وقّعت تركيا مُذكرتي تفاهم حول الحدود البحرية والتعاون الأمني مع حكومة الوفاق الليبية المُعترف بها دولياً برئاسة فايز السراج‏[1].

وجاء بالنص الكامل لمذكرة التفاهم في ما يخص تحديد مجالات الصلاحية البحرية في البحر الأبيض المتوسط، أن كُلاً مِن تركيا وليبيا حدّدا على نحو «دقيق وعادل» المناطق البحرية لكل منهما في المتوسط، ويمارس الطرفان السيادة والولاية القضائية عليها وفقاً لقواعد القانون الدولي المعمول بها. كما نصت ملاحق مذكرة التفاهم أنه في حال وجود مصادر لثروات طبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الطرفين تمتد لمنطقة الطرف الآخر، يمكن للطرفين عقد اتفاقيات لغرض استغلال هذه المصادر بصورة مشتركة.

وفي حال شروع أحد الطرفين (ليبيا أو تركيا) بإجراء مفاوضات مع دولة أخرى لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة معها، على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتفاوض معه بهذا الخصوص… إلى جانب عدد من البنود الآخرى المتعلقة بتنفيذ مذكرتي التفاهم عبر الدبلوماسية وللمادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة‏[2].

وبالفعل في 5 كانون الأول/ديسمبر 2019، أقر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دولياً، مذكرتي التفاهم المبرمتين مع تركيا حول المجال البحري والتعاون الأمني، وقال مصدر في وزارة العدل في حكومة الوفاق الوطني الليبية إن مذكرتي التفاهم الموقعتين مع تركيا قبل أيام دخلتا حيز التنفيذ بمجرد توقيعهما من جانب المجلس الرئاسي‏[3].

ومن اللحظة الأولى أدانت كلٌّ مِن مصر واليونان وقبرص ما تفاهم عليه الجانبان التركي والليبي، وقد تواصل وزراء خارجية مصر سامح شكري واليونان نيكوس دندياس وقبرص نيكوس خريستودوليدس وأعلنوا عدم وجود أي أثر قانوني للإعلان عن توقيع الجانب التركي مذكرتيّ التفاهم مع فايز السراج.

لكن مع مرور الوقت خفّت حدة التصريحات المصرية الدبلوماسية، فقد صرح وزير الخارجية المصري سامح شكري في النسخة الخامسة لمنتدى روما للحوار المتوسطي «لا يوجد مساس لمصالحنا في مصر من اتفاق تركيا وحكومة طرابلس، ولكن يوجد مساس لمصالح دول أخرى في منطقة المتوسط، وعلينا أن نتساءل عن هدف هذا الاتفاق والسرعة القياسية لعقده»‏[4].

جاء تحرك حكومة الوفاق الليبية المُعترف بها دولياً نحو المعسكر التركي مُربكاً لحسابات الأمن القومي العسكري والاقتصادي لمصر وحلفائها في حوض المتوسط وفي الخليج أيضاً، وخصوصاً بعدما فشلت حرب المشير خليفة حفتر الخاطفة، المدعوم من الأطراف الأخيرة، في السيطرة على مدينة طرابلس، وفرض أمر عسكري واقع على الأرض الليبية. فبدلاً من موكب نصر لقوى حفتر يعبر شوارع العاصمة الليبية، ها هو جيشه قد غرق في ضواحي طرابلس على يد الوحدات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق الوطني التي يترأسها فايز السراج‏[5].

ما سبق يعكس مشهداً لحرب النفوذ الدائرة بين مختلف الأطراف حول السيطرة على المناطق الرخوة بالشرق الأوسط (ليبيا، سورية، اليمن… إلخ) بعد التغيرات الجيوسياسية التي أحدثها ما يسمى «الربيع العربي» في المنطقة نهاية عام 2010. وهذا يجعلنا نطرح عدة أسئلة عن الخيارات أمام مصر – حصراً – للحفاظ على أمنها القومي العسكري والاقتصادي في ليبيا حيث تشترك مع الأخيرة في حدود على امتداد خط بطول 1115 كم؟ وهل هناك ممكنات لتفاهم مصري – تركي حول ثروات حوض البحر المتوسط؟ وإن لم يكن هناك «لا» في السياسة، لكن لنفرض أن طرق الحوار مسدودة فإلى أي حد قد يصل التصعيد المصري – التركي في ما يتعلق بملفات سياسية تخص الإخوان المسلمين والعلاقات السياسية مع قبرص تحديداً واليونان؟

أولاً: مقدمات تاريخية

هناك عدد من الوقائع التاريخية الجوهرية من أجل تحليل العلاقات بين الجمهورية التركية الوليدة على يد مصطفى كمال أتاتورك وبين المملكة المصرية عام 1925، وذلك دون تجاهل لطبيعة العلاقات التاريخية بين الدولة العثمانية ومصر التي كانت تحت السيادة العثمانية لقرون. فعندما هدأت مدافع الحرب العالمية الثانية أصبحت تركيا تمثل قاعدة متقدمة للغرب، فبداية أُنشئت العلاقات الدبلوماسية بين الكيان الإسرائيلي وتركيا في آذار/مارس 1949‏[6] لتزيد التباعد بين المواقف المصرية – التركية. ثم رغبت تركيا في أن تقود من جديد الشرق الأوسط بوصفها وريثة الدولة العثمانية، وفي عام 1951 تحركت الدبلوماسية التركية في المنطقة لتهيئة الأجواء الملائمة لبناء حِلف مكون من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وأن يكون مقر قيادة ذلك الحِلف في مصر لمواجهة النفوذ الشيوعي السوفياتي، إلا أن الحكومة المصرية أعلنت في تشرين الأول/أكتوبر 1951 رفضها للمشروع‏[7].

دخلت العلاقات الخارجية التركية – المصرية مرحلة أكثر توتراً بعد أن أطاح الجيش في 23 تموز/يوليو 1952 الملك فاروق ثم أقصى ولي عهده عن العرش وطرد عائلة محمد علي باشا الحاكمة التي كانت تمثل أحد مظاهر تسلط الحقبة العثمانية على مصر. ومع رفض الساسة المصريين الجُدد الانضمام إلى حلف المعاهدة المركزية (عُرف بحلف بغداد) عام 1955 وكان يؤدي فيه الأتراك دوراً محورياً وابتعد العرب عن الحِلف باستثناء العراق، اتخذ الأتراك مواقف سلبية دائمة من النظام الجمهوري الجديد في مصر، حيث رفضت تركيا تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس‏[8]، واتهم رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس (1899 – 1961) عبد الناصر بالضغط على البلدان العربية لعدم الانضمام إلى أي حلف فيه قوى غربية‏[9].

وصار عبد الناصر ومشروعه الوحدوي مع سورية ونهجه القومي وبعده عن سياسة الأحلاف واقترابه النسبي من موسكو الشيوعية يمثل في نظر الأتراك خطراً على مصالحهم ومناطق نفوذهم في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً عندما أتاح جمال عبد الناصر للأكراد أن يطلقوا محطة إذاعية لهم من القاهرة في عام 1957. كما استقبل عبد الناصر الزعيم الكردي التاريخي مصطفى بارزاني، وأنشأ علاقة تواصل معه، بل وناهض الحرب التي شُنت على الأكراد، وعارض بشدة العمليات العسكرية التركية ضد الأكراد، ودعا عبد الناصر إلى إيقاف القتال والشروع في محادثات سلمية لحل القضية الكردية‏[10].

وفي عام 1961 أعلنت الحكومة المصرية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تركيا ووصف جمال عبد الناصر الحكومة التركية بأنها «حكومة عسكرية فاشية»‏[11] حيث كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بحكومة الانفصال في سورية، وبالنظام الجديد في دمشق على أمل أن يكون أكثر تقارباً مع تركيا وخادماً أكثر لمصالحها.

وفي أواخر عام 1963 أثرت الأزمة القبرصية كثيراً في تكوّن وجهة نظر تركية عدائية ضد مصر، حيث بدأت تتعسكر النزعة القومية داخل جزيرة قبرص بين كل من الأكثرية اليونانية الطامحة للانضمام إلى اليونان والأقلية التركية الطامحة للانضمام لتركيا، وقد رأى الرئيس القبرصي مكاريوس أن يقوم بإلغاء المساواة بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك، فرفضت الحكومة التركية هذا الأمر ورأت فيه مساساً بأمنها القومي التركي على الجزيرة، وقد هددت تركيا مكاريوس بالتدخل العسكري ولكن منعها من هذا الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1964. وعندما عملت تركيا على تدويل القضية في أروقة الأمم المتحدة اتخذت مصر موقفاً ضدها إلى جانب الكثير من البلدان العربية الآخرى. كما حشد عبد الناصر دول عدم الانحياز ضد تركيا‏[12]، وقد عملت مصر على تسليح القبارصة اليونانيين‏[13] ولم تجد تركيا الدعم اللازم من الغرب ولا من إسرائيل. من هنا شعر الأتراك بضرورة تحسُّن العلاقات التركية – المصرية، ولهذا مع بداية عام 1966 تم توقيع اتفاقيتين؛ الأولى تجارية والثانية شملت التعاون التكنيكي والثقافي بين البلدين. وفي العام نفسه أغلقت تركيا مكتبها السياحي في إسرائيل، وفي بداية عام 1967 قام وزير الخارجية التركي إحسان صبري بزيارة مصر لبحث سبل تقوية التعاون المشترك مع العالم العربي والإسلامي.

من السياسة المصرية في الأزمة القبرصية والتحالف مع اليونان ضد تركيا في ستينيات القرن الماضي، ننتقل إلى الوضع الراهن المشابه بين التكتل الراهن بين مصر وقبرص واليونان ضد تركيا، ولكن هذه المرة بعيداً من الأحلاف الغربية – الشيوعية، والإشكاليات الإثنية التركية – الكردية لننتقل إلى مجال صراع مختلف بين مصر وتركيا يتمثل الآن بملف غاز البحر المتوسط والأمن القومي المصري في ليبيا.

ثانياً: غاز المتوسط: حرب أنابيب

لا شك في أن تركيا منتشية بنجاحاتها العسكرية في غلق ملف الأكراد على حدودها السورية، وبحل بعض مشكلاتها مع الولايات المتحدة عبر توسط الأخيرة في حل الملف العسكري والأمني في شمال سورية، وسماحها للأتراك بامتلاك منظومة صواريخ S-400 الروسية المتطورة، واكتفاء واشنطن بـ «تعليق» تركيا من البرنامج المشترك لصناعة المقاتلة F-35 كما أوضح وكيل وزارة الدفاع الأمريكية إلين لورد، وعدم الذهاب بالعقوبات أبعد من هذا‏[14] يعني أن أمريكا لم تغلق الباب في وجه تركيا للعودة إذا قررت التخلي عن منظومة الصواريخ الروسية‏[15].

وقد عززت تركيا تحالفاتها مع روسيا وإيران، ووضعت قدماً لها في ملفات التسوية السياسية وجعلت لنفسها قسمة من أي مشروعات مستقبلية لإعادة إعمار سورية، هذا بالإضافة إلى وجودها العسكري والاقتصادي في قطر في إثر الأزمة الخليجية، وهذا كله ساهم في البدء بفتح ملف غاز البحر المتوسط والملف الليبي كأحد ملحقاته.

لكن بعيداً من الفعل السياسي المباشر والمعروض على الشاشات، هناك سياسة أخرى لا نراها بل يتم حفرها تحت سطح الأرض يمكننا أن نطلق عليها سياسة «الأنابيب»، وقد تم إلغاء تجميد العمل في مشروعات الطاقة الكبرى الذي تم في 2015. ويأتي على رأس هذه المشروعات خطّ الغاز الطبيعي «ترك ستريم»، الذي يُتوقَّع أن يضخَّ 31 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً إلى تركيا والاتحاد الأوروبي عبر البحر الأسود‏[16].

لكن تركيا ترى أن هذا الأمر ليس في صالحها بل إنها تواجه مشكلة أساسية في الطاقة، حيث بلغت نسبة حاجتها إلى الغاز الطبيعي 100 بالمئة وأكثر من 90 بالمئة في حالة النفط الخام؛ نظراً إلى الارتفاع المستمرِّ في الطلب المحلي. وتحاول أنقرة خفض سعر الغاز الطبيعي الروسي وإصلاح عجز الميزان التجاري المزمن، وتحاول أيضاً تنويع مصادر وارداتها من الطاقة بعيداً من روسيا، وإعداد نفسها كي تكون مركزاً تجارياً يجمع بين الدول المنتجة والمستهلكة للطاقة، وتسعى أنقرة أيضاً إلى تقليص حصة الغاز الطبيعي من إجمالي حجم استهلاكها من الطاقة‏[17].

وفي ظل هذه الحسابات التركية المُعقدة في مجال الطاقة جاء الإعلان عن حجم احتياطي الغاز في حوض شرق البحر المتوسط الذي يبلغ نحو 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويحتوي أيضاً على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية تبلغ 3.4 مليار برميل من النفط، إلى جانب كميات كبيرة أيضاً من سوائل الغازات، كهدف استراتيجي للأتراك، وأصبحت منطقة شرق المتوسط في بؤرة الاهتمام العالمي مع إعلان دولة قبرص في 28 كانون الأول/ديسمبر 2011، عن اكتشاف أول حقولها من الغاز، الذي تقدر احتياطياته بما يتراوح بين 5 و8 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي أمام سواحلها الجنوبية، ويعد هذا أول اكتشاف في نوعه في جنوب الجزيرة‏[18].

لكن جاء إعلان نيقوسيا‏[19] للشراكة المصرية – اليونانية – القبرصية في 29 نيسان/أبريل 2015 بمثابة إعلان حرب على المشروع التركي للاستفادة من غاز شرق المتوسط، حيث نص الإعلان الثلاثي على أن دول حوض المتوسط، مصر وقبرص واليونان، «تقدر أن اكتشاف احتياطات ذات شأن من النفط والغاز فى شرق المتوسط يمكن أن يمثل حافزاً للتعاون على المستوى الإقليمي، ونؤكد أن هذا التعاون ينبغي أن يكون قائماً على التزام دول المنطقة بالمبادئ المستقرة للقانون الدولي. وفي هذا المجال، نشدد على الطبيعة العالمية لمعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ونقرر المضيّ قدماً على وجه السرعة في استئناف مفاوضاتنا بشأن ترسيم حدودنا البحرية» التي لم يتم تعيينها حتى الآن.

بل راح الثلاثي إلى أكثر من هذا ودعوا إلى تسوية عادلة وشاملة ودائمة للمشكلة القبرصية توحد الجزيرة وفقاً للقانون الدولي، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة. إن مثل هذه التسوية لن تكون مفيدة فقط لشعب قبرص ككل، وإنما ستساهم على نحو ملموس أيضاً في تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة. ونرحب بإمكان تعزيز استئناف المفاوضات وتنفيذ تدابير بناء الثقة. وهذا ما يهدد المصالح التركية بصورة مباشرة في الجزيرة القبرصية وفي شرق المتوسط. فتاريخياً لم تنسَ تركيا الأزمة القبرصية، وقد قامت في 1974 بما لم تستطع القيام به في الستينيات، وعملت على إنزال جنودها في الجزء الشمالي من جزيرة قبرص وأعلنت استقلال جمهورية شمال قبرص التركية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1983. من هذا المنطلق لا تعترف تركيا بشرعية الاتفاقيات الخاصة بترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها قبرص ككل «والجزيرة معترف بها كدولة من الأمم المتحدة بدولها جمعاء ما عدا تركيا» مع مصر، ولبنان، وإسرائيل؛ لأن قبرص ما زالت جزيرة مقسمة، ولا يمكنها تمثيل مصالح قبرص الشمالية التركية.

لكن لم تأتِ الرياح بما يشتهيه الأتراك، فقد كانوا مشغولين بملفات متعددة، على رأسها سورية ومطاردة الأكراد الأتراك والسوريين والعراقيين، وجاءت الانتخابات الرئاسية للقبارصة الأتراك بمرشح يسار الوسط مصطفى أكينجي رئيساً لجمهورية شمال قبرص التركية‏[20]، حيث يأمل قبرصي الجزء التركي من هذا الرجل أن يحقق المصالحة مع الحكومة القبرصية اليونانية وإعادة توحيد الجزيرة، على الرغم من أن أنقرة تسهم بثلث ميزانية جمهورية شمال قبرص التركية منذ انقسامها عام 1974؛ فخيار أكينجي يعكس قناعة توصل إليها سكان الشطرين وتتعلق بجدوى المصالحة التي تمكنهما من العمل معاً للاستفادة من حصة الجزيرة من المخزون الضخم من الغاز والنفط في مياهها الإقليمية، والذي تتقاسمه مع عدة دول مجاورة، ليست بينها تركيا التي تأخذ وجودها في هذا الشطر من الجزيرة ذريعة للحصول على نسبة من غاز المتوسط. وهذا ما دفع زعيم القبارصة الأتراك، مصطفى أكينجي، على الحكومة القبرصية اليونانية المعترف بها دولياً أن يتعاون الطرفان للتنقيب عن الغاز في جزيرة قبرص، لكن جاء هذا الطلب عبر الخارجية التركية‏[21].

وهذا من أجل تسويغ ما تفعله تركيا من إرسال سفن أبحاث إلى منطقة التنقيب المشتركة مع قبرص التركية واليونانية مدعومة بقوة بحرية، وهو ما رفع درجة التوتر في المنطقة. وذكر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان أن تركيا ستواصل أعمال التنقيب شرق المتوسط، وقال إن أبناء جلدته في شمال قبرص لهم حقوقهم شرق البحر المتوسط ولا يمكن السماح لأحد بسلبها. على الرغم من أن سياسة مصطفى أكينجي ترفع شعار تصحيح العلاقة بين أنقرة وجمهورية شمال قبرص ورفع الوصاية التركية عن القبارصة الأتراك ويرفض ما تستخدمه تركيا من توصيفات مثل أن تركيا أخ أكبر وقبرص التركية شقيق أصغر، قائـلاً ذات مرة: «آن للأخ الصغير أن يكبر ويجالس أخيه»‏[22].

وفي الآونة الأخيرة زادت حدة النزاع بين أردوغان وأكينجي على خلفية رفض الأخير للعملية العسكرية التركية في سورية التي عُرفت بـ «نبع السلام»‏[23]، وقد تجاوز أردوغان في حق أكينجي وتوعده الأخير بالرد في الوقت المناسب، وهذا قد يعكس اضطراب العلاقات القبرصية التركية مع الدولة التركية.

من هنا تأتي مساحة المناورة المصرية وحلفها الضعيف نسبياً (قبرص – اليونان) أمام قوة العلاقات التركية مع القوى الدولية العظمى (وخصوصاً لتقاربها مع إسرائيل عبر الملف السوري، وبهذا لن تجد مصر مساندة قوية من الجانب الإسرائيلي في مواجهة الأتراك)، إضافة إلى قوتها العسكرية الفاعلة، وإن كانت المواجهات العسكرية بين مصر وتركيا مستبعدة لأسباب متعددة أهمها هشاشة الاقتصاد المصري المُغرق بالديون، وضعف الحلفاء عسكرياً واقتصادياً، كما أن المردود الاقتصادي للاكتشافات في شرق المتوسط لم يظهر بعد ليغري أي قوى دولية كبرى للدفاع عن أي طرف له حصة فيه.

وعلى الرغم من هذا فإن هناك محاولات أمريكية مُضنية لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، لكن يقول سيمون هندرسون‏[24] مدير برنامج برنشتاين لسياسات الخليج والطاقة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إن القدرة على إضعاف حصة روسيا صعبة جداً، لأن تعطش أوروبا للغاز كبير جداً، بينما القدرات الروسية على توفيره كبيرة جداً أيضاً. وفي ظل الاحتياطيات المؤكدة المكتشفة حتى الآن من الغاز في حوض البحر المتوسط، سيكون من الصعب إنهاء، أو على الأقل تقليص، العامل الروسي. ووفقاً للمفوضية الأوروبية وشركة غازبروم الروسية، فإن أكثر من ثلثي الغاز الذي تستورده أوروبا، يأتي نصفه من روسيا، وبلغ عام 2017 نحو 200 مليار متر مكعب. وفي حال البحث عن مصادر أخرى فإن كـلاً من قطر وإيران جاهزتان لتلبية الطلب العالمي.

ثالثاً: ليبيا – شد أطراف مصر

مصر ليست من الدول سعيدة الحظ بحدودها، فإلى جانب مشكلاتها الاقتصادية ومشكلات حقوق الإنسان والصحة والتعليم والإرهاب والفساد… إلخ، فحدود الدولة كلها هي ساحات مفتوحة على المجهول، فمن ناحية الحدود الشرقية يقبع الكيان الصهيوني ومعه مشكلة القضية الفلسطينية وقطاع غزة المُحاصر، ومن الغرب تقع ليبيا التي تدور فيها حرب أهلية بين مئات الفرق المسلحة التي نتجت مع سقوط نظام القذافي، ومن الجنوب تقع السودان، وربما صارت هذه الجبهة أهدأ بعد الثورة السودانية والوصول لوثيقة وصيغة للحكم بعد إطاحة نظام البشير منتصف هذا عام 2019. ويحد مصر مِن الشمال البحر المتوسط، والمتوسط هو محور حديثنا في هذا المقال ومنه نبدأ الحكاية، لفهم التقارب التركي – الليبي والانزعاج المصري تحديداً، ففي آب/أغسطس عام 2015 أعلنت شركة إيني الإيطالية عن اكتشاف حقل ظُهر لإنتاج الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط‏[25] وأكدت الشركة أن الحقل يضم احتياطيات تقدر بـ 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ووصل حجم الإنتاج اليومي من حقل ظهر إلى نحو 2 مليار قدم مكعب من الغاز ونحو 3500 برميل من المتكثفات، ومن المتوقع أن يصل حجم الإنتاج اليومي من الغاز الطبيعي إلى نحو 3 مليارات قدم مكعبة مع نهاية عام 2019.

وصار لدى الشركة القابضة للغازات الطبيعية «إيجاس» خطة طموحة تستهدف تنمية 11 مشروعاً لاستخراج الغاز حتى عام 2023، باستثمارات 18 مليار دولار، بإجمالي إنتاج 2 مليار قدم مكعبة غاز يومياً. وقد نوّه رئيس شركة نوبل إنيرجي بالفرص الواعدة في مصر في ظل اكتشافات في مجالَي الغاز والنفط وبنية تحتية متطورة تتضمن شبكة أنابيب لنقل الغاز ومحطات لتسييل الغاز ومشروعات للتعاون الإقليمي للربط ونقل وتسييل الغاز. ومؤخراً استحوذت 5 شركات بترول أجنبية على أغلب استثمارات البحث والتنقيب والإنتاج والتنمية لهذا العام، وهما شركات إيني الإيطالية، وبي بي البريطانية، وشل الهولندية، وروزنفت الروسية، وأباتشي الأمريكية‏[26].

ظاهرياً تبدو تركيا بعيدة من الأمر، وأن اندفاع مصر نحو شجب كل تحركات تركيا في المتوسط نابعة من خلاف سياسي، لكن هذا ليس صحيحاً بالكامل. ففي ظل العلاقات غير المستقرة بين تركيا والولايات المتحدة تحت قيادة ترامب، وفي ظل رغبة الأخير في إعادة رسم موازين القوى في المنطقة حسب المنطق المركنتيلي وبشكل تجاري جداً، فإن مصر وحوض المتوسط يمثلان أهمية مستقبلية لتنوع المصادر المنتجة للطاقة حيث لم يعد الغاز الطبيعي حكراً على روسيا وقطر وإيران. وبالتالي يمكن تحرير أوروبا من سطوة النفوذ الروسي وتقليل نفقات الحماية الأمريكية للخليج، ولا يعود لإيران ما يمكنها الرهان عليه في سد عجز ميزانها التجاري عبر إنتاج المحروقات. فبالسيطرة الأمريكية على «أوبك (منظمة الدول المنتجة للنفط) عبر العربية السعودية الخاضعة لرغبة أمريكا» وعدم اكتمال مساعي روسيا في إنشاء منظمة على غرار أوبك لمنتجي ومصدري الغاز الطبيعي في العاصمة القطرية الدوحة، يجعل سوق الغاز الطبيعي ملعباً سياسياً كبيراً يمكن من خلاله تحديد موازين القوى في المنطقة أو العالم بأسره.

وقد استبعدت مصر كـلاً مِن تركيا وقبرص التركية من عضوية منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) الذي أنشئ بعد لقاء جمع وزراء الطاقة في كل من مصر وفلسطين والأردن وإيطاليا وقبرص (اليونانية المعترف بها دولياً) واليونان والكيان الصهيوني المحتل (إسرائيل). على أن يكون مقر المنتدى في القاهرة ويهدف إلى التنسيق حول الاستفادة من احتياطيات الموارد المكتشفة في شرق المتوسط والعمل على إنشاء البنية التحتية اللازمة بهدف تأمين حاجات الدول الأعضاء من الطاقة. وقد جاء إنشاء هذا المنتدى بناءً على رغبة القاهرة بعد أن دعا وزير البترول والثروة المعدنية المصري كـلاً من وزراء الطاقة في الدول سالفة الذِكر‏[27].

لهذا تحاول تركيا قطع الطريق على مصر كي لا تكون مركزاً إقليمياً لغاز شرق البحر المتوسط، وهذا عبر عدة سبل. فمن حدود مصر الشرقية حيث فلسطين، تقوم تركيا بفرض نفسها كصوت واحد للقضية الفلسطينية، وخصوصاً عبر صلاتها داخل قطاع غزة‏[28]، ويستغل النظام التركي، البرغماتي جداً أكثر منه عقائدياً، كما يظن كثير من الإخوان المسلمين الذين يضمنون للأتراك ولاءً شبه تام من حركة حماس، وخصوصاً في ما يتعلق باستخدام شواطئ غزة في أي عمليات تنقيب عن الغاز الطبيعي، وأن لا تتم أي عقود بعيداً من شركات تركيا وحليفها الآخر في الملف الغزاوي قطر، وإن كانت الأخيرة لا تحتاج إلى إدخال نفسها في هذه الحرب على الغاز ولكن تقوم بهذا من أجل استمداد دور إقليمي يتعلق بالقضية الفلسطينية، ويضمن شراء الحماية العسكرية التركية وقت الحاجة لها. وإن كان البعد الجغرافي والحصار لقطاع غزة والسيطرة الصهيونية على شواطئ فلسطين يعيق الكثير من مخططات الأتراك في الوصاية على شواطئ فلسطين.

من هنا تبرز أهمية المناورة التركية عبر ليبيا وشواطئها على البحر المتوسط، فهي ليست أرضاً مُحتلة، ولن يصطدم الأتراك فيها بأي فصيل قوي، فلم يُظهر خليفة حفتر وقواته أنهم قادرون على السيطرة على الدولة الليبية على المدى القريب والبعيد، أي أن ليبيا ما هي إلا مساحة رخوة للسيطرة والهيمنة وحرية الحركة والملاحة وحتى التهريب إن اقتضت الحاجة لهذا. فبعد سقوط القذافي تحللت الدولة الليبية – قد يختلف معي كثيرون حول وجود دولة ومؤسسات تحت حكم القذافي ولكن هذا ليس حديثنا الآن – وتشكل حكومة الوفاق عبر فايز السراج في هذه اللحظة حليفاً مثالياً للحصول على كل التنازلات المطلوبة لكي تضع تركيا قدماً لها بجوار مصر وفي البحر المتوسط أيضاً.

بداية، فايز السراج وحكومته هم الممثل الشرعي للشعب الليبي في نظر الأمم المتحدة، وبهذا تختفي تركيا وراء دولة عضو في الأمم المتحدة وليس وراء قبرص التركية التي لا يعترف بها أحد سواها، وقد أثبت السراج أنه منذ دخوله إلى ليبيا وإلى العاصمة طرابلس في 30 أذار/مارس 2016 وتجوله في وسط العاصمة وصلاته في المسجد الكبير بميدان الشهداء، بأنه يستطيع الإمساك بزمام الأمور إذا حصل على الدعم الكافي. فبداية تمكن السراج من الحصول على دعم محافظ البنك المركزي الليبي وأقصى ثلاثة بنوك من الشرق من النظام المصرفي الإلكتروني في ليبيا بهدف الحد من عملياتها التي تمول ميليشيات خليفة حفتر‏[29]. وحصل على تأييد جميع عمداء بلديات طرابلس. ولهذا فشل حفتر باقتحام العاصمة، وأعلنت 10 مدن ساحلية بالغرب الليبي تبعيتها الكاملة لحكومة الوفاق بقيادة السراج‏[30]، وبهذا يكون التعاون التركي مع السراج، كما أعلن أقطاي نائب أردوغان، فتح طريقاً لشرق المتوسط وأخرج تركيا من الزاوية. إضافة إلى حصول السراج واتفاق الصخيرات عامة على دعم مجلس القبائل الليبية الأعلى‏[31] وهذا ما يجعل مهمة التعاون العسكري على مستوى الحشد العسكري للأفراد من القبائل الموالية لسراج وتدريبهم في ظل توافر الدعم المالي عبر البنك المركزي الليبي أسهل وأسرع من عمليات نقل الأموال إلى ميليشيات خليفة حفتر.

ليبيا فيها كل ما يريده الأتراك من مساحة ساحلية لوضع قدم في شرق المتوسط، ومساحة أخرى للمناورة العسكرية وقدرة على استنزاف مصر، وخصوصاً أن الأخيرة تكمن مصلحتها في إنشاء دولة مركزية قوية في ليبيا من أجل القضاء على بؤر الجماعات الإسلامية الإرهابية، التي قامت بشن هجمات إرهابية خطيرة على الدولة المصرية، ومؤخراً قد تسلمت مصر من قوات خليفة حفتر الإرهابي هشام عشماوي‏[32] الذي شن من الأراضي الليبية عمليات إرهابية قُتل فيها مئات من المصريين عسكريين ومدنيين.

هذا لا يعني أن تركيا ستموّل الإرهاب مباشرة. الأمور لا تسير بهذه السذاجة، بل دخول تركيا إلى الساحة الليبية بصورة مباشرة لدعم السراج قد يطيل أمد الصراع المُسلح وينهي أي أفق للحل السلمي، ويجدد الحرب بالوكالة‏[33] بين معسكر (مصر – الإمارات) ومعسكر (تركيا – قطر) وخصوصاً بعدما حاولت أمريكا إقناع الدول الداعمة لحفتر، بأن لا حل للأزمة الليبية سوى الحل السياسي.

مصر، أو النظام المصري الحالي بصورة أدق، وعلى النقيض من تركيا أو النظام التركي الحالي أيضاً، لا يرى في ليبيا الثروة النفطية والموقع الاستراتيجي والموانئ المهمة، لكن يرى فيها جناحها الغربي وبعد أمنها القومي وصمام استقرار النظام بعد إطاحة الإخوان المسلمين والمتورطين – بصورة مباشرة أم غير مباشرة – في انطلاق هجمات إرهابية على الأراضي المصرية أو تهريب أسلحة لجماعات تابعة لداعش. فقد تم تهريب صواريخ كورنيت من مخازن القذافي أُسقطت بها طائرة عسكرية مصرية في سيناء‏[34]، وهذا يعني أنه يمكن للمهربين نقل السلاح من غرب مصر إلى شرقها واستهداف العمق المصري. لذا يجب أن تكون ليبيا بعيدة من أعداء هذه المرحلة وهم تركيا وقطر. لهذا أملت مصر في أن تنجح مساعدتها لخليفة حفتر في السيطرة على العاصمة طرابلس كما فعل في المدينة الثانية، بنغازي، عام 2017 بعد ثلاثة أعوام من القتال لتحد من حركات الميليشيات المسلحة على الحدود المشتركة بين البلدين.

لكن يبدو أن طريق الحسم العسكري في ليبيا لصالح تركيا أو لصالح مصر ليس ممهداً أبداً، وخصوصاً أنه في ظل الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والدوافع الأيديولوجية سنجد أن توجُّه أنقرة سانَدَ في الحرب الأهلية مجموعات مقربة من حركة الإخوان المسلمين، وفعلت مصر النقيض تماماً ودعمت كل من هو ضد الإخوان المسلمين. وإن كان هناك من لا يرى أن هذا الرأي دقيق، لأن الدعم التركي جاء بذكاء في المقام الأول عبر بوابة الحكومة الشرعية في طرابلس وهذا هو الدعم الوحيد الشرعي من وجهة القانون الدولي‏[35].

خاتمة

مصر في موقف في غاية الصعوبة، فهي تبدو مندفعة وانفعالية تجاه تركيا، وتلعب بأوراقها كلها مكشوفة. فعندما تتابع القنوات الفضائية، تجد أن الأتراك يتحدثون عن وثيقتي تفاهم لا أكثر قد دفعتا بمصر إلى إصدار بيانات وبدء خطوط ساخنة بين الحلفاء في اليونان – قبرص. وهذا هو المُعلن فقط، فقد تكون هناك إجراءات أخرى اتخذتها مصر غير مُعلنة، بينما نجد متحدثي الجانب المصري في هيستيريا من الانفعال‏[36] وهذا ليس حكيماً. فقد تكون تركيا تستكشف فقط ما يختبئ لها في الأرض الليبية، ولم يكن يستدعي ذلك أن تتخذ مصر هذا الموقف المتشنج، وخصوصاً أنه بعد البحث المنطقي والسياسي والاقتصادي لا نجد أبداً أي سبب للوقوف إلى جانب خليفة حفتر، هل لأن هناك أحاديث تُردد أنه واجهة لسيف الإسلام القذافي‏[37]؟ فقد أُطلق سراح نجل العقيد القذافي الراحل على يد كتيبة تابعة لحفتر فعـلاً. وهكذا تحول القذافي الابن من سجين، ومجرم حرب دولي إلى شخص يعلن نفسه منقذاً وأمـلاً لليبيا عبر «مكان آمن» غير معروف‏[38]! وهل ضمنت مصر أن الرهان على ورقة حفتر واللعب على القبلية وحصد دعم أنصار القذافي وقبيلة القذاذفة عموماً يعني جلب الهدوء إلى حدودها الغربية؟

وهل نظرت مصر، في ظل الانقسام الكبير بين الليبيين والأطراف الخارجية الفاعلة في الحرب الدائرة بالوكالة، في أسماء الدول التي تؤيد السراج؟ لو فعلت هذا لوجدت إيطاليا أكبر مساهم ومساعد لمصر في التنقيب عن غاز شرق المتوسط، وأكثر الدول معرفة بالطبيعة الجغرافية الليبية بوصفها المستعمر القديم والمستثمر – وحتى المُستقبِل – لما يهربه القبائل من نفط ومخدرات وسلاح‏[39]، أي أن مصر لو انتهجت خيار الحياد والدعوة إلى الحوار مع التعاون الأمني – الاقتصادي – العسكري مع إيطاليا والتدخل الحذر إن دعت الحاجة، كان من الممكن أن توفر عليها الدخول في مشقة الحلف الإماراتي – السعودي – الروسي الداعم لحفتر، وهذا يمكن أن يكون ناتجاً من حالة من الخوف التي تعمي عن المصالح الاستراتيجية البعيدة للدولة المصرية، التي رأت في الإسلام السياسي وأبرز ممثليه الإخوان المسلمين، خطراً يجب قتاله في كل مكان وبأي ثمن.

الحسابات المصرية في الملف الليبي لم تكن محض مصرية، وتأثرت كثيراً بحلفائها الإقليميين، وتحديداً الإمارات، التي دخلت في حرب مفتوحة على النفوذ مع جارتها قطر، وانساقت مصر فيها خلفها، وكان يمكن لمصر أن تؤدي دور الوسيط الجامع لكل الأطراف المتصارعة، ودورها كان محل ترحيب من كل الفرقاء الليبيين نظراً إلى العلاقات التاريخية، والحدود المشتركة، والوجود القبلي المصري – الليبي المشترك، كما أنها فضلت الدور الفرنسي الضعيف، والموهوم بالعظمة المستمدة من الماضي بلا أي واقع فعلي حالي، واستثنت الحليف الإيطالي الأكثر قرباً منها، ولديه معرفة أكثر عمقاً بالشؤون الليبية، وقد كانت روما تعوّل بالفعل على هذا الدور المصري، لذلك كانت أول دولة أوروبية غربية تعترف بالنظام المصري الجديد بقيادة السيسي، وأبرز من دافع عنه داخل الاتحاد الأوروبي، وقد زارها السيسي بعد توليه منصب الرئاسة بنحو أربعة أشهر‏[40]، بل ووصف رئيس مجلس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينزي الرئيس السيسي بالزعيم الكبير القادر وحده على إنقاذ مصر‏[41]، إلا أن السياسة المصرية التي كانت غائبة عن محيطها الإقليمي منذ 40 سنة، ولا يوجد لديها مشروع حقيقي، اكتفت بدعم حفتر ليخلق عازلاً على الحدود المشتركة لكلا البلدين، بما يضمن لها عدم تدفق السلاح والمقاتلين. ويمكن القول إن هذا هو المشروع الوحيد الحقيقي الذي ركزت عليه القاهرة في ظل حالة الضعف التي تعانيها على كل الصعد والمجالات، بينما لم تمانع في دعم مشاريع أبو ظبي وتحركات حفتر نحو طرابلس وإن من دون دور حقيقي فاعل.

وجدير بالذكر أن لدى النظام التركي هامش مناورة واسع، وجرأة على استخدام أوراق الضغط التي يمتلكها لتحويلها لمكاسب سياسية، وكذلك وجود عمق فكري أيديولوجي مُلهم لقطاع مهم ومؤثر من شعوب المنطقة، وهو ما لا يملكه النظام المصري، مع فقدانه للقدرات الاقتصادية التي يمكن أن تعوض هذا الضعف عبر شراء الولاءات كما تفعل بعض بلدان الخليج، وإن كانت هذه السياسة قد ثبت فشلها؛ ومع التمدد الروسي الحالي في شرق ليبيا، ومراعاة أن لروسيا طموحات قديمة في الساحل الليبي‏[42] تعود إلى عام 1945 قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتقسيم تركة إيطاليا الاستعمارية، حيث حاولت بكل السبل الحصول على موطئ قدم في طرابلس، إلا أن السياسة الأمريكية – البريطانية تصدت لهذه المحاولات بقوة. ومع تصاعد الدور الروسي بدأت الإدارة الأمريكية تشعر بمخاطر ترك ليبيا، ودخلت على خط الأزمة بنشاط أكبر مما كانت عليه سابقاً، وهو ما تسعى تركيا لاستغلاله، وتسويق نفسها للأمريكي على أنها عامل توازن يضمن عدم تفوق حفتر القريب من روسيا، وإمكان الاستفادة من هذا الدور بتعظيم مكاسبها.

وهذا ما جعل مصر تقف الآن أمام خريطة سياسية وعسكرية واقتصادية معقدة جداً في البحر المتوسط وفي الفناء الغربي لها.

 

 

قد يهمكم أيضاً  غاز شرق المتوسط في حرب أمريكا على الاقتصاد الروسي 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الغاز_القبرصي #التنقيب_عن_الغاز #غاز_المتوسط #الصراع_على_الغاز #غاز_شرق_المتوسط #الأزمة_المصرية_التركية #التفاهم_التركي_الليبي #الحدود_البحرية #الغاز