ابن رشد الذاتية هي مسيرته العلمية»[42]، كان صاحبنا مرسخاً للتسامح قولاً وفعلاً كما اتضح لنا من خلال «فصل المقال»، الذي فصل فيه المقال في تقرير ما بين التسامح والتراث من اتصال. فقد كشفنا عن وجوده بأشكاله المختلفة: دينياً وثقافياً ولغوياً وعرقياً وفكرياً، ويمكن الكشف عنه سياسياً أيضاً، وهو ما لم نقف عليه كثيراً «فمن رأي ابن رشد أن الحاكم الظالم هو الذي يحكم الشعب من أجل نفسه، لا من أجل الشعب، وإن شر الظلم ظلم رجال الدين»[43]، ولا يمكن لهذه الشهادة، إلا أن تكون اختزالاً دقيقاً لما أسالت عليه الحداثة الأوروبية الكثير من الدماء حتى تحرر القول فيه.

 

قد يهمكم أيضاً  التجديد الإسلامي من الداخل : تكوينات جديدة

أيضاً ننصحم أن تقرؤوا عن ذات الموضوع  التسامح بين سياقين حضاريين: السياق الغربي والسياق الإسلامي

اضغطوا على الرابط للحصول على كتاب فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل (الدين والمجتمع) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فصل_المقال #ابن_رشد #فلسفة #التسامح #التراث_الإسلامي #الحضارة_الإسلامية #المجتمع_التراثي_الإسلامي #الحضارة_العربية #دراسات