ينطلق الجابري من قاعدة منهجية وإيبيستيمولوجية لمعالجة التأخر التاريخي الذي يعيشه العرب على جميع المستويات، وهي أنه لا يمكن قيام نهضة بعقل غير ناهض. عقل لم يراجع مفاهيمه وآلياته وتصوراته ولم يخضعها للنقد ونقد النقد ووصل إلينا في الحاضر بنفس البنية التي تشكل بها في الماضي. وسواء سلمنا للجابري بأطروحته حول العقل العربي وتفريقه بين الفكر كمحتوى (النظريات والأفكار) والفكر كأداة “جملة مبادئ ومفاهيم وآليات تنتظم وتترسخ في ذهن الطفل الصغير منذ ابتداء تفتحه على الحياة لتشكل فيما بعد “العقل” الذي به يفكر، أي الجهاز الذي به يفهم ويؤول ويحاكم ويعترض”([1]) فإن السؤال المطروح هو: كيف نتصور نهضتنا التي لم تتحقق بعد في علاقتها بالماضي: أي بالتراث، هل بالرجوع إليه من جديد والاستناد عليه وكيف يكون ذلك، أم بالانفصال عنه تمامًا وطي الصفحة نهائيًا والانطلاق من الحاضر، الحاضر الأوروبي الذي يمثل آخر المنجزات المعرفية والمنهجية والعلمية منذ عصر الأنوار؟

يرى الجابري أن تحقيق النهضة أو بعثها من جديد لا يكون بالقطيعة المطلقة مع التراث كما يرى بعض الباحثين، ولكن يكون بالعودة إلى هذا التراث والانتظام فيه بطريقة واعية من أجل مراجعة أسسه ومبادئه في إطار وعي جديد وتوظيف عناصره الإيجابية في نهضتنا الجديدة، لأنه وفق منطق النهضات لا يمكن قيام نهضة دون الانتظام في التراث. وقبل عرض أطروحة الجابري حول هذه الإشكالية وتسليط الضوء عليها في مختلف الجوانب، فإننا سوف نتطرق إلى مواقف بعض الباحثين المجايلين للجابري وهما: عبد الله العروي ومحمد أركون.

يرى المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي أن معالجة التأخر التاريخي العربي لا تكون إلا بالقطيعة المعرفية مع التراث، والقطيعة تعني عند العروي القطع مع العقل التراثي الأصولي وتبني نموذج العقل الحداثي التنويري، لأن النقد الجزئي لا يفيد شيئًا أمام تراكم المعلومات التقليدية، بل يجب طي الصفحة نهائيًا وتحقيق القطيعة المنهجية. ويعبّر العروي بكل صراحة ووضوح عن هذا الموقف في كتابه العرب والفكر التاريخي انطلاقًا من نزعته الماركسية التاريخانية التي يؤكد فيها احترام قوانين التطور التاريخي وعدم الرجوع إلى المراحل السابقة التي تجاوزها التاريخ من منظور حتمية المراحل ووحدة اتجاه الزمن والتاريخ ووحدة الجنس البشري. يقول عبد الله العروي: “رغم هذا الواقع المر، ما زال أغلب المثقفين عندنا يميلون إلى السلفية أو الانتقائية والغريب أن هذين الاتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية الذاتية، يظن أنه يملك حرية الاختيار، وأنه قادر على أن ينتخب من إنتاج الغير أحسنه، هذه حرية شبيهة بحرية الرواقيين، الذين كانوا يظنون أنهم إن حرروا القلب والذهن من تأثير الإنسان والكون جاز لهم أن يهملوا الأغلال التي تشد الأيدي وتقيد الأرجل([2]).

إن الرجوع إلى التراث في إطار نظرة كلية سلفية أو نظرة جزئية انتقائية عملية اعتباطية غير واعية بالنسبة إلى العروي، لأن قوانين التاريخ والتطور لا تسمح بهذه الإمكانات المستحيلة واللاتاريخية، لذلك فإنه يرى أن الحل الممكن والمتاح لمعالجة التأخر التاريخي العربي هو الانخراط الواعي في الفكر التاريخي كما تقدمه النظرية الماركسية في تأويلها للتاريخ. يقول العروي: “لقد قلنا إن الطريق الوحيد للتخلص من الاتجاهين معا هو الخضوع للفكر التاريخي بكل مقوماته، وإن أربعة من هذه المقومات تحدد مفهوم الفكر التاريخي وهي:

– صيرورة الحقيقة؛

– إيجابية الحدث التاريخي؛

– مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ).

وأربعة تحدد معنى التاريخانية وهي:

– ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)؛

– وحدة الاتجاه (الماضي والمستقبل)؛

– إمكان اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)؛

– إيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمان).

هذه نقاط حللناها في المقالات السابقة، باختصار أو بإطناب، وقلنا إن أحسن مدخل وأحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم في الماركسية في تأويلها التاريخي”([3]).

وهكذا نلاحظ، أن نظرية العروي في التعامل مع التراث والتاريخ لا تختلف في جوهرها عن النظرية الوضعية للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (1789 – 1857) والذي يرى من خلال هذه النظرية أن الفكر البشري قد مر بثلاث مراحل (قانون الأحوال الثلاث) وأن كل مرحلة جديدة تلغي المرحلة السابقة على صعيد التطور الفكري ونمو العقل البشري والتحول من المرحلة الدينية والميتافيزيقية إلى المرحلة العلمية.

والخلاصة أن التراث في نظر العروي مرحلة سابقة قد تجاوزها الزمن والتاريخ، ولا بد أن ننطلق من الحاضر في بناء نهضتنا الجديدة وليس من الماضي، الحاضر كما جسدته فلسفة الأنوار والتقدم الهائل الذي عرفته أوروبا منذ هذه المرحلة التاريخية التي تمثل مرجعية الإنسان ومعيارًا للتقدم والحداثة. وإذا كان هذا موقف عبد الله العروي من إشكالية الحاضر وعلاقته بالماضي، فكيف ينظر زميله محمد أركون إلى هذه الإشكالية، كيف يمكن للتراث أن يحضر في حاضرنا، وهل هناك جدوى عملية أو قيمة علمية من استحضار التراث في حياتنا اليوم؟

لا يختلف محمد أركون كثيرًا عن زميله عبد الله العروي في تبني موقف مناهض من التراث، فرغم أن محمد أركون يشيد بالنزعة الإنسانية عند مسكويه والتوحيدي والنزعة العقلية عند ابن رشد، إلا أن القيمة الفكرية لهؤلاء القدماء بالنسبة إليه تبقى ذات قيمة تاريخية فقط. والدرس الوحيد الذي يجب أن نتعلمه منهم هو فضولهم المعرفي وجرأتهم العقلية في طرح تساؤلات عقلانية ذات طابع إنساني في فضاء ثقافي عام تسيطر عليه الرؤية الدينية، ذلك أن محمد أركون يميز بين لحظتين في تاريخ الفكر والحياة وهما: لحظة المعقولية القروسطية ولحظة المعقولية التاريخية. يقول محمد أركون: “ولذا لم أزل منذ ما يزيد على ثلاثين سنة أدعو إلى إحياء الموقف الفكري الدينامي المنفتح لهؤلاء المفكرين القدماء، وألح في الوقت نفسه على ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم وإشكالياتهم ونظرتهم إلى العالم والتاريخ والمجتمع والإنسان، لأن ذلك كله داخل في الفضاء المعرفي الخاص بالقرون الوسطى عند المسلمين كما عند المسيحيين واليهود وسائر الثقافات المعروفة في العالم([4]). وحسب محمد أركون، فلا يمكننا أن نعود اليوم إلى قيم وأفكار ما قبل الحداثة لمعالجة إشكالية تخلُّف العرب في الحاضر، وبالتالي، فإن التراث مقارنة بالحداثة وعندما نخضعه اليوم لمعيار الصلاحية أو عدم الصلاحية، فإنه ينتمي إلى مرحلة زمنية ومعقولية قروسطية قديمة قد تجاوزها التاريخ، لأن الحداثة كتيار فكري ورؤية جديدة للعالم والإنسان لا تسمح لنا بالالتفات إلى الوراء أو بالتوفيق بين معقوليتين متناقضتين، معقولية تنتمي إلى الماضي وتقوم وعلى أساس ديني ومعقولية تنتمي إلى الحاضر وتقوم على أساس عقلي وعلمي.

يقول محمد أركون موضحًا وشارحًا: “بقيت ملاحظة أخرى أو أخيرة فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده: إن الحداثة تعريفًا هي عبارة عن استراتيجية شمولية يتبعها العقل من أجل السيطرة على كل مجالات الوجود المعرفة والممارسة عن طريق إخضاعها لمعايير الصلاحية أو عدم الصلاحية. ومن المعلوم أن هذه المعايير تتزايد صرامتها ودقتها ومرونتها أكثر فأكثر من أجل فهم الواقع بشكل أكثر مطابقة وصحة ودقة. وبالتالي فلا يمكن أن نأخذ جزءًا من الحداثة أو نثرة متفرقة ونترك الباقي. لا يمكننا أن نقتطع منها موقفًا خاصًا أو نختار موضوعًا واحدًا أو نعطي الأولوية لبعض التساؤلات التي دشنتها الحداثة ونترك الباقي([5]). فالتراث في نظر محمد أركون لا قيمة علمية له في عصرنا من حيث معايير الصلاحية أو عدم الصلاحية، فلم تعد نظريات القدامى لها قيمة علمية ومعرفية اليوم إلا القيمة التاريخية وهذا مما دفع بأحد الباحثين المختصين في فكر محمد أركون إلى القول: “فأركون يسعى إلى تفكير نفس الموضوعات التي فكر فيها القدامى ولكن بطريقة غير طريقتهم، وبمفاهيم ومناهج غير مناهجهم، ومن ثم نقول أن الفكر الإسلامي لا يشكل مرجعية معرفية مهمة في مشروع أركون الفكري، فهو يرجع إلى الفكر الإسلامي لكنه لا يرجع إليه ليستعير منه نظريات ومفاهيم، عدا بعض القيم التي امتاز بها بعض المفكرين المسلمين والتي تعبر عن روحهم العلمية وفضولهم المعرفي التواق إلى بلوغ اليقين في مجال العلم كما في مجال الإيمان”([6]). وإذا كان هذا هو موقف العروي وأركون من التراث، فما هو موقف الجابري وكيف تتوافق أو تختلف رؤيته عنهم؟

يرى الجابري أن معالجة إشكالية التأخر التاريخي العربي والتأسيس لنهضة عربية جديدة لا تكون بوضع التراث في المتحف والتعامل معه كشيء مضى ولا جدوى من استحضاره أو الرجوع إليه لأن ذلك غير ممكن، لأن كل شعب وكل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها. ويستند الجابري في ذلك إلى التاريخ ومنطق النهضات الكبرى رغم اختلاف الميكانيزمات التي تميز كل نهضة عن الأخرى، فكل النهضات التي شهدها التاريخ قد عبرت عن نفسها أيديولوجيًا ومعرفيًا بالعودة إلى الأصول والانتظام في التراث. يقول الجابري: “لنبادر إلى القول أولًا، أنه ليس هناك قانون عام واحد يعبر عن ميكانيزمات النهضة في كل العصور والأوطان، ولكن مع ذلك يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة أن جميع النهضات التي نعرف تفاصيل عنها قد عبرت، إيديولوجيا، عن بداية انطلاقها بالدعوة إلى الانتظام في تراث، وبالضبط إلى العودة إلى الأصول، ولكن لا بوصفها أساس نهضة مضت يجب بعثها كما كانت، بل من أجل الارتكاز عليها في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب، الملتصق به المنتج له المسؤول عنه، والقفز إلى المستقبل”([7]). ويرى الجابري أن نهضة الإسلام كدين جديد كانت بالرجوع والانتظام في التراث الديني الإبراهيمي القائم على فكرة التوحيد ضد الوثنية (دين المجتمع السائد) التي كانت سائدة في مكة وفي شبه الجزيرة العربية، ولقد كانت فكرة التوحيد الإبراهيمية ممثلة في هذا العصر (العصر الجاهلي) بجماعة الحنفاء التي كانت تدعو إلى توحيد الله المتعال والموجود في كل زمان ومكان والتبشير بالنبي الخاتم والذي سيبعث دين إبراهيم من جديد ويصحح المعتقدات الفاسدة المتوارثة عن الآباء والأجداد. ولقد كان القرآن الكريم صريحًا في آياته وهو يخاطب المسلمين ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(*). فلقد كانت العودة الدينية إلى عقيدة التوحيد وملة إبراهيم تمثل الإسلام ذاته كدين جديد في التراث الديني السابق عليه قبل الانحراف وهو التراث الإبراهيمي. هذا عن نهضة الإسلام الأولى، أما إذا أتينا إلى أوروبا، فسوف نشهد ونلاحظ نفس المبدأ تقريبًا مع بداية القرن الثاني عشر عندما بدأت أوروبا بالانتظام في تراثها الروماني والإغريقي. يقول الجابري: “وإذا نحن انتقلنا الآن إلى النهضة الأوروبية الحديثة وجدناها تتخذ الآلية ذاتها، آلية العودة إلى الأصول بداية بها ومنطلقًا. وهي العملية التي بدأت كما هو معروف مع القرن الثاني عشر الميلادي في صورة إحياء الآداب الرومانية والإغريقية وما أعقب ذلك من قيام النزعة الإنسانية والثورة على الأخلاق المسيحية السائدة يومئذ المكرسة للخضوع والتسليم، فكانت النتيجة من الثورة على كنيسة القرون الوسطى وقيام حركة الإصلاح الديني المناهضة للرهبانية الداعية إلى العودة إلى المسيحية في صفائها الأول واعتماد التوراة مرجعًا أعلى مع ما رافق ذلك من حركة النهضة، كانت النتيجة أن تفككت بنية نظام القرون الوسطى الذي كان يشكل وحدة عضوية متكاملة فانفتح الباب أمام انبثاق فكر جديد، فلسفة وعلومًا، وعاد مركز السلطة الفكرية إلى تجربة الفرد وعقله”(8). إن الانتظام في التراث بالنسبة إلى الجابري ليس من أجل إحيائه وبعثه كما كان في السابق وبنفس البضاعة المعرفية والمنهجية والشحنة الأيديولوجية، ولكن الانتظام في التراث معناه الاتصال به من أجل الانفصال عنه، معناه البحث في التراث عن القيم العقلانية والإنسانية التي يمكن توظيفها في إغناء حاضرنا ونقده وبناء مستقبلنا واستشراف آفاقه؛ معناه تمثل التراث تمثلًا نقديًا وإعطاءه إمكانية الحياة في الحاضر وإمكانية الحافز كقوة دافعة وحركة مستمرة واعية بذاتها تجعل الذات ممتلئة من الداخل أمام الآخر بدون استلاب أو شعور بالنقص، والانتظام في التراث لا يكون إلا عبر عملية النقد المستمر والتجديد المنهجي وبروز قيم جديدة تجعل الواقع الاجتماعي بعد ذلك يفرز عناصر تغييره من أجل تغيير المشهد السابق. يقول الجابري: “وإذا نحن نظرنا إلى تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، وبكيفية خاصة منذ بيكون وديكارت (القرن السابع عشر) وجدناه عبارة عن سلسلة من المراجعات لـ”التراث” مفهومًا على أنه فكر الماضي وفكر الحاضر معًا، فمنذ أن دعا بيكون إلى التحرر من جميع الأوهام (أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق، وأوهام المسرح) واعتماد التجربة منطلقًا ومعيارًا، ومنذ أن تبنى ديكارت الشك منهجًا وأعلن عن ضرورة “مسح الطاولة” والتحرر من جميع السلطات المعرفية والاعتماد على سلطة العقل وحده، سلطة البداهة والوضوح… منذ بيكون وديكارت والفكر الأوروبي يعيد قراءة تاريخه على أساس من الانفصال والاتصال، من النظر وإعادة النظر، من النقد ونقد النقد، إن الانفصال عن التراث كان من أجل تجديد الاتصال به، والاتصال به كان من أجل تجديد الانفصال عنه”(9). إن هذه اللحظة التاريخية الأوروبية كمرجعية للنظر والتحليل، تجعلنا نستوعب منطق التاريخ في بناء النهضة الجديدة، والنهضة هي مسار متموج (كر وفر، فعل ورد الفعل) وهذا على جميع المستويات، فالجديد دائمًا يلقى معارضة شديدة وراديكالية من القديم، من البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية السائدة، ولكن مع الزمن ومع تراكم الأحداث وانبثاق أفكار جديدة ورؤية جديدة وممارسات جديدة يتحول الجديد إلى واقع سائد وهذا عندما ينتقل على مستوى الفكر والرؤية من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية، ومن فكر المفكر والفيلسوف إلى فكر وثقافة المجتمع ككل، فيتحول إلى تيار متحرك باستمرار ويرسم أهدافًا وآفاقًا مستقبلية وهذا هو الفرق بين النهضة العربية الحديثة والنهضة الأوروبية، ففي حين أن النهضة العربية الحديثة لا تزال على مستوى الخطاب تحمل مشروعًا أيديولوجيًا غير مطابق للواقع وحقائق التاريخ، ولم تدخل بعد ميدان النقد ونقد النقد (التحليل الإيبيستيمولوجي والعلمي) لأن الأيديولوجيا وهذه هي معضلة العقل العربي الحديث تقول الحقيقة كاملة دفعة واحدة فتتحول المفاهيم إلى شعارات والنظريات إلى عقائد أرثوذكسية بتعبير محمد أركون. أما في الجهة المقابلة “كان الفكر الأوروبي ولا يزال يتجدد من داخل تراثه وفي الوقت ذاته يعمل على تجديد هذا التراث: تجديده بإعادة بناء مواده القديمة وإغنائه بمواد جديدة”(10). فرؤية الجابري للتراث وإعادة ترتيب علاقتنا به، هي رؤية عقلانية نقدية مطابقة لمنطق التاريخ والواقع في نفس الوقت، كما أن علاقتنا بالتراث يجب أن تكون محكومة ومرتبطة بجدلية الاتصال والانفصال، نتصل به من أجل الانفصال عنه وننفصل عنه من أجل الاتصال به وهذا من خلال عملية تجديده من الداخل وترتيب العلاقة بين عناصره من جديد وتفكيك وتغيير بنيته وتكون هذه العملية مستمرة ومتواصلة واعتماد منهجية النقد ونقد النقد وإخضاع كل جديد للتساؤل لأنه كلما حاولنا الإجابة عن الأسئلة المطروحة، فإن هذه الإجابة ستبقى ظرفية لأن الأسئلة تتغير وكل سؤال يستنبت سؤالًا آخر… إلخ.

فالقطيعة مع التراث في نظر الجابري هي قطيعة على مستوى الفهم وليس الموضوع في حد ذاته، فالقطيعة تكون من خلال تمثله بمنهج جديد ورؤية جديدة، بل متجددة، ولا يجب وضع التراث في المتحف للتفرج عليه بحجة عدم الصلاحية آو المعقولية الحديثة كما يرى محمد أركون ولا بحجة المدرسة التاريخانية كما يرى عبد الله العروي، لأنه التراث في نظر الجابري مرتبط بمسألة أساسية على مستوى الشخصية الفردية والتاريخية هي الهوية، فلا يمكن بناء نهضة جديدة بدون هوية واعية بذاتها، بدون هوية ممتلئة بالعناصر الإيجابية التي تحفزها وتدفعها إلى القفز نحو المستقبل، لأن كل أمة تفكر بتراثها لا بتراث غيرها عندما تتهيأ لبناء نهضة جديدة والدخول في عصر جديد. يقول الجابري: “إنه لا بد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الإسلامي عند الخوض في الحداثة الأوروبية الحديثة وقضاياها وإمكانية تبنيها أو اقتباس شيء منها. فالامتلاء بالثقافة العربية الإسلامية وهي ثقافتنا القومية هو امتلاء الهوية وبدون هوية ممتلئة بمقوماتها يكون الانفتاح على الثقافات الأخرى، خاصة المهيمنة منها مدعاة للانزلاق نحو الوقوع فريسة للاستلاب والاختراق”(11). وتبقى هناك مسألة جوهرية وعملية ملحة بالنسبة إلى الجابري وهي ضرورة التأسيس لمنطلق نهضوي جديد على المستوى المنهجي والمعرفي والوعي التاريخي. يقول الجابري: “إن الحاجة تدعو العرب إلى تدشين “عصر تدوين” جديد، إلى تدشين منطلق نهضوي جديد يبدأ هذه المرة لا من الدعوة إلى تبني نموذج معين أو الاحتماء به، بل من نقد كل النماذج، لا بل من نقد السلاح، سلاح العقل العربي ذاته(12).

إن التحرر من النماذج السائدة وتبني النقد المزدوج، نقد الذات ونقد الآخر ونقد السلاح ذاته (العقل العربي كبنية ومفاهيم) هو الشرط الحضاري لتحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية وشرط منهجي وإيبيستيمولوجي من أجل تفكيك بنية العقل العربي وإعادة تأسيس وترتيب عناصر الثقافة العربية الإسلامية وإعادة بنائها وتركيبها في وعينا وتفكيرنا وسلوكنا من أجل القبض على الحاضر الهارب منا باستمرار والمستقبل الذي يبدو لنا غيبًا مطلقًا وقدرًا محتومًا نساق إليه رغمًا عنا وليس شيئًا معلومًا أو متوقعًا أو بعدًا من أبعاد الحاضر، إنه مشروع كبير ويستحق منا كل جهد.

 

قد يهمكم أيضاً  الديمقراطية في فكر محمد عابد الجابري في ضوء نظرية القيم السياسية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الثقافة_العربية_الإسلامية #الفلسفة_العربية #محمد_عابد_الجابري #التراث #العقل_العربي

المصادر:

(*) قادة جليد: قسم الفلسفة – جامعة وهران – الجزائر

[1] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5، 2005، ص: 51.[2] عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، ط5، 2006، ص: 206

[3] عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، نفس المرجع، ص: 206 – 207.

[4] محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، تر: هاشم صالح، دار الساقي ط 2، 1995، ص: 13.

[5] محمد أركون: من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، نفس المرجع، ص: 182.

[6] د. فارح مسرحي: المرجعية الفكرية لمشروع محمد أركون الحداثي، الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، ط 1، 2015، ص: 79.

[7] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 21.

(*) القرآن الكريم: سورة الحج، الآية: 78.

[8] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 23.

[9] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35.

[10] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، نفس المرجع، ص: 35.

[11] د. محمد عابد الجابري: المشروع النهضوي العربي، مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 2000، ص: 177.

[12] د. محمد عابد الجابري: إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 48.


قادة جليد

قسم الفلسفة، جامعة وهران- الجزائر.

مقالات الكاتب
Avatar
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز

Privacy Preference Center