مقدمة

[1]«نهر من المال يصب في القدس الشرقية»، بهذه الكلمات وُصفت الخطط الحكومية التي بدأت إسرائيل بتطبيقها في شرق القدس في السنوات الأخيرة، إذ عملت على طرح خطط حكومية مع تخصيص مبالغ كبيرة لتستثمر في مجالات كثيرة. من ضمن الخطط الحكومية التي طرحت لتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية كانت الخطة الرقم 3790، إذ تضمنت الخطة العمل على تعزيز ستة مجالات: التعليم والتعليم العالي؛ الاقتصاد والتجارة؛ التشغيل؛ المواصلات؛ جودة الحياة؛ تسجيل الأراضي. يتجلّى الهدف الأساسي وفقًا لهذه الخطة بدمج المقدسي بالاقتصاد الإسرائيلي.

عملت إسرائيل، منذ احتلالها القدس عام 1967، على التضييق على السكان في شتى مجالات الحياة من أجل فرض واقع يهودي يتحكم في كل تفاصيل المدينة. إن عزل القدس، وإغلاق المؤسسات، والتهويد، وجمعيات الاستيطان، والحق اليهودي في الأرض، والاعتقالات، والإبعاد، وغيرها من السياسات ساهمت في زيادة الإفقار وسوء الأحوال الاقتصادية للفلسطيين، وهي كانت أيضًا تُموضع الإنسان المقدسي في الهامش وتقزّمه. وعلى الرغم من أن الخطة الحكومية المطروحة قابلة للتطبيق ويمكن جني ثمارها الإيجابية في تحسين الاقتصاد إذا كانت مطروحة في بلد أحواله السياسية غير التي نعيشها، ففي ظل الواقع المُعاش لا يمكن النظر إلى الخطة الحكومية وتطبيقها بمعزل عن الظروف التي أنتجتها أولًا، وعن الظروف السياسية المعاشة وأهداف إسرائيل القومية ثانيًا.

يتمحور هدف الدراسة إذًا حول محاولة نقد مساعي الخطة الحكومية ذات الرقم 3790 الرامية إلى تطبيقها في شرق القدس، من خلال الإجابة عن سؤال مركزي أساسي، وهو إذا كانت هذه الخطة الحكومية لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية تهدف إلى إصلاح ما أفسدته سنوات من التهميش والإهمال للقدس الشرقية، أم أنها مجرد قناع تجميلي تتستر خلفه نيات استيطانية وأهداف قومية؟ أي هل تستهدف الخطة الحكومية فعلًا تطوير الاقتصاد في شرق القدس؟ أم أنها لجأت إلى الاقتصاد ليكون غطاءً تستر به المشروع الاستعماري الاستيطاني من جهة، وتفرض هيمنتها وسيادتها من جهة أخرى؟

تضمنت الخطة الحكومية العمل على تحسين مجالات ستة، كانت عملية تسجيل الأراضي من ضمنها. إن عملية التسوية توصف بأنها عملية اقتصادية ناجحة وتساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولهذا وُجدت من ضمن المجالات الواجب تعزيزها في الخطة، غير أن ادعاء الباحثة يتمثل بأن عملية التسوية لن تحسّن الأحوال الاقتصادية بل ستزيدها سوءًا وستساهم في إفقار المقدسيين. إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع الخطة الحكومية ككل يؤكد أن إسرائيل ترمي إلى تحقيق استقرارها وهيمنتها اليهودية من خلال منح المقدسيين الفُتات (الخطة الرقم 3790)، والتي يكونون بتطبيقها «الخاسرين الوحيدين».

بُنيت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، نظرًا إلى الحاجة إلى وصف الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في القدس وتحليله استنادًا إلى المعطيات المتوافرة وربطه لاحقًا مع مساعي الخطة الحكومية التي ستُفهم أيضًا ليس فقط من خلال تحليل بنودها وتفكيكها، وإنما أيضًا من خلال تحليل العلاقة في تطبيق الخطة مع قوانين وأنظمة أخرى في الدولة.

أولًا: الخطة الحكومية 3790 لتقليص الفجوات
الاقتصادية والاجتماعية

بموجب قرار الحكومة الإسرائيلية الرقم 3790 في شهر أيار/مايو عام 2018، تمت الموافقة على الخطة الخمسية لتقليل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في شرق القدس، ورصدت الحكومة ميزانية قدرها 2.1 مليار شيقل ليتم استثمارها على مدار خمس سنوات[2]. يتضمن القرار مجالات ستة رئيسية، هي: التعليم والتعليم العالي، الاقتصاد والتوظيف، النقل، الصحة، تحسين الخدمة وجودة الحياة، وتسجيل الأراضي[3]: «زيادة الإنتاجية في الاقتصاد، ودمج سكان شرق القدس في دائرة التوظيف، وزيادة الدخل لكل أسرة في شرق المدينة وزيادة دخل بلدية القدس»[4].

تهدف الخطة 3790 إلى تحقيق التنمية الاقتصادية وتقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين شرق المدينة وغربها، فأهداف الخطة تتنوع لتشمل مناحي متعددة في الحياة، بحيث يتم مع تطبيقها زيادة دخل الأُسر وتحسين وضعها الاقتصادي[5].

من ضمن المجالات التي ارتأت الحكومة أن القيام به سيقلص الفوارق الاقتصادية والاجتماعية كان مجال تسوية الأراضي، إذ أدرجته الحكومة في البند السادس كما يلي:

«6-أ: توجيه وزارة العدل لتنفيذ إجراءات التسجيل والتسوية المطلوبة، وكل ما يلزم الأمر بموجب أحكام قانون تسوية حقوق العقارات لسنة 1969، على الأقل 50 بالمئة من العقارات في شرق القدس سيتم تسويتها بما لا يزيد على الربع الرابع لسنة 2021، 100 بالمئة من تسوية وتسجيل العقارات في شرق القدس سيكون حتى نهاية 2025. من أجل تنفيذ هذا البند، سيتم تخصيص 50 مليون شيقل مقسمة بالتساوي بين السنوات 2018 حتى 2023. ب – تأليف لجنة برئاسة المدير العام لوزارة العدل (فيما يلي اللجنة الثانوية لموضوع تسجيل العقارات)، وبالمشاركة مع قسم الميزانيات، ممثل عن الحكومة، مدير سلطة أراضي إسرائيل، المدير العام لوزارة القدس والتراث، مركز خرائط إسرائيل، إدارة التخطيط في وزارة المالية أو موظف من الوزارة، المدير العام لبلدية القدس أو موظف منها. هذه اللجنة تكون مؤتمنة على تحديد برنامج العمل بموجب البند 6\أ، مرافقة تنفيذ تسوية وتسجيل العقارات وإزالة العقبات من أجل تمكين تسوية العقارات وتسجيلها. تقوم اللجنة مرة سنويًا بفحص مدى التقدم في المنطقة بالنسبة لهذه الأهداف، وتقوم اللجنة بتقديم توصية للجنة متابعة من أجل تحديث البرامج أو المواعيد كل ما لزم الأمر. ج – التوجه إلى اللجنة اللوائية في القدس بطلب من أجل النظر في المخططات التي من شأنها تمكّن من التطوير المحلي والصناعي والتجاري في شرق القدس ضمن نطاق لا يقل عن 260 دونم، وفيه 550 ألف متر مربع لتحفيز البناء، وهذا لا يزيد عن نهاية الربع الثالث لسنة 2018».

ثانيًا: لمحة عن الأحوال الاقتصادية في القدس الشرقية

يتضح من الخطة الحكومية التي أقرتها إسرائيل واجهتها الاقتصادية البحتة، التي ستعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وزيادة الدخل. ولعل المطّلع على الأوضاع الاقتصادية لسكان القدس الشرقية سيرى واقع الحال الذي يستجدي أي خطة أو مشروع للنهوض بهذه الأوضاع.

بلغ عدد سكان القدس في نهاية عام 2017، 901300 نسمة، أي ما نسبته 10 بالمئة من سكان إسرائيل، يبلغ عدد السكان اليهود 559800، بينما يبلغ عدد السكان العرب 341500 نسمة. نسبة سكان شرق القدس من اليهود 38 بالمئة، ومن العرب 62 بالمئة، أما في غرب القدس فنسبة اليهود هي 99 بالمئة من السكان[6].

لا يمكن إنكار إيجابية الخطة المطروحة نظرًا أصلًا إلى الوضع الاقتصادي السيئ لسكان شرق القدس، فأجور سكان شرق القدس منخفضة مقارنة ببقية سكان إسرائيل. إضافة إلى ذلك، يعمل سكان شرق القدس عادة بالمهن التقليدية المقسمة جندريًا، إذ يعمل الرجال عادة في البناء والتجارة، وتعمل النساء في قطاعي التعليم والصحة. ولعل المهم الإشارة إليه هنا هو أن زيادة إنتاج العمال وزيادة الأجور تأتي في المقام الأول من خلال دمج مجتمع شرق القدس في النظام الاقتصادي لغرب القدس[7].

هدفت الخطة 3790 بالأساس إلى رفع مستوى دخل الأسر في شرق القدس، إذ إن مكانة مجتمع شرق القدس اقتصاديًا واجتماعيًا متدنية جدًا مقارنة بسكان الدولة؛ فمثلًا، متوسط إنفاق الأسرة في شرق القدس سنة 2017 أقل بنسبة 20 بالمئة من إنفاق الأسر اليهودية. أما عن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في القدس فهي تبلغ 45 بالمئة؛ نسبة الفقر بين اليهود 25 بالمئة، أما معدل انتشار الفقر بين الأسر في شرق القدس فهو 75 بالمئة، وبين الأطفال 86 بالمئة، ويبلغ معدل الأجور في القدس لليهود 8700 شيقل، أما للعرب فهو 5500 شيقل[8].

كانت زيادة عائدات بلدية القدس، وتحديد هدف زيادة تحصيل الأرنونا التجارية في شرق القدس هي من أهداف الخطة الاقتصادية، إذ إن الأرنونا المحصلة وعدد الشركات المسجلة في شرق القدس أقل كثيرًا مما هو في غرب القدس، فالأرنونا المحصلة في غرب القدس أعلى بخمس مرات مما هي في شرقها، ونسبة الأعمال التجارية في غرب المدينة أعلى بثلاث مرات مما هي في شرقها[9].

من ضمن البنود التي وردت في الخطة الحكومية كان بند تسوية الأراضي، إذ حتى عام 2018، كان 90 بالمئة من أراضي شرق القدس أراضي غير مسوّاة، ووفقًا للخطة الحكومية 3790، فإن عملية التسوية التي بدأت عام 2018 ستستمر حتى عام 2025، وقد خصصت لها الحكومة 50 مليون شيقل[10].

إنّ غياب عملية تسوية الأراضي في القدس يحول دون إمكان شراء الفلسطيني عقارًا، أو حتى إمكان البناء أصلًا، أو أن يختار الحصول على تمويل من مصادر أخرى، كالبنوك الفلسطينية وبفوائد 6 – 9 بالمئة، أو الحصول على قروض أخرى غير قرض الرهن العقاري، وهو أمر يؤدي إلى خسارة المقدسي ماديًا، بحيث تقدر بـ 80 ألف شيقل. لذلك، فإن فوائد التسوية على مستوى الأفراد بارزة في تحسينها للوضع الاقتصادي، وغيابها إنما يؤدي إلى مكابدة خسائر طائلة، لأن سكان شرق القدس يلجؤون بالعادة إلى الاقتراض، ولغياب إمكانية القروض العقارية فإن اللجوء إلى القروض الأخرى هو الملجأ المتاح كما سبق وأشرنا[11].

بناءً على ذلك، تدعي الحكومة أن الهدف من وراء الخطة الحكومية هو تحسين الأحوال المعيشية وتقليل الفجوات الاقتصادية، لذلك يرتكز البحث بصورة أساسية على إثبات نقيض ما تدّعيه الحكومة الإسرائيلية، إذ في سياق علاقات القوة المحكومة بمنطق الاستعمار، يكون الحديث عن زيادة وتعميق الفجوات وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. في إثبات ذلك، يوجد مقاربتان نظريتان يمكن الاستناد إليهما: أولاهما لدحض الادعاءات الإسرائيلية التي تروَّج في خطتها الحكومية والتي أساسها تحسين الأوضاع الاقتصادية في شرق القدس، ويتحقق هذا الفهم من خلال عرض مقاربة الاستعمار الاستيطاني بإسقاطها على بند التسوية بوجه خاص؛ وثانيتهما أن بناء فهم صحيح للممارسات الاقتصادية التي تمارسها إسرائيل يتحقق من خلال طرح مقاربة الاستقرار بالهيمنة وإسقاطها على الخطة الاقتصادية بوجه عام.

ثالثًا: تسوية الأراضي بين المنظورين
الاقتصادي والاستعماري

لتسوية الأراضي فوائد جمّة على المستوى الاقتصادي للدولة بوجه عام، وعلى الأفراد بوجه خاص. لذلك، بدايةً، إن فهم فكرة تسوية الأراضي يستلزم عرضًا بسيطًا لمفهومها ومن ثم ميزاتها، فهي مشروع اقتصادي، وتمثل إحدى وظائف الدولة التي تعمل على ترسيم حدود قطع الأراضي، وتحديد الملكيات. ويكون هذا الترسيم والتحديد نهائيًا، أي أنه لا يقبل الطعن به. وفي إثر هذا الإجراء، يتم استصدار شهادات طابو[12]. تُعَدّ عملية تسوية الأراضي إجراءً مهمًا في التنمية الاقتصادية، فهي تساهم في توسيع سوق الأراضي من خلال تقليل الأخطار المتعلقة بتحديد الملكية، وهذا يؤدي إلى تحسين كفاءة السوق وزيادة العائد على البيع، إضافة إلى أهمية التسوية في تحسين الوصول إلى الائتمان. كذلك، توسع عملية التسوية القاعدة الضريبية وتزيد الإيرادات العامة، بحيث توفر التسوية قاعدة بيانات لملّاك الأراضي، وخصائصها وما تحويه من أبنية، وفي حال رفع عملية التسوية قيمة الأراضي، فإن هذا سيؤدي إلى رفع قيمة الإيرادات الضريبية للأراضي المسجلة. وتعَدّ التسوية كذلك سببًا أساسيًا للوصول إلى التنمية الاقتصادية والحدّ من الفقر، لأنها تتعلق بأمن ملكية الأرض، وأمن ملكية الأرض يعني ضمان حيازتها، وهذا يعزز الاستثمار، ويزيد الدخل، ويقلل البطالة[13].

إن ضمان حقوق الملكية وتسجيل الأراضي حجر الأساس في الاقتصاد، فهو من جهة يمنح الثقة للأفراد والمؤسسات للاستثمار، إضافة إلى أنه يرفع من قيمة الأرض. وفقًا لتقديرات البنك الدولي فإن سعر الأرض يرتفع بنحو الضعف. كذلك تسمح التسوية بالاقتراض (استخدام الأرض كضمان)، وتمكّن الحكومة من تحصيل الضرائب العقارية. أضف إلى ذلك، أن وجود نظام فعّال لتسجيل الأراضي يعني وجود أساس للتنمية المستدامة والنمو الاقتصادي، وأن القضاء على الفقر وتعزيز الرخاء يتأتى بتحقيق تقدم حقيقي وفعّال في حقوق الأرض والملكية[14].

تجدر الإشارة هنا إلى أن الحصول على الرهن العقاري مشروط بهذا الإجراء، وأن غياب تسجيل الملكيات يصعّب إمكان الحصول على الرهن العقاري، وما لا شك فيه أن تطوير خطط حكومية لتسجيل الحقوق في سجل الأراضي هو أمر ضروري ومهم سيزيد من قدرة المقترضين على تقديم العقارات كضمان[15].

يصطدم مشروع التسوية الاقتصادي الأصل بمنطق الاستعمار الاستيطاني الذي يستهدف الأرض، فيتماهى فيه. ولما كان منطق الأخير قائمًا على أساس إزالة السكان الأصليين وإقصائهم بوصفهم عقبة أمام تحقيقه، ولمّا لم يستطع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إبادة الأصلانيين، وكان من المستحيل استيعابهم أو دمجهم ضمن مجتمع المستعمرين لأن الأخير قائم بناء على الدين[16]، كان لا بد من تعدد وتنوع الأساليب التي يمكن اللجوء إليها من أجل سلب أراضي الفلسطينيين، ولعل مجال تسوية الأراضي وتسجيلها في القدس الشرقية، الوارد في البند السادس من الخطة، هو أحد الأساليب المغلفة بجماليات تحسين الأوضاع الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة:

«يجب جلب اليهود إلى شرقي القدس بأي ثمن. يجب إسكان أعداد غفيرة من اليهود خلال وقت قصير. سيقبل اليهود السكن في شرقي القدس حتى في أكواخ. يجب عدم الانتظار لبناء أحياء منظمة. المهم أن يكون هناك يهود»[17].

إن الخطة الاقتصادية التي تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تتبني طموحات وآمال سكان شرق القدس، وتجلب معها الدواء لداء الوضع الاقتصادي المتدني، إذ أيقنت الحكومة موطن الضعف الذي يمكنها أن تستغله من أجل أهداف سياسية مرتبطة أصلًا بالمشروع الاستعماري الاستيطاني، وتحقيق ذلك كان من خلال إدراج بند تسوية الأراضي، الذي سيعدّ أداة اقتصادية توظف أدوات قانونية للمضيّ قدمًا في الاستعمار الاستيطاني.

يعبّر عن الاستعمار الاستيطاني بأنه بنية وليس حدثًا، وتتمحور فكرته حول عدة محاور أبرزها العلاقة الإقصائية مع السكان الأصليين، فهدفه يتمحور حول فكرة «منطق الإزالة – إزالة السكان الأصليين»، ويرى الاستعمار الاستيطاني في وجود الشعب الأصلاني عائقًا لتطور مشروع الاستيطان، وعليه، يتوضح إذًا المنطق الذي يحكم الاستعمار الاستيطاني، فالهدف هو الأرض، وبوجود الشعب الأصلاني لن يتم الحصول على الأرض إلا من خلال الإقصاء[18]. ولعل أبرز ما يمكن إضافته في معرض الحديث عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، هو أن أيديولوجيا النقاء اليهودي تساهم في استحالة دمج ما تبقى من السكان الأصليين، ولعل هذه الأيديولوجيا تم تعزيزها أكثر بعد أن قامت إسرائيل بسن قانون القومية، بحيث عرَّفت عن نفسها بأنها دولة يهودية – دولة اليهود فقط، وفي تأكيدها أنها هي دولة اليهود فقط، فوّقت اليهودي على غيره، وهذا يعبّر عن هدف الاستعمار الاستيطاني المتمثل بإقصاء الشعب الأصلاني[19]. وفي تحقيقها ذلك، تنتهج إسرائيل الكثير من الأدوات التي تستهدف الوجود الفلسطيني، وهي تنظر إلى السكان الأصليين دائمًا، كما عبّر وولف في حديثه عن اقتصاد الاستعمار الاستيطاني، كالفائض الذي لا لزوم له[20].

تتطلب أعمدة الخطاب الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي التفوق العرقي والتفوق على الآخر، والإحلال والتوسع الجغرافي في الحيز المكاني، مع نفي وجود الآخر وإنكار حضارته في هذا المكان[21].  ولعل هذا ما يجعل إسرائيل في حالة إنتاج مستمرة لأدوات تحقق بها المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبناء على ذلك، تكون عملية التسوية عملية سياسية أكثر من كونها عملية اقتصادية في هذه الحالة.

ستؤول تسوية الحقوق في شرق القدس إلى مصادرات واسعة لأراضي الفلسطينيين، وهو تغيير لسياسة التجميد التي ظلت عليها القدس منذ عام 1967، ونظرًا إلى أن إجراء التسوية، إضافة إلى كونه مشروعًا اقتصاديًا، هو إجراء سيادي هدفه تثبيت الحقوق بنحو قطعي ونهائي. وبما أن شرق القدس تعَدّ منطقة محتلة وفقًا للقانون الدولي، فإن إسرائيل وفقًا للشرعة الدولية لحقوق الإنسان وقت الحرب ليست لها صلاحية تغيير الأوضاع القانونية القائمة، وعليه من ضمن ذلك لا يحق لإسرائيل أن تقوم بتسوية الحقوق في شرق القدس[22].

كذلك، إن تسوية الحقوق ليست بالأمر السهل تطبيقه، وبخاصة في شرق القدس التي مضى على احتلالها 54 عامًا، إذ تتطلب عملية التسوية الحصول على أوراق ووثائق من الأردن أو تركيا، الأمر الذي يتطلب جهودًا كبيرة وحثيثة نتيجة المدة الزمنية التي مرّت منذ تجميد التسوية في القدس وحتى عام 2018. وما لا شك فيه أن المضيّ قدمًا بإجراءات التسوية سيكون له عواقب وتبعات وخيمة وتمس بأملاك الفلسطينيين. وتفيد الإشارة إلى قسم من المالكين لحقوق الأراضي من اللاجئين الفلسطينيين عقب حرب 1967 يقطنون خارج فلسطين، وهناك قسم آخر متمثل بمالكي حقوق الأراضي من الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين لا يستطيعون الادعاء أو الدفاع عن حقوقهم في الملكية، وبالتالي فإن عدم المشاركة في هذا الإجراء من شأنه المساس بحقوق الملكية[23].

يخدم إجراء التسوية المصالح السياسية لإسرائيل، وبالتحديد يصب جلّه في استمرارية المشروع الاستعماري الاستيطاني. فوفقًا لأنظمة سلطة تسجيل وتسوية حقوق الأراضي، فإن المادة 1.5.74 تنص على الأوراق التي يجب إرفاقها للتسجيل الأولي، ومن هذه المرفقات «موافقة حارس أملاك الغائبين عند الحاجة»[24]. ولعل هذه الإشارة بصورة فضفاضة تتيح إمكان استعمالها وفقًا لما تراه ملائمًا، وهو ما يتم إعماله في تسجيل الأراضي في شرق القدس. وما لا شك فيه أن حارس أملاك الغائبين من أبرز الأدوات القانونية التي يتم فيها نقل العقارات إلى المستوطنين، ولعل ما حدث في عام 1992 وإنشاء لجنة كلوغمان للتحقيق في إثر إقدام وزير الإسكان على عملية نقل عقارات في شرق القدس إلى المستوطنين من خلال تعاون جهات رسمية[25].

عند البدء في التسوية، فإن ادعاءات سكان شرق القدس بملكية الأراضي لن تفلح بوجود قانون حارس أملاك الغائبين الذي يستسهل وضع يده على أملاك الفلسطينيين بحجة أن صاحب العقار أو الأرض أو أحد الورثة كان غائبًا. ولعل ما يجب الإشارة إليه هو أن حارس أملاك الغائبين كان يضع يده على العقار بمجرد أن خرج الشخص من المنزل، لذلك، فإن التعويل على إمكان أن تتم عملية التسوية بنجاح ومن دون مصادرات، هو مجازفة. أضف إلى ذلك، أن هناك أملاكًا في شرق القدس لمواطنين من الضفة الغربية، الذين يسري على أملاكهم بطبيعة الحال قانون أملاك الغائبين[26].

إضافة إلى قانون حارس أملاك الغائبين، هناك قوانين أخرى تهدد مصير أملاك سكان شرق القدس، فإذا لم يقم السكان بالتسوية خوفًا من سيطرة حارس أملاك الغائبين على أملاكهم، فقد يأتي قانون الشؤون القانونية والإدارية عام 1970، الذي يتيح لليهود الذين كانت لهم أملاك في شرق القدس قبل عام 1948 أن يطالبوا بها، كما حدث في الآونة الأخيرة في حي الشيخ جراح وسلوان. وهكذا، بين مطرقة قانون حارس أملاك الغائبين وسندان قانون الشؤون الإدارية والقانونية، يفقد المقدسيون أملاكهم وتتدهور أحوالهم الاقتصادية تباعًا، ويتوسع الاستيطان بصورة حتمية.

وعليه، فإن إسرائيل بإدراجها مجال تسوية الأراضي في شرق القدس في خطة اقتصادية واضحة الأهداف والمعالم، وضمن بنود أخرى ستعمل على تعزيزها خلال خمس سنوات، كالتعليم والصحة والتوظيف وغيرها، التي هي أدوات لتعزيز وتحسين الاقتصاد، تقدم طرحًا يفيد بجمالية الخطة وإيجابيتها، وبخاصة في ظل تأكيدها زيادة الدخل وتحسين الوضع الاقتصادي. ولكن قصر النظر على هذه الأهداف الاقتصادية وعدم ربطها بالواقع السياسي والقانوني سيؤدي إلى توسع المشروع الاستعماري الاستيطاني وابتلاعه أراضي الفلسطينيين في القدس بصورة قانونية وبغلاف اقتصادي.

إضافة إلى أهمية إقصاء المقدسي لضمان المشروع الاستعماري الاستيطاني، فإن واقع الحال في القدس أصبح قائمًا على لجوء الحكومة إلى نمط استيعاب المقدسيين، أي أن يقبل المقدسيون المنظومة السياسية والأيديولوجية، مع ضرورة التأكيد أن «الاستيعاب» لا يكون على أساس المساواة، فصحيح أن نمط الإقصاء هو جلّ ما تصبو إليه إسرائيل، إلا أن الواقع صار يفرض نمط تعامل مختلفًا مع الاحتفاظ بنمط الإقصاء حاضرًا إن أمكن تطبيقه. إن إسرائيل تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع الفلسطينيين في القدس، والحل الأمثل إن لم ينجح الإقصاء، هو الاستيعاب، ولكن هذا الاستيعاب يكون وفقًا لما تقرره الدولة، والذي بطبيعة الحال يكون المقدسي متموضعًا في القاع. لذلك، كانت الحاجة الملحة تفرض أن تحافظ إسرائيل على استقرارها من خلال تعزيز هيمنتها وسيادتها على شرق القدس.

رابعًا: الخطة الحكومية من منظور الاستقرار المهيمن

يمكن القول إن الخطة الاقتصادية والاجتماعية تعمل على إنتاج نظرية الاستقرار بالهيمنة، إذ يتضح أن الاطلاع على بند التسوية على نحو منفرد وبمعزل عن الخطة الاقتصادية التي جاء في إطارها، يقود إلى مقاربة الاستعمار الاستيطاني، وبالنظر إلى الإطار العام للخطة ككل، فإنه يوحي بمقاربة نظرية أخرى يمكن الاستناد إليها لتفسير الواقع المدروس. تتمثل هذه النظرية بنظرية الاستقرار بالهيمنة [27](Hegemonic Stability Theory)، وهي كما سيتوضح لاحقًا نظرية في الاقتصاد الدولي، منبثقة من القومية الاقتصادية، وهي بشكلها الجديد تعَدّ تنكرًا بواجهة اقتصادية لحماية مصالح قومية، تقوم بالأساس على فكرة أن تكون هناك قوة سياسية مهيمنة على حساب الآخرين، وأن هذه الهيمنة ستحقق، إضافة إلى الاستقرار، المصالح القومية للدولة المهيمنة.

كان التعرض لبند التسوية بوصفه جزءًا من الخطة الحكومية ضروريًا للإشارة – ليس فقط إلى ما ستؤول إليه تسوية الأراضي من مصادرات وتوسعة للمشروع الاستيطاني، وإنما النظر أيضًا - إلى التسوية بوصفها إجراءً سياديًا تمارسه الدولة لإحكام قبضتها على الحيز المكاني. لذلك، لم تكن نظرية الاستعمار الاستيطاني كافية لتكون إطارًا شاملًا لفهم الواقع الذي تفرضه الخطة الحكومية. السبب وراء ذلك أن الخطة الحكومية تناولت مجالات مختلفة كالتعليم، والعمل، والأنشطة اللامنهجية، وغيرها من المجالات التي يساهم تحسينها في تحسين الاقتصاد، ولا تنم عن أي مظاهر استيطانية أخرى، ولكنها تنم عن نيات لإحكام السيادة والسيطرة من أجل تحقيق الاستقرار في هذه المرحلة. ولمّا كانت الخطة في الأساس تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، فإن النظرية الأقرب والأكثر ملاءمة لتطبيقها هي نظرية الاستقرار بالهمينة، التي بإسقاطها على الواقع في شرق القدس، يتراءى مباشرة سعي إسرائيل الحثيث والحالي لتحقيق استقرارها بالهيمنة. هذا لا يعني أن إسرائيل تتخلى عن مشروعها الاستعماري الاستيطاني، لأن الاستيطان هو العقيدة فيها، فالحقيقة أن إسرائيل تحتفظ بعقيدتها الاستعمارية الاستيطانية في كل ممارساتها وسياساتها، ولكنها تبطنّها في بعض الأحيان حتى تحقق أهدافها الأخرى (كالهيمنة وإحكام السيطرة على السكان الأصليين) وصولًا إلى الهدف الأسمى المتمثل بالاستيطان، الذي يتحقق بذاته ومباشرة، أو كنتيجة لسياسات الهيمنة والسيطرة.

مذ احتلت إسرائيل القدس وضمّتها عام 1967، ومن ثم أدمجتها فيها بالقانون عام 1980، عملت على فصل شرق القدس عن باقي المدن الأخرى، ومارست سياسات غيرت المدينة ديمغرافيًا وماديًا، كتوسيع المستوطنات وبناء جدار الفصل، إضافة إلى صعوبات جمّة ساهمت في عرقلة تنمية الاقتصاد في القدس، كتزايد الإفقار، وهدم المنازل، وغيرها. من هنا، فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القدس هي في تدهور مستمر في ظل المشروع الاستعماري الاستيطاني الآخذ في التوسع باستمرار، وهو ما أنتج بتضافره مع عوامل أخرى بيئة اقتصادية فقيرة نسبيًا[28]. ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أنه رغم كل هذه الظروف الصعبة التي تنغِّص الحياة على سكان شرق القدس، إلا أنهم لم يبرحوها. ولعل هذا الوجود، الذي يمثل عائقًا أمام المشروع الاستعماري الاستيطاني، دفع إسرائيل إلى إقرار خطة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل تحقيق أهدافها بطرائق غير مباشرة؛ فإسرائيل التي عملت على تهميش وإضعاف الاقتصاد في شرق القدس، وتتعمد في كل سياساتها وممارستها تنغيص حياة السكان في القدس، تأتي الآن محملة بخطة تزعم أنها ستحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

وهكذا، تشبه الخطة الحكومية ورقة التين التي استعملتها السلطة لتستر أفاعيلها الخشنة، وهذا ما يدعوه أنطونيو غرامشي بالسيادة الممنوحة للسلطة الحاكمة[29].

إن عرض الخطة الحكومية بصورة كلية يقودنا إلى القول بإمكان إسقاط نظرية الاستقرار بالهيمنة على شرق القدس، إذ تعَدّ هذه النظرية من الأشكال الجديدة الخفية للقومية الاقتصادية. وبالأصل، فإن هذه النظرية تطبق بصورة دولية لتعبّر عن سلوكيات الدول الاقتصادية العالمية. يقوم المحور الأساسي لهذه النظرية على أساس أن توزيع القوة بين الدول هو الذي يحدد طبيعة النظام الاقتصادي فيها، أي أنه بامتلاك الدولة قوة سياسية مهيمنة على حساب الآخرين، فإن ذلك يؤسس نظامًا اقتصاديًا مستقرًا ومفتوحًا، وأنه بسبب طبيعة العلاقة التنافسية بين الدول، فإن وجود قوة مهيمنة تمتلك الموارد الاقتصادية، سيمكنها من وضع معايير للنظام الاقتصادي لضمان إذعان الدول الأخرى وقبولها بالوضع القائم، وبناء على ذلك، فإن هذه النظرية ترسّخ فكرة خضوع وإذعان الاقتصاد للسياسة، وأن الغلبة هي للمصالح القومية على حساب التنافسية في الاقتصاد العالمي[30].

سياسة «العصا والجزرة» هي أفضل تعبير عن ممارسة الدولة في إطار نظرية الاستقرار بالهيمنة، إذ تعبّر عن سلوك إغرائي وتعاوني يهدف إلى رعاية النظام الاقتصادي الدولي، وتقديم امتيازات ومساعدات اقتصادية إلى الدول وصولًا إلى إمكان فرض عقوبات اقتصادية إن لزم الأمر، من أجل أن تُذعن وتقبل الوضع القائم، وينجم عن هذا أن تستفيد الدولة المهيمنة اقتصاديًا ومن دون المساس بأمنها القومي واستقرارها[31]. إن خشية الدول قوةَ الدولة المهيمنة هو السبب الرئيسي الذي يدفع هذه الدول إلى قبول هيمنتها، لأن الدولة المهيمنة تتحدد بوجود عدة ملامح منها مشاركة الأفكار والأيديولوجيا مع الدول الأخرى، وامتلاكها القوة العسكرية، كذلك، فإن إحدى الأفكار الأساسية والكلاسيكية التي تعبّر عن فكرة الدولة المهيمنة هي أن التفوق الاقتصادي والسيطرة على الموارد، والتفوق العسكري، والإرادة أي القصدية في ممارسة الهيمنة لفرض الانضباط، وأن توافر هذه الملامح يقود إلى وجود دولة مهيمنة تعمل وفقًا لمصالحها الاقتصادية والأيديولوجية، وأن إنشاء وبناء أي نظام اقتصادي سيصب في مصالحها ويحميها[32].

بالاطلاع على واقع الحال في شرق القدس، نجد أن إسرائيل تسعى لإحكام سيطرتها على المكان والسكان، لأنها بتحقيقها ذلك، تساهم في حماية استقرارها وتعزز سيادتها، والسبيل إلى ذلك الخطة الاقتصادية بوجه عام، وبند تسوية الأراضي بوجه خاص، ولعل ما قالته وزيرة العدل إيليت شاكيد عقب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس يقدم الفكرة بصورة أوضح:

«تعززت القدس في اليوم السابق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبعد عقود من تطبيق السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، نقوم بتمكين المدينة. ونحن نطبق السيادة فعليًا من خلال خطة تسوية الأراضي في القدس الشرقية، كما هي موجودة في كل مكان آخر في إسرائيل. وعلاوة على ذلك، فمن المهم أيضًا بالنسبة إلى سكان شرقي القدس: في غياب مثل هذه الخطوة، يمنع أصحاب حقوق الأرض من ممارسة حقهم فيها، بما في ذلك إصدار تصاريح البناء. السيادة وإخلاص السكان سيجتمعان معًا»[33].

بالتالي، إن نظرية الاستقرار بالهيمنة يمكن تطبيقها على الواقع الذي تفرضه إسرائيل على شرق القدس من خلال فكرة الهيمنة في مفهوم الغرامشية الجديدة كأسلوب لتحقيق الاستقرار، الذي يقوم على المزج بين الموافقة والإكراه، فهي لا تقتصر فقط على الإلزام والإجبار، وإنما تحوز أيضًا رضا وموافقة الأطراف، أي أن هذا النوع من الهيمنة ليس مبنيًا على استخدام القوة، وإنما على القيادة الفكرية والأخلاقية التي تحقق الموافقة والرضا، فالهيمنة في هذا السياق هي بنية اجتماعية، اقتصادية، وسياسية، إضافة إلى ذلك، فإن الهيمنة في هذا الإطار لن تتحقق بالقوة المادية لوحدها، بل لا بد من قيادة ثقافية ترافقها، هذه القيادة لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية والعسكرية[34].

تحمل الخطة الحكومية في طياتها إغراءات كثيرة تشعر الفرد المقدسي بأنه من خلال هذه الخطة سيغدو بحال أفضل، ونظرًا إلى الأحوال الاقتصادية السيئة التي يعيشها السكان في شرق القدس، فإن هذه الخطة ستكون بمنزلة الملاذ الأخير للنهوض بأوضاعهم، فيوافقون عليها لأن لا خيار آخر أمامهم، آملين بالغد الأفضل الذي تحمله، وفي المقابل، تحقق إسرائيل استقرارًا من خلال الخطة، لأن الاستقرار عندها مرهون بقدرتها على الهيمنة السيطرة، وما دامت قادرة على السيطرة على الواقع (المكان والسكان في شرق القدس) فإنها ستحقق الاستقرار. ويمكن القول في هذا السياق إن فكرة الاستقرار بالهيمنة هي مؤقتة، وتحقق أهدافًا قصيرة المدى. ووفقًا للظروف المواتية، فإسرائيل في النهاية تحمل مشروعًا استيطانيًا، وهو الثابت الوحيد الذي لا يتغير.

بناءً على ما تقدم ذكره، يمكن القول إن الخطة الحكومية لتقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية هي خطة سيادية وسياسية في جوهرها رغم ملامحها الاقتصادية البارزة. ولعل هذه الخطة تأتي كالإثبات الحقيقي والواقعي لمعنى تحكم السياسة بالاقتصاد وإحاطته من كل جانب حتى يصب في مصالح الدولة السياسية. فإسرائيل من خلال هذه الخطة، تفرض هيمنة وسيطرة على الحيز المكاني وعلى السكان في شرق القدس، وتقوم بذلك من خلال تغلغلها في مختلف المجالات كالتعليم والأنشطة، وتثبت في كل مرة أحقيتها في السيادة على القدس الكاملة والموحدة كعاصمة أبدية لها، ولا تتغافل في خضم هذه المرحلة عن عقيدة الاستيطان، بل هي أدرجت في الخطة أيضًا ما هو في الأصل مشروع اقتصادي (التسوية) وحولته إلى لمشروع سياسي يحقق مصالحها وعقيدتها الاستيطانية.

خاتمة

تبني إسرائيل سياساتها وفقًا لما تقتضيه مصالحها القومية؛ ففي الوقت الذي رأت ضرورة أن تحقق الاستقرار، طرحت الخطة الحكومية 3790 هادفة إلى إحكام قبضتها على شرق القدس وسكانها الفلسطينيين. ولما كانت أيديولوجيا الاستعمار الاستيطاني متأصلة في أهداف إسرائيل، فهي عمدت إلى تحوير أحد أهم المشاريع الاقتصادية «التسوية»، واستخدامه كمشروع سياسي، وكأداة في خدمة الاستيطان.

وعليه، كانت النتائج التالي ذكرها:

إن الخطة الحكومية 3790 الرامية إلى تقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية ستعمّق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية لأنها تقدم حلولًا مؤقتة ولا تقدم حلولًا جذرية لسوء الأوضاع الاقتصادية في القدس.

إن تطبيق بند التسوية الذي نصت عليه الخطة الحكومية سيؤول إلى خسارة المقدسيين أراضيهم وعقاراتهم نتيجة للمنظومة القانونية الإسرائيلية، وهذا سيزيد من نسبة الفقر وسيزيد الأوضاع الاقتصادية سوءًا.

تظهر التسوية بوصفها مشروعًا سياسيًا مغلفًا بغلاف اقتصادي، فهي إضافة إلى كونها تحقق مزايا اقتصادية، فإن استخدامها في السياق الاستعماري الاستيطاني يحولّها إلى أداة سياسية تخدم هذا المشروع.

سترمي الخطة الحكومية في مجملها إلى تعزيز السيادة اليهودية على القدس الشرقية وضمان هيمنتها عليها، الأمر الذي سيحقق الاستقرار في إسرائيل.

كتب ذات صلة:

تهويد القدس: محاولات التهويد والتصدّي لها من واقع النصوص والوثائق والإحصاءات

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي