المؤلف: محمد مساعد

مراجعة: يوسف بن عدي(**)

الناشر: دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 

سنة النشر: 2014

عدد الصفحات: 436

 

في التمهيد:

لا نبالغ إذا ما قلنا إنّ هذا المؤلَّف: بين مثابتين: منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد؛ للمغربي الفقيد محمد مساعد من المؤلفات النادرة التي أنفقت الجهد العقلي والفكري في بيانِ علاقة الظاهرة الغزالية (نسبة إلى أبي حامد الغزالي) بفلسفة ابن رشد لا من خلال الصراع الأيديولوجي والانقطاع الكلي بينهما فحسب، بل أيضاً من طريق القول بفرضية إسهام الغزالي في تشكيل وحدة الفكر الرشدي والانتصار لأرسطو. وبالجملة، فحضور الغزالي في فلسفة ابن رشد هو حضور كلي يضاهي حضور الفارابي وابن باجة. ذلك ما تطمحُ هذه القراءة بيانهُ والوقوف عندهُ.

يحتوي هذا الكتاب على توطئة ومدخل وتقديم وثلاثة فصول متماسكة، وهي كالآتي: الفصل الأول: «الغزالي والحضور الأصولي عند ابن رشد» والفصل الثاني: «الغزالي والحضور الفلسفي عند ابن رشد»، والفصل الثالث والأخير: «الغزالي والحضور السيكو – أيديولوجي عند ابن رشد». إضافة إلى خلاصات وآفاق، ومسرد المصادر والمراجع. عدد صفحات الكتاب 436.

أولاً: عناصر الرؤية وخطوات المنهج: من الشكوك إلى الفرضية

من نافل القول إنَّ هيمنة براديغم الصراع المذهبي والأيديولوجي بين أبي حامد الغزالي وأبي الوليد بن رشد في الفكر الفلسفي العربي هي التي بلورت صورة حجة الاسلام وعلاقته بالشارح الأكبر. تلك الصورة التي بقيتْ محط تبني الكثير من المفكرين والباحثين المحدثين والمعاصرين عربياً وغربياً. وهكذا، كان إيقاع هذه الرؤية إلى دائرتين: دائرة الرشديين ودائرة الغزاليين دون أي تأمل أو مراجعة لنصوص الفيلسوفين (الغزالي وابن رشد الحفيد) والبحث عن نقط الالتقاء والتوافق بينهما!؟

وبهذا الاعتبار، كانت فرضية محمد مساعد هو العمل على العودة لنصوص ومتون الرجلين لكشف مدى أثر الغزالي في فلسفة ابن رشد، بل أكثر من ذلك بناء وحدة الفكر الرشدي وتطوره. يقول الباحث في هذا المعرض: فـ «الموقع الذي يشغله أبو حامد، والأهمية التي يحظى بها في ثنايا الخطاب الفلسفي لابن رشد باعتباره واحداً من العناصر الأساسية المكونة كنسيج هذا الخطاب» (ص 18). ومن ثم، استطاع هذا العمل الفلسفي الجاد أن يقترح على القارئ جملة من الفرضيات الفلسفية والإشكالات التاريخية والنظرية التي سوف تُسهم في قلب الرؤية في تاريخ الفكر الاسلامي من القطيعة والطلاق البائن بين الغزالي وابن رشد إلى قطيعة لا يعوزها الاستمرار.

ينطلقُ الباحث في نصه: «بين مثابتين: منزلة الغزالي في فلسفة ابن رشد» (2014) من مصادرتين (ص 26): الأولى تتعلقُ بحضور الغزالية ومفعولاتها الراسخة في الرشدية. والمصادرة الثانية إنما تتمثل بالإقرار أنّ حضور الغزالي في الفكر الرشدي يمتد من لحظة ميلاد المشروع الرشدي إلى اقترابه من كماله الأخير (ص 26). ويتولد عن هذا أمران مهمان: الأول مفادهُ أن هذا الحضور الغزالي هو متعدد ومتنوع ومتباين من أصولي إلى فلسفي إلى سيكو – أيديولوجي. وأما الأمر الثاني يترجمُ في ضرورة الوعي بمستويات الحضور الغزالي في مراحل تطور الفكر الرشدي (المختصرات إلى الشروح).

وعلى هذا، ففرضية محمد مساعد (رحمه الله) هي فرضية مشروعة. ومشروعيتها العلمية والأكاديمية مستمدة من إعادة قراءته وتأمله نصوص الغزالي وأبي الوليد بن رشد في منأى عن التأثيرات المذهبية والتأويلات الأيديولوجية المعاصرة. فهذا الوعي الفينومينولوجي بأثر الغزالي على وعي ابن رشد هو الذي أسفر عنه قول فلسفي جديد. ذاك القول الذي من مؤشراته رصد منزلة إحالات أبي الوليد على الظاهرة الغزالية بين الفينة والأخرى، ثم الإقرار بأن الغزالي لم يكن في المتن الرشدي بكامله مجرد فيلسوف يتم استظهاره من أجل النقد أو التقويم أو التجاوز كبقية الفلاسفة والشراح: ثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي والفارابي وابن سينا…؛ بل فوق ذلك فقد شكل الخميرة الأولية في بناء القول الفلسفي الرشدي. يقول الباحث لا تنحصرُ علاقة الغزالي بأبي الوليد في إطار: «رباطات ووشائج بقدر ما يتعداه من حدود فاصلة وقطائع» (ص 31). ومن هذا الأمر تحصل لدى الباحث غرضين رفيعين: أولهما، إعادة دمج النصوص الرشدية في مناخها الإسلامي (ص 386)‏(1)، والغرض الثاني يظهر في «دمج نصوص الفاصل الغزالي ضمن تاريخ الفلسفة بمعناه الدقيق ولا سيَّما عندما ننظر إليها في بعدها الميتافيزيقي…» (ص 386).

غني عن البيان، أن هذا القول، بالرغم مما فيه من الجدة الإشكالية والمنهجية، فهو بعيدٌ كلَّ البعد عن الادعاء القول بالحقيقة المطلقة وامتلاك المعنى. يقول الرجل: «فنحن لا نزعم اكتشاف الحقيقة، إذ كل همنا إتاحة الفرصة لاشتغال بعض الفرضيات بهدف التمرس على أقل تقدير على ممارسة العمل الفلسفي» (ص 395). وهذا ما نسجلهُ بالفعل حينما نقف عند عناصر الرؤية المنهجية التي يستثمرها في قراءتِه فلسفتي الغزالي وأبي الوليد وتاريخ الفلسفة عامة. فـ «استجماع العناصر التامة أو شبه التامة والدقيقة أو التقريبية لإنجاز أية قراءة ممكنة ولإقامة إمكانية الولوج إلى عوالم فلاسفة الاسلام ومحاولة التكييف مع مناخات عوالمهم تلك والاستئناس بها حتى التشرب بها والتشبع إلى أقصى الحدود الممكنة»
(ص 33)(2). ثم يردف أيضاً بأننا كيِ نفهم الحضور الغزالي في فلسفة ابن رشد يستلزمُ: «محاولة تأويل المعطى المباشر لتصريحات أبي الوليد أولاً وإعلانات أبي حامد ثانياً، كما سوف لا يتردد في مغامرة استنطاق بعض مواطن الصمت لدى الرجلين عموماً ولدى فيلسوف قرطبة بوجه خاص» (ص 33).

ويستفاد من جميع ما تقدم، أن خطوات المنهج وعناصر الرؤية تتجهُ نحو بيان عملية تشكل الفلسفة الرشدية من طريق البحث في المكوّن الغزالي فيها دون غيرها(3)، دوره الهائل في بناء النسق الفلسفي الرشدي عبر حضوره وتفاعله و«استقراره أو تهاويه» (ص 34).

ثانياً: من حجية الغزالي الأصولية إلى حضوره الفلسفي

من المعلومِ، أنَّ الحضور الأصولي الغزالي في فلسفة ابن رشد واضح المعالم؛ والشاهد على هذا تحرير فيلسوف قرطبة ومراكش اختصار المستصفى للغزالي. بيد أن المُشتكل في هذا الكتاب، المومأ إليه أعلاه، هو قياس مدى تأثير هذا «المختصر» وبداية المجتهد في توجيه أفكار ابن رشد ومشروعه (ص 46)‏(4). من ثمة، يتردد المغربي محمد مساعد في لفت انتباه القراء والباحثين، لجملة من الإحالات والمعطيات المفيدة على المدونة الأصولية الرشدية التي تشير إليها الفهارس القديمة والحديثة. والمفيد في هذا المعرض هو تقرير الباحث أنَّ: كـلاً من «مختصر المستصفى» و«بداية المجتهد» ينتمي «إلى مرحلتين متباينتين من مراحل تشكل الفكر الرشدي. فالأول يندرج ضمن سياق مشروع المختصرات، بينما يتوزع الثاني بين مرحلتي التلاخيص والشروح…» (ص 47).

وبالحصيلة، فأثرُ الغزالي في ابن رشد من خلال المختصر يظهرُ في اختيار هذا الأخير للكتاب دون غيره لامتيازه بجنس «النظر» رغم أنه قد لا يرقى إلى أن يكون صناعياً (ص 59)، هذا من جهة أولى. أما من جهة ثانية، فهو أنّ «مختصر المستصفى» قد أتاح لأبي الوليد بن رشد فرصة الاطلاع على «الكافي» و«الضروري» في أصول الفقه، فضـلاً عن ذلك عدم خوض الغزالي في المستصفى في قضايا اللغة والكلام إلا لماماً (ص 61)‏(5). وبالتالي، التحليق، على حد قول مساعد، في فضاء المذاهب والفرق‏(6). وبهذا، يكون ابن رشد قد أقرّ أيَّما إقرار، ودون مراوغة بحجية الغزالي الأصولية. وبالضد من ذلك، عدم حجيته المنطقية واستيفائه مبادئ الأرسطية «الحقيقية». ذلك هو السبب الذي دفعه إلى عدم اعتراف ابن رشد الحفيد بحجية الغزالي المنطقية (ص 128)؛ وإقدامه على تلخيص المقدمة المنطقية لكتاب المستصفى. وفوق ذلك، أنّ العمل المنطقي للغزالي لم يكن «سوى تلخيص لأعمال ابن سينا المنطقية مما يبعدهُ عن الأرسطية ويفقدهُ من ثم عند ابن رشد أو نقول يبعده عن التقليد الفارابي السائد في بلاد الأندلس على صعيد المنطق يومئذ» (ص 135)، لكن، موقف محمد مساعد من أبي الوليد إزاء الغزالي هو موقف يظل «… بدون تبرير واضح ولا مقنع» (ص 139)‏(7).

لعل قيمة حضور الغزالي الفلسفي في المشروع الرشدي لها أهمية هائلة؛ والدليل أنَّ ما هو فلسفي (الطبيعيات والميتافيزيقا) يُبرز بقوة مدى إسهام حجة الإسلام في توجيه الفكر الرشدي نحو الانتصار للأرسطية، «لكن ليس في الجوامع دون المختصرات وإنما فيهما معاً» (ص 157)(8). فالمتأمل لمختصرات ابن رشد ما بعد الطبيعة يخلصُ إلى أنَّ نقد ابن رشد لابن سينا هو مؤشر قويّ على حضور الغزالي الفلسفي؛ «أي من خلال تنبيه ابن رشد على ضرورة نقد ابن سينا وتجاوزه» (ص 165). بل الأكثر من ذلك، صار ذلك «الانزياح السينوي عن الأرسطية نحو الفيضية والأفلاطونية هو الذي سيجعل ابن رشد يرد انتقادات الغزالي على أرسطو باعتبارها تلزم الشيخ الرئيس لا المعلم الأول…» (ص 172).

وبيان ذلك أيضاً، أنَّ حضور الغزالي الفلسفي عند أبي الوليد هو حضور كلي، بحيث لا يتعلق بمسألة دون غيرها بقدر ما يتعلق بـ«التوجيه الفلسفي الرشدي من خلال الدفع به نحو الأرسطية» (ص 176 – 177). أما في المختصرات الطبيعية فقد كان حضور الغزالي في فلسفة ابن رشد يسير في «سياق دلالي واستدلالي واحد هو الأفق المشائي الأرسطي» (ص 190)، بالرغم من انتقادات أبي الوليد بن رشد لبعض «هنّات» الغزالي من قبيل: «دمج كتابَي «الكون والفساد» و«الأثار العلوية» في مقالة واحدة هي المقالة الثالثة من طبيعيات «المقاصد» ومثل دمج كتابي «الحيوان» و«النفس»، بل والحس والمحسوس في مقالة واحدة أيضاً…» (ص 201 – 202). ثم، أنَّ نص «المقاصد» للغزالي لا يخرج هو أيضاً عن فضاء المختصرات والتحليق وراء الانتصار للأرسطية مما يؤدي بصورة واضحة على الغزالي كموجه دقيق لدعائم الفكر الرشدي. يقول الباحث في هذا السياق: «إننا نتحدث عن المحدودية ها هنا فيما يحظى نظرة ابن رشد لأبي حامد وموقفه منه على مختلف كتاباته. فالمحدودية في هذا السياق، معناها أن أبا الوليد يقصر نظره في المختصرات الطبيعية على مقاصد الفلاسفة دون سواه من تصانيف حجة الإسلام…» (ص 192). حتى صار الغزالي هو الفاصل بين الأرسطية والسينوية «بوجه خاص وبينها وبين المعلم الأول وثامسطيوس وغيره من المعترضين عليه أو الذين يسيئون فهمه بوجه عام» (ص 217).

وبكلمة، نقول إنَّ حضور الفلسفي الغزالي في ما بعد الطبيعة والطبيعة هو حضور كلي ومعنى هذا «أنه يمارس مفعوله على النسق الرشدي بكامله لا على قطاعاته دون الآخر أو على إشكال جزئي دون سواه» (ص 219).

وبالضد من ذلك، وبين ظُفرين، نجد حضور الفارابي وابن باجة أقل حضوراً من ابن سينا والغزالي في تشكيل القول الرشدي بكامله، ذلك الفرق بين الحضور الكلي (الغزالي) والحضور الجزئي (الفارابي وابن باجة). فالمعلم الثاني قد حضر في أعمال ابن رشد من جهة المنطقيات بالدرجة الأولى في المختصرات والتلاخيص، دون مرحلة الشروح التي سوف يذهب ابن رشد غير مذهب الفارابي في معظمه، إن لم نقلْ في كلّ المواضع (ص 242). يقول محمد مساعد: «الحضور الفارابي عند أبي الوليد هو حضور قطائعي، بقدر ما هو منطقي أو قطاعي» (ص 244).

أما حضور فيلسوف سرقسطة ابن باجة فقد غلب حضوره في فلسفة ابن رشد الحفيد على الجوانب الطبيعية أكثر من المنطقيات، بالرغم من وجود تنبيهات ابن رشد على مغالطات ابن باجة في بعض المواضع. والمتأتى من ذلك أنَّ: «الموقف الرشدي من منطق ابن باجة وبحسب المعطيات المباشرة الراهنة تسير في اتجاه تأكيد القول بجزئية الحضور الباجي ولاستمراريته لدى ابن رشد بالرغم من حضوره على امتداد الكتابات المنطقية لأبي الوليد وعبر مراحل طور تلك الكتابات» (ص 252 – 253). وبهذا الاعتبار، وعلى وجه الإجمال، كان حضور الفارابي وابن باجة في فكر ابن رشد، وفق وجهة نظر الباحث، هو حضور جزئي أو قطائعي.

ثالثاً: استراتيجية التوافقي: في أثر الغزالي السيكو – أيديولوجي في أبي الوليد

من الواضح، أن فرضية محمد مساعد قد أضحتْ شيئاً فشيئاً، في معرض هذا الكتاب، مبرهنة تستند إلى مستندات نظرية وفلسفية مستخلصة من شواهد ومظان النصوص المتعلقة فلسفتي الغزالي وأبي الوليد. وحتى يأخذ هذه الفرضية مبررها الكامل شرع الباحث في رصد البعد الأيديولوجي أو قلْ الحضور السيكو – أيديولوجي للغزالي في مشروع ابن رشد الحفيد. وذلك من خلال المؤلفات الموضوعة: فصل المقال والكشف وتهافت التهافت.

قد يعترض معترض، بناءً على الصورة التي رسمتها بعض الدراسات العربية الحديثة والمعاصرة بأنّ هذه النصوص «الجدلية» هي لحظة القطيعة ما بين أبي الوليد بن رشد وحجة الاسلام أبو حامد الغزالي. لكن، الباحث محمد مساعد استطاع أيّما استطاعة في كشف مفعول أثر الغزالي وتوجيه ابن رشد في هذه المؤلفات ذات الطابع الكلامي – الفقهي والفلسفي.

وهكذا، قبل ابن رشد الغزالي في «فصل المقال» على أساس أنه من الخاصة وأهل العلم لا من العامة (ص 293)، ولا سيما أنَّ أبا حامد «نادراً ما كان يخاطب الجمهور» (ص 298)، هذا من جهة، وأما من جهة ثانية، قد أتاح «الفصل» لأبي الوليد فرصة الانتقال من محاورة الغزالي إلى محاورة الفقهاء وعلماء الكلام باعتبارهم يشكلون الخلفية التي يستند إليها حجة الاسلام، وهذا ما دفع الباحث مساعد للإقرار بأن تأثير الغزالي في ابن رشد من خلال «الفصل» جليٌّ وواضحٌ في الأبعاد الثلاثية: الحضور الفلسفي والميتافيزيقي وسيكو – أيديولوجي (ص 309 – 310).

والحق، أنّ «الكشف» لم ينأ عن استراتيجية «الفصل» في استدعاء الغزالي. ذلك الاستدعاء الذي لم يكن محط هدنة أو تحاشي الانبهار الهائل بالغزالي في الغرب الاسلامي، بل صار حجة الاسلام مدعاة للسفسطة والتشغيب والجناية على الفلسفة لكونه «طمّ الوادي على القرى». وفوق ذلك، تبلور النقد الرشدي بشدة حينما وضع الأشعرية على محك التشريح والتقويم، وهو نقد صريح لأبي حامد الغزالي، بل قلْ للظاهرة الغزالية بالذات. يقول مساعد في هذا المعرض: «لم يكن علم الكلام مقصوداً لديه، بل هو يحصر ضمن اهتماماته إلا بقدر ما يتيح له إمكانية فهم الغزالية والقدرة على مواجهتها، ومن ثم تقديرها بما يستلزم من عناية وجدية وحزم» (ص 326). وهذا ما سوف يتحققُ مع «تهافت التهافت» حيث يرنو ابن رشد الحفيد تصفية الحساب مع الظاهرة الغزالية ولا سيّما أنَّ تهافت الفلاسفة يريد «نصرة مذهب الأشعرية» (ص 256 – 257).

نسجل مع الباحث محمد مساعد أنّ هذا النقد الرشدي المذهبي والأيديولوجي لبعض دعاوى الغزالي ومزاعمه لم يمنع على وجه الإطلاق من تشخيص أثر الغزالي ومفعولاته على المشروع الرشدي. والشاهد على ذلك، نص «تهافت الفلاسفة» الذي أسهم في توجيه ابن رشد نحو البحث عن أرسطو الحقيقي. يقول محمد مساعد في هذا السياق: «[…] لا يمكن إغفال مساهمة أبي حامد في الدفعِ بابن رشد نحو الأخذ بها في هذا الموضع أو ذاك بالقدر الذي ينحو له نحو الانحياز لأرسطو» (ص 370)(9)‏. ولعل الوقوف عند مسائل «تهافت التهافت» المنطقية والطبيعية والإلهية والميتافيزيقية ودلائلها المُقدمة من قبل الغزالي والمقوّمة من قبل ابن رشد لا تخلو من أثرها وانعكاسها ولا سيّما أن أبا الوليد يتفق مع الغزالي في انتقاداته ابن سينا في كثير من المواضع، ويختلف معه في أن هذه الانتقادات لا تهم المعلم الأول: أرسطو.

من هنا، يتجلى لنا أنَّ حضور الغزالي في المؤلفات الموضوعة (الفصل، الكشف وتهاتف التهافت) متعدد الأوجه والمظاهر؛ وأبرزها وأشدها هو الحضور السيكو – أيديولوجي المتطلع والطامح إلى تصفية الحساب مع الظاهرة الغزالية وآخر فصول المواجهة مع الأشعرية (ص 383). بيد أن الأساس هو أنّ حضور الغزالي قد صار باعتباره أحد «الدعامات الكبرى لتأسيس القول بوحدة هذا الفكر وذلك المتن» (ص 387).

لا يسعنا في ختام هذه القراءة الخاطفة إلا استظهار أمرين مهمين، في اعتقادي، فأما الأمر الأول: ضرورة اعادة النظر في نصوص الفيلسوفين الغزالي وابن رشد وقراءتها قراءات علمية وأكاديمية والتخفيف من الصراع الأيديولوجي الذي ربما قد يُضيّع على القراء والباحثين فرصة النظر الفلسفي الجدلي والبرهاني والسفسطائي والخطبي أيضاً؛ إذ لولا دراية الباحث بهذه المنظورات والأقيسة لما استطاع معرفة أسباب الغموض، كما يقول ابن رشد، وموضع حله. أما الأمر الثاني: فهو قيمة العمل الفلسفي الذي قدمه الباحث الفقيد محمد مساعد ودفاعه عن أطروحة قد يبدو غريبة وهو أثر الغزالي في توجيه ابن رشد نحو أرسطو والانتصار للأرسطية. إنها عملية معقدة ومتداخلة وصعبة التعقيد والتداخل والصعوبة تكمن في تاريخ الفلسفات والمذاهب؛ فكَمْ من الفلاسفة من يقدم على نقد فيلسوف او شارح أرسطي ومشائي أو أفلاطوني محدث أو… أو… سرعان ما لا ننتبه إلى وجود استراتيجية، مضمرة وخفية، مفعولها قوي وراسخ، تستدرجه، وهو منغمس في عملية الشرح أو التلخيص أو النقد أو التقويم…، ضمن دائرة المنتَقد. إنها بالفعل، عملية الأثر والتأثير والتأثر. ذلك ما دفع الباحث محمد مساعد للوقوف عنده ورصد معالمه وتشخيص عناصره من طريق الفهم ثم التفسير، ومن طريق المكون الغزالي وتعقب مفعوله داخل النسق الفلسفي الرشدي.