تقديم:

لا شيء كان سيبعث غاز شرق المتوسط من سباته العميق، لو لم يرشِّحه الأمريكيون بديلًا من غاز روسيا في حمأة قتالهم إيّاها بحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا. فرغم تقادم العهد بالاكتشافات والمسح الزلزالي لشرق المتوسط، والحوض العربي منه تحديدًا، لم يلقَ الإقبال على الاستثمار في تطويره رغم تزامنه مع الفتوحات النفطية في شمال أوروبا، التي أصبحت في غضون عقود لاعبًا كبيرًا في أسواق الطاقة.

وجلي أن الفرضية التي تحتاج إلى بعض المناقشة، هي قدرة المكامن المتوسطية، العربية خصوصاً أو القبرصية والإسرائيلية، على الاستجابة إلى ما تصبو الولايات المتحدة إليه، من إخراج روسيا من الاقتصاد الأوروبي، وفك ارتباطه بالغاز الروسي، عبر تنويع المصادر البديلة، خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وهو مؤشر على طول إقامة الحرب في القارة الأوروبية، والتحضير لحرب اقتصادية طويلة ضد الروس، أينما تسنى ذلك للولايات المتحدة.

الاستنفار النفطي الأمريكي في المتوسط

مقابل المعاندة الخليجية والسعودية للطلب الأمريكي بإغراق الأسواق بالنفط الرخيص لتدمير الاقتصاد الروسي، يبدي شرق المتوسط مرونة محابية للطلبات الأمريكية. ذلك بأنه نشأ تقنيًا وسياسيًا في الأطر الإقليمية، التي وضعتها له الولايات المتحدة، ووضعت خرائط أنابيبه، وجعلت من إسرائيل ومصر، وبدرجة أقل الأردن، محور الغاز المتوسطي الذي تنتظم حوله شبكات الإنتاج والتسويق. ويبدو الاستنفار الأمريكي في المتوسط سابقًا كثيرًا على انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، على نحو يؤكد جاهزية الولايات المتحدة في شرق المتوسط لملاقاة الروس. ففي عام 2015 أوصت الإدارة الأمريكية في مذكرة صدرت بعد ضم روسيا شبهَ جزيرة القرم، بالعمل على استغناء أوروبا عن الغاز الروسي. وفضلًا عن الغاز تزود روسيا أوروبا بـ7 ملايين برميل نفط يوميًا و3 ملايين برميل من المنتجات النفطية. تستورد أوروبا نحو 30-40 في المئة من غازها من روسيا، كما تستورد كميات مماثلة من النروج، و5 في المئة من الغاز الجزائري وكميات تكميلية من قطر ونيجيريا والولايات المتحدة.

وفي عام 2019 رعت الولايات المتحدة إنشاء منتدى غاز المتوسط وضمت إليه خليطًا غير متجانس بين مصدِّرين ومنتجين للنفط والغاز من مصر و”إسرائيل” والأردن وإيطاليا وفرنسا واليونان وقبرص والسلطة الفلسطينية، وتزامن ذلك مع احتدام الصراع مع تركيا أردوغان في معركة عزله في البر الأناضولي لمعاقبته على التقارب مع روسيا أيضا التي كان شبحها يجول في خلفية إنشاء المنتدى.

وكانت الولايات المتحدة تفكر أيضًا في تحويله إلى تجمع أمني لولا تحول شرق المتوسط إلى ساحة مواجهة بين أعضاء الناتو أنفسهم بعد اقتحام السفن التركية طوال عام 2020 مناطقَ التنقيب القبرصية واليونانية مسلحة باتفاق ترسيم بحري مع حكومة فائز السراج الليبية يوسّع منطقة المصالح الاقتصادية التركية في المتوسط.

دمج “إسرائيل” في اقتصادات الحوض العربي لشرق المتوسط   

رغم تواضع الكميات الكامنة في أعماق المتوسط من الغاز الذي لا يتجاوز 2 في المئة من السوق العالمية، فإنه يمكن المحاججة أنها لم تمنع الولايات المتحدة من جعلها وقودًا أكثر فاعلية من أي خطط سياسية في خدمة دمج إسرائيل في اقتصادات المنطقة وتلبية حاجاتها النفطية وضبط عملية التنمية تحت سقف الأهداف الأمريكية. وهكذا تم  تحويل أنبوب الغاز العربي من خط عابر لمياه المتوسط من مصر إلى لبنان فسورية والأردن في بداية المشروع إلى خط يربط مصر بالأردن عبر العقبة، فاتحًا بذلك احتمالات ضم “إسرائيل” إلى الشبكة العربية، جاعلاً لبنان في أسفل الشبكة بعد أن كان بوابتها بعد مصر.

وفي إطار تطوير غاز المتوسط المتزايد في المنطقة تقوم “إسرائيل” بتصدير الغاز إلى مصر عبر خط عسقلان العريش، ومنه إلى محطتي التسييل في أدكو ودمياط، فأوروبا، في إطار الاتفاق الموقع بين دوليفنوس المصرية وإسرائيل عام 2015 لشراء 85 مليار متر مكعب بقيمة 19 مليار دولار لمدة خمسة عشر عامًا.

حرب على الغاز الروسي من المتوسط لا تتوقف ولو هدأت المدافع 

في المساحة الزمنية لا يزال يتطلب الاستغناء عن الغاز الروسي، واستبداله بمصادر أخرى مُهَلًا ترواح ما بين الثلاثة إلى خمسة أعوام لدى المحللين الأكثر تفاؤلًا من جهة، في حين تحتاج عمليات تطوير المصادر الأخرى ولا سيّما في المتوسط إلى سنوات لا يمكن تحديدها الآن، لأنها ترتبط أولًا بإغلاق ملف حرب الغاز الباردة في المتوسط بين تركيا وقبرص واليونان ومنتدى شرق المتوسط وجلاء تفاهمات حول مصير ومسارات شبكات الأنابيب بين دوله، فضلًا عن عمليات ترسيم الحدود المعلّقة بين لبنان و”إسرائيل”، وتقديم ضمانات أمنية كبيرة وصعبة لكي تأتي الاستثمارات الضخمة في البنى التحتية من محطات إسالة أو شبكات أنابيب، أو عمليات استكشاف وتنقيب للتوسع في الكميات الجاهزة للاستخدام في مناطق لا استقرار فيها.

ومنذ أشهر، ومع ظهور النذر الأولى للحرب الأطلسية ضد روسيا في أوكرانيا، كان الأمريكيون يحاولون إعادة تحريك ملفات الدول المتوسطية العربية للتفاهم معها على تسريع الإنتاج أو الاستكشافات. تصطدم المساعي الأمريكية بحقيقة ربطها أي تقدم في استغلال غاز المتوسط بتقدم دمج إسرائيل في كل المشاريع الطاقية في شرق المتوسط على كل الاعتبارات، وخصوصًا أن الشركات النفطية أصبحت أكثر حرية في الاستثمار بعد سقوط  المقاطعة العربية. وتمنح الأولوية لإسرائيل في عمليات ترسيم الحدود، كما هي الحال مع لبنان، الذي لم تتقدم عمليات الترسيم معه لإصرار الولايات المتحدة على إلحاق جزء من الحقول اللبنانية، كحقل قانا، بإسرائيل ومنع حتى تقاسمها كون عمليات تقاسم الحقول المشتركة فشلت بين النروج وبريطانيا وبين إيران وقطر وبين العراق والكويت. ومن الواضح أن الولايات المتحدة لن تقبل بتطوير الغاز في المتوسط إذا لم يكن بيد إسرائيل، وإذا لم يخدم استراتيجيتها.

وفي غزة تمنع إسرائيل أي عمليات لتطوير حقل مارين الفلسطيني. ورغم وجود كميات كبيرة من الغاز، قد تكون الأكبر في شرق المتوسط في مكامن حقل الظهر المصري ولا تزال الاستثمارات رهن موافقة إسرائيلية لتطوير عمليات تصديره، بدلًا من الاكتفاء بإعادة تصدير الغاز الإسرائيلي عبر محطتي أدكو ودمياط لتسييل الغاز وجعل مصر قوة نفطية غازية كبيرة.

مصالح “إسرائيل” الأمنية مع روسيا على محك التحالف مع الولايات المتحدة 

تتعارض الرغبات الأمريكية في تنشيط الغاز المتوسطي مع اعتبارات أمنية استراتيجية إسرائيلية – روسية، كانت إسرائيل تتمسك بها حتى الأسابيع الماضية. وحتى إسرائيل نفسها لا تزال حتى اليوم تتردد  في الدخول في أي عملية جعل غازها بديلًا للغاز الروسي في أوروبا، أو أن تكون وظيفة أي أنبوب مزمع بناؤه مستقبلًا عبر قبرص أو اليونان أو تركيا، هي  إحلال غازها مكان أي جزء من الغاز الروسي، وهي تعرض على الأوروبيين أن يحل غازها محل أي غاز قطري أو جزائري لكن ليس محل الغاز الروسي، كونها لا تريد أن تعرّض تنسيقها مع روسيا في شرق المتوسط، وفي سورية خصوصًا، للخطر، حيث تتمتع بحرية العمل وضرب التجمعات السورية أو الإيرانية. وهو العرض نفسه الذي قدمه الإسرائيليون إلى الأتراك بإنشاء شبكة أنابيب للغاز شريطة إلا يباع لأوروبا أو ينافس الغاز الروسي رغم تواضع الكميات المعروضة منها مقابل ضخامة الحاجات الأوروبية للغاز الروسي، إلا أن مجرد الإقدام على هذا الأمر في ظل المواجهة القائمة ستفسره روسيا عملًا عدائيًا ضدها من دولة صديقة.

ولم تتقدم محاولات الأمريكيين مع الجزائر لزيادة إنتاجها ورفع حصص أسبانيا وإيطاليا منه. على العكس من ذلك أدت التفاهمات الإسبانية مع المغرب لتطوير حقوله المكتشفة وربط إسبانيا بها، ومع تراجع إسبانيا عن اعترفها باستقلال الصحراء الغربية، إلى تهديد جزائري بوقف تزويد إسبانيا بالغاز. وتفاوض إيطاليا الجزائر للحصول على حصة أكبر.

وبانتظار تقدُّم كل تلك الملفات، لا أحد يمكن أن يهدّد الغاز الروسي في أوروبا، الذي لا يمكن منافسة أسعاره المتدنية التي لا تتجاوز 8 دولارات للمليون وحدة حرارية، علمًا أن لاتفيا، التي استغنت عنه، تدفع 13 دولارًا للمليون وحدة من الغاز الأمريكي المسال، وهو ما لن تُقدِم دول أوروبا عليه وسط عاصفة التضخم التي تجتاحها بموازاة الحرب في أوكرانيا. إنجاز كبير يسجَّل للأمريكيين مع ذلك، هو نجاحهم في توفير 9 مليارات دولار لجر الغاز النيجيري مسافة 4200 كم عبر الصحاري، وتوقيع اتفاق بين نيجيريا والجزائر، لربط هذا الأنبوب بشبكة التوريد الجزائرية عبر المتوسط إلى أوروربا، وإنجاز بناء هذا الخط خلال 36 شهرًا، وهي مهلة قياسية لمشروع بقي في الأدراج منذ عام 1985، كل ذلك لتقويض الاقتصاد الروسي وهزيمة فلاديمير بوتين بأي ثمن.

لكن في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن الحرب الاقتصادية الأمريكية ضد روسيا لا تمثّل محور الصراع بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة، بقدر ما تمثّل أداةً من أدوات هذا الصراع، يمكن إدراجها في سياق حروب الخنق الاقتصادي لأهداف جيوستراتيجية التي سبق للولايات المتحدة أن استخدمتها ولا تزال ضد أطراف أخرى في العالم، لمنع صعود قوى عالمية أو إقليمية يمكن أن تكسر هيمنتها الجيوستراتيجية على العالم، التي يمثّل الاقتصاد جزءًا مهمًا من أهدافها لكنه لا يختصر كل الأهداف. لذلك، إن نجاح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في خنق روسيا اقتصاديًا يستهدف ضرب روسيا بما تمثّله من تهديد استراتيجي للولايات المتحدة والغرب أكثر مما تمثله من منافس اقتصادي لهما. لكن نجاح روسيا في المقابل في مواجهة هذا المشروع مرهون من دون شك بعدة عوامل قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، منها خروج روسيا منتصرة من المواجهة الدائرة بينها وبين الولايات المتحدة والغرب في أوكرانيا على المدى القريب، ثم نجاج روسيا في خلق بدائل مستدامة لأسواق الطاقة في الغرب لتصدير نفطها وغازها، على المدى المتوسط، ونجاحها مع شركاء آخرين في إخراج الدولار الأمريكي من تعاملات سوق الطاقة وغيرها من التبادلات التجارية، وهو أمر يمكن أن يؤسس فعلاً لتجاوز عصر الأحادية القطبية في النظام العالمي؛ ثم توجّه روسيا على المدى البعيد نحو إعادة هيكلة اقتصادها باتجاه اقتصاد صناعي – زراعي – معرفي منتج ذي قدرة تنافسية عالمياً يحد من اعتماد روسيا على الغرب صناعيًا وتقانيًا.