توطئة:

اتسم المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري (1936 – 2010) بكونه متسع الضفاف، متعدد المفاهيم، وطيد الأركان، أحاط بقضايا فكرية ومعرفية ومنهجية مختلفة.

المشروع، في أبعاده المختلفة ومقارباته الإبستيمولوجية يؤسس رؤية نقدية عقلانية تروم إخراج المجتمعات العربية والإسلامية من الجمود والتقليد والتخلف الاجتماعي والثقافي والاستبداد السياسي، الذي يكبّل الإرادات ويعطل الفكر الخلّاق، ويحول دون تحديث البنى والذهنيات ويرهن حركة التطور والنهوض والتطلع نحو سبل التقدم، مما يحول دون الانخراط في الفاعلية التاريخية والعمران الحضاري.

إن المشروع النقدي يتوخى صياغة معرفية تاريخية لمحتوى التراث الفكري والكشف عن بنية النظر ومضامينه، والخطاب وتشكلاته وتجلياته، ومدى تأثيره في الأوضاع السائدة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. ويندرج هذا المشروع ضمن رؤية تأصيلية تنطلق لفحص ومساءلة التراث الفكري العربي الإسلامي لافتقاره إلى الرؤية الكلية التي تمنحه القدرة على إدارة المشكلات المعاصرة.

إن الرؤية التأصيلية النقدية تُعتبر عملية مركّبة لفهم معاصر يؤسس للحظة حضارية جديدة يقوم بها الفكر والاجتهاد الخلاق في لحظة إبداع تاريخية. وذلك بفعل النهضة العلمية التي غيَّرت حياة الإنسان تغييراً تاماً، فأصبحت الظواهر الأدبية تفسر وتحلل لاستنباط قوانينها، واستكشاف الصلة بينها.

فالبحث المنظم له قواعده وأصوله، ومناهجه التي بها يقرأ الباحث المنقِّب، النص الذي يريد أن يفهمه ويفسره ويحلله، لكي يستخلص خصائصه البيانية والمعرفية

من هنا أهمية التحليل الإبستيمولوجي في تحديث العقل العربي، وتجديد الفكر العربي الإسلامي، بحيث يتناول الثقافة العربية الإسلامية ككل قصد تحديد أساسياتها المعرفية والمنطقية التي شكلت العقل العربي[1].

أولاً: الرؤية التأصيلية للأطروحة المعرفية

الرؤية التأصيلية عند «الجابري» تصدر عن منهج واحد، ورسم أفقٍ لتلك الرؤية، فهي تقترح تأويلاً يعطي للمقروء «معنى» بالنسبة إلى محيطه الفكري والاجتماعي والسياسي، ويجعل المقروء معاصراً لنفسه على صعيد الإشكالية والمحتوى والمضمون الأيديولوجي. ومعناه بالنسبة إلى محيطه الخاص، أن يكون معاصراً لنا ولكن فقط على صعيد الفهم والمعقولية، فإضافة المعقولية على المقروء من طرف القارئ هو الذي يعطيه معناه ويسمح بتوظيفه من طرف هذا الأخير في دائرة اهتمامه كما يمكن إعادة بنائه[2].

وبالتالي فجدلية الفصل والوصل تعتبر منهجية للقراءة الشارحة، إلا أن المنهج ليس غاية في حد ذاته، بل هو مجرد وسيلة لفهم التراث، بحيث تكون لنا رؤية جديدة وأدوات جديدة للرؤية مع الحرص على جدلية المنهج والموضوع، وجدلية المفهوم والمادة، فالمفهوم عنصر إجرائي نستعيره من حقل معرفي ولا بد من إخضاعه للموضوع لاختبار نجاعته وفائدته، في التفكير والاتصال بالتاريخ، وفهم ما يجري في العالم.

يجب ألّا نخلط بين الرؤية وبين النتائج، فالمفاهيم، هي مجرد أدوات للنبش وللحفر أو للتصور، ولكن هذه الأدوات إن لم تكن وراءها رؤية موجهة تحفظ لها طابعها كأدوات فإنها قد تؤدي إلى عكس المقصود.

على الباحث الذي يطبق أدوات منهجية أو منهجاً معيَّناً على ميدان معرفي معيَّن، أن يعي أن الهدف هو الموضوع، فيوجه جهده من أجل أن يستدل بالموضوع على صلاحية المنهج[3]. لقد ارتكز المشروع النقدي للجابري على اتصال سؤال الحداثة بسؤال التراث تأسيساً على وجود حداثات وليس حداثة معيارية ومرجعية واحدة، من خلال جدلية التاريخ التي تشمل الظواهر الاجتماعية والثقافية، وما يترتب عن عملية الجدل من نفي وتركيب جديد، فإن المجتمعات العربية الإسلامية عليها أن تتحرر من السلطة المرجعية للتراث، في الفكر والاجتماع، لكي تكون قادرة على الانخراط في الحداثة.

ولا يكون التحرر من السلطة المرجعية إلا من خلال نقد التراث بالتزام بموقف معرفي في النظر إليه، من طريقة الاستيعاب النقدي له، وذلك بإعمال أدوات التحليل المعرفي ومناهجه في دارسة التراث وتحليل نصوصه ومنظومته الفكرية[4]. إن التحدي الحضاري الغربي بجميع أشكاله وأبعاده يشكل الدافع الرئيس للذات العربية للبحث عن مخرج من التقليد الذي يكبلها للخروج من هذه الوضعية العويصة، وقد تبنى الجابري رهاناً معرفياً يتمثل بالفصل بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي بمعنى أنه يجب ألّا نغفل أهمية التوظيف الأيديولوجي للمادة المعرفية التي قدمتها الفلسفة اليونانية في أهداف أيديولوجية، لم تكن إشكاليتها الرئيسية إشكالية أيديولوجية بالأساس: إشكالية التوفيق بين النقل والعقل أو بين الدين والفلسفة أو بين الشاهد والغائب.

إن هذا الهاجس الأيديولوجي ما زال حاضراً في الفكر العربي المعاصر، سواء تعلق الأمر بتصور الماضي أو بحاجات الحاضر. ويخلص الجابري  إلى أن المهم في هذه المسألة ليس ما تضمنه نظام بطليموس الكوني مثلاً الذي شكل الأساس «العلمي» لكل التصورات «الميتافيزيقية قبل «كوبرنيك» ولكن الطريقة التي قرئ بها هذا النظام نفسه ونوع الاستغلال الأيديولوجي الذي تعرض له من هذه البنية وتلك، وهو استغلال يخضع لمنطق البنية الداخلية وقوانين توازنها الذاتي.

فلكل بنية منطقها الخاص، وهذا يوجب علينا أن نسلِّم بأن المنطق العربي غير المنطق اليوناني[5]، وإقحامه في الثقافة العربية هو بمثابة إحداث لغة في لغة مقررة. ومن ثم فإن ربط أي فكر بالواقع ضرورة حتمية رغم أنها عملية معقدة وشاقة، إلا أنها مهمة لمعرفة قوانين التطور العامة للفكر العربي الذي يعكس صورة من صور تطور المجتمع العربي الإسلامي[6]، عندما ينظر إلى المسألة الثقافية من منظور الخصوصية والكونية، وتداخل الثقافات.

تبلورت الأطروحة المعرفية للجابري حول المسألة التراثية انطلاقاً من علاقة المحتوى المعرفي بالمضمون الأيديولوجي في الفلسفة الإسلامية.

فما دام فلاسفة الإسلام، بحسب ما يقرره الجابري، وظفوا المادة المعرفية لأغراض أيديولوجية، فيجب أن نلتمس المضمون الأيديولوجي الذي وظفته فيه، ومن ثم نخلص إلى أن الجديد في الفلسفة الإسلامية الذي يجب البحث عنه يمتد في جملة المعارف التي استثمرتها وروّجتها، بل في الوظيفية الأيديولوجية التي أعطاها كل فيلسوف لهذه المعارف؛ فالتمييز بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي في الفلسفة الإسلامية ضروري حتى تتبين ما تزخر به من تنوع وحركة ونستطيع بالتالي ربطها بالمجتمع والتاريخ[7].

إن الخطأ الذي وقع فيه مؤرخو الفلسفة الإسلامية، راجع إلى الخلط بين المحتوى المعرفي الذي روّجته والمضامين الأيديولوجية التي حملتها. في الفلسفة اليونانية كان المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي يتطوران في الجملة معاً؛ الأول بفعل التقدم العلمي، والثاني بفعل التطور الاجتماعي. فقد قطعت أشواطاً هائلة على صعيد الوعي المعرفي والوعي الأيديولوجي من طاليس إلى أرسطو، وكذلك الشأن في الفلسفة الأوروبية الحديثة. أما في والقرون الوسطى المسيحية والإسلامية فقد ظلت المعرفة الموظفة في المنشآت الفلسفية هي هي؛ الأمر الوحيد الذي كان يتغير هو الاستغلال الأيديولوجي لتلك المادة المعرفية[8].

ثانياً: تحرير الوعي العربي من سطوة الأيديولوجيا

لقد حققت الحضارة العربية الإسلامية تقدماً كبيراً في علم الرياضيات، والفلك والطب، إلا أن هذا التقدم في مجال المعرفة العلمية لم يغير من الرؤية الفلسفية السائدة شيئاً يذكر، لأن ما كان يهم فلاسفة الإسلام ليس بناء تصورات جديدة على أسس جديدة، بل جعل التصور الديني مقبولاً من طرف العقل، وجعل التصور العقلي مشروعاً في نظر الدين، الأمر الذي جعل الفلسفة الإسلامية خطاباً أيديولوجياً مسترسلاً لا يحمل أي تقدم ولا يعكس أية حركة.

فلم تكن قراءة متواصلة ومجددة لتاريخها الخاص، تاريخها المعرفي، بل كانت قراءات للفلسفة اليونانية[9].

يتطلب تصحيح الوعي العربي بتاريخه، منهجاً ورؤية متكاملين للدراسة والبحث، ولكن من دون مسبقات قبلية، أو قوالب جاهزة، بل طلباً لنظرة جدلية واعية تغني نفسها بقدر ما تبعث الحياة في موضوعها[10]. فلا بد إذاً من النظر في آليات الفكر الفلسفي في الإسلام، لكي نستقي مدى تأثيره في محيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي والحضاري، ومدى مساهمة هذا الفكر في خدمة العلم والدفع بمسار التطور إلى الأمام.

لقد انخرط الفلاسفة في الصراع الأيديولوجي المحتدم، في العصر العباسي، بحيث ساهم فيه الكندي والفارابي وابن سينا، إذ كانت الفلسفة بفروعها المختلفة قد امتزجت بالسياسة، واشتبكت على الخصوص بمسألة الخلافة والملك والإمامة، ومتى ذكرت الدعوة العلوية فقد ذكرت معها مباحث النظر ومذاهب الفلسفة ومدارس الحكمة والتصوُّف وكل دراسة يستعان بها على انكار الظاهر المكشوف وتعزيز الباطن المستور[11].

تعتبر الفلسفة لذة عقلية في كل مكان وزمان، إلا أنها في ذلك الزمن كانت مطلباً يستمد قوته من الأشواق العقلية وقوة المساعي السياسية وقوة الإيمان بالدين.

وكان تأثير الهند ومهد المانوية جلياً، حيث آمن الناس قديماً بحلول الروح الإلهي، وقداسة النساك والزهاد، فلا يستغرب أن ينسب إلى الامام دون ذلك من الصفات أو من الأسرار والكرامات. ومن الملاحظ بهذا الصدد أن كبار الفلاسفة الشرقيين جميعاً كانوا من أنصار الشيعة وهم الكندي والفارابي وابن سينا[12].

أدركت القوى المتصارعة، أن السلطة هي بالدرجة الأولى للأيديولوجيا (أي الدين) وهي التي تصنع القوة المادية بكل أبعادها، وضمن هذا السياق قررت الارستقراطية الفارسية المتشيعة أن تخوض الصراع في مصدر قوة الدولة العربية (في المجال الأيديولوجي) سلاحها في ذلك تراثها الثقافي الديني، المبني على الغنوصية والإيمان بوجود للمعرفة غير العقل وهو «العرفان» أو الإلهام الإلهي «الوحي المسترسل» الذي لا يترك مجالاً للعقل أو للنقل[13].

في قلب هذا الصراع المحتدم تحددت وظيفة الفلسفة كسلاح أيديولوجي استخدمته جميع الأطراف، المعتزلة والفقهاء وأهل السنّة والعرفانيون، فأصبح مدار الصراع حول الإمام الحق والسلطان الغاصب. فقد  كتب الفارابي يصف الإمام الصالح على سنّة الفلاسفة، فجعله من الأتقياء المعْرِضين عن المادة، المقبلين على لذات الأرواح. ويقرن ذلك بما ينبغي له من الفطنة ومضاء العزيمة ومناقب العدل والعفة والفضيلة.  وجاء في رسائل إخوان الصفا دعوة صريحة إلى آل البيت، لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات، تبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة [14].

لقد وظفت علوم «الأوائل» داخل الفكر الشيعي، وتركز الصراع بين معسكر النقل ومعسكر العقل، وممثل القوى الاجتماعية المتطلعة إلى بناء دولة العقل[15].

ثالثاً: طبيعة الخلاف حول الخلافة والإمامة

لقد تطورت الدعوة الشيعية، من أحقية الإمام علي، في الخلافة دون سواه، إلى مذهب في الإمامة، يعتبر أنها ليست من المصالح العامة، التي تفوض إلى نظر الأمة بل هي ركن أو أصل من أصول الدين. وقال غلاة الشيعة بأن للقرآن معنى ظاهراً ومعنى باطناً وأن الإمام وحده يعلم علم الظاهر وعلم الباطن، ويُعلم الناس أسرار الكون…، ويورث هذه العلوم لمن يخلفه. وأدى الخلاف في الإمامة إلى جدل كلامي بين الفرق المتصارعة، حول الكلام في تحديد معنى الكفر والإيمان، وهل الإيمان يزيد وينقص أم هو شيء ثابت؟

وكان الخوارج يرون أن الإيمان معرفة بالله ورسله، وأداء للفرائض وكف عن الكبائر، ومرتكب الكبيرة في رأيهم كافر. أما الشيعة فقد جعلوا الإمامة ركناً من أركان الدين، ومن لم يسلم بها كان كافراً. وهناك طائفة ترجئ الأمر إلى الله، يحكم فيه بما يشاء…، فالإيمان عندهم معرفة بالقلب، وقد تشعب النظر في العقائد إلى التطرق إلى حكم مرتكب الكبيرة، والوعد والوعيد، وكذلك البحث في مسألة الجبر والاختيار…

وذهب المعتزلة إلى القول بالمنزلة بين المنزلتين، بمعنى أن مرتكب الكبيرة لا هو بمؤمن ولا هو بكافر، وقالوا بأن الإنسان مسؤول عن أفعاله، يستطيع بعقله تمييز الحسن والقبيح من الأفعال وإن لم يرد بهما شرع.

وتناول الجدل مسألة صفات الله تعالى كالسمع والبصر والكلام والقدرة والحياة والعلم، فذهب البعض إلى القول بظاهر الكلام من غير تأويل، وهناك من يقوم بتأويل ظاهر اللفظ وأنكر المعتزلة والمرجئة والخوارج الصفات وقضوا بنفي صفات المعاني، من العلم والقدرة وقاموا بتأويل ما ورد في القرآن والأحاديث من صفات…[16].

حول هذه المسائل وأشباهها كانت أصول الخلاف بين الفرق الإسلامية..، وقد تمحور الحجاج حول العقائد الدينية، ونظام الحكم، وكانت الحجة في هذه المسائل تعتمد على الدليل النقلي، في أول الأمر، ثم لما أطلقت قيود الفكر في العصر العباسي بعد ترجمة علوم «الأوائل» إلى اللغة العربية، وكان من بينها كتب الفلسفة والرياضة والمنطق، فعكف المسلمون على دراسة المنطق والإلهيات، ووقفوا على مذاهب فلسفية، لم يكن للعرب علم بها من قبل.

وذهبوا إلى ضرورة المباحث الفلسفية العامة للمشتغلين بعلم الكلام، فقام علماء الكلام بالرد على ما يصادم الدين في المذاهب الفلسفية، مما جعلهم يمزجون الفلسفة بالدين، وكانت مذاهب المتكلمين تعتمد على الأدلة النقلية تارة وعلى الأدلة العقلية تارة أخرى. ويقول ابن خلدون في المقدمة بأنهم جعلوا آراءهم في هذه المسائل، تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف الإيمان عليها، فالتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر[17]. ونتج من هذا الأمر ظهور نزعة التوفيق، بين الآراء المتناقضة وتأويلها تأويلاً يجمعها في بوتقة واحدة، فجاءت الفلسفة عند الفارابي وابن سينا مزاجاً من الكلام والتصوف العرفاني، يفهمون الدين بالفلسفة وعويصات المشاكل الفلسفية بالعلم الذوقي على طريقة الصوفية.

ويفرق الفارابي بين وسائل الفلسفة والدين، فيرى أن البرهانيات موكولة إلى الأذهان الصافية والعقول المستقيمة وأن السياسة الموكولة إلى ذوي الآراء السديدة، أما الشرعيات فموكولة إلى ذوي الإلهامات الروحية[18].

رابعاً: القراءة النقدية للتراث

إن القراءة النقدية للتراث التي قام بها الجابري وضمنها مجمل مؤلفاته[19] كان القصد منها إنجاز قراءة جديدة للتراث، الذي خضع لدراسات عديدة انطلاقاً من رؤية معينة وبمناهج مختلفة؛ ورغم تعدد المناهج والرؤى فما زلنا في حاجة ماسة إلى قراءة جديدة.

فالقارئ العربي يطلب السند في تراثه، ويقرأ فيه آماله ورغباته، يريد أن يجد فيه كل ما يفتقده في حاضره، يبحث في النص التراثي عن المعنى الذي يستجيب لحاجته، يعيش تحت ضغط الحاجة إلى مواكبة العصر، ويرى الجابري أن فصل الذات على التراث عملية ضرورية نحو الموضوعية، واسترجاع الذات فاعليتها الحرة، لتسرع في بناء الموضوع بناء جديداً في أفق جديد، ثم تأتي الخطوة الثانية لتحقيق الموضوعية، وذلك على العمل على فصل الموضوع عن الذات، فصلاً يجعله يسترجع هو الآخر استقلاله (شخصيته) وهو بنيته وتاريخه[20].

ويطبق في هذا المضمار المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الأيديولوجي:

– ربط أفكار صاحب النص بعضها ببعض؛

– ربط صاحب النص بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية؛

– الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية الاجتماعية والسياسية. لأن الكشف عن الموضوع الأيديولوجي لفكر ما هو الذي يجعله معاصراً لنفسه مرتبطاً بعالمه؛

إن فصل الذات عن الموضوع وفصل الموضوع عن الذات عمليتان متداخلتان في المنهج لطلب الموضوعية[21]. ولكل منهج رؤية تؤطره وتحدد أبعاده، كما أن المنهج يغني الرؤية ويصححها. ويرى «الجابري» أن عناصر الرؤية التي ترتكز عليها القراءة هي التالية:

1 –  وحدة الفكر ووحدة الإشكالية.

2 –  تاريخية الفكر: الحقل المعرفي والمضمون الأيديولوجي.

إن وحدة الفكر تعني الفكر النظري في مجتمع معيَّن وعصر معيَّن، حيث يشكل وحدة متميزة ذات كيان خاص تذوب فيه، وحدة قابلة للدراسة بوصفها كذلك: إن ما يؤسس ويحدد وحدة فكر ما، في مرحلة تاريخية ما، هو وحدة إشكالية هذا الفكر، والإشكالية (Problématique) بالمعنى الاصطلاحي، منظومة من العلاقات التي تنسجها داخل فكر معين مشاكل عديدة، لا تتوافر إمكانية حلها منفردة، ولا تقبل الحل من الناحية النظرية إلا في إطار حل عام ليشملها جميعاً، وهي النظرية التي تتوافر إمكانية صياغتها[22].

فإشكالية فكر ما لا تتحدد بما أنتجه هذا الفكر، بل يتسع مجالها لجميع أنواع التفكير، كما أن تعدد الآراء والأسئلة لا يعني بالضرورة تعدد الإشكاليات.

فالإشكالية تتحدد بما تتضمنه وتحمله، ولا تتقيد بإطار الزمان والمكان، بل تبقى مفتوحة أمام أي مفكر لاحق ليتابع التفكير فيها[23].

وبخصوص المنطلق الثاني للرؤية التي تصدر عنها القراءة، والمتعلق بتاريخية الفكر وارتباطه بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي أنتجه أو تحرك فيه (علاقة الفكر بالواقع وبالتالي بالتاريخ) يتمتع الفكر باستقلال نسبي، مما يفرض اللجوء إلى مكونات الفكر نفسه للتحديد مجاله التاريخي (أي امتداد الإشكالية في تاريخ فكر معيَّن) ويتحدد بالحقل المعرفي الذي يتكون من نوع واحد منسجم، من المادة المعرفية أي جهاز التفكير (مفاهيم، تصورات، منطلقات، منهج، رؤية…).

أما المضمون الأيديولوجي الذي يحمله الفكر، أي الوظيفة الأيديولوجية السياسية والاجتماعية والتي يعطيها صاحب الفكر لتلك المادة المعرفية، وبما أن المعرفة لا تساوق بالضرورة في نموها مع تطور المجتمع، فإن المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي اللذين يحملهما فكر واحد ليس من الضروري أن يكونا متساوقين، أي على درجة واحدة من التطور…، وبالتالي فالانتماء إلى نفس الإشكالية وإلى نفس الحقل المعرفي، لا يعني بالضرورة الانخراط في نفس الأيديولوجية، ولا توظيف المادة المعرفية التي يقدمها ذلك الحقل المعرفي في أغراض أيديولوجية واحدة، بل إن ما يحصل في الغالب أن المنظومة المعرفية الواحدة تحمل مضامين أيديولوجية مختلفة[24].

إن العلاقة بالواقع الاجتماعي والتاريخي، علاقة متعرجة تمر عبر أشكال من الوعي الديني والوعي السياسي، وتعكس مطامح عابرة للزمان والمكان متخلفة أو متقدمة عن عصرها، تقدم نفسها على أنها نتاج للمعرفة والعلم.

وما يرومه «الجابري» من الأطروحات النظرية والمنهجية في دراسته للتراث دراسة علمية ليس بغرض الدراسة الأكاديمية فحسب أو من أجل فهم موضوع من الموضوعات، بل من أجل تطوير العقل وتجديد الفكر ومن ثم الدخول في حوار نقدي مع التراث لنجعله معاصراً لنفسه أي أن نفهمه في ضوء محيطه التاريخي ومجاله المعرفي وحقله الأيديولوجي، وفي نفس الوقت أن نجعله معاصراً لنا من زاوية الفهم والمعقولية.

من هذا المنطلق كانت الحاجة إلى رؤية فكرية، مؤسسة على النقد المنهجي للفكر وأدواته، لتمكيننا من تناول التراث بنظرة فاحصة جديدة، بقصد احتوائه وامتلاكه بقدر الحاجة، وإعادة ترتيبه في سياقه التاريخي، وعقلنته حتى نستطيع أن نؤسس الحاضر والمستقبل، بصورة معقولة، وفاعلة في الحضارة الإنسانية.

خامساً: قراءة جديدة للفلسفة العربية

يبدأ المشروع الفكريّ للجابري بقراءة من منظور جديد للفلسفة العربية الإسلامية، التي ضمنها كتابه  نحن والتراث واشتغل فيها على رؤية جديدة تبرز وجود مدرستين في مجال الفلسفة العربية الإسلامية، كان لهما تأثير بالغ في توجهات الفكر والدين والسياسة والاجتماع.

  • المدرسة المشرقية ذات النزعة الإشراقية العرفانية.
  • المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس ذات النزعة البرهانية العقلانية.

وكان لكل واحد منهما منهج ومفاهيم وإشكاليات خاصة، وينظر الجابري إلى هذا الاختلاف أو التباين بين المدرستين في المنهج والرؤية، باعتباره قطيعة معرفية تميز بين العقلانية (ابن رشد) واللاعقلانية (ابن سينا).

انحاز الجابري في رؤيته الفصل بين المدرستين، إلى موقف ابن رشد من المتكلمين ونقده لابن سينا والغزالي في كتابه تهافت التهافت؛ وإلى طريقة ابن رشد في الاستدلال، وبنى الجابري تصوره في القطيعة المعرفية، على رأي ابن رشد في فكر المتكلمين، والفلاسفة الذين سبقوه بأنه فكر غير برهاني، يستند على منهج الاستدلال «بالشاهد على الغائب»، باصطلاح المتكلمين أو القياس باصطلاح النحاة والأصوليين.

ويرى الجابري أن آلية هذا القياس تكاد تنحصر في البحث عن قيمة ثالثة، تكون جسراً بين الشاهد والغائب، أو بين المقيس والمقيس عليه، أو بين حكم المعلوم وحكم المجهول، حتى يتسنى للباحث تمديد حكم الشاهد على الغائب (عن طريق العلة، أو الدليل). هذا النوع من الاستدلال يهدف إلى البحث عن النتيجة كما هو شأن القياس الأرسطي، لأن النتيجة معطاة في الحكم الشرعي.

وبالتالي فآلية هذا الاستدلال واحدة، بالنسبة للنحو، والفقه والكلام. ويرى ابن رشد أن هذا الاستدلال ضعيف، لأنه يجمع بين عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة، عالم الغيب وعالم الشهادة، وهما عالمان مختلفان تماماً، فلا يصح هذا الاستدلال إلا حيث تكون النقلة معقولة، وذلك عند استواء طبيعة الشاهد والغائب. ومن ثم فإن رفض المنهج، يؤدي إلى رفض المفاهيم المؤسسة عليه، كما أن رفض المنهج والمفاهيم معاً معناه رفض البنية الفكرية المؤسسة لهما[25].

أفاض الجابري في شرحه لتأكيد رؤيته في الفصل المعرفي أو القطيعة الإبستيمولوجية، بين ما هو من مجال الحس والعقل، وما هو من مجال الدين والوحي، فقد تعددت زوايا النظر حول الموضوع من طرف الباحثين، القدماء أو المعاصرين.

ما يلفت النظر أن الجابري استلهم نظريته النقدية للتراث انطلاقاً من المرجعية الرشدية، ذات الطابع الرياضي العقلاني في التفكير، ليصوغ على منوالها رؤيته الفكرية ومقاربته النقدية، وذلك بضرورة استيعاب التراث ونقده وتجاوزه؛ فدرس مكونات البنية النظرية للعقل العربي، في كتابه تكوين العقل العربي، حيث حدد ثلاثة نظم معرفية يؤسس كل منها آلية خاصة، في إنتاج المعرفة، مع ما يرتبط بها من مفاهيم، وينتج عنها من رؤى خاصة كذلك… أما في كتابه بنية العقل العربي فقد تناول فيه بالدراسة والتحليل والنقد النظم المعرفية في الثقافة العربية: البيان والعرفان والبرهان.

أراد الجابري أن تكون الأحكام التي قدَّمها تحمل معها مستندات متنوعة تنطق باسم كيان العقل العربي، كما تكون داخل الثقافة العربية الإسلامية، بمختلف منازعها، عسى أن تؤدي إلى «بدء النظر» في بنية العقل الذي طال سكوته عن نفسه[26]، لكي يستيقظ العقل العربي من سباته، ضمن ما يمكن أن يعتبر قراءة للتراث، من أجل استرجاع فاعليته التي جمدت خلال عصر الانحطاط؛ فالجابري يرى ضرورة قيام ثورة ثقافية تدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية؛ قراءة «تقطع» مع المذاهب التي ابتعدت عن الأصول الأولى وتفتح المجال لقيام حركة عقلانية نقدية جديدة[27].مع الأخذ في الاعتبار العلاقة العضوية بين الأيديولوجي والإبستيمولوجي في الثقافة العربية وانعكاساتها وتجلياتها، في صورة الجدل بين الثقافة والسياسة، ومدى أهمية المحيط الاجتماعي والثقافي، في تشكيل الفكر كأداة ومحتوى، أي الفكر كأداة لإنتاج الأفكار، باعتبارها جملة الآراء التي يعبِّر بها المجتمع عن همومه ومشاغله ومثله الأخلاقية، ومعتقداته المذهبية، وطموحاته الاجتماعية والسياسية، وهو نفس المعنى الذي تحمله الأيديولوجيا انطلاقاً من أن الفكر وحدة لا تتجزأ، وأنه ليست هناك قوة مدركة معزولة عن مدركاتها. فالتداخل بين الفكر ومحتواه، أي بوصفه أداة للتفكير، أو بوصفه الإنتاج الفكري ذاته، هو دوماً نتيجة احتكاكه مع المحيط الاجتماعي والثقافي..[28] والإنسان ابن بيئته وثقافته وحضارته، ومن خلال منظومة مرجعيته الفكرية، تتشكل رؤيته وموقفه من العالم والكون؛ ومن هذا المطلق يحدد مفهوم  «العقل العربي» بوصفه أداة للإنتاج النظري، الذي صنعته الثقافة العربية، بحيث تحمل معها تاريخ العرب الحضاري وتعكس واقعهم وعوائق تقدمهم، وأسباب تخلفهم الراهن. ويريد الجابري من هذا التحديد أن ينتقل من مجال التحليل الأيديولوجي، إلى مجال البحث الإبستيمولوجي الذي يتخذ موضوعاً له أدوات الإنتاج الفكري، لا منتجات هذه الأفكار، فوجهته التحليل «العلمي» لـ «عقل» تشكل من خلال إنتاجه للثقافة العربية الإسلامية[29].

ويميز الجابري بين مفهومين للعقل: الأول العقل المكون أو الفاعل، ويقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر، حين يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، إنه الملكة التي يدرك بها الإنسان العلاقات والمبادئ الكلية…، والثاني مفهوم العقل المكون أو السائد، وهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا.

فالعقل العربي إذاً هو العقل المكون (La Raison constituée) حسب تحديد لالاند، أي جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو تفرضها عليهم كنظام معرفي[30] وهذا يعني أن النشاط العقلي إنما يتم انطلاقاً من مبادئ وحسب قواعد مع وجود تأثير وتأثر بين العقل الفاعل والعقل السائد.

الغرض من تحديده مفهوم للعقل من زوايا نظر متباينة إبستيمولوجية وفلسفية، أن يكون مدخلاً «لنقد العقل العربي» وذلك من زاويتين:

1 –  النظر إلى العقل العربي بوصفه عقلاً سائداً، قوامه جملة مبادئ وقواعد تؤسس المعرفة في الثقافة العربية، وفي هذه الحالة يكون من الممكن القيام بتحليل موضوعي علمي لهذه المبادئ والقواعد التي تشكل النظام المعرفي في الثقافة العربية.

2 –  النظر إلى العقل العربي بوصفه عقلاً فاعلاً، ينشئ ويصوغ العقل السائد في فترة تاريخية ما، الشيء الذي يعني إمكان صياغة مبادئ وقواعد جديدة، تحل محل القديمة وبالتالي قيام عقل سائد جديد، أو على الأقل تطويره وتحديثه، وهذا لن يتم إلا من خلال نقد العقل السائد القديم، وأن تمارس عملية النقد داخل هذا العقل نفسه[31].

فكل ما هو واقعي هو عقلي، وكل شيء موجود يقبل التفسير العقلي، لأن وجود الشيء معناه صدوره عن سبب فاعل وسبب غائي ومن ثم فإن تعقل الشيء يعني إدراك سببه الفاعل وسببه الغائي، هذا من حيث المنطق طبقاً للمنظور «الهيغلي»؛ فقد جعل هيغل للتاريخ معنى، وللعقل حركة، فأصبح التطابق بين العقل ونظام الطبيعة مسألة صيرورة ومصير، مسألة واقع، يتحقق عبر التاريخ[32].

سادساً: الثورة العلمية وتأثيرها في تطور مفهوم العقل

لقد غيرت الثورة العلمية بصورة جذرية مفاهيم العقل ومبادئه، مثل مفهوم الحتمية ومفهوم الزمان ومفهوم المكان.

استهدفت الثورة في نظرية المعرفة مراجعة كل شيء في مجال المعرفة مراجعة شاملة، وأولى هذه النتائج التي فرضتها الثورة العلمية إعادة النظر في مفهوم «العقل» ذاته (قوانين العقل عند أرسطو، الأفكار الفطرية عند ديكارت، صورتا الزمان والمكان والمقولات عند كانط).

أما الآن فقد أدى تطور العلم وتقدمه إلى قيام نظرية جديدة في العقل، قوامها النظر إليه بوصفه أداة أو فاعلية ليس غير (أي القدرة على القيام بإجراءات حسب مبادئ). إنه أساساً نشاط منظم «لعب حسب قواعد». إن العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع، أي في الحياة الاجتماعية (الواقع الحي الذي يعيش في كنفه الناس).

فالإنسان حيوان اجتماعي بطبعه بخضوعه لتلك القواعد، فبتعدد أنماط الحياة الاجتماعية تتعدد أنواع القواعد العقلية وأنواع المنطق، إذ لكل شعب من الشعوب منطقها. ونخلص في النهاية إلى أن العقل جملة من القواعد، مستخلصة من واقع اجتماعي ما، وأن تعدد أنواع المنطق تابعة لتعدد منظومات القواعد، التي تؤسس للنشاط العلمي في هذا المجال؛ فالمجهود العلمي يقوم على إنشاء منظومات قواعد جديدة للعمل الذهني، وهذه المنظومات من القواعد تعمل على خلق عقل جديد، إنه العقل المكوِّن والعقل المكوَّن – حسب تعبير لالاند – اللذان يعملان من خلال علاقتهما الجدلية، على جعل العقل يكتشف حقيقته من خلال صيرورته وبواسطتها.

واستناداً إلى التصور العلمي المعاصر لحقيقة العقل، فإن القواعد التي يعمل بها العقل ليست هي التي تحدده وتعرفه، بل قدرته على استخلاص عدد لانهائي منها، وهي التي تشكل ماهيته. والعقلانية بهذا الاعتبار هي النشاط العقلي الذي يستطيع بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر (من خلال التجربة وحدها). وهذا يعني أن العقلانية المعاصرة هي عقلانية تجريبية وليست عقلانية تأملية[33].

لقد توخى «الجابري» من عرض مفهوم العقل وطريقة التفكير فيه وتصوره في الثقافة الأوروبية الحديثة، إلى التوصل بصورة أكثر دقة لمفهوم العقل العربي وتاريخيته وتطوره. مع التشديد على أن القواعد التي استخلصتها الفعالية الفكرية العاملة داخل الثقافة العربية الإسلامية، ستكون مختلفة عن القواعد التي شكلت جوهر العقل اليوناني والعقل الأوروبي، ومن ثم فإن «الجابري» استعمل عبارة «العقل العربي» من منظور علمي يتبنى النظرة العلمية المعاصرة للعقل، والتزام التصور العلمي في أرقى مراتبه دون أن نجعل منه حقيقة مطلقة في هذا المجال، كما في مجالات أخرى، وبصورة مجملة فإن تطور العقل مرتبط بالثقافة التي انتجته، الشيء الذي ينزع عنه الصبغة الإطلاقية[34].

سابعاً: مفهوم العقل في المجال التداولي العربي

يرى الجابري أن العقل في المجال التداولي العربي، يرتبط بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية، فهو في نفس الوقت عقل وقلب وفكر ووجدان وتأمل، أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية، فالعقل مرتبط بالموضوع؛ فهو إما نظام الوجود، أو إدراك هذا النظام أو القوة المدركة[35].

انطلاقاً من المعطيات السابقة، فإن العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية، التي تبحث للأشياء عن موقعها في منظومة القيم المرجعية، في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث عن ما هو جوهري في الأشياء. النظرة المعيارية تختصر الشيء في قيمته، أي في المعنى الذي يضيفه عليه المجتمع والثقافة صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية، تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية، لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه[36].

بعد هذه الملاحظات يتطرق الجابري إلى النظام المعرفي المؤسس للمعرفة ويفسر النظام المعرفي بأنه جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما، بنيتها اللاشعورية[37]. والمقصود بالبنية هنا وجود ثوابت ومتغيرات في الثقافة العربية، الأمر الذي يدفع إلى طرح السؤال عن ماذا تغير في الثقافة العربية؟ وماذا بقي ثابتاً منذ العصر الجاهلي؟

يرى الجابري أن هناك أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية، منذ «الجاهلية»، تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة، وتؤسس بنية العقل العربي الثقافية التي تتشكل لاشعورياً داخل الثقافة، وتعمل بكيفية لاشعورية؛ فمفهوم اللاشعور المعرفي هو جملة من المفاهيم والتصورات والأنشطة الذهنية، التي تحدد نظرة الفرد المنتمي إلى الثقافة العربية، إلى الكون والمجتمع والتاريخ. فبنية العقل العربي تشكل هذه المفاهيم، والأنشطة الفكرية التي تزود بها الثقافة العربية المنتمي إليها، والتي تشكل لديهم اللاشعور المعرفي الذي يوجه بكيفية لا شعورية آراءهم الفكرية والأخلاقية، ونظرتهم إلى أنفسهم وإلى غيرهم.

إن اللاشعور مفهوم إجرائي، يساعد على إرجاع عملية المعرفة إلى جهاز من المفاهيم والآليات غير المشعور بها، ولكن قابلة للرصد والتحليل؛ كما يسمح بربط الزمن الثقافي بزمن اللاشعور (زمن اليقظة والوعي)، وأيضاً زمن بنية العقل المنتمي لثقافة ما. فالزمن الثقافي زمن متداخل، متموج يمتد على شكل لولبي، بما يجعل مراحل ثقافية مختلفة تتعايش في نفس الفكر، وبالتالي في نفس البنية العقلية[38].

تظل هذه المفاهيم حاضرة في فكر المجتمع والأفراد المنتمي إلى تلك الثقافة. فيعيش القديم والجديد داخل الوعي في حالة تصارع وتنافر وتناقض، أو في حالة تعايش توفيقي، الأمر الذي تنعكس آثاره على سلوك الأشخاص المعرفي والفكري، ولكنهم في جميع الأحوال يعيشون زمناً ثقافياً واحداً، ما لم تتحقق قطيعة مع النظام المعرفي السالف (أي بين القديم والجديد)، أي أن حصيلة التطور لم تبلغ الدرجة التي لا يعود من الممكن معها الانتقال من الجديد إلى القديم[39].

إن المهم أن تمد المفاهيم الثقافية أصحابها بوعي تاريخي، يجعلهم ينظرون إلى الماضي، فيقرأون فيه المستقبل من خلال ما هو حي، مما صنعته الثقافة العربية في العصور السابقة، من عناصر طبعت العقل العربي بطابعها، وظلت تمارس إلى اليوم تأثيرها داخل هذه الثقافة في جميع الفرق، توجه عملهم وتؤسس رؤاهم واستشرافاتهم[40]. ولعل هذا ما دفع الجابري إلى التركيز على الصراع الإبستيمولوجي أو صراع النظم المعرفية في الثقافة العربية، وفي علاقاتها بمكونات العقل العربي المعرفية والأيديولوجية في مشروعه النقدي.

إن القراءة الدقيقة لمختلف الإشكالات والقضايا التي تناولها الجابري بالتحليل والتشريح في مؤلفاته،  تتعلق بدراسة ونقد العقل العربي في بنيته وتكوينه، وفي تجلياته السياسية والأخلاقية باعتباره المصدر والوعاء، والأداة التي انبثقت منها جملة المفاهيم الثقافية التي تشكل المنظومة الفكرية والحضارية للتراث العربي والإسلامي، وهو يركز على مساءلة «العقل العربي» ونقده باعتباره الجزء الأساسي من كل مشروع للنهضة، ومن أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن، بحيث لا يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، وعقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته[41].

ولتشخيص الاختلال ومَكمن العطل والكوابح المعوقة للمشروع النهضوي، اتجه الجابري إلى دراسة العقل العربي باعتباره الملكة والأداة المركزية، التي بواسطتها يمكن أن تتحقق النهضة الفكرية والتقدم الاقتصادي، والتحرر السياسي. لذا من العبث أن يرجو العرب نهوضاً قبل أن يفكوا عن عقولهم الأغلال والأصفاد، التي تكبلها وتمنعها من الانطلاق والسعي إلى الابتكار والتجديد والاجتهاد.

فالعقل وعاء الفكر والثقافة، والمهارة. وبرمزية الأفكار، ارتقى الإنسان وتطور؛ فما تتضمنه «بنية العقل» من منظومة معارف، تقرأ وتكتب وتبلغ أقصى درجاتها، حين تبلغ أبلغ صورها وأقصاها بياناً وقدرة، على تشكيل الرؤى والتصورات في الدين والاجتماع والسياسة، ومن نافل القول أن غاية التمدن الإنساني تحقيق ما في البشر من قوة كامنة على تنمية الفكر.

لقد أدرك رواد النهضة العربية الحديثة، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم الفكرية والسياسية، أهمية الدور الذي على الفكر أن يقوم به في رسم طريق النهضة وقيادتها والعمل على تحقيقها، وكانوا يدركون أن بناء مشروع نهضوي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان يؤسسه ويغذيه عقل ناهض يربط بين ملكة الفكر وإرادة العمل[42].

إلا أن قادة الفكر النهضوي – حسب الجابري – أغفلوا نقد العقل العربي، فراحوا يصورون النهضة ويخططون لها بعقول أعدت للماضي، وبمفاهيم أنتجها «حاضر» غير حاضرهم ومفاهيم لم تعرَّب، ولم يُبذل المجهود الكافي من أجل تبيئتها وتحيينها، وجعلها من خلال تحليل الواقع مطابقة، أي معبرة عن هذا الواقع، وقادرة على إمداد العمل العربي بالجهاز النظري الضروري لتحقيق التغيير وبناء النهضة[43].. وهكذا كانت إشكالية النهضة المحرك الرئيس لإنجاز مشروع نقد العقل العربي من منظور «إبستيمولوجيا الثقافة»، أو التحليل الإبستيمولوجي للثقافة العربية، من دون استبعاد المنهج التاريخي والأيديولوجي في مقاربته النقدية، الهادفة إلى الكشف عن المفاهيم المعرفية التي يستند إليها العقل العربي في التراث العربي الإسلامي وفي الخطاب العربي المعاصر.

فالثقافة العربية هي مجموع وسائل التعبير عن التجربة العربية، أي البنية المشتركة لكل منظومة تعبيرية (اللغة، السلوك، الخيال..) فمنطق الثقافة هو الذي يبرز عملية التطور والتحول الجارية داخل البنية العقلية للمجتمع، وعندما نحلل الثقافة العربية وندرس التراث كما يستوعبه العرب في الوقت الراهن، من خلال همومهم الآنية، سوف نكشف عن مميزات الحقبة التاريخية، من حقبة التحول من التبعية إلى الانعتاق، وكذلك عن مميزات النخبة التي تقود عملية الانتقال وعن موقع العرب في العالم. هذه النظرة إلى الثقافة والتراث، تستعمل المنظور التاريخي كعنصر معرفي أساسي لتكوين الموضوعية العلمية[44].

ثامناً: تحليل الخطاب باعتباره نظام أفكار

إن التراث وفق التحليل العلمي هو مجموعة من النصوص، والنص رسالة من الكاتب إلى القارئ، فهو خطاب، والقارئ يتلقى الفكرة أو الوجهة من النظر من النص، ويقوم بقراءة وتأويل الخطاب، الذي هو عبارة عن بناء من الأفكار يحمل وجهة نظر مصوغة في بناء استدلالي، أي القدرة على تقديم وجهة نظر صاحبه إلى القارئ، بالصورة التي تجعلها تؤدي لدى هذا الأخير مهمة الإخبار والإقناع.

ثم إن الخطاب باعتباره مقروء القارئ، قد أصبح موضوعاً لإعادة بناء أي نص للقراءة، بمعنى أنه يمارس في ذلك النص ما يمارسه صاحب الخطاب عند بناء خطابه، وهكذا يسهم القارئ في إنتاج وجهة نظر معينة من الخطاب. من هنا اختلاف القراءات وتعدد مستوياتها، ويبرز الجابري منها صنفين: القراءة الأولى تقف عند التلقي المباشر بأكبر قدر من الأمانة، أو بأقل تدخل ممكن، وهي تحاول أن تخضع نفسها للنص لتقدم لنا صورة طبق الأصل عن المقروء. إنها القراءة الاستنساخية» لكونها تتبنى وجهة نظر صاحب النص.

أما القراءة الثانية فهي تأويل للنص، تسهم بوعي في إنتاج وجهة النظر التي يحملها الخطاب، ولا تقف عند حدود العرض والتلخيص والتحليل، بل تريد إعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكاً وأقوى تعبيراً، عن إحدى وجهات النظر التي يحملها صراحة أو ضمناً، وتكون هذه القراءة ناجحة إذا استطاعت أن توظف البعدين في إنتاج بناء واحد منسجم ومتماسك.

بناءً على ما تقدم فإن الجابري يقترح قراءة تشخيصية للخطاب العربي المعاصر، بمعنى أنها تشخص عيوب الخطاب، والهدف هو حمله إلى تفكيك نفسه ودفعه إلى الكشف عن تفاهته وتقديم تناقضاته ونقائصه عارية. وبالتالي ليس الهدف الحديث عن مضمون الخطاب الأيديولوجي ولا محتواه المعرفي، بل ينصب على ما هو مهم في الخطاب، من كونه يحمل علامات العقل الذي ينتجه ومن ثم تشخيص هذه العلامات كعلامات «اللاعقل» في الخطاب العربي المعاصر[45].

وقد عمد الجابري إلى المزاوجة بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي، من أجل الكشف عن لاتاريخية الخطاب وذلك عن انقطاع منطوقه ومضمونه. لذلك تم التركيز على بنية العقل المنطقية وأسسه الإبستيمولوجية، فنظر إلى الفكر العربي من خلال القضايا التي يعالجها، وليس من خلال تياراته الأيديولوجية، وإلى القضايا بوصفها مجموعة مشاكل فكرية تكون إشكالية أو بنية فكرية واحدة بأسلوب تفكيكي بقصد إظهار ضعف الخطاب وحمله على كشف تناقضه وتهافته[46].

يوظف الجابري، في مقاربته للخطاب العربي، مفاهيم تنتمي إلى فلسفات أو منهجيات أو «قراءات» مختلفة متباينة، من كانط، أو فرويد أو بشلار أو التوسير أو فوكو، إلا أنه لا يتقيد في توظيف تلك المفاهيم بنفس القيود التي تؤطرها في إطارها المرجعي الأصلي، بل يتعامل معها بحرية واسعة انطلاقاً من كون هذه المفاهيم لا تعتبر قوالب نهائية بل مجرد أدوات للعمل بحسب استعمالها في كل موضوع بالكيفية التي تجعلها منتجة وإلا وجب التخلي عنها. فإذا كان لا بد من إعطاء معنى للمفاهيم التي يتم توظيفها فيجب استخلاصه من السياق أي الفضاء الفكري الذي نستعملها فيه، أما المعنى الذي يعطيه لها إطارها المرجعي الأصلي، فيجب أن يؤخذ كدليل فقط وليس كمدلول[47] .

ما يمكن استخلاصه من نقد الجابري للخطاب العربي المعاصر، أن الوعي العربي في تصوره يعاني ثغرات وأوهاماً بسبب التضخم في الطموح، والقفز على الواقع وإلغاء الزمان والمكان. ويلاحظ أن الآلية المتحكمة بأنماط التفكير هي آلية «قياس الغائب على الشاهد»، وينطبق ذلك على جميع التيارات الفكرية السلفية والليبرالية واليسارية والقومية، ويرى أن الخطاب المبشر بالثورة والأصالة والمعاصرة خطاب توفيقي متناقض محكوم بـ «سلف»، بمعنى أنه خطاب غير «مبني» لا يمنح أصحابه «مأوى» أو ما هم في حاجة إليه من الطمأنينة والاستقرار، ولا يجعل تطلعاتهم منسجمة تقدم نفسها كممكن واقعي، وكونه خطاباً محكوماً بسلف معناه أنه لا يرى الواقع كما هو، وبالتالي لا يرى المستقبل إلا من خلال التمثال الذي يقيمه في ذهنه «السلف»[48]. وبالتالي يعتبر خطاباً فاقد الوعي بحركة التاريخ.

في جميع هذه الأنماط هناك نموذج سلف يمارس سلطة مطلقة على الفكر العربي فيحتويه ويوجهه.

السلفي يفهم تحرير العقل على أنه إحياء للعقل القديم، «العقل الذي يعقل صاحبه». يمارس النموذج الأوروبي سلطته على الليبرالي العربي أو الوضعي أو الماركسوي ويتبناه التاريخاني، وكل هؤلاء يفهمون النهضة تمثلاً بالنموذج الأوروبي ويفهمون تجديد العقل العربي على أنه اقتباس من قادة الفكر الأوروبي وتلفيق أو مزيج منها.

يستخلص الجابري مما تقدم أننا لا نستطيع أن نجدد فكرنا ما دمنا محكومين بسلطة النموذج السلف، وإذا كان الإنسان بطبيعته يفكر من خلال نموذج فيجب أن نفرق بين نموذج يؤخذ للاستئناس وبين نموذج يؤخذ كأصل للقياس عليه، لأن النموذج في هذه الحالة يصبح سلطة مرجعية ضاغطة قاهرة تحتوي الذات احتواءً وتفقدها شخصيتها واستقلالها وقدرتها على الابتكار والاجتهاد.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤية..) في الثقافة العربية الإسلامية إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم، على غرار ما حدث في التجربة الأوروبية[49]؟ إن تقدم الفكر مرهون بتقدم العلم، وبناء عليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بصدد التجربة الثقافية العربية الإسلامية يتجه بأصابع الاتهام إلى العلم العربي، وأين موقع العلم من حركة الثقافة العربية وبالتالي من تطور العقل المنتمي إلى هذه الثقافة؟

تاسعاً: تصنيف العلوم المشكلة لبنية العقل العربي

صنف الجابري العلم إلى ثلاثة علوم: علوم البيان وعلوم العرفان وعلوم البرهان. فالعقل العربي تكوِّن من خلال شيْده لعلوم البيان وموضوع هذه العلوم كان واحداً؛ إنه النص: النص اللغوي بالنسبة للنحو واللغة، والنص الديني بالنسبة إلى الفقه والكلام (المعقول الديني كرؤية) فما إن انتهى عصر التدوين حتى بدأت عملية الاجترار والجمود على التقليد في علوم البيان وسد باب الاجتهاد في الفقه، وانصرف الناس إلى تقليد المذاهب الفقهية وهذا الذي حدث في الفقه حدث في النحو أيضاً. أما علم الكلام فقد قام في الأصل على التدافع والتنافي وتحول «القياس البياني» قياس الشاهد على الغائب من منهج أو أداة في إنتاج للمعرفة الفقهية والنحوية واللغوية بطريقة منظمة مقننة، إلى حرفة كلامية غايتها حفظ رأي أو هدمه (تغلط وتلبيس وتضليل).

وقد أدى هذا بالثقافة العربية إلى وضعية تتسم بفقدان الثقة في العقل والركون إلى مصادر للمعرفة أجنبية عنه[50]. أما علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي، وتفسير باطني وفلسفة إشراقية وعلم تنجيم مؤسسة على نظام معرفي يقوم على «الكشف» والوصول والجذب والتدافع، ويتسم «باللامعقول العقلي، كرؤية». وأما علوم البرهان من منطق ورياضيات وطبيعيات، فيؤسسها نظام معرفي يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي، كمنهج المعقول العقلي، أي المعرفة العقلية المؤسسة على رؤية عقلية.

لقد قصد الجابري من هذا التصنيف الذي اعتمد فيه على البنية الداخلية للمعرفة في الثقافة العربية أن يؤكد أن الحركة داخل الثقافة، هي حركة اعتماد وحركة اصطدام وتداخل بين النظم المعرفية الثلاثة المؤسِّسة لها، وليست «نقلة» بحيث يتم فيها الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ويتجاوز بفضلها اللاحق السابق، إن هذا يعني أن الثقافة العربية ظلت تعيد إنتاج نفسها منذ عصر التدوين[51].

لم يكن في إمكان العقل البياني أن يقدم أكثر مما أنجز في مجال اللغة والفقه، وعندما اكتمل البناء في اللغة والتشريع أصبح هذا العقل سجين هذا البناء فلم يكن من الركود مناص ولا من التقليد مفر، ما لم يكن بإمكانها أن تضمن للفكر العربي اطراد التقدم. أما علوم العرفان فهي «العقل المستقيل» وسيكون من التناقض أن نبحث فيها عن ما يمكن أن توفره من أسباب التقدم.

تبقى علوم البرهان وهي التي راهن عليها الجابري بهذا الصدد، وهو يرى ضرورة التمييز في علوم البرهان، بين نوعين من الممارسة العلمية:

– ممارسة نظرية تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية وتتحرك بتوجيه منها.

– وممارسة علمية ونظرية تتحرك بدرجة من الحرية خارجها (فالرياضيات والطبيعيات) كما مارسها فلاسفة الإسلام، كانت مؤطرة وإن بدرجات متفاوتة، بالمنظومة الأرسطية ككل.

ولما كانت هذه المنظومة اكتملت وتحولت إلى نظرية عامة في الكون والإنسان والله – أي منظومة ميتافيزيقية – ولم يكن بإمكان العلوم الموظفة داخلها أن تتقدم وتتجدد إلا بكسر تلك المنظومة وتجاوزها وتحريك تناقضاتها، كما حدث في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي حينما انتقلت إليها «الرشدية» فظهر تيار فكري مجدد حرك عجلة التقدم بالصورة التي مكنت العلم من أن يقوم بدوره التاريخي في النهضة الأوروبية الحديثة[52].

لم يكن للمنظومة الأرسطية، في الثقافة العربية الإسلامية، نفس الصورة التي اعترف بها في أوروبا المسيحية، لأن السلطة المرجعية الدينية في الثقافة العربية لم تكن في حاجة إليها، كما كانت حاجة السلطة المرجعية المسيحية (الكنيسة).

فالسلطة المرجعية الدينية الإسلامية «الفقهاء» كان لها عقلها البياني الخاص، وهو مستغن عن غيره بـ«منطقه» وعلومه؛ وعندما نقلت علوم هذه المنظومة إلى العربية لم تنقل لذاتها، ولا من أجل إعادة بناء الفكر الديني الإسلامي، بل من أجل توظيفها في محاربة العرفان. فالثقافة العربية لم تستبعد المنظومة الأرسطية خالصة من الشوائب الهرمسية الإشراقية إلا مع «ابن رشد»، أي في الوقت الذي تمت فيه المصالحة بين «البيان» و«العرفان» وأصبحت الحاجة إلى «البرهان» غير قائمة.

كانت الممارسة العلمية التجريبية خارج هذه المنظومة أو غير خاضعة لهيمنتها كمنظومة منغلقة، فكانت على درجة كبيرة من النضج والتقدم، ولا بد من التنويه بملامح التقدم العلمي العربي الإسلامي، في الجبر وممارسة التحليل والتركيب في الرياضيات والاستقراء العلمي والتجريبي، عند ابن الهيثم، فضلاً عن نظرياته في البصريات التي شغلت علماء الضوء في أوروبا.

إضافة إلى الإنجازات في علم الفلك التي حققها البيروني والبطروجي وغيرهما، فالتقدم الذي عرفته الممارسة مع هؤلاء العلماء يعتبر حقيقة تاريخية معترفاً بها من لدن الجميع. إن العلم العربي بهذا المعنى بقي خارج مسرح الصراع في الثقافة العربية، وبالتالي فهو لم يدخل في أي علاقة مع الأطراف المتصارعة فيها (النظام البياني، والنظام العرفاني)؛ وعندما دخل النظام البرهاني كطرف ثالث دخل بوظيفة في ذلك الصراع وأصبح موجهاً ومحكوماً به. أما العلم فقد بقى على هامش المنظومات الفكرية الأيديولوجية المتصارعة، وبالتالي لم تتح له الفرصة في تكوين العقل العربي ككل[53].

بناء على ذلك يرى الجابري أنه يجب أن نضع السياسة مكان العلم في مقاربة التجربة الثقافية العربية، لأن الدور الذي قام به العلم عند اليونان وفي أوروبا في مساءلة الفكر وفك بناءاته وإعادة تركيبها قامت به السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي فإن أي تحليل للفكر العربي الإسلامي لا بد من أن يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره.

وسيكون من الخطأ الجسيم تحليل الإنتاج الفكري في المجتمع من دون الأخذ بعين الاعتبار حضور الدولة وهيمنتها، وكذلك في ضوء علاقة الدولة بالأيديولوجيا المهيمنة في المجتمع. إن العلاقة في «دولة الإسلام» لم تكن تتحدد بسياسة الحاضر فحسب، بل كانت استمرار سياسة الماضي (مادة معرفية) توظف من طرف القوى المتصارعة بحيث جُعل الماضي مظهراً من مظاهر الصراع على الحاضر والمستقبل.

لقد قامت السياسة بتوجيه الفكر العربي الإسلامي منذ أن أصبح فكراً عالماً مع عصر التدوين؛ فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجرد كلام في العقيدة بل كان ممارسة للسياسة في الدين فبقى الزمن الثقافي العربي راكداً، وتخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى النهضة الحديثة التي لم تتحقق بعد[54].

عاشراً: أسباب التأخر وعوائق التقدم المنشود المطرد

في ضوء ما تقدم، فإن جملة من الأسئلة تطرح نفسها: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ولماذا لم تتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ ولماذا لم تتمكن الثقافة العربية الإسلامية من تحقيق التقدم المنشود المطرد؟

نستنتج من التساؤل رغبة المسلم في أن يعيش عصره متطلعاً إلى المستقبل، والسؤال يُطرح أيضاً بخصوص طموح العالم العربي الإسلامي إلى استعادة موقعه الحضاري في التاريخ، إلا أنه يثير أيضاً إحدى أعظم المشكلات، وهي أن ثقافتنا تنتمي إلى حضارة غبر عصرها منذ قرون، وأن حياتنا متأثرة أشد التأثر بالحضارة الغربية السائدة، وهذا يقتضي أن تكون ثقافتنا منسجمة مع ثقافة العصر، فالحياة الإنسانية لا تتقدم إلا بالتعاون وتضافر الجهود وتبادل الآراء وتلاقح الأفكار[55].

بخصوص تأخر المسلمين، يرى الجابري أن هذا السؤال سيظل ناقصاً ومحدود الآفاق ما لم يطرح على الصعيد الإبستيمولوجي، وما لم يتجه مباشرة إلى العقل العربي، ذلك أن المسلمين بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، في حين بدأ الأروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسأل نفسه. وتعود أسباب استقالة العقل العربي إلى الموروث السابق على الإسلام وبعضها إلى الموروث الإسلامي. لقد ورث العرب مركباً جيولوجياً من الآراء والمعتقدات التي تشكل العقل المستقيل الهرمي. فكان دورهم التاريخي العلمي يتمثل بالعبور إلى العقلانية اليونانية جزئياً فقط بسبب الإمامة والسياسة التي كانت في أزمة بنيوية ذات جذور ثقافية واجتماعية وإثنية، وقد ظلت على مدى عصور التاريخ العربي الإسلامي تغذي صراعاً أيديولوجياً بين الأطراف المتصارعة بمختلف مشاربهم ومذاهبهم.

فكان من نتائج ذلك استفحال الطابع المحافظ وتعميم الرؤية اللاعقلانية على الصعيد المعرفي والأيديولوجي، وتكريس الأوضاع المتخلفة والإقطاعية على الصعيد الاجتماعي. وبذلك تحقق التطابق والانسجام بين الأساس الإبستيمولوجي والمضمون الأيديولوجي في الحضارة العربية الإسلامية وكان ذلك مؤشراً على مرحلة عصر الانحطاط[56].

هذا جانب أول من أسباب تخلّف المسلمين وتأخرهم، أما الجانب الثاني من أسباب هذا التخلف فيرجع إلى غياب أي أثر لمنهجية العلم الاستقرائي والتجريبي في تكوين العقل العربي، نتيجة عدم وجود «قابلة» لها في التجربة الحضارية العربية (أي بمثل الزواج العلمي بين البرهان والبيان في عقل ابن الهيثم[57]).

إن عدم تطور الحضارة العربية الإسلامية في الاتجاه الذي يجعلها قادرة على أن تحقق ما كان كامناً فيها من قدرة خلّاقة ربما يرجع إلى كون الحضارة الإسلامية خرجت من عمق النفوس كقوة دافعة لتعمر الأرض وتنتشر وتتوسع بفضل ما لديها من «مخزون روحي»، حتى إذا ما وهنت فيها القوى الباعثة والدافعة لعجلة التقدم، أخلدت إلى الأرض وجمدت وتكلست.

وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، يبدأ منحى السقوط والأفول وينتكس الإنسان إلى مستوى الحياة البدائية[58]. إن دهشة المثقف العربي أو صدمته في العصر الحديث، تجمل المساهمة في تجديد الفكر العربي المعاصر، وفتح مساحات للتفكير في حقل الإسلاميات وتاريخ الفكر. ويجب أن تكون البداية من الإحاطة بمعرفة الذات، وفك إسارها من قبضة النموذج السلف حتى نستطيع التعامل مع كل النماذج تعاملاً نقدياً[59].

حادي عشر: أسس ومضامين المشروع النقدي للفكر العربي

لقد أسس مشروع الجابري النقدي للفكر العربي، على جملة من اليقينيات لا سبيل إلى فهمه من دون توضيح مضامينها.

1 – اتصال سؤال الحداثة بسؤال التراث، وقد تكوّن لديه هذا التصور وأخذ هيئته النظرية في كتابه نحن والتراث، وفي ما جاء في التراث والحداثة. في هذه الدراسات تبدو المعالم الكبرى لرؤية الجابري للموروث الفكري العربي، وهو يفصح عن الانتماء إلى ذلك الموروث، حيث نعيش في ذلك التراث وعليه وإن بشكل انحطاطي وخامد..، ويكون علينا التعامل مع هذا التراث بصفاء الرؤية وبُعد النظر لكي نتمكن من ربط حاضرنا بماضينا وضرورة الدخول في عالم العصر الذي يبدو أن هناك علاقة غلطاً بيننا وبين التراث تحول دون مواكبة العصر[60]. تتطلب القراءة الإبستيمولوجية ربط الجزء بالكل، وتحاول أن تربط بين عالم الفكر وعالم الواقع، فالتاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، يُطلعنا على أن الحداثة الفكرية، والاجتماعية، تحققت في مناطق من المعمورة، باعتبارها عملية حضارية كبرى، ومن ثم فإن الحاجة ماسة في المجال الحضاري العربي الإسلامي للانخراط في الحداثة من دون شروط أو قيود[61].

2 – نقد التراث بالتزام برؤية معرفية، فالتحرر من السلطة المرجعية للترات تتم من طريق إعادة استيعابه وتملكه وكشف محدوديته، وذلك بإعمال أدوات التحليل المعرفي ومناهجه في دراسة التراث وتحليل نصوصه ومنظوماته المعرفية.

وقد تبلور عن هذا المنهج المعرفي وجود خطابات تنظر إلى التراث بمنظار أيديولوجي (خطاب سلفي، يوظف التراث توظيفاً سياسياً لصالح تيار فكري وسياسي واجتماعي، وخطاب عدمي اغترابي يرفض التراث جملة ولا يعيش مشكلات الواقع العربي، يتناولها بفرضيات غير متناسبة وخصوصيتها التاريخية. إنه محكوم بنص آخر، وبسلطة سلف آخر غير سلطة التراثيين، ثم الخطاب الانتقائي، الذي يبحث في التراث عما يعتبر لحظات مشرقة تقدمية، أو مادية، كما يفعل الإحيائيون مع الأفكار التي تناسبهم).

يبدأ الاستيعاب النقدي للتراث عند الجابري، من القطيعة مع هذه المقاربات الأيديولوجية الغارقة في منهج انتقائي تبرره الغاية التي من أجلها يبحث الأيديولوجيون في التراث[62].

3 – تبني التحليل الإبستيمولوجي بأداوته ومفاهيمه في نقد التراث، لأنه الأقدر على تحليل بنى الثقافة والفكر..، والرغبة في تحرير الدراسات التراثية، من طغيان المنهج الوصفي الذي يتناول النص التراثي بطريقة مدرسية تقليدية، تتسم بنزعة تأويلية أيديولوجية تنصرف إلى مضمون أيديولوجي للنص بمعزل عن بنائه المعرفي مما لا يسمح بإنتاج معرفة بالمادة المدروسة .

وقد شكلت هذه العناصر القاعدة التي قام عليها المشروع النقدي للجابري في الإسلاميات وتاريخ الفكر العربي بحيث تساعد على فهم الخريطة المعرفية للمشروع والفرضيات النظرية التي أسست عليها أطروحاته[63]..، في ضوء فهمه لمشكل التراث والحداثة.

فهو يريد الوصول إلى فهم عصري للتراث من منظور التعقل العلمي والموضوعي للموروث، وذلك يتم عبر تبني مناهج العلوم الحديثة، التي تمكن من الاستيعاب والتجاوز، والوصول من خلال الموضوعية العقلانية إلى وعي القطيعة المعرفية والتاريخية، وإلى الاتجاه نحو المستقبل من خلال ثورة معرفية، تضعنا في سياقات التغيير والتقدم[64].

رغم أن الجابري ينتقد بشدة النزعة الأيديولوجية في الثقافة العربية، إلا أن قراءته لم تتخلص من الدوافع الأيديولوجية، فالممارسات التوظيفية واضحة، بل إنها متلازمة مع الدوافع الأيديولوجية في مشروعه. وإذا كان القصد من القراءة الإبستيمولوجية توظيفها في النقد، من خلال تحليل البنية الثقافية بتحويل ثوابتها إلى تحولات، وبالتالي التحرر من سلطتها، وفتح المجال لممارسة سلطتنا عليها، فإن قراءته البنيوية سياقية وتاريخية أراد من خلالها فتح المجال لإمكان فهمها فهماً جديداً يؤدي إلى التجاوز؛ فتوظيف عمليات القراءة العصرية للتراث، لجعله عقداً مع المستقبل وليس قيداً في أسار الماضي..[65]، لا يخرج عن إطار القراءة الأيديولوجية ذات أهداف محددة، تحركها دوافع وأبعاد سياسية قومية، واستراتيجية وعالمية.

ثاني عشر: الاعتراضات والملاحظات على المشروع النقدي للتراث

انتقد طه عبد الرحمن هذا التوجه وذكر أنه لا سبيل إلى الانفكاك عن حقيقة التراث، فهو حقيقة جوهرية ومتصلة تحيط بنا من كل جانب، وتنفذ فينا من كل جهة، كما أنه لا سبيل إلى الانقطاع عن العمل بالتراث في واقعنا، لأن أسبابه مشتغلة على الدوام فينا آخذة بأفكارنا وموجهة لأعمالنا متحكمة في حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا سواء أقبلنا عليه بوعي أو تظاهرنا بالإدبار عنه غافلين.

إن تكاثر الأعمال المشتغلة بالتراث دراسة وتقويماً دليل قاطع على ملازمة التراث لنا تاريخياً وواقعاً، إلا أن أغلب هذه الأعمال تأخذ بتصور للمنهجية العلمية يضيق ضيقاً عن استيفاء مقتضياته التاريخية والواقعية، وهذا التصور ينبني على اعتقاد أن العلم واحد لا تعدد في طرائقه وأنه مطلق لا نسبية في نتائجه. وليس هذا كله إلا توهماً، فالعلم في حقيقته أبواب متعدة ومسالك شتى، كما أن هذا التصور ينظر إلى التراث كما لو كان حقيقة تاريخية غير دينية، وغير قائمة على الوحي تقبل أن ينزل عليها من المفاهيم والمناهج ما ينزل على التراث غير الديني.

إن ما نقل عن الغير، نقلاً وأنزل على التراث إنزالاً بدعوى «الموضوعية» و«السببية والإجرائية» وما شابه ذلك ليس إلا إمكان واحد، تضاهيه إمكانات متكاثرة، هناك منهجية غير المنهجية المنقولة، قادرة على أن تحقق مرادنا في التقويم بطريقة أفضل، من طريق المنهجية التي شاع استعمالها بين النقاد والدارسين، ويقترح «طه» أن تكون المنهجية المستعملة في البحث ثمرة اتباع المبادئ النظرية والعملية التالية:

– التخلص من الأحكام المسبقة والجاهزة التي اعتاد بعض الباحثين إرسالها بصدد التراث كلما عنَّ لهم اتخاذ موقف تمليه عليهم أغراض ما.

– تحصيل معرفة شاملة بمناهج المتقدمين من علماء الإسلام ومفكريهم في مختلف العلوم مع تحصيل معرفة كافية بالمناهج الحديثة تمكن من القدرة على تجاوز طور تقليد المناهج واقتباس النظريات إلى طور الاجتهاد واصطناع المناهج ووضع النظريات.

– التخلُّص في الأحكام التي نحكم بها على التراث من الفصل بين جانب المعرفة وجانب السلوك، هذا الفصل الذي وقع فيه جل المشتغلين بالتراث، فكان يحكم عليه بما لا يعمل به ويقرر بشأنه ما لا يصدقه فعله، فإذا كان التراث ثمرة التسديد بواسطة الشرع فكيف تُدرك حقائقه أو تُحصل سبل تقويمه من قطع الصلة بالشرع..

– تحصيل المعرفة بأصول العمل في التراث وهي المنفعة في العلم والصلاح في العمل، والاشتراك في طلب الصواب باعتبار أن العلم النافع هو ما كان باعثاً على العمل المتعدي نفعه إلى الغير وأن العمل الصالح هو ما كان نفعه متعدياً إلى الآجال وأن الصواب المشترك ما كان محصلاً بطريقة مجالسة العلماء ومحاورتهم.

– الاجتهاد في تجديد تكويننا العقلي بالتزام المقتضيات العملية للتراث باستعادة وحدة العلم والعمل والصواب كما عرفها صانعوا التراث وشهد عليها سلوكهم[66].

انتقد طه عبد الرحمن مناهج الحداثيين، ووجه إلى مشروع الجابري نقداً شديداً، وأخذ عليه أنه قام بتشريح التراث، شرائح متعددة ومتباينة لينتقي منه ما يستجيب لمعايير «العقلانية»، فأدى ذلك إلى تقويم تجزيئي وتفضيلي فما كان من نصوص التراث واضح الانتساب إلى العقلانية لزم الأخذ به والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل وأما ما كان مجافياً لهذه العقلانية وجب تركه.

وأخذ عليه أيضاً التوسل بمفاهيم ومناهج ونظريات العقلانية الحديثة من دون القيام بنقد شافٍ لها، قبل الدخول في تقطيع التراث بواسطتها بدعوى أن بعضه وَفَى بأغراض الاختيار العقلاني[67].

هذا جانب من الاعتراض الذي وُجِّه إلى القراءة النقدية للتراث عند الجابري باعتباره أحد أعلامها البارزين، بل انفرد بفكرة المشروع في رباعية نقد العقل العربي، وبتوظيف عدة منهجية مستقاة من مجال الدراسات الإبستيمولوجية، أثارت حول أعماله جدلاً في أوساط الدارسين نظراً إلى ما أثاره من قضايا وإشكالات تهم مختلف ضروب الفكر والمعرفة العربية القديمة والحديثة، حيث قام برفع منزلة «العقل البرهاني»، وقلل من قيمة العقل العرفاني والعقل البياني، فأدى إلى فتح نقاش خصب حول قراءته للتراث[68].

ثالث عشر: نقد القياس التمثيلي، أو قياس الغائب على الشاهد

انصبّ النقاش حول ما ذهب إليه الجابري بخصوص آلية القياس التمثيلي أي قياس الغائب على الشاهد أو الشاهد على الغائب، رغم أنه يعتبر أنها طريقة علمية، فقد بخسها في النهاية ووصفها بأنها تحولت إلى مجرد آلة ذهنية أصبحت تشكل بالفعل المنتج في نشاط العقل العربي لنتائج خطيرة ترتب عنها إلغاء الزمان والتطور؛ فالحاضر كل «حاضر» يقاس على الماضي وكأن الماضي والحاضر والمستقبل عبارة عن بساط ممتد لا يتحرك (زمان راكد)، ومن هنا لاتاريخية الفكر العربي[69].

لم يعد مستساغاً من الوجهة العلمية، التقليل من قيمة القياس التمثيلي؛ فطرق الأدلة لا تختلف، من منطلق أن الدليل (أياً كان) هو إذا ما نظر الناظر فيه أوصله إلى العلم بالغير، الأمر الذي يستلزم القول بأن إنشاء المعرفة الإنسانية، ونموها قائمان أساساً على قياس التمثيل أو قياس المجهول على المعلوم.

إن علوم الإسلام، وبخاصة منها علم الكلام وعلم أصول الفقه، قد رسخت في الثقافة الإسلامية ممارسة القياس التمثيلي، رغم نقد ابن رشد لذلك القياس في استخدامه الكلامي؛ ونقد ابن حزم له في استخدامه الأصولي؛ وجعل منه ابن خلدون عبر مفهوم «الاعتبار» منهجاً منتجاً يقاس بفضله المجهول على الغائب من الأحداث التاريخية..، ومن هنا جاز لنا اعتبار القياس التمثيلي الممارَس في أي مجال من مجالات النشاط الإنساني وظيفة عقلية ومقصداً فكرياً بقصد تبرير المطابقة أو المخالفة وتحقيق «تكيف» على مستوى المعرفة ثم مستوى السلوك والممارسة[70].

لقد أولت جل المذاهب الإسلامية أهمية متميزة في تفكيرها للعقل تفكيراً وتحليلاً، وتركيباً واستدلالاً.

لا ريب بأن موضوع الاستدلال بالشاهد على الغائب من الجسامة والخطورة، لارتباطه بالعقيدة والشريعة، وللتأثير الذي أحدثه على صعد متعددة، سواء تعلق الأمر بفهم العقائد وأفهامها، أو بإنشاء الدعاوى والتدليل عليها. فمفهوم الشاهد يعني الحضور والمعاينة، أما الغائب فيفيد الشك والجهل والستر، ويستخدم بمعنى المبطن غير الظاهر، والغيب عموماً ما غاب عن النظر، فيكون قياس الشاهد على الغائب أو إلحاق الغائب بالشاهد، يعني إزاحة للشك والجهل عن الشيء الغائب، فيخرجه الشاهد المعروف من عتمة الجهل إلى نور العلم.

فلا سبيل عند الأشاعرة إلى معرفة الغائب إلا بطريق النظر في «الشاهد» المعلوم من الحواس، والضروريات، للاستدلال عليه.. والمستدل إنما يستدل، ليعلم ما لم يعلمه، بأن ينظر في ما علمه ويرد إليه ما لم يعلمه. وبالتالي فالاستدلال لا مفر للمستدل فيه من الارتداد إلى المحسوسات والمعلومات.

إن هذا التأصيل عند الأشاعرة جعل الاستدلال بالشاهد على الغائب منهجاً عقلياً، باعتبار العاقل هو العالم الذي يعلم الضروريات، ويجعل المعلوم به ضرورة قانوناً وحجة إليها يرد، ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له حسب نظيره، هو حكم بالمعقول على أدلة العقول. وغني عن القول إن منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب، طريقة مسلوكة من قبل النظار انطلاقاً من أن الشاهد كوناً وإنساناً هو وعاء النظر ومنطق الاستدلال.

رابع عشر: المعالجة الإبستيمولوجية للتراث

بخصوص المعالجة الإبستيمولوجية للتراث يرى علي حرب أن المنهج الإبستيمولوجي لا يقوم على النظر في ما ينتجه الفكر من آراء وتصورات ونظريات ومذاهب، بل يقوم على البحث عن أصول التفكير ومعاييره وقواعده، ويهتم بتحليل الآليات والطرائق والأجهزة التي يستخدمها العقل في إنتاجه للمعارف التي ينتجها في شتى الميادين العلمية، باختصار إنه منهج يركِّز على أسس التفكير وأدواته لا على مضامينه ومنتوجاته، ولا مراء في أننا نحن اليوم نختلف في تفكيرنا وفي أدوات تحليلنا عن القدماء (سيبويه، والشافعي، والأشعري، والفارابي، وابن رشد وابن خلدون)؛ فعقلياتنا وأدوات تفكيرنا مغايرة لأدواتهم، وآلياتنا المنهجية تبدو أكثر مرونة وفعالية من آلياتهم، ومن ثم فإن النظر إليهم من منظور إبستيمولوجي صرف يؤول إلى إقصائهم واعتبار أن ما أبدعوه «مادة معرفية ميتة» كما يقول الجابري في حكمه على الإنتاج الفكري الذي خلفه الفلاسفة المسلمون[71].

غير أن واقع الأمر لا يؤيد هذا المنحى في التعامل، فنحن لا نقطع معرفياً مع الذين سبقونا بمن فيهم القدامى، حيث لا ننفك نرجع إليهم باستعادة أقوالهم والاشتغال على نصوصهم؛ لا لمجرد قيمتها التاريخية أو الأيديولوجية، بل نسترجعها لقيمتها المعرفية والفكرية. فالنصوص الفكرية ليست مجرد تراث أصبح ينتمي «كلياً» إلى الماضي. بل هي إنجازات وروائع لا يمكن تجاوزها، بوصفها إمكاناً للتفكير. فلا مندوحة في عمل الفكر من استعادة أعمال السابقين للاشتغال عليها والبناء بها؛ فممارسة التفكير في حقيقتها بمثابة تفكيك وتأويل وإعادة بناء، ولكن الجابري على ما يبدو من ممارسة قراءته يميل إلى النقض والدحض والإقصاء أكثر مما يقوم بالتأويل وإعادة البناء[72].

يصمت الجابري على ما ينبغي تحليله ويختزل ما يقوم بتحليله، إلى حد الإلغاء، وما كان الجابري ليصل إلى هذه النتيجة لولا نزوعه إلى معاملة النصوص كمنظومات وإلى تصنيف الأفكار إلى مذاهب وأنظمة معرفية، فهاجس التصنيف وبناء الأنساق هو الذي يفسر لنا قوله بأن فلسفة ابن سينا «قتلت» العقل والمنطق في الوعي العربي[73].

إن مثل هذه النتيجة ترجع إلى محاكمة العقل الفلسفي والصوفي من خلال عقلانية الغرب العلمية الصرفة، فنحكم عليه بأنه نتاج غير عقلاني، بل علينا أن نستكشف عقلانيتنا لكي نعيد تعريف العقل حتى نتجنب محاكمة العقلانية العربية من خلال العقلانية اليونانية أو الغربية. ولا يعني هذا أن المنهج الإبستيمولوجي غير صالح في تناول الفكر العربي الإسلامي؛ ذلك أن التناول الإبستيمولوجي يتم فيه الحفر في طبقة من طبقات الخطاب للكشف عن أسس التفكير وفحص معاييره وتحليل نماذجه العقلانية، لكي ننقب عن أسس المعرفة وكيفية بنائها.

و«الجابري» إذ يستخدم المنهج الإبستيمولوجي في نقد العقل العربي، يفتح بذلك حقلاً جديداً للبحث والدراسة في الساحة الفكرية العربية وينشئ خطاباً يتكشف عن لغة جديدة وعن عقلانية مغايرة في الطرح والمعالجة..[74]، فلا يرى إمكانية لأي تجديد إلا من داخل التراث، وذلك باسترجاعه استرجاعاً معاصراً، وأن نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به، وهذا هو التجاوز العلمي الجدلي الذي يعطي أولوية للتراث باعتباره النطاق الأوسع، فإذا لم نكن على معرفة دقيقة وعامة بالتراث وأهله، فكيف يمكن أن نطمع في نشر الحداثة فيه وأن نجدد فيه وأن ندشن عصر تدوين في مجالاته[75].

كان الجابري يطمح إلى شق طريقه، باتجاه التعاطي مع التراث بأسلوب جديد يلتزم بالشروط العلمية ويمهد لقراءة معاصرة لأهم ما انتجه العقل التراثي ويظهر جلياً أن ما وجه علمه النقدي يتمثل بالتعاطي مع النص التراثي كإشكالية لها مضمون معرفي وأيديولوجي، لذلك كان عليه أن يموضع «المقروء» في إطاره، ويجعله معاصراً لمحيطه الفكري والاجتماعي والسياسي مع الإصرار على إضفاء طابع المعقولية عليه لكي يجعله معاصراً، فيفيد في إغنائه أو إعادة بناء ذاته[76]. ويسمح بإعادة ترتيبه في سياقه التاريخي ويدفع بالمفكرين إلى الانكباب على معالجة إشكالية الانحطاط والجمود من خلال العقبات التراثية التي تعطل الإرادات..، وهذا يحتم ضرورة صياغة نموذج جديد للتمكين من الدخول في الزمن العالمي حسب تعبير جاك برك[77].

فالجابري في ضوء فهمه لمشكل الحداثة والتراث يريد الوصول إلى فهم عصري للتراث في اتجاه «العقلانية والديمقراطية»، وقد استخدم لتحقيق غرضه المنهج الإبستيمولوجي الذي فهمه باعتباره تخليطاً للبنى والمفاهيم يترتب عنها تفكيك ثم تركيب، أي إعادة بناء نموذج يكون فاعلاً في عملية النهوض والتقدم. ولعل المشكلة الأصعب التي واجهته تتمثل بمحاولته تجاوز الفهم التراثي للتراث إلى فهم حداثي ورؤية عصرية يتم من خلالها مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي تمثلت في عدة النقد وآليات الاشتغال التي اعتمدها لهذا الغرض، فوظف مناهج نقدية مبتكرة في الغرب بهدف إنتاج التراث بصورة حديثة، مما أوقعه في تناقض عندما جعل العقل العربي حبيس مرجعيتين جاذبيتين (تراثية، وأوروبية)، لا سبيل إلى النهضة إلا بالتحرر من النموذجين معاً ومن سلطتهما السلفية المرجعية، وهو اقتراح لم يستطع الالتزام به لجهة انتقائه منهجاً وأدوات نقد حديثة دون نقد أو مساءلة، مما يعني أنه انتهى بالوقوع في أحضان سلطة المرجعية الغربية[78]. إلا أن هذا الاختيار ينسجم مع موقف الجابري المبدئي بضرورة تحديث العقل العربي فسعى إلى تحرير الراهن من سلطة التراث فكرياً، وفي المقابل لم يجعل التراث معاصراً بل مارس عليه سلطة الأيديولوجيا وسحرها الخادع[79].

خاتمة

إن كل من يمارس النقد يُصدر أحكاماً، والنقد هو بالتعريف إصدار حكم بالصحة أو بعدمها من منظور النقد الإبستيمولوجي للمعرفة، حيث نحن في دائرة المحاكمة العقلية للقول أو للمعرفة، إما أن يكون لهذه المعرفة مضمون نؤيده أو لا نؤيده، فالإبستيمولوجيا هي التفسير الإبستيمولوجي بالعلم وبالعقل[80].

فالعقل عنده هو «لعب حسب قواعد» بما يعنيه ذلك من العمل على فرط أنظمة المعارف بغية إعادة جمعها وتركيبها على نحو جديد مغاير، يكون أكثر فعالية وإجرائية وقدرة على إعادة رسم الحدود وترسيم المفاهيم، وبالتالي ممارسة أسلوبه النقدي بصورة تمكنه من تغيير المعادلات على الساحة الثقافية العربية الإسلامية، من خلال العدة المنهجية التي يوظفها ويحسن استثمارها في الإنتاج المعرفي.

وهذا الإمكان المعرفي هو الذي يجعل من الجابري باحثاً قديراً وناقداً كبيراً[81] وفيلسوفاً للعقلانية العربية المعاصرة، راهن على الحداثة وتحديث التراث بقصد تجاوز مظاهر التخلف والتأخر التاريخي.

نخلص مما تقدم، إلى أن مزية العقل الإنساني «الرشد» وهو المقابل لتمام التكوين ومناط استيفاء جميع الوظائف والخصائص التي يتسع لها ذهن الإنسان، ولن يتم تحديث العقل العربي، إلا بمسايرة الفكر العلمي والمساهمة في إغنائه وإثرائه والعمل على نشر المعرفة العلمية على أوسع نطاق، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من رؤى فلسفية وآفاق فكرية رحبة[82].

لبلوغ هذه الغاية، يجب أن نتلمس في الخطاب العلمي ما ينضج النفوس ويحيي الهمم ويطلق العقول، على الفهم والاجتهاد، بقصد الوصول إلى الوعي الاجتماعي والترقي الحضاري والسمو الروحي العابر للزمن والتاريخ.

 

قد يهمكم أيضاً  محمد عابد الجابري: مسـارات مفكـر عربـي

للمزيد.. إخترنا لكم أيضاً  محمد عابد الجابري: ونقد العقل العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #محمد_عابد_الجابري #الجابري #التراث #العقل_العربي #إبستيمولوجيا #دراسات