يعود عمل محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي إلى السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، حين نشر الجزء الأول منه عن تكوين العقل العربي (1984). لكن فكرته تبلورت، عند الكاتب، قبل هذا التاريخ كما توحي بذلك مقدمة كتابه الخطاب العربي المعاصر ، وخاصة تشديده فيها على الحاجة إلى الانتقال من نقد التراث إلى نقد العقل، وهو ما كان بدأه تمريناً معرفيّاً على نصوص الفكر العربي المعاصر في كتابه المومأ إليه، وجرّب فيه مفاهيم سيكون لها الحضور الكبير في قراءته للعقل العربي.

والحقّ أن عمل محمد عابد الجابري على نقد العقل لا يمكن أن يُفْصَل عن سياقٍ علميٍّ طويل سَبَقه، ومهَّد له؛ وهو كناية عن اهتمام فكريّ شديد بدراسات التراث، لدى الجابري، من جهة أولى، واشتغالٍ مديد ـ تأليفاً وتدريساً ـ بمسألة المناهج والدراسات الايبيستيمولوجية. وهُما معاً ـ الدراسة التراثية والدراسة المنهجية ـ تَضَافَرَا ليصنعا، في فكر الرجل، هذه اللحظة المعرفية الجديدة التي دشّنها مشروع نقد العقل العربي في مسيرته الفكرية.

أولاً: مقدّمات المشروع وموارده

أنجز الجابري أطروحته للدكتوراه في الفلسفة، في أواخر الستينيات، عن ابن خلدون (العصبية والدولة) ، وناقشها في العام نفسه الذي نشرها فيه (1970). ومنذ ذلك الحين، كرّس اهتمامه للتراث الفكري العربي الإسلامي: تدريساً، وبحثاً، وتأليفاً، لم يكن يقطعه ـ خاصة في سنوات السبعينيات ـ غير الاهتمام السياسي والتربوي الذي دفعه إلى تأليف كتابين في التعليم والتربية ( أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب ، و من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية) ، وآخر في التعريف بفلسفة العلوم والايبيستيمولوجيا ( مدخل إلى فلسفة العلوم؛ جزآن، 1976 ). وبحكم اختصاصه، كباحث في الفلسفة، ومدرِّس لها في الجامعة، شُغِل، في المرحلة الأولى من مسيرته العلمية، بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، وأنجز ـ في نطاق اهتمامه به ـ دراسات متفرقة عن الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، جمعها إلى بعضها في كتاب حمل عنوان: نحن والتراث . وكان، قبل ذلك، في جملة لجنة من الأساتذة كلفتها وزارة التعليم، في النصف الثاني من الستينيات، بوضع كتاب مدرسي (للمدارس الثانوية) للفلسفة والفكر الإسلامي (صدر في جزأين)، وكتب نصوصاً في علم الكلام والفلسفة بدَت ـ في حينه ـ قراءة جديدة في تراث الإسلام. ولقد استمرَّ بعضُ تلك القراءة حيّاً في تفكير الجابري حين كتب دراسات المجموعة في نحن والتراث ، ومنه أنه لم يبارح أطروحته القائلة بأن الإشكالية الرئيسية الحاكمة للفكر العربي الإسلامي هي إشكالية العقل والنقل .

تميزت قراءات الجابري، في هذه الفترة، بانفتاحه على قراءاتٍ معاصرة، ومفاهيم رائجة، في الفكر الفلسفي الغربي وقتئذ، وتوسُّلها تطبيقاً وتجريباً؛ فعلى نحو قراءة الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير لفكر كارل ماركس (في كتابين له هما: Pour Marx و Lire le Capital )، وسعيه في بيان الثورة المعرفية التي أنجزها ماركس في علاقته بسابقيه من المفكرين، وخاصة هيغل، جرّب الجابري قراءة الفكر الفلسفي العربي في المغرب والأندلس، وخاصة فكر أبي الوليد بن رشد، من زاوية ما أنجزته كتاباتُه من تحوُّلٍ معرفيّ مقارنةً بسابقتها في المشرق العربي. ومثلما تحدّث ألتوسير عن قطيعة معرفية (Rupture إpistإmologique) ماركسية مع فكر هيغل، والنزعة الإنسانية (الإنسانوية)، قادت إلى تأسيسه المادية التاريخية، تحدّث الجابري عن قطيعة ايبيستيمولوجية أنجزها فكر ابن رشد مع «الفلسفة الإشراقية» المشرقية لابن سينا، قادت إلى قيام عقلانية رشدية أرسطية. ولقد ارتسمت، منذ ذلك الحين، معالم عقلانيته، أو انحيازه إلى العقلانية، في دفاعه الشديد عن العقل الأرسطي في الفلسفة العربية الإسلامية، وخاصة في صيغتها المغربية ـ الأندلسية، في مقابل نقده الحاد للغنوصية[(1)] والهرمسية[(2)] التي صنعت فكر الفلسفة الإشراقية السينوية، وقبل ذلك في دفاعه عن العقل الكلامي الاعتزالي في مقابل نقدٍ حادّ للأشعرية[(3)].

لم يكن محمد عابد الجابري، حتى هذه الفترة التي نتحدث عنها (أواسط السبعينيات ونصفها الثاني)، مهتمّاً إلاّ بمجالات فكرية ثلاثة من التراث العربي الإسلامي، هي: علم الكلام، والفلسفة، و ـ إلى حدٍّ ما ـ التصوّف. حتى الفكر السياسي الإسلامي لم يكن يعنيه منه لا فقهُ السياسة الشرعية[(4)]، ولا الآداب السلطانية[(5)]، وإنّما ـ حصراً ـ الفلسفة السياسية: كما يتبين ذلك من اهتمامه بالفارابي والاشتغال عليه. وكان عليه أن ينتظر نضوج فكرة نقد العقل العربي ليوسّع ـ في ما بعد ذلك بسنوات قليلة ـ دائرة الاهتمام لِتَشْغَل مجالات فكرية أخرى كأصول الفقه، والسياسة الشرعية، واللغة والنحو، والبلاغة…، كما سيلي بيانُ ذلك في فقرة أخرى من هذا العرض. غير أن الجابري، وفي هذه الدائرة المحدودة من علوم التراث التي اهتمّ بها في تلك الفترة من مسيرته العلمية، قدّم مساهمةً منهجية جديدة في مقاربة إشكاليات التراث، أحدثت اختراقاً في موضوع ازدهرت فيه، في ذلك الحين، القراءة المادية التاريخية، أو الآخذة في بعض مفاهيم المادية التاريخية وأدواتها، وكادت تحتكر فيه القول، على نحو ما تبيّن مع سطوة كتابات طيب تيزيني وحسين مروّة في سنوات السبعينيات.

* * *

تعزّز هذا الشغف الفكري المثابر، لِدراسة الموروث الثقافي، عند الجابري، بشغف رديفٍ بمسائل المناهج والثورات العلمية والايبيستيمولوجية المعاصرة. وهو بدأ، عنده، تربوياً قبل أن يترسخ في وعيه كخيارٍ فكري؛ ذلك أنّ تحدّي تعريب الفلسفة في المدارس الثانوية والجامعات، ووضْعَ كتاب مدرسي لهذه المادة، ممّا خاض فيه الجابري بهمّة وحماسةٍ مثيرتين، ووسّع دائرة اهتماماته الفلسفية لتشمل مجالات جديدة لم تكن، عنده، في نطاق الاختصاص. ومع أن شغف الرجل بالرياضيات ـ التي بدأ طالباً فيها قبل التحاقه بقسم الفلسفة في جامعة دمشق في النصف الثاني من الخمسينيات ـ هيّأهُ لأن يهتم بفلسفة العلوم، مثلما صَبَغَ تفكيره بالعقلانية، إلا أن الضرورات التدريسية وتحدياتها عند أستاذ كُلّف بوضع كتاب مدرسي، ووجد نفسه ـ في الجامعة ـ مضطرّاً إلى تدريس مواد الفلسفة كافة، قذفَ به في عالم العلوم الرياضية والتجريبية كمشكلات فلسفية (فلسفة العلوم)، وما ارتبط بتلك المشكلات من مسائلَ مثل مناهج المعرفة العلمية، وأزمات العلم المعاصر (أزمة اليقين الرياضي، وأزمة الميكروفيزياء[(6)]، وما استَتْبَعَها من أزمات هزّت مبادئ العلم الكلاسيكي (الحديث) مثل مبدأيْ الموضوعية والحتمية. وبكلمة، وجد نفسَه، وجهاً لوجه، أمام ميدان الدراسات الإيبيستيمولوجية.

جمع الجابري، في منتصف السبعينيات، دروسه وكتاباته في موضوع فلسفة العلوم في كتاب حمل العنوان عينَه، وتألف من جزأين: جزء أول عن العلوم الرياضية، وجزء ثان عن العلوم التجريبية، مع ملاحق لنصوص مترجَمة من الفرنسية إلى العربية بأقلام كبار العلماء والإيبيستيمولوجيين المعاصرين. غير أن الجابري ـ الشغوف بكتابات عالم الفيزياء الفرنسي غاستون باشلار، وعالم النفس التربوي السويسري جان بياجيه ـ سرعان ما سيعثر في أعمال الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير على تطبيقٍ خلاق للمفاهيم الباشلارية على نصّ ينتمي إلى العلوم الاجتماعية، هو النصّ الماركسي، وسيجد نفسَه مدفوعاً إلى تجريب المقاربة عينِها على النصّ الفلسفي العربي الإسلامي الكلاسيكي (الوسيط)، كما مرّ معنا الإلماح إلى ذلك، قبل أن يدخُل ـ في حملة عُدّته المعرفية ـ الجهازُ النظريّ والمفهوميّ للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو؛ المستَقَى من تحليله للثقافة الغربية في كتابه الشهير الكلمات والأشياء ( Les Mots et les choses ) . ولقد ظلّ الجابري مُصرّاً على تسمية مقارباته للتراث باسم «التحليل الايبيستيمولوجي»؛ سواء في كتابه الخطاب العربي المعاصر ، أو في سلسلة نقد العقل العربي.

* * *

هذه هي موارد مشروع الجابري لنقد العقل العربي، ومقدماته، والسياقات التي تطوّر فيها وعيُه قبل أن يبدأ مباشرةً الكتابة في الموضوع؛ إنه حصيلة هاجسٍ ومنهج : هاجسٍ دراسيّ حادّ بأولوية قضية التراث، انتقل من التعبير النظري عنه إلى حيّز الدراسة التطبيقية، وهاجسٍ منهجي صَقَله الاهتمام بفلسفة العلوم والايبيستيمولوجيا، وتطبيقاته الفلسفية في الفكر الغرْبي (الفرنسي) المعاصر.

ثانياً: نقد العقل العربي

أعلن محمد عابد الجابري عن مشروعه في نقد العقل العربي في خاتمة كتابه الخطاب العربي المعاصر ، الذي صدر في 1983: عاماً قبل صدور الجزء الأول من نقد العقل العربي ( تكوين العقل العربي (1984)) . وكان واضحاً من خاتمة الكتاب، بل من بعض فصوله، أن استنتاجات الجابري فيها وأحكامه على الخطاب العربي المعاصر، تبلورت بعد ـ أو أثناء ـ اشتغاله على نقد العقل العربي ؛ ذلك نقدُه لآلية القياس الحاكمة للخطاب المعاصر، ونقده لسلطة النصّ وسلطة السّلف في الوعي المعاصر، ودعوته لتدشين «عصر تدوين جديد». وهذه ـ جميعها ـ إنما هي جوهر نقده للعقل العربي. وهو ما يوحي بأنه كَتَبَ الجزء الأول من نقد العقل قبل الخطاب العربي المعاصر أو أثناء كتابته له، وأن تواريخ النشر ليست، بالضرورة، مطابقة لتواريخ الكتابة.

كان في نية الجابري، على نحو ما أفصح عن ذلك، أن يُصدر كتاباً في نقد العقل العربي من جزأين: التكوين، والبنية. وهكذا فَعَل، في البداية، مستعيداً ـ بهذا التقسيم ـ تقليداً فكريّاً بنيوياً متداولاً في المدرسة الفرنسية، وامتداداتها، يميّز في الفكر بين لحظتين فيه هما لحظة التكوين (Genةse) ؛ التي تتشكل فيها مفاهيمه وتتطور، ولحظة البنية (Structure) ؛ التي تتحدد فيها شخصيته كنظام. وليس من الصعوبة على قارئ الجابري،وقارئ مصادر تفكيره، أن يَرُدّ هندستَه للكتاب تلك إلى تأثير فكر جان بياجيه فيه أكثر من لوسيان غولدمان وغيره من رموز البنيوية التكوينية . ولقد التزم الجابري بهذه الهندسة إلى حين إصداره الجزء الثاني من الكتاب، الذي حمل عنوان: بنية العقل العربي ، وصدر في عام 1986. لكنه سرعان ما تجاوزها حين انخرط في كتابة جزء ثالث عن العقل السياسي العربي (صدر في عام 1990)، ثم أتْبَعَهُ بجزء رابع عن العقل الأخلاقي العربي (صدر في عام 2001)؛ حيث مالَ إلى هندسةٍ منهجية جديدة تستعيد التقليد المألوف في الفكر الغربي منذ القرن الثامن عشر، مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كَنْت، في قسمة العقل إلى عقل نظري ، و عقل عملي. وهي قسمة قد تعود إلى الإغريق (فلسفة نظرية وفلسفة عملية) قبل أن يتمسك بها فلاسفة الإسلام. هكذا أصبح نقد العقل العربي ، ذو الأربعة أجزاء، جزأيْن: عقل نظري في جزأين فرعيين ( تكوين العقل العربي ، و بنية العقل العربي) ، و عقل عملي في جزأين آخرين (العقل السياسي العربي ، و العقل الأخلاقي العربي).

كان لهذه الهندسة الجديدة ما يبرّرها عند صاحبها؛ فلقد استشعر الجابري، وهو يقرأ ما كُتِبَ نقداً لكتابه (بعد صدور الجزء الثاني منه)، أن معظم النقد انصرف إلى منهج القراءة (البنيوية، الايبيستيمولوجية) الذي يُغْفِل التاريخ والتاريخية، ولا يقيم لهما اعتباراً في النظر إلى الأفكار وتيارات الفكر، وأن أحكامه النقدية ـ التي بدت قاسية لدى كثيرين ـ إنما تولّدت من إسقاطه الظروف والشروط التي نشأت فيها أفكار مفكري الإسلام. ومع أنه حاول أن يشرح، بكثير من التفصيل، منهجيته الجديدة، وأن يبيّن ما تنطوي عليه من قيمة معرفية في تمكين الباحث من معرفة كلّية الفكر و نظامه من الداخل ، إلاّ أن ناقديه آخذوه على إغفاله العوامل والسياقات الموضوعية التي تتحرك فيها الأفكار والمعطيات الفكرية، وشككوا في جدوى قراءةٍ للموروث الثقافي لا تأخذها في الحسبان. ولعلّ هذا هو السبب ـ في ما نزعم ـ وراء إقدام الجابري على تعديل هندسته للكتاب بحيث تشمل جانبين من تجلّي العقل العملي هما: السياسة والأخلاق.

لكن الجابري نَحَا منحىً آخرَ مختلفاً في الجزأين الثالث والرابع من نقد العقل العربي عما سار عليه في جزأيه الأوّلين؛ فهو لم يستخدم فيهما العُدّة المنهجية والمفهومية التي توسَّلها في التكوين و البنية ، ليس لأنها لا تناسب العقل العملي، مناسَبَتها للعقل النظري كما قد يُظَنّ، وإنما لأنه لم يتناول في ذينك الجزأين العقل العملي ـ كما افترضَ أو خطّط ـ وإنما تناوَل تجلياته في السياسة والأخلاق. وتقتضينا الدقة أن نقول إن موضوعيْ الجزأين الثالث والرابع من الكتاب هما: المجال السياسي الإسلامي وتكوُّنه، ومنظومة الفكر الأخلاقي في الإسلام. وغنيّ عن البيان أن الفارقَ كبيرٌ بين العقل والمجال السياسي، وبين العقل والفكر : كما بيّن الجابري نفسُه ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتابه ( تكوين العقل العربي).

استتبع هذا التغيير في موضوع الجزأين الثالث والرابع تغييراً في طريقة القراءة، والأدوات المُتَوَسَّلَة من الباحث لمقاربة الموضوع. وهكذا بمقدار ما تراجعت منظومة مفاهيم التحليل الايبيستيمولوجي، في هذين الجزأيْن من الكتاب، دَخَل العامل التاريخي في نسيج التحليل؛ أكان تاريخاً للوقائع والمؤسسات، أو تاريخاً للأفكار. ومع أن أحداً، نزيهاً، لا يستطيع أن يجحد القيمة العلمية للجزأين الثالث والرابع، وما أضافَتْه قراءة الجابري للمجال (والفكر) السياسي، وللفكر الأخلاقي، في الإسلام الكلاسيكي، إلاّ أنّ فرصةً ضاعت ـ على الكاتب وعلى القراء معاً ـ لقراءة نقدٍ معرفي للعقل السياسي والأخلاقي العربي، أي لقراءة تحليلٍ لمنظومات إنتاج المعرفة في مسألتيْ السياسة والأخلاق في التراث العربي الإسلامي.

سنحاول، في ما سيلي، عرض معطيات هذا الكتاب/المشروع، بأجزائه الأربعة، عرضاً مركّزاً مرجئين ملاحظاتنا على العمل إلى الأخير.

1 ـ تكوين العقل العربي

صدرت طبعته الأولى في عام 1984، وهو يتألف من قسمين؛ تُشكل الفصول الثلاثة ـ التي يتألف منها القسم الأول ـ مدخلاً نظرياً ومفاهيميّاً إلى موضوع الكتاب، أمّا الفصول التسعة الأخرى (من الفصل الرابع حتى الفصل الثاني عشر) ـ وهي مادة القسم الثاني من الكتاب ـ فتتناول مكونات الثقافة العربية بالتحليل، راصدة النظم المعرفية في تلك الثقافة تكويناً، واشتغالاً، وتداخُلاً، واصطداماً.

يتوقف الباحث، في القسم الأول من الكتاب، أمام طائفة من المفاهيم التي توسَّلَها، ملقياً ضوء التحديد والتعريف عليها، مميّزاً بعضَها عمّا يتداخل معه في المعنى من مفاهيم أخرى مجاوِرة: على الأقل في الحقل التداولي المعاصر. وهكذا ميَّز بين الثقافة و العقل ، كما رام (هو) استعماله، أي بمعناه الايبيستيمي لا بمعناه الإثنولوجي، مثلما ميَّزَ في العقل بين العقل المكوِّن (La Raison constituante) و العقل المكوَّن (La Raison constituإe) ، مستعيراً التمييز من أندريه لالاند، مشدِّداً على أن هدفه إنما هو نقد هذا العقل المكوَّن في الثقافة العربية، وذاهباً إلى مقارنةٍ مستفيضة بين العقل العربي والعقل اليوناني، ثم العقل الأوروبي: الحديث والمعاصر.

يعرّف الجابري العقل العربي، الذي سيهتم بتحليله ونقده، بأنه: «ليس مقولة فارغة ولا مفهوماً ميتافيزيقياً ولا شعاراً إيديولوجياً للمدح أو الذمّ، وإنما… جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء، وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها». ويعرِّفُهُ في مكان آخر (من الكتاب) بما هو «البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين». على أن هذا العقل ـ عند الجابري ـ يشتغل، مثلما يتكون، على نحوٍ لا شعوري؛ فإذْ هو استعار مفهوم اللاشعور المعرفي (L’Inconscient cognitif) من جان بياجيه، ذهب به إلى حسبانه ممّا به تشكّل العقل العربي، وهكذا فإن « بنية العقل، الذي ينتمي إلى ثقافة ما، تتشكل لا شعوريّاً داخل هذه الثقافة ومن خلالها، وتعمل بدورها، وبكيفية لا شعورية كذلك، على إعادة إنتاج هذه الثقافة نفسها».

وإذْ يستعير مفهوم الإطار المرجعي من الدراسات الايبيستيمولوجية المعاصرة، يقرّر أن الثقافة العربية هي الإطار المرجعي للعقل العربي؛ لأنه فكّر من داخل معطياتها، وبأدواتها التي كرّستها. على أن الثقافة العربية شهدت تقنيناً وتبويباً في مرحلةٍ من تاريخها سمّاها الجابري «عصر التدوين» ، ويقع بين منتصف القرن الثاني للهجرة ومنتصف القرن الثالث للهجرة. وفي هذا «العصر»، دُوِّنت العلوم العربية الإسلامية من نحوٍ، وبلاغةٍ، وعَروض، وفقه، وحديث، وكلام…، وخضعت لتقعيد (أو قَوْعدة) لم تتغير منذ ذلك الحين، ممّا دَلّ ـ في نظر الجابري ـ على أن «الزمن الثقافي العربي راكد»، وآسن، لا حياة ولا سيولة فيه، ويعيد إنتاج نفسه في دورة متكررة مغلقة. ومن هناك يتأدى إلى القول إن عصر التدوين ذاك هو الإطار المرجعي للعقل العربي ، وهو المسؤول عن استمرار انشداد العقل العربي إلى آلياته التكوينية التي لم تتطور، ولم تتغير، حتى باتت تشكل عوائق معرفية أمام تقدم الفكر والثقافة العربيَّيْن.

ويرصد الجابري، في فصول القسم الثاني من تكوين العقل العربي ، مكوّنات الثقافة العربية في نطاق تصنيفٍ آخر غير تصنيفها إلى علوم ـ على ما درجت على ذلك العادة ـ فيضعها تحت ثلاثة نظم معرفية هي: البيان ، و العرفان ، و البرهان ، مؤرّخاً تكوين تلك النظم، وراصداً تكوُّن مفاهيمها، وعلاقات التماثل بين مجموعات العلوم الواقعة تحت كل نظامٍ معرفي. ويتناول، في تَأْريخه تكوين العقل، ظاهرة التداخل بين النظم المعرفية الثلاثة مميِّزاً، فيه، بين ما سيسميه في بنية العقل العربي باسم التداخل التكويني ، الذي بَدَا له طبيعياً وموضوعيّاً في أيّ تكوينٍ تتناظر فيه قواعد المعرفة داخل كلّ علم (خصوصاً بالنظر إلى أن عالم الكلام أو عالم أصول الفقه كان، في الوقت عينه، عالم لغة ونحو، وربما عالم بلاغة أو عالم تفسير)، وما سمّاه التداخل التلفيقي ؛ وهو التداخل الذي يمزج مزجاً نافراً بين قواعد المعرفة في نظام معرفي وقواعدها في نظام آخر، مثل الذي قام به الغزالي بين البيان والعرفان، أو الإسماعيلية بين العرفان والبرهان. وهذا التداخل (التلفيقي) هو الذي أسَّس للأزمة في الثقافة العربية، في نظر الجابري، كأزمة أسس.

على أن الجابري كرّر في تكوين العقل العربي ما سبق له أن عبّر عن بعضه في نحن والتراث ، وخصوصاً من تَعْليةٍ لمكانة الثقافة العربية في الغرب الإسلامي، وفي الأندلس خاصة؛ فطفِقَ يرى في فكر ابن حزم، وفقه الشاطبي، وفلسفة ابن رشد، محاولة رائدة لإعادة تأسيس أسس تلك الثقافة؛ خاصة في الفقه والفلسفة. ومع أنه خفَّف من أحكامه القَطْعية السابقة، فلم يتحدث عن قطائع ايبيستيمولوجية بين المعرفة في المغرب والمعرفة في المشرق، إلاّ أن حديثهُ عن دورٍ ما مُفْتَرَض للفكر الإسلامي الأندلسي في إعادة تأسيس الأسس ـ وهو الذي سيستفيض فيه في الجزء الثاني ـ لا ينسجم مع تشديده على فكرة مرجعيّة عصر التدوين بالنسبة إلى الثقافة العربية والعقل العربي.

2 ـ بنية العقل العربي

وهو عنوان الجزء الثاني، وموضوعُه، وصدر في عام 1986. وقد يكون أهمّ أجزاء الكتاب كافة من حيث الحياكة المنهجية، والطرافة في المقاربة، وأكثرها عمقاً وإضافة إلى الموضوع؛ لأن الاشتغال فيه كان على موضوع غير مسبوق: بنية العقل من الداخل وجهازها المعرفي والمفهومي. ففيما انصرف الجابري في الجزء الأول من الكتاب إلى رصد تكوين العقل، وتكوين مفاهيمه، اهتم ـ في هذا الجزء الثاني ـ بتحليل بنيته الداخلية، وكيفيات اشتغاله أو إنتاجه المعرفة.

يتألف بنية العقل العربي من أربعة أقسام تتضمّن أربعة عشر فصلاً؛ القسم الأول منها تحت عنوان البيان ، بما هو النظام المعرفي الأول من أنظمة الثقافة العربية، ويقع في ستة فصول يعرِّف فيها البيان كنظام، ويستعرض فيها الأزواج الايبيستيمولوجية الحاكمة للخطاب البياني في اللغة، والنحو، والبلاغة، وأصول الفقه، والكلام. ويقع القسم الثاني ، حول العرفان ، في أربعة فصول تعرِّف بهذا النظام المعرفي، وبالمفاهيم الحاكمة له. ويقع القسم الثالث ، حول البرهان ، في فصلين يعرّفان بهذا النظام المعرفي ومفاهيمه. أما القسم الرابع من الكتاب، وهو كذلك في فصلين، فيتناول لحظتين متزامنتين في العقل العربي في طور أزمته: لحظة تفكُّك النُّظُم، ولحظة إعادة التأسيس. وينتهي هذا الجزء (الثاني) من الكتاب بخاتمة يدعو فيها الجابري إلى إعادة تدشين «عصرِ تدوينٍ جديد».

هذا وصف عامّ، خارجي، للجزء الثاني من الكتاب. إذا دخلنا في تفاصيل بنيته، ستطالعنا الأطروحات التالية:

أ ـ لكل نظامٍ من الأنظمة المعرفية الثلاثة معناه كما يرى الجابري؛ وهكذا فالبيان يفيد الظهور والإظهار، ويفضي إلى الفهم والإفهام، وهو الذي عليه يقوم النظام المعرفي البياني في الثقافة العربية؛ والعرفان يفيد معنى الكشف والإشراق، ويقود إلى معرفةٍ تحصل لصاحبها بالعيان؛ أما البرهان فهو فعلٌ معرفي يتأسّس على الاستدلال المنطقي ويؤدي إلى معرفة يقينية.

ب ـ لكل نظامٍ معرفي هدفٌ تحتيّ يؤسّس اشتغاله؛ وهكذا يهدف النظام البياني إلى وضع قواعد صارمة وقوانين عامة لتفسير الخطاب القرآني، وهو يضعها في اللغة والبلاغة والتفسير وأصول الفقه والكلام؛ ويهدف النظام العرفاني إلى التأسيس لمعرفةٍ لا تتقيد بدلالات اللغة والنصّ، ولا ترى في العبارات أكثر من إشارات، وتنزِّل معارف الأقدمين، من غنوصيين وهِرْمِسيين، منزلة المعارف الحق، فيما يهدف البرهان إلى إخضاع المعرفة للاستدلال العقلي، وتأسيسها على أقيسة المنطق، وتوطين العقل في الثقافة.

ج ـ يشتغل كل نظام، من النظم المعرفية الثلاثة، مستقلاًّ عن الآخر، داخل نطاق معطياته ومفاهيمه الحاكمة، ولكن ـ في الوقت عينِه ـ متبادلاً التأثير والتأثر مع النظم الأخرى. ويرصد الجابري الأزواج المفهومية (الايبيستيمولوجية) الحاكمة لبنية كل نظام؛ وهكذا يتألف النظام المعرفي البياني ـ في نظره ـ من الأزواج المفهومية: اللفظ/المعنى، الأصل/الفرع، الجوهر/العَرَض؛ يحْكُم الزوجان الأوّلان عملية التفكير وإنتاج المعرفة، بينما يؤسّس الزوج الثالث الرؤية البيانية. ويتألف النظام المعرفي العرفاني من الزوجين: الظاهر/الباطن، الولاية/النبوة؛ موضوع الزوج الأول توظيف اللغة توظيفاً خاصّاً لإنتاج المعرفة العرفانية، وهو يناظر الزوجَ المفهوميَّ البياني: اللفظ/المعنى؛ وموضوع الزوج الثاني تأسيس السياسة على مفهوم الإمامة، وهو يناظرُ الزوجين البيانيّين: الأصل/الفرع، والجوهر/العرض؛ أما النظام المعرفي البرهاني فيتألف من الزوجيْن المفهوميّين: الألفاظ المعقولات، الواجب/الممكن؛ الأول من الزوجيْن منهجي، ويناظر الزوج البياني: اللفظ/المعنى، بينما يتعلق الثاني منهما بالرؤية، ويناظر الزوجيْن البيانيّين: الأصل/الفرع، والجوهر/العرض.

د ـ مرّت هذه النظم المعرفية الثلاثة، في ما يرى الجابري، بطوريْن من التطور: طور التكوين ، وطور الأزمة . شخّص سمات الطور الأوّل في تكوُّن مفاهيم كل نظامٍ في نطاقه المستقل كنظام، أمّا ما كان يحصل من تداخلٍ بين النظم الثلاثة، في ذلك الطور، فعَدَّهُ أمراً طبيعيّاً وسمَةً من سمات التكوين، فسمّاهُ « التداخل التكويني ». وعاد بطور الأزمة إلى مطالع القرن الخامس الهجري، وعنَى بها ما كان قد بدأ يبدو من مصالحات بين البيان والعرفان، أو بين العرفان والبرهان، مع أبي حامد الغزالي وغيره، وهو ما قاد إلى ما سمّاهُ «التداخل التلفيقي». وإذا لم تكن الثقافة العربية في الأندلس قد وفّرت حَلاًّ «لأزمة الأسس» هذه فهي شهدت إرهاصاتٍ لحلٍّ ـ لم يكتمل ولم يُستأنف ـ في عمل كلٍّ من ابن حزم، والشاطبي، وابن رشد.. حيث أصبحت قاعدة التفكير عند هؤلاء هي «الاستنتاج والاستقراء بدل قياس الغائب على الشاهد»، و«المقاصد بدل دلالات الألفاظ» و«القول بالسببية واطراد الحوادث بدل القول بالتجربة والعادة».

3 ـ العقل السياسي العربي

يختلف هذا الكتاب عن سابقيْه اختلافاً بيِّناً في الموضوع كما في أدوات المقاربة؛ فهو وإنْ حمل عنوان العقل السياسي، فهو لم يبحث في هذا العقل: في مفاهيمه واتصالها بمجمل مفاهيم العقل العربي، وإنما هو بَحَثَ ـ في المقام الأول ـ في المجال السياسي العربي الإسلامي: في آليات تكوينه وتطوره، وصراعات قواه، وتبلور إشكالياتها ومقالاتها في مسألة السلطة، ونصاب الشرعية فيها. لذلك أتى منهج المقاربة مختلفاً؛ فالباحث ما استعمل طريقة التحليل الايبيستيمولوجي لنظم الفكر، كما فعل في الجزء الثاني من الكتاب (بنية العقل العربي )، وإنما توسَّل في التحليل طرائق ومناهج أخرى: التاريخ، وعلم الاجتماع السياسي، وتاريخ الفكر… تناسباً مع طبيعة الموضوع المبحوث. ولم تكن تلك ـ مثلاً ـ طريقة إيمانويل كنت في تحليل ونقد العقل العملي.

يتألف العقل السياسي العربي من قسمين يقعان في عشرة فصول، مع مدخل مطوّل في المنهج والرؤية، وخاتمة. تتناول فصول القسم الأول ـ وهي ستّة ـ ما سماه الجابري محدّدات العقل السياسي العربي، بينما تنصرف فصول القسم الثاني (الأربعة) إلى تناول ما سمّاه تجليات ذلك العقل. وقد يجد قارئ الكتاب صعوبة بالغة في العثور على الخيط الرابط بين فصول القسم الأول وفصول القسم الثاني، بين المحدّدات والتجليات، بين فصولٍ بحثتْ في آليات تكوين المجال السياسي، وأشكال تمفصلها، وفصول أخرى غلب عليها التأْريخ السياسي وتاريخ الفكر.

في مسعًى منه إلى إشراك قارئه معه في تبيّن الإجرائية المعرفية والمنهجية للمفاهيم التي استخدمها في الكتاب، مستعيراً إياها من العلوم الإنسانية المعاصرة، وضع الجابري مدخلاً خاصاً بالرؤية والمنهج يقع في 47 صفحة، وعرض فيه ـ بالبيان ـ لأهمّ تلك المفاهيم، ولمن أخذها عنهم، وكيف وظفها في القراءة، ومنها مفهوم اللاشعور السياسي (عن ريجيس دوبريه)، ومفهوم المخيال الاجتماعي (عن بيير أنسار)، ومفهوم المجال السياسي (عن علم الاجتماع السياسي، وخاصة من خلال تحليل برتران بادي)، ناهيك مما استفاده من تحليلات ماركسية لبنى المجتمع وعلاقات البنى التحتية بالبنى الفوقية فيها، ومن مفهوم القرابة في الدراسات الأنثروبولوجية، ومفاهيم الراعي والرعية في مقارنة ميشيل فوكو لمعانيهما في الفكر الشرقي القديم وفي الفكر اليوناني، وفي نقده للدولة الحديثة في أوروبا.

يَدور الحديث في الفصول الستة الأولى من الكتاب على ثلاثة مفاهيم مفتاحية محدِّدة للعقل السياسي العربي هي: العقيدة ، و القبلية ، و الغنيمة ، منظوراً إليها بما هي الديناميات أو الآليات العميقة التي صنعت المجال السياسي (أو العقل السياسي في تعبير الجابري)، وصنعت أحداث السياسة فيه. ينظر الباحث إلى هذه الآليات الثلاث في ترابُطها وتَمَفْصُلها؛ في تمظهر بعضها وفي اشتغال بعضها الآخر على نحوٍ خفيّ أو مُضْمَر. كما أنه يقرأ وجوه فاعلياتها المختلفة في تاريخها الذي تطورت فيه، مُحَقِّباً هذا التطور في حقبتين، مألوفتين في التحقيب الكلاسيكي لتاريخ الإسلام في الصدر الأول، هما حقبة الدعوة ـ الدولة وحقبة الردّة ـ الفتنة . لكنه يتناول كل آليةٍ مفردة، داخل الحقبة الواحدة، لبيان وجوه اشتغالها في تراتُب منتظم (هكذا: من الدعوة إلى الدولة: العقيدة/من الدعوة إلى الدولة: القبيلة/من الدعوة إلى الدولة: الغنيمة. ويكرر التراتب نفسه في حقبة «من الردة إلى الفتنة»). وقد يوحي هذا التراتب بأن الباحث يعزل، في التحليل، كل آلية عن سواها من الآليات؛ والحقّ أنه إذ يفعل ذلك، على نحوٍ يقتضيه منهج التحليل، يُفرِد مساحات ملحوظةً لبيان وجوه التداخل والتمفصل بين الآليات الثلاث.

يختلف الأمر في الفصول الأربعة، التي تؤلف القسم الثاني، من الكتاب؛ فالباحث لا يلتفت إلاّ لماماً إلى مفعول الآليات الثلاث في لحظة ما بعد الصدر الأول وانقلاب الخلافة إلى مُلك (في العهدين الأموي والعباسي). وليس ذلك لأنه أراد أن يبحث في «تجليات» تلك المحددات، كما عنون القسم الثاني من كتابه، ولكن لأنه انصرف إلى التأْريخ لمواقف المذاهب والفرق في مسألة السلطة. هكذا تسلسلت فصول هذا القسم لتبحث في صور الجدل المختلفة بين الأمويين، والخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، والمعتزلة حول السلطة والشرعية الدينية للسلطة (الفصول 7 و8 و9)، مع قدْرٍ قليلٍ من الالتفات لفاعلية القبيلة والعقيدة والغنيمة في المجال السياسي. أمّا الفصل العاشر، والأخير، من الكتاب، فقد صرفه للبحث في تاريخ تكوُّن الثورة العباسية، مستدخلاً مفهوماً جديداً، هو الكتلة التاريخية ، لقراءة حال الائتلاف الذي تشكّل من العباسيين والعلويين والموالي ضد الأمويين، كما صرف بقايا الفصل لإلقاء نظرة على الانتقال الذي حصل، في الفكر السياسي، من ميدان علم الكلام (الجبر والاختيار) إلى الآداب السلطانية (ابن المقفع خاصة) وفقه السياسة الشرعية (الماوردي خاصة)، فيما حاول في خاتمة الكتاب بيان الحاجة إلى القطيعة مع آليات المجال السياسي التقليدية لتأسيس أخرى جديدة وعصرية.

4 ـ العقل الأخلاقي العربي

وهو الجزء الأخير من أجزاء نقد العقل العربي ، وأكبرها حجماً (640 صفحة)، وينطبق عليه ما ينطبق على الجزء السابق (الثالث) من أنه لم يكن ضمن الهندسة الأولى للكتاب، قبل تعديل الجابري إياها، وإقامتها ـ مثلما ذكرنا ـ على تصنيف العقل إلى عقل نظري وعقل عملي. كما ينطبق عليه ما وَسَمَ سابقه من اختلافٍ عن الجزأين الأول والثاني في الموضوع وأدوات المقاربة؛ ذلك أن الجابري في هذا الكتاب ـ أيضاً ـ لم يسلك مسلك محلّل النظام المعرفي، وإنما سلك فيه مسلك الباحث في التراث الفكري الأخلاقي العربي، من منظور مؤرّخ الفكر لا من منظور المحلل الايبيستيمولوجي. أما عنوانه ( نقد العقل العربي ) فلا يطابق محتواه ومضمونه، لأن موضوعه الفكر الأخلاقي العربي لا العقل الأخلاقي: المنتوج المعرفي المتحصّل في ميدان الأخلاق وليس طريقة بناء المعرفة في هذا الميدان.

إذا ما صرفنا النظر عن ملاحظة هذا التجافي بين عنوان الكتاب ومضمونه، فإن الأمانة العلمية تقتضينا الاعتراف بأن نقد العقل الأخلاقي هو أوسع وأشمل دراسة في نوعها، حتى الآن، عن الفكر الأخلاقي العربي الكلاسيكي في التأليف العربي المعاصر ، وأهمّها ـ جميعاً ـ في التأْريخ لهذا الفكر الذي لم يحْظ، مثلما لاحظ الباحث بحقّ في مقدمة كتابه، بالعناية العلمية التي حظيَ بها غيرُه من مجالات التفكير العربي الإسلامي الكلاسيكي، ولا تصدّى له الباحثون فيه ـ على قلّتهم ـ بوصفه كُلاًّ فكرياً متعدّد الروافد. وهذه الثُّغر والنواقص، أو البياضات، هي ـ بالذات ـ ما غطاه عمل الجابري على الفكر الأخلاقي العربي بصرف النّظر عن مدى صواب، أو عدم صواب، نسبته إلى مشروع نقد العقل العربي.

يتألف الكتاب من قسمين متفاوتين حجماً: قسم أوّل من 96 صفحة، ويقع في أربعة فصول، وقسمٌ ثان من 586 صفحة، ويقع في تسعة عشر فصلاً. لكن الجابري يفرّع القسم الثاني إلى خمسة أبواب، يقع كل باب منها في فصول تراوح حجماً بين الفصلين (كما في الباب الرابع)، والستة فصول (كما في الباب الثاني). يتصدر الكتاب مقدمة، ثم مدخل، وتختمه خاتمة تلخّص وتتساءل في الأفق.

اهتمت فصول القسم الأول الأربعة بطرح ما دعتْه المسألة الأخلاقية في الفكر العربي، من منظور المحدِّدات والأسس المفهومية، منقّبة في علاقات التقاطع والتمايز الدلالية بين مفاهيم الأخلاق، والأدب، ونظام القيم، كما جرى تداولها في ذلك الفكر، ومستطلعة مشكلاتٍ ذاتَ صلة، مثل الحرية والمسؤولية، في الخطاب الكلامي (المعتزلي والأشعري)، فضلاً عن تفكيرها في مصادر الأخلاق، وأسسها المرجعية (العقل والنقل)، والجدل الفكري الإسلامي في شأنها عند صنوف من المفكرين (الفقهاء، علماء الكلام، المتصوفة).

أما فصول القسم الثاني فتناولت نُظُم القيم في الثقافة العربية، أو قُل أنواع القيم كما تداولتها الأدبيات العربية الكلاسيكية، وهي خمسة:

أ ـ الموروث الفارسي الذي تكرست معه أخلاق الطاعة ، المنقولة عن بيئة الدولة الكسروية إلى المجتمع العربي الإسلامي، من طريق كُتّاب مسلمين ظَلَّ «عهد أردشير» مرجعاً لهم.

ب ـ الموروث اليوناني الذي دعا ممثلوه من فلاسفة الإسلام إلى أخلاق السعادة ، وطغت في التعبير عنه نزعة إنسانية، ونظرة طوباوية إلى المدينة الفاضلة: مدينة العقل، ولم يَـخلُ من تلفيق بين أخلاق السعادة وأخلاق الطاعة (كما عند العامري ومسكويه في نظر الجابري).

ج ـ الموروث الصوفي الذي كرّس ممثلوه أخلاق الفناء : فناء المريد في الشيخ، وانتهت بهم أخلاق الفناء ـ كما يقول الجابري ـ إلى فناء الأخلاق بإسقاطهم التكاليف الشرعية.

د ـ الموروث العربي الخالص الذي انتهى إلى الثقافة العربية الإسلامية، وكانت قيمة المروءة تحتل فيه مكان القلب.

هـ  الموروث الإسلامي ، واقترنت فيه الأخلاق بالدين، وأصبحت فيه المصلحة (والعمل الصالح) ـ في نظر الجابري ـ أساس منظومة الأخلاق.

إن من أكثر ما يثير قارئ هذا الجزء الرابع من نقد العقل ( العقل الأخلاقي العربي ) أن صاحبه قدّم تاريخاً شاملاً للفكر الأخلاقي العربي، كما أسلفنا القول، وأضاء على نصوص وأعمال لم تكن تُدْرج ـ في العادة ـ ضمن نصوص الفكر الأخلاقي. وهكذا لا نجد تركيزاً شديداً على نصوص مسكويه، والعامري، والغزالي… فحسب، على ما درجت العادة على ذلك في الدراسات العربية والغربية حول الأخلاق، وإنما نجد إلى جانبها نصوص المحاسبي، ثم نصوص العز بن عبد السلام بوجه خاص؛ الذي أفرد لنظرته إلى الأخلاق مكانة واعتباراً خاصّين (راجع الفصل الثالث والعشرين مثلاً).

ثالثاً: ملاحظات نقدية على نقد العقل العربي

لن نكرِّر، هنا، بعضَ ما وردَ من ملاحظات نقدية، عَرَضاً، في السياق السابق من التعريف بمشروع نقد العقل العربي، وإنما سنذهب إلى أخرى جديدة نبني بعضَها على إشارات نقدية سابقة وردَتْ تلميحاً. وفي ما يلي ثمانٍ من الملاحظات على هذا العمل العلمي الكبير:

أوَّلها أن تحليل محمد عابد الجابري للعقل في الثقافة العربية، وإن هو شَمِل علوماً دينية وعقلية عدّة، استبعد من دائرته علوماً أخرى ذات أهمية بالغة في مضمار إشكاليته (نقد العقل)، مثل علم التفسير، وعلم الحديث، وعلوم القرآن، وعلم التاريخ. وليس من شك في أن الجابري يدرك، أكثر من غيره، أن أسس التفكير الإسلامي تبلورت في علميْ الحديث والتفسير ربّما أكثر من غيرها، وأن مناهج المحدِّثين أثَّرتْ في كُتَّاب السيرة والمغازي والمؤرخين (وخاصة طرق المحدّثين في الإسناد)، وتركت بصماتها على علم أصول الفقه؛ مثلما يعرف أنه كان سيجد في هذه العلوم ساحة فسيحة لاختبار الكثير من فرضيات التحليل لديه، من تلك التي استعملها في كتابه، وخاصة في علميْ الحديث والتفسير، وأنه كان سيجد بعض الصعوبة في إدخال علم التاريخ ـ مثلاً ـ تحت أحكام استنتاجاته النقدية. ولعلّ شعوره بعدم قابلية مفاهيم هذه العلوم للدخول في نظام التحليل الذي وضعه، هو ما دفعه إلى استبعادها من مجال الدراسة.

و ثانيها أن الجزأين الثالث والرابع من الكتاب لا يتناولان العقل السياسي و العقل الأخلاقي ، كما يحمل عنوانهما، وإنما يتناولان المجال السياسي و الفكر الأخلاقي ، مثلما سبق أن أشرنا. ويمكن، بهذا الحسبان، اعتبارهما كتابين مستقلّين عن نقد العقل العربي بجزأيه الأول والثاني، من دون أن يؤثر ذلك في قيمتهما العلمية؛ فالجزآن الثالث والرابع يخلوان، تماماً، من أي تحليل للعقل: بالمعنى الايبيستيمي نفسِه الذي حدّده الجابري لعمله، ولا يكفي أن تضاف عبارة «تجليات» العقل إلى السياسي لتُدخِل الكتاب في نظام نقد العقل، كما لا يكفي وضع عنوان فرعي للعقل الأخلاقي (منظومة القيم…) لتثبيت عبارة العقل الأخلاقي كعنوانٍ رئيس للكتاب؛ ذلك أن العنوان المطابق لمحتوى الكتاب هو ـ بالذات ـ عنوانه الفرعي.

و ثالثها أن المفهوم المركزي في الكتاب: النظام المعرفي (Epistإmإ) ، والمستعار من ميشيل فوكو، لا يعني عند الجابري ما يعنيه عند فوكو، فالمعنيان مختلفان في التطبيق والتشغيل بحيث لا سبيل إلى الجمع بينهما، أو إلى العثور على منطقة تقاطع دلالية؛ ففي حين بحث ميشيل فوكو في الايبيستيمي الحاكم للثقافة الغربية، انصرف الجابري إلى البحث في أنظمة معرفية ثلاثة، هي في حقيقتها إعادة تصنيفٍ للعلوم شبيهة بما فعله القدماء (علوم شرعية، علوم عقلية) + الإشراق، وإعادةُ استخدامٍ لتمييز أحمد أمين، قبل ثلاثة أرباع القرن، بين البيان، والعرفان، والبرهان. أما ما يصل هذه «النظم المعرفية» الثلاثة ببعضها، ويشكّل ايبيستيماً حاكماً لها جميعاً، فلم يبحث فيه الجابري، وإنما اهتم بأمره باحث آخر هو محمد أركون (من دون أن يطوّر أطروحته فيه): الذي ظل وفياً لمعنى النظام المعرفي في أصوله النظرية، واستعمالاته التطبيقية، عند ميشيل فوكو.

و رابعها أن نظرةً معيارية حكمت قراءة الجابري للنظم المعرفية الثلاثة تلك؛ فمثلما هو لم يتقيد بالمفهوم الأصل للنظام المعرفي، وتَصَرَّفَ في دلالته على النحو الذي شاء، لم يتقيد ـ في الوقت عينِه ـ بنظرة موضوعية إلى النظم المعرفية تلك، وإنما قامت النظرةُ إليها على قاعدة المفاضَلة بينها، ووُزّعت الأحكام عليها على أساس قرب النظام الواحد منها، أو بعده، من المعيار أو النموذج الذي رسمه ـ في ذهنه’ـ لقيم المعرفة. وهكذا كان نظام البرهان هو الأساس الذي به تُقاس المعارف ونُظُم الأفكار وتتحدّد طبائعها. وفي كثير مما قاله الجابري، في هذا الباب، لم يكن يلتزم قواعد التحليل الصارمة التي عُرِفَ بها، وإنما كان يبحث عمّا يعزّز فرضيته حول هذا النظام المعرفي أو ذاك، وخاصة البرهان، و ـ بدرجة ثانية ـ البيان. وإذا كان في الوسع أن نفهم لماذا كانت انحيازات الجابري إلى البرهان واضحة، متى تذكرنا أن أستاذ الفلسفة هذا داعية عريق إلى العقل، فما ربما لا يقبل الفهم هو أن الخيار المنهجي، الذي اختاره الجابري لدراسة العقل العربي، لا يفسح وسيعَ مجالٍ أمام هذا النوع من القراءة المعيارية التي انساق إليها في كتابه، فحوَّلت نصَّه إلى مرافَعةٍ عن حيّزٍ صغير من الثقافة العربية ضدّ المساحات الأوسع منها.

و خامسها ويتصل بالملاحظة السابقة اتصال معلولٍ بعلة، وهو الميْل الصارخ لدى محمد عابد الجابري إلى تبخيس قيمة نظام العرفان في تاريخ الثقافة العربية، وإنزال مكانته أو منزلته إلى دَرْكٍ أسفل، واتهامه بالمسؤولية عن فساد البرهان والبيان معاً حين الاندماج فيهما (ما سماه التداخل التلفيقي)، وإنزال أقسى الأحكام بالتصوّف، والباطنية والفلسفة الإسماعيلية… إلخ. وإذا كانت أحكام القيمة (السلبية) هذه امتداداً لأحكام القيمة (الإيجابية) تجاه العقل، سقوطاً من هذا المفكر الكبير في فكرٍ معياريّ ـ حذّر منه هو نفسُه في كتابات عدّة ـ فإنها تعبيرٌ عن نتيجة منطقية تقود إليها كل نظرةٍ إلى التراث لا تأخذ بالتاريخ والتاريخية قاعدةً للقراءة، وإطاراً لفهم الأفكار ومعرفة السياقات التي وُلِدَتْ فيها، وأسبابُ تَجَلِّيها على نحوٍ ما من الأنحاء.

و سادسها أن الكتاب لم يظلّ منسجماً مع منطلقاته المعرفية، ومقدماته المنطقية، فانتهى إلى استنتاجات مجافية، بل متناقضة أحياناً مع تلك المنطلقات والمقدمات؛ ففي حين انطلق الكتاب من فكرة نقد العقل ، كلّ العقل العربي، مستنداً إلى مقدمة تقول إن العقل العربي يجد إطاره المرجعي في « عصر التدوين »، انتهى إلى رفْع أسهم الثقافة العربية في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس)، وكاد يُخْرجها من أحكامه النقدية الصارمة للعقل العربي، ومن قاعدة انشدادها، مثل سواها، إلى مرجعية عصر التدوين الحاكمة، ذاهباً إلى إيكال مهمات كبيرة لها من قبيل: حلّ « أزمة الأسس » في الثقافة العربية، وإعادة تأسيس قواعد التفكير في أصول الفقه (ابن حزم، الشاطبي) وفي الفلسفة (ابن رشد). وهذه وإن كانت شكلاً من الاستمرار في ترديد أطروحة قديمة للجابري (عن قطيعة فكر المغرب مع فكر المشرق)، إلاّ أن تجدُّدها في فكره إنما يجد تفسيره في تفكيرٍ معياري لا في تعصّب إقليمي كما يظن البعض.

و سابعها أن محمد عابد الجابري أخذ حريته كاملةً في التصرف في الدلالات الأصلية للمفاهيم التي استعارها من مفكرين غربيين من ميادين مختلفة (تحليل الخطاب، الفكر السياسي، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع السياسي، علم النفس التربوي…)، مضمِّناً إياها دلالات جديدة. ومع أنه فعل ذلك منطلقاً من قاعدة نظرية دقيقة تقول إن المفاهيم ـ وهي ترحل من ميدانٍ فكري إلى آخر ـ تغتني بدلالات جديدة حين تشغيلها في ميدانٍ جديد، وعلى موضوع جديد، إلاّ أنه ما التزم الحدَّ الأدنى من معناها الأصلي ليبني عليه جديداً، وإنما عدَّل فيها وبدَّل مسبقاً، أي قبل أن يبدأ بإعمالها في التحليل. وهذا التغيير النظري الصوري في المفاهيم يختلف عن إثراء المفاهيم وإغنائها كما تمنى ذلك الجابري.

أمّا ثامنها فيكمن في مشكلتين غير قابلتين للتجاهل في الكتاب، وفي مجمل أعمال محمد عابد الجابري، هما مشكلة الإحجام عن التصريح بالمصادر المعاصرة التي يعتمدها، ويستند إلى الكثير فيها، ومشكلة تجاهل مساهمات باحثين عرب معاصرين اشتغلوا في ميدان دراسات التراث. الأمثلة على تينك المشكلتين عديدة في كتاب الجابري، لكنّا نكتفي منها باثنين: أولهما عدم إشارته إلى أحمد أمين الذي أخذ عنه تقسيم الثقافة العربية إلى ثلاث دوائر: البيان، والبرهان، والعرفان؛ و ثانيهما تجاهله زملاء البحث العلمي الذين شاركوه التفكير في قضايا التراث، وأخذ من بعضهم من دون أن يذكره (محمد أركون، حسن فهمي، ناصيف نصّار…)، ولا أن يحيل القارئ إلى كتبهم، في حين كان يختار ـ أحياناً ـ الإحالة إلى مراجع من الدرجة الثانية.

وبعد، هذه ملاحظات نقدية ضرورية لقراءة نقد العقل العربي بعقلٍ يقظ، لكنها لا تنال البتّة من هذا العمل العلمي الكبير الذي فرض نفسه، وسيفرض نفسه، في الثقافة العربية لزمنٍ طويل.

 

للمزيد من المواضيع ذات الصلة اطلعوا على  محمد عابد الجابري: مسـارات مفكـر عربـي