1- العقوبات الدولية: أداة قانونية أم كولونيالية مقنّعة؟

في ظل النظام القانوني الدولي القائم، يُفترض أن تكون العقوبات الدولية أداةً لضمان احترام القانون، وحفظ السلم والأمن الدوليين، وردع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. غير أن الواقع السياسي الذي يهيمن على العلاقات الدولية، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة وصعود المحافظين الجدد إلى مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، كشف عن وجه آخر لهذه العقوبات. وجهٌ يُعيد إنتاج منطق الهيمنة والاستعمار، لكن بأدوات حديثة، أقل عنفًا أحيانًا، ولكنها أكثر تدميرًا. فالمتأمل لكيفية تطبيق هذا المفهوم المنصوص عليه في النظام القانوني الدولي يتجلى له وبكل وضوح أن هذه الآلية القانونية سلاح موجه ضد دول الجنوب خاصة والدول المعادية للمشروع الغربي عامة. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن مدى اعتبار هذه الآلية القانونية نوعًا جديدًا من الكولونيالية المقنّعة!

إذا كانت الكولونيالية الكلاسيكية تعتمد الاحتلال المباشر، فإن الكولونيالية الجديدة تستند إلى أدوات ناعمة، من بينها العقوبات الدولية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة تحديدًا الفصلين السادس والسابع. فالأول ينصّ على حلّ النزاعات الدولية بطرق سلمية كالتفاوض والوساطة والتحكيم أو اللجوء إلى المنظمات الإقليمية والأممية؛ وفي حال فشلت الأطراف المتنازعة في حلّ النزاع بطرقٍ سلمية، يجب عليها عرض النزاع على مجلس الأمن الدولي أو من الممكن أن يوصي المجلس تلقائيًا بما يراه مناسبًا. أما الثاني فيمنح مجلس الأمن الدولي سلطة اتخاذ إجراءات ردعية ضد الدول المهدّدة للسلم والأمن الدوليين. إجراءاتٌ تبدو من حيث المبدأ شرعية، بل ضرورية؛ فهي تُشكل أحد أبرز آليات فرض احترام الشرعية الدولية. إلا أن هذه الشرعية – في التطبيق – غالبًا ما تُفرغ من مضمونها، حين تتحول إلى أداة في يد القوى الكبرى والمتمثلة في الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس. وفي هذا السياق تُعتبر قرارات مجلس الأمن الدولي ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وما يُلاحظ هنا أن ميثاق الأمم المتحدة يخلو من أي مفهوم واضح وجليّ لمفهوم الاخلال بالسلم والأمن الدوليين أو حتى مفهوم العدوان، وهذا يتناقض مع “مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” وفقًا للعديد من الفقهاء القانونيين. هذا الأمر يجعل من هذا المفهوم الفضفاض حمّال أوجه ويمكن توظيفه من أجل خدمة مصالح جيوسياسية للدول الكبرى التي- في سبيل تحقيق مصالحها- تعمل على إخضاع الدول المعادية لها عن طريق فرض عقوبات اقتصادية كالحصار أو حتى غزو عسكري وإسقاط حكومات مناوئة بذريعة حقوق الانسان والديمقراطية وتنصيب أخرى عميلة. وبهذا تُستخدم العقوبات لفرض التبعية وإعادة تشكيل البُنى الاقتصادية والسياسية للدول المستهدفة، بما يخدم مصالح النظام الرأسمالي العالمي. وقد رأينا ذلك في برامج مثل “النفط مقابل الغذاء” في العراق، الذي جعل من الولايات المتحدة المستورد الأكبر للنفط العراقي بأسعار بخسة، في حين كان الشعب العراقي يموت جوعًا ومرضًا. وبذلك، تتحول العقوبات إلى وسيلةٍ للإخضاع والنهب المنظّم، مغلفة بخطابٍ قانوني وأخلاقي.

2- إزدواجية المعايير والانحياز السياسي

تتمثّل المهمة الأولى لمجلس الأمن الدولي في منع أي انتهاكات أو خروقات للسلم والأمن الدوليين وذلك عن طريق آلية العقوبات والتدخلات العسكرية وفقًا لما جاء في الفصلين السادس والسابع من الميثاق. إلّا أن التطبيق العملي لهذه العقوبات الدولية في واقع العلاقات الدولية جاء مناقضاً لما تمّ النص عليه في ميثاق الأمم المتحدة من مساواة بين الدول في الحقوق والواجبات إذ استخدم مجلس الأمن تدابير عقابية صارمة بحجة تهديد السلم والأمن الدوليين ضد فئة معينة من الدول دون دول أخرى. إذ يكفي استعراض قائمة الدول التي فرضت عليها هذه العقوبات ليتبيّن أن معظمها من دول الجنوب من السودان وليبيا والعراق وإيران بينما تُحصّن الدول الحليفة للغرب، وعلى رأسها إسرائيل، من أي مساءلة دولية، حتى حين ترتكب المجازر والتطهير العرقي على مرأى العالم أجمع. ويمكن الإشارة هنا إلى فشل مجلس الأمن في تشكيل لجنة تحقيق في مجازر جنين عام 2002 بسبب التهديد الأمريكي باستخدام الفيتو. في المقابل، كان فرض عقوبات اقتصادية ضد ليبيا إثر إسقاط طائرة لوكربي عام 1988 إجراء إنتقامي يهدف لخدمة مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، إذ تم تخويل مجلس الأمن حسب المادة 39 المتضمنة السلطة التقديرية المطلقة في التكييف (وتعني تفسير الحالات وتكييفها مع ظروفها- حسب المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة) دون الاستناد إلى معايير موضوعية محددة. الأمر الذي أدى إلى اعتبار الواقعة تهديداً للسلم والأمن الدوليين. علمًا أن إسقاط الطائرات المدنية هي من الجرائم التي قامت بها العديد من الدول إلا أنها لم “تكيّف” باعتبارها تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
على سبيل المثال، وبالعودة إلى قضية الطائرة المدنية الإيرانية التي تم إسقاطها في بحر الخليج عام 1988 من قِبل سفينة حربية أمريكية مما أدى لمقتل 290 شخصًا، نجدّ أنه لم يتم تسليم الربّان إلى إيران لمحاكمته. في حوادث مماثلة، تمّ إسقاط طائرة ركاب من طرف الاتحاد السوفياتي فوق بحر اليابان. كما قامت إسرائيل بإسقاط طائرة مدنية فوق سيناء. علاوة على أن “التكييف” بتهديد واقعة ما للأمن والسلم الدوليين يجب أن يصدر بشكل آني وفوري. وبالعودة إلى تطبيق ذلك على القضية الليبية، يظهر أن “التكييف” غير متوافق زمنيًا مع الوقائع، لأن مجلس الأمن تأخر لسنوات قبل أن يقرر أنها تهدد الأمن والسلم العالميين ليتمكن من فرض عقوبات في إطار الفصل السابع من الميثاق، إضافة لذلك لم يبادر المجلس بالحلّ السلمي، بل لجأ مباشرة إلى اتّخاذ تدابير عقابية اقتصادية إرضاء لرغبات الدول الكبرى المعنية بالنزاع. علاوة على ذلك فإن صدور القرار بحضور وتصويت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا رغم أنهما أطرافًا في النزاع المطروح يتعارض مع أحكام المادة 27 من الميثاق والمبدأ القانوني القائل “لا يمكن أن يكون أي طرف حكمًا في قضية هو طرف فيها”. كما أن قرارات المجلس فرض حصار قبل وجود أي حكم بالإدانة صادر عن أي محكمة، واستناده فقط إلى معلومات مخابراتية، تُحمّله مسؤولية نتائج الحصار المجحف على الشعب الليبي. من هنا يظهر بوضوح الإخلال بمبدأ المساواة تجاه ضرورة توقيع الجزاء المناسب بحق الدول التي تنتهك قواعد القانون الدولي. ويرجع العديد من الفقهاء المختصين في القانون الدولي منهم جاسم محمد زكريا والأخضر بن الطاهر هذه الازدواجية إلى النصوص التي تضمّنها الميثاق والتي تمنح الدول دائمة العضوية مركزًا متميزًا من جهة، وتخويل المجلس إصدار قرارات تنفيذية غير قابلة للطعن حين يتعلق الأمر بحفظ الأمن والسلم الدوليين من جهة أخرى.  هذه الازدواجية تُقوض شرعية العقوبات، وتُحوّلها إلى ما يشبه أداة ابتزاز دولي، يتمً من خلالها تطويع الدول التي ترفض الانخراط في المشروع الغربي النيوليبرالي، أو تلك التي تُصرّ على حماية سيادتها ومصالحها الوطنية خارج مظلّتي واشنطن وبروكسل.

3- حقوق الإنسان والعقوبات الدولية

لطالما تمّ استخدام مفهوم حقوق الانسان كذريعة لفرض عقوبات دولية أو تدخلات عسكرية كما هو الحال في العراق. فالمعلوم أن مجلس الأمن الدولي لم يقم بإصدار أي قرار يتعلق بالقيام بعملية عسكرية في العراق، إلا أن الولايات المتحدة وحلفاءها قاموا بالاعتداء على سيادة دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة في خرق واضح وصريح للمادة الثانية من الميثاق الذي يمنع جميع أعضاء هيئة الأمم المتحدة في علاقاتهم الدولية من التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أخرى، أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة. غير أن مجلس الأمن الدولي لم يتخذ أي تدابير تجاه هذه الدول التي قامت بخرق التزاماتها الدولية. وهنا تظهر لنا الولايات المتحدة وحلفها كوصي على حقوق الانسان في العالم ويحق لها التدخل في سيادة دول أخرى حتى وإن كان ذلك خرق للمواثيق الدولية. فالمنظومة الجنائية أصلًا مكرّسة لمحاسبة دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية والمعيار الذي يتمّ الاستناد إليه في تحديد إذا ما وجدت انتهاكات لحقوق الانسان أم لا هي معايير غربية ليبيرالية. هذا بالإضافة إلى صدور الإعلانين الأمريكي والأوروبي عام 1991، ومن أهم ما جاء في هذين الإعلانين المبادئ التالية: 1- ضرورة إحترام المبادئ والقواعد المقبولة دوليًا ومن ضمنها قيم الديمقراطية. 2- ضرورة تأييد حكم القانون وتوافقه مع روح العصر. 3- ضمان حقوق الإنسان ولا سيما حقوق الأقليات. 4- القبول والالتزام بجميع المبادئ المتعلقة بنزع السلاح والحدّ من انتشار السلاح النووي. ويرى بعض الخبراء أن هذه المبادئ شكّلت غطاءً قانونيًا لفرض العقوبات الدولية الاقتصادية على أي دولة تقوم بالإخلال بها أو بواحد منها والضغط عليها، فتمّ اتهام كل من روسيا والصين بعدم احترام حقوق الإنسان، واتّهمت كوبا بعدم احترام الديمقراطية، وإيران متهمة حالياً بسعيها للحصول على السلاح النووي، بالإضافة إلى اتّهام السودان بعدم احترام حقوق الإنسان، وهكذا.. وفي حال عدم توافر التهم السابقة يتمّ اللجوء إلى تهمة الإرهاب أو القوائم السوداء كما هو الحال في سوريا وليبيا.  ومن المفارقات أن العقوبات الدولية يُفترض أن يتمّ فرضها في حال تمّ الإخلال بمقاصد الأمم المتحدة والتي من بينها حماية حقوق الانسان من أي انتهاك قد يطالها، إذ يؤكد الميثاق في المادة الأولى على حفظ السلام والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودّية بين الأمم على أساس احترام المساواة بين الشعوب وحقها في تقرير المصير وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان دون تمييز. لكن من جهة أخرى نرى أن إباحة تطبيق العقوبات الاقتصادية يؤدي إلى آثار مدمرة على الشعوب كتلك العقوبات التي فرضت على دول كثيرة مثل: العراق، السودان، سوريا، زيمبابوي، الصومال وغيرها؛ الأمر الذي يجعل من العقوبات الاقتصادية مخالفة للحقوق الأساسية للفرد التي ينادي بها العالم، ألا وهي الحق في الحياة والسلامة الجسدية والعقلية والرعاية الصحية ومكافحة الأمراض وسوء التغذية وخفض الوفيات. لقد أكدت بعض التقارير في حالة العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على العراق أنه قد توفي بين عامي 1991 و1998 حوالي 500 ألف طفل جراء الحصار الاقتصادي.

4-  نحو إعادة بناء نظام عقوبات دولي جديد

إنّ الإبادة الجماعية في غزة وما رافقها من عجز المنظومة القانونية الدولية عن التحرّك، على الرغم من جسامة الخروقات الإسرائيلية للمواثيق الدولية بما فيها القواعد الآمرة (Jus cogens)، وكذلك حلفاء “إسرائيل” الغربيون بما قدّموه من سلاح ودعم مالي ودبلوماسي، يكشف بوضوح أزمة الشرعية في النظام الدولي المعاصر، حيث أصبحت العقوبات الدولية تشرعن للهيمنة وتقنّنها. ولعل المطلوب ليس إلغاء العقوبات كوسيلة قانونية، بل إعادة تنظيمها ضمن معايير موضوعية تحميها من التوظيف السياسي وتمنع تحوّلها إلى شكلٍ من أشكال الانتقام أو العقاب الجماعي، بما يضمن حقوق الإنسان ويصون مبدأ السيادة الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. غير أنّ غياب نظام قانوني دولي مستقل وعادل يجعل العقوبات اليوم إحدى أخطر أدوات الاستعمار المعاصر، ويؤكد ما أشار إليه الباحث فتحي المسكيني أنّ الاستقلال عن القوى الاستعمارية لم يكن سوى هدنة إنسانية داخل تاريخ طويل من الهيمنة، حيث جرى تقديم كل ما هو أوروبي باعتباره عالميًا، وهو ما يعتبره البعض تعبير عن الغرور الحضاري والثقة الأنانية لأوروبا، وهي نزعة لا تزال قائمة حتى اليوم وتقتضي النقد والمواجهة.

كتب ذات صلة:

تناقضات القانون الدولي : مدخل تحليلي

التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة

المصادر:

حماس سعيد عبدلي: باحثة تونسية في العلوم القانونية والسياسية. 


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز