المؤلف: عمل جماعي

مراجعة: ياسين اليحياوي

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 328 

 

على مركزيتِه وأهميته القُصوى في البلدان العربية، يغيب «سؤال العدل» على نحوٍ شبه كامل عن البحث التاريخي والحقوقي والفلسفي. ولم يبدأ الالتفات إليه بشكلٍ جدي في السياق العربي إلا مع المرحلة الانتقالية المعاصرة‏[1]؛ إذ بالإمكان رصد طفرة ملحوظة مع بداية الحراك الاجتماعي عام 2011‏[2]، بعد أن تحرر جيل الشباب الذي انتفض ضد الظلم، فأعاد بذلك السؤال من جديد إلى الميدان المعرفي والأكاديمي.

وداخل هذه الندرة من الدراسات والأبحاث، يأتي هذا الكتاب النوعي، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ليُقدم من خلال فصوله الثمانية تقريراً عن حال العدالة في البلدان العربية، وما ترزح فيه شعوبها من ظُلم على الصعيد الفردي والجماعي والوطني، مُبرزة أسبابه الداخلية والخارجية، وتبعاته الوخيمة على كامل المنطقة. ولا يقف التقرير عند التشخيص، بل يُحاول تقديم مُساهمته في رؤية استراتيجية تنشد تحقيق قدر من العدل في الوطن العربي، وإنهاء المظالم التي جلبتِ الفِتنة والاقتتال والدمار.

وعلاوةً على محورية موضوع التقرير وراهِنيَّته في سياقنا العربي، فإنَّه يكتسي ميزة إضافية، كونه في الأصل وثيقة أممية، تقدَّمتْ بها ريما خلف إلى الأمم المُتحدة حينما كانت تشغل منصب أمينة تنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الإسكوا». وقد أثار التقرير ضجة إعلامية كبيرة، بعد أن قدّمت خَلَف استقالتها، على خلفيّة سحب الأمم المتّحدة لهذا التقرير إضافة إلى تقرير آخر يحمل عنوان «الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد (الفصل العنصري)»، بضغوط من أمريكا وإسرائيل ودول أخرى، بحُجة أنهما يُدينان إسرائيل بارتكاب جرائم ضدّ الفلسطينيين‏[3]. مع ذلك فإنَّ تقرير الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل الذي نحن في صدد تقديم مُراجعة له، قد نُشر في الأمم المُتحدة قبل أن يجري سحبه، وهذا يجعله وثيقة أممية بعد منحه رقماً للحفظ في سجلات المُنظمة؛ ورغم حذفه من الموقع الإلكتروني الرسمي للأمم المُتحدة أو الإسكوا، فقد أتاحت مواقع عربية مُهتمة رابط النسخة الإلكترونية من التقرير للقراء والباحثين‏[4] قبل أن يتبنى مركز دراسات الوحدة العربية إصداره ورقياً وإلكترونياً أيضاً بالاتفاق مع مجلس الاستشاريين الرئيسيين للتقرير. كما أن الظلم الذي تعرض له تقرير عن الظلم – على حد تعبير أحد المُشاركين في إعداد التقرير – يُعيد النقاش بشأن صدقية الأمم المتحدة في ما يتعلق بطريقة تعاملها مع الدول العربية، وعن مدى حيادها تُجاه القضايا المُثارة.

أولاً: العدالة بين النظرية والتطبيق

خُصِّص الفصل الأول من التقرير للحديث عن مفهومَي العدل والعدالة، وما يكشفان عنه من ثنائية بين المبدأ والتطبيق. فإن كان العدل مبدأً عميق الجذور في وعي البشر وتراثهم الديني والفكري والقيمي، فإنَّ العدالة تطبيق لم يزل بعيداً من الواقع؛ عدل يُجمَع على تحقيقه ولو لم يُجمع على ماهيته، وعدالة تصطدم بالشرط الاجتماعي الذي قد يَحُول دون تحقيقها. شكَّلتْ هذه الثغرة بين النظرية والتطبيق مُحفزاً لتعميق البحث، في مُحاولة للانتقال من مفهوم العدالة كقيمةٍ خُلقيَّةٍ إلى مفهومٍ ذي أبعاد قانونيَّة مؤسسية ترتكز على مبدأي المُساواة والإنصاف؛ وهو ما يُمكن رصده مع تطور الفكر الفلسفي والسياسي الحديث، وبخاصة مع جون رولز، الذي يُعد من بين أبرز المُساهمين في تطوير مفهوم العدالة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. واستناداً إلى تطور الفكر الإنساني يتبنّى هذا التقرير تعريفاً إجرائياً لمفهوم العدالة يُحدده في معانٍ ثلاثة، المُساواة بين الجميع في الحقوق في حدها الأقصى المتمثل بمنظومة حقوق الإنسان؛ والمُساواة بينهم في الفرص؛ وتحقيق الإنصاف في شروط العيش الكريم للجميع. ولا يتسنى تحقيق ذلك من دون وجود دولة تضمن التعايش السلمي بين مكونات المُجتمع، وتسهر على تحقيق الحماية والرعاية للجماعة، وتُقيم العدل بين أفرادها. وإن كانت الدولة ضرورية من أجل تحقيق هذا المُرام، فإنَّ الضامن لعدم ميلها عن طريق العدل، يكمن في جُملة من المُقومات، من قبيل وضع قانون يحمي الحقوق والحريات؛ وانخراط الدولة في ديمقراطية تفصل بين السلطات وتُجنبها الوقوع في الاستبداد؛ وإنشاء مؤسسات تحقق العدالة في ظل سيادة القانون؛ من دون أن يغفل التقرير أيضاً عن دور المُجتمع المدني في حماية العدالة، ذلك أنَّ جوهر دور المُجتمع المدني يتجلى في حماية الحقوق والحريات.

ثانياً: ظلم على الأفراد والجماعات وشعوب بأكملها

وإذا كان التقرير ينطلق من تحديدٍ لمفهوم العدالة بكونه مفهوماً مُركباً يعني المساواة في الحقوق والفرص، والإنصاف في ظروف المعيش، فإنَّه يُخصص الفصل الثاني لتقييم حال العدالة بين الأفراد في المجال الاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية. حيث جرى التطرق في جزئه الأول إلى الفوارق بين الناس في ظروف المعيشة، ولا سيّما أنَّ نسبة الفقراء والتعرض للفقر في تسارع مُستمر. في المُقابل فإن فئة الأغنياء تزداد غنى نتيجة ارتباط دخلها وثروتها بالكسب الريعي، وهذا يجعل الدولة عُرضة للفساد والظلم؛ ولا أظهر من ذلك من ضلوع قادة ورجال أعمال وأقرباء لساسة عرب بتهريب أموالهم إلى بنما التي تُشكل ملاذاً ضريبياً مُغرياً، بعضها تأتي بوسائل غير شرعية. ينتقل هذا التفاوت في الدخل والثروة، إلى الخدمات الأساسية واللازمة التي تقدمها الدولة إلى مُواطنيها، إذ يكون الحظ الأوفر للفئة الغنية على حساب الفئة الفقيرة، الوضع الذي يزيد من تكريس هذا التفاوت وتوريثه إلى الأجيال اللاحقة. كما ركَّز التقرير على نحوٍ مستفيض على أسباب هذا التفاوت، ليصل إلى أن الأمر يتعلق بعدم تكافؤ الفرص بين الناس الذي يبدأ مُنذ يوم المولد، نتيجة الترتيبات المُجتمعيَّة والسياسات الاقتصادية. وعوض تدخّل الدول العربية للحدّ من هذا التفاوت وجعل فرص الجميع في بداياتها فرصاً عادلة مُتكافئة، فإنَّها تزيد وقع الظلم على الأفراد.

في حين جرى الحديث في الفصل الثالث عن مُعاناة بعض الفئات المُجتمعية، وما تتعرَّض له من ظُلم، سواء من طرف الدول ومؤسساتها أو من طرف بعض القوى السياسية أو الفئات المُجتمعية الأخرى. ويتناول البحث بداية، حقوق الفئات في المواثيق الدولية والإقليمية، حيث تؤكد هذه القوانين على تصنيف حقوق الفئات المُختلفة بوصفها حقوقَ الإنسان، فيحْظر التمييز، ويَحُضُّ على المساواة بين الجميع؛ ومن ذلك ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المُتحدة. ورغم تناول الدساتير العربية لمبدأ المساواة بين الفئات الاجتماعية، إلا أنَّه يظل غير شامل ولا مُطلق، وهو ما يجعله باستمرار عُرضة لسوء التأويل الذي يُبقي على الظُلم ويُديمه. وفي إثر النقاش المثمر لمُجمل القوانين سواء الدولية أو العربية التي تطرَّقتْ إلى حقوق الفئات الاجتماعية وحُرياتها، حاول التقرير تقديم قراءته الخاصة لدواعي تعرض عدد من الفئات والأقليات إلى الظلم في ظل دول عربية مُستقلة. ومن أجل هذا المُرام عرض التجربة التاريخية في المنطقة العربية التي حفِلتْ بالتنوع منذ القدم، وتميَّزتْ نسبياً بالتعايش السلمي بين مُكوناتها المُتعددة، إذ حافظتْ على التنوع بعد الفتوح الإسلامية إلى الحكم العثماني، وإن اختلف نظام إدارة هذا التنوع بين حقبة وأخرى؛ بيد أنَّ المرحلة المفصليَّة التي توقَّف عندها التقرير مُطولاً، تجلتْ بلحظة دخول المُستعمر الأوروبي، بوصفها بداية تحول التنوع الذي عاشه المُجتمع العربي إلى أداة سعى المُستعمر من خلالها لإذكاء الفوارق الثقافية وبث الشقاق بين الفئات المُختلفة، من أجل السيطرة على المُستعمرات، وما تأسيس إسرائيل ككيان يهودي – عرقياً ودينياً – إلا استمرار للسياسة الاستعمارية في تعاملها مع الأقليات.

إنّ هذا الإرث من الظلم الذي تعرضتْ له فئات اجتماعية، سيستمر رغم استقلال الدول العربية؛ فأشكال غياب العدل والعدالة في المنطقة العربية انتقلتْ من عصر الاستعمار إلى عصر الاستبداد بالحدة ذاتها. وقد اتخذتْ أوجه الاضطهاد والتعسف بحق الفئات المُجتمعية المُختلفة طُرقاً كثيرة، من ذلك الإلغاء السياسي، والقيود على الحريات الدينية، والانتقاص من حق المشاركة في السلطة الذي تتعرض له فئات كثيرة من العالم العربي، والعُنف الذي قد يصيب فئات مُختلفة، بذريعة انتمائها إلى جماعات دينية أو عرقية؛ والحرمان من الجنسية ومن حقوق المُواطنة الذي ينتهجه عدد من الدول العربية ضد مُخالفيها؛ وأيضاً الظلم الذي تتعرض له الفئات الاجتماعية أثناء الصراع الأهلي المُسلح. كما لم يغفل التقرير عن رصد أوجه الظلم الذي تتعرض له الفئات الجنسية كالنساء، والفئات العُمرية، كالأطفال والشباب والمُسنين، وأيضاً الأشخاص ذوو الإعاقة. ومُجمل ما خلص له الفصل أنَّ الظُلم الواقع على الفئات الاجتماعية وإن رُفع بصورة من الصور، لم تُرفع مُخلَّفاته، وقد أدى إلى تشويه النسيج المُجتمعي وإلى تفكيك العلاقات بين المُواطنين.

ومن الظُلم الواقع على الأفراد والفئات الاجتماعية، انتقل التقرير لرصد الظلم الواقع على شعوب بأكملها، وهو ما خصه الفصل الرابع للحديث عن مُعاناة الشعب الفلسطيني، الذي لم يجد بعد طريقه لإحقاق العدالة. إنَّ الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ قرن من الزمن هو ظلم فريد، كونه آخر حالات الاستعمار الكلاسيكي، ويزيد الظُلم حدةً أنه استيطاني إحلالي، يُخرجُ أناساً من ديارهم ليَسْكُنها آخرون. يبدأ هذا الظلم منذ حرمانهم حقهم في تقرير المصير؛ والتطهير العرقي الذي تعرضوا له عام 1948؛ ومن بعده احتلال سائر بلادهم عام 1967؛ ثم ما يتعرضون له تحت الاحتلال من قتل وسَجن وإبعاد ومصادرة أراضٍ. كما تطرَّق التقرير إلى انتهاكات إسرائيل للعديد من المبادئ والقرارات الدولية، بدءاً بانتهاك القرار الدولي القاضي بتقسيم فلسطين وإعلان دولة إسرائيل عام 1948؛ ثم انتهاك ميثاق الأمم المُتحدة، حيث شدَد مجلس الأمن على خرق إسرائيل عدداً من مواثيقه؛ إضافة إلى عدم امتثالها لجُملة من القرارات الأممية التي تدين سياستها تُجاه فلسطين؛ ناهيك بخرقها اتفاقية جنيف الرابعة التي تقضي بحماية المدنيين من جرائم الحرب، وحماية الأطفال من جميع أعمال العنف والتهديد.

علاوةً على عرض كل هذه الخروق للقوانين التي يُمكن تصنيفها كجرائم دولية، رصد التقرير جريمة أخرى، هي الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي ينهجه الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين‏[5]؛ إذ هي بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من الجرائم ضد الإنسانية. وقد خلص التقرير من خلال تتبع العديد من ممارسات الحكومات الإسرائيلية ومؤسساتها، إلى أنَّ ما تقوم به يُكرِّس واقعاً ينقسم بموجبه سكان فلسطين التاريخية إلى أربع فئات رئيسة، وحدها الفئة التي تضم المواطنين الإسرائيليين اليهود من تتمتع بكامل الحقوق والحريات، وهذا يخدم سعي السلطات الإسرائيلية إلى إبقاء هيمنتها على الشعب الفلسطيني. ولا يزال المُجتمع الدولي غير قادر على تطبيق العقوبات على إسرائيل، رغم كل انتهاكاتها المُتكررة والمُستمرة للقوانين الدولية، وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني. ولا غرابة أن يكون هذا الموضوع الذي عالجه التقرير استناداً إلى حقائق تاريخية مُوثقة في أرشيف الأمم المُتحدة ولدى مُختلف المُنظمات الدولية، هو ما أثار حفيظة إسرائيل وجعلها تُهاجم المُشاركين في التقرير وتُطالب بسحبه من الأمم المُتحدة. إنَّ نموذج الظلم الواقع على شعب بأكمله، كما جرى عرضه في هذا الفصل، يُسائل على نحوٍ جدي المُجتمع الدولي والدول القوية حول مفاهيمهم عن العدالة والسلام، وفي مدى كشفها عن رغبة حقيقية لإرساء السلم في العالم، أم أنَّ الأمر لا يعدو أن يكون مُحاولات لإقناع المظلوم بالتعايش مع الظلم، من دون وجود أي مساعٍ صادقة.

ثالثاً: بين قيود المُستعمر وهراوة المُستبد: الأسباب الداخلية والخارجية للظلم

جرى التطرّق في الفصلين الخامس والسادس إلى الأسباب الداخلية والخارجية لغياب العدالة في المنطقة العربية. وقد حدَّدها التقرير بداية في الإرث الاستعماري الذي رسم معالم العديد من الدول العربية الحديثة، بعد أن بنى أجهزتها الإدارية؛ ورهن اقتصاداتها بالمُستعمر؛ وشكَّل نواة قوتها الأمنية والعسكرية. وقبل مُغادرته أنشأ حالة ضعف بنيوي تُمكنه من التحكم بمسار الدولة بعد استقلالها، فجاءت النُخب العربية الحاكمة مكمِّلة للمُهمة ذاتها، لكن بأيادٍ محلية. وعوض إلغاء العديد من القوانين التي كانت تحمي المُستعمر، عمدتْ هذه النُخب إلى تثبيتها وتوسيعها؛ لتتحول بذلك من دولة حديثة عهدٍ بالاستقلال، إلى دولة مُستبدة على مُواطنيها، باطشة بأي حراك احتجاجي. إنَّ غياب الشرعية المُستمدة من إرادة الشعب، جعل النُخب الحاكمة تعيش حالة قلق وخوف تدفعها إلى المبالغة في القمع، لإحباط أي حالة من التمرد أو ثورات تبحث عن استقلال حقيقي، ولم يكن هذا الوضع الاستبدادي بالمُختلف عند الأنظمة العربية التي أطاحت هذه النُخب، إذ ألغتْ هي الأخرى الشرعية الديمقراطية الانتخابية بدعوى الخوف من تدخل القوى الخارجية، وقد أدى هذا إلى انتشار أنظمة الحُكم المُطلقة التي تتجه بطبعها نحو الاستبداد والفساد. وأمام هذا الوضع من غياب العدالة الذي عاشته الشعوب العربية قبل الاستقلال وبعده، يرصد التقرير الخطاب التبريري الداعي إلى الاستكانة، الذي حاولت الأنظمة العربية ترويجه. خطاب ينهل من المفاهيم الدينية والدُنيوية على حد سواء، تارة من خلال الترويج للحِكمة الإلهية، وأنَّ ما يُصيب الشعوب هو قدر محتوم؛ وتارة من خلال التسويغ للظلم زعماً أنَّه نتيجة طبيعية للتفاوت في القوة بين الناس.

إنَّ أسباب غياب العدالة في المنطقة العربية رسمتْ معالم الدولة غير العادلة، وهو ما حاول مُعدو التقرير رصده في عدد من السمات، أهمها تركُّز السلطة في أيدي قلة قليلة؛ وقدرة هذه القلة على إنشاء أدوات ظلم من قبيل الأجهزة الأمنية؛ وهيمنة الريع في تشكيل الاقتصاد؛ وعدم استقلالية القرار السياسي عن القوى الخارجية. كما أفاض التقرير في عرض سمات أخرى، جميعها يؤكد غياب العدالة في الوطن العربي، وتعميق الشقاق بين المُجتمع والفرد، فيُسفر نهاية المطاف عن معالم دولة لا تُقيم أي أساس للمواطنة والديمقراطية والحرية.

يكاد تفريق العامل الخارجي عن الداخلي في تكريس واقع الظُلم أن يكون صعباً؛ إذ كثير من الأنظمة العربية، إن لم تكن جميعها، من صنع الاستعمار؛ وقد حاول التقرير في الفصل السادس أن يُقدم قراءته للأسباب الخارجية للظلم في المنطقة العربية، من خلال التركيز على فشل نظام الحُكم العالمي في حماية حقوق الشعوب العربية وأمنها. ومن أجل هذا المُرام عالج الفصل أربع قضايا أساسية، أولها إمكان تحقيق العدالة داخل النظام الدولي، حيث عاد التقرير إلى تقييم مراحل نشأة مُنظمة الأمم المُتحدة، التي كانت مُخيبة للآمال، ولا سيَّما مع عدم قُدرتها على ترسيخ مفاهيم العدالة في السياسة الدولية، المُرتهنة لعلاقات القهر، وليس لعلاقات التبادل الطوعي والسلمي للخدمات؛ ولم يكن مصير محكمة العدل الدولية مُختلفاً عن مصير مُنظمة الأمم المُتحدة، وبخاصة مع افتقارها إلى الأداة اللازمة لتنفيذ الأحكام. أما القضية الثانية فتتجلى في مظاهر غياب العدالة الإجرائية في بعض القواعد الحاكمة لعمل المؤسسات الدولية، وعلى رأسها مُنظمة الأمم المُتحدة. ولعل من أبرز هذه المظاهر حق «الفيتو» الممنوح للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وتوظيفه السلبي لعرقلة الطريق إلى العدالة، وتُعد مُلابسات استخدامه من طرف الدول الكُبرى مُؤشراً إضافياً إلى تجاهلهم لاعتبارات العدالة في السياسة الخارجية. أمَّا القضية الثالثة، فقد تناولت إشكالية العدالة التوزيعية على المُستوى الدولي، حيث باتت تحظى باهتمام مُتزايد لتشمل، إضافة إلى العدالة في توزيع الثروة بين الأفراد والمجتمعات، العدالة في توزيعها بين الدول والمناطق الجغرافية المُختلفة. وفي ما يتعلَّق بالقضية الرابعة، فقد تطرق التقرير إلى مُعاناة البلدان العربية، نتيجة غياب العدالة الجزائية في المُجتمع الدولي، المسؤول عن استمرار عدد من الحروب والنزاعات؛ ويزيد من وطأة هذا الظُلم، عجز المنظومة الدولية عن تطبيق القانون على الولايات المُتحدة والصين وروسيا وإسرائيل، وغيرها من الدول القوية، التي ظلتْ بمعزل عن أي التزام بالقرارات المُتخذة من طرف محكمة الجنايات الدولية، رغم مُصادقة 124 دولة على قانون المحكمة إلى حدود عام 2016، الأمر الذي قوَّض شرعيتها منذ لحظة التأسيس. كما لم يغفل التقرير عن الظلم الذي لحق الشعوب من جراء العقوبات المفروضة عليها من الدول القوية، وقد مثَّل العراق نموذجاً لذلك، إذ كان المُتضرر الأكبر من الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المُتحدة وحُلفاؤها، هُم المدنيون الذين لا علاقة لهم بنظام الحُكم واستبداده السياسي. وأدتْ هذه العقوبات إلى تفكيك مؤسسات الدولة وإرساء قواعد نظام مُحاصصة طائفي أدخل البلد في اقتتالات وصراعات مُجتمعية ما فتئت تفتك بنسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية، من دون أن يتحمل المُجتمع الدولي التبعات القانونية والأخلاقية لما آل إليه الوضع.

إنَّ للظُلم تبعات وخيمة، فما دام الظلم موجوداً فلن يستريح أي منا، كما يُعبر عن ذلك نيلسون مانديلا في إحدى مقولاته، بهذا المعنى يُمكن إجمال ما يترتب عنه غياب العدل من غيابٍ للأمن والاستقرار، وهي القضية التي أثارها التقرير في فصله السابع، مُبرزاً النتائج الخطيرة للظلم في البلدان العربية، من قبيل التعثر التنموي الذي تُعانيه العديد من الدول العربية؛ إضافة إلى جمود الحياة السياسية؛ وتشويه الوعي بإحياء العصبيات المُتشظية، وهو ما يُقوض أركان دولة المُواطنة؛ ثم تبعية وارتهان الأنظمة الحاكمة إلى الخارج، التي أدت في نهاية المطاف، إلى احتقان سياسي جرى التعبير عنه بداية بوسائل سلمية عام 2011؛ وما لبثت أن ووجهت كل المُطالبات بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، بقمع واضطهاد شديدين من طرف بعض الأنظمة الحاكمة، ليتحول الوضع فيها نهاية المطاف إلى حرب أهلية، أعطت الفرصة السانحة للقوى الخارجية للتدخل في الشأن الداخلي للمنطقة العربية، بل وغزوها بحُجة حمايتها. ولا يبدو أن غياب العدل يعترف بالحدود، بأن ينال من دولة من دون أن يصل لجارتها؛ فما تراكم من ظلم اليوم، يضع المنطقة العربية كلها على شفا الانهيار، سواء تلك التي تعيش ويلات الظلم أو تلك التي تُخفي تبعاته بتحسين وضع مُواطنيها اقتصادياً من دون أن ينعكس ذلك على البنى الأساسية لأنظمة الحُكم؛ ولا يبدو أن الدول العربية تتعلم من دروس الماضي البعيد في ديار الآخرين، أو من الماضي القريب في ديارها، حتى تُجنب نفسها وشعوبها تبعات الظلم، وتمنع انتشاره.

رابعاً: الطريق الوعر نحو العدالة

أما الفصل الثامن والأخير فجاء بصيغة استفسار «الطريق إلى العدل؟»؛ إنَّه سؤال استنكاري واستشرافي في الآن معاً، يُحاول أن يرصد رفض الشعوب العربية لحال الظلم، وتوقهم للعيش بحرية وكرامة كسائر شعوب العالم، مُقدماً رؤية استراتيجية لتحقيق قدر من العدل يُعيد كرامة الإنسان، ويُنهي المظالم التي تجلب الفتنة والاقتتال والدمار. تضمَّنت الرؤية التي دافع عنها مُعدّو التقرير أربعة أهداف مُترابطة ومُتداخلة، يصعب تحقيق أحدها دون الآخر، وتتصل جميعها بإنهاء العُدوان على كرامة الإنسان العربي. فكان أولها، عقد اجتماعي جديد يحترم كرامة الإنسان؛ وثانيها، استقلال حقيقي لا شكلي، ذلك أنَّ أي دعوة لتحقيق العدالة تستوجب هيكـلاً ومؤسسات وطبقة سياسية وإدارية تضع مصلحة الوطن والمُواطن فوق أي اعتبار خارجي؛ وثالثها، العدل في فلسطين، إذ لا تكتمل العدالة في العالم العربي ما لم تحل في فلسطين؛ ورابعها، النمو والرفاه الاقتصادي، الذي يُحرر الناس من الخوف والعوز ويُتيح الفرص المُتكافئة لجميع الناس. كما يرى مُعدو التقرير أنَّ تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية ليس مرغوباً فيه فحسب، بل هو مُستطاعٌ أيضاً، إذا ما توافرت إرادة فعلية للنهوض بالشعوب العربية وتجنيب الدول مغبة التفكك والانهيار، ومن ذلك إدخال إصلاحات جذرية ومُستعجلة على البنى السياسية والاقتصادية؛ والعمل الجاد من أجل إنهاء الحروب الأهلية؛ والسير نحو نهج التكامل في مُختلف المجالات السياسية والاقتصادية؛ والتعاون من أجل إحداث نهضة ثقافية تُطلق التفكير الحر وتفضي إلى حداثة لا تنسلخ عن الإرث الحضاري ولا تنعزل عن العالم.

إنَّ غياب العدل ليس ظلماً لفئة من دون أخرى، بل هو تهديد لغيابه في كل مكان، وما تضمَّنه هذا التقرير من جُهد كبير لباحثين ومفكرين عرب، هو شهادة على زمن صعب، وإعلان عن نية جماعية لإنهاء الظلم وبناء الطريق إلى العدل؛ وما يُقدمه من رؤية وتوصيات تُنير طريق العدل بُغية السير فيه، هو بالأساس مُوجَّه لا إلى الحكومات والحُكام وأصحاب القرار فحسب، بل إلى جميع القوى الحية في الوطن العربي لينظروا فيه، قبولاً أو رفضاً أو تعديـلاً، بهدف فتح حوار غايته التوافق حول سبل نهوض الدول العربية واستعادة الكرامة لجميع أبنائها‏[6].

إنَّ الدمج بين التقرير الذي أعدته ريما خلف مع باحثين آخرين، وبين عدد من الدراسات من قبيل الكتاب السالف الذكر، يسمح من جهة بتقصي إشكالية الظلم على الصعيد العالمي، ومدى ارتباط غياب العدالة بالمؤثرات الإقليمية والدولية؛ ومن جهة أخرى، يفتح الأفق لنضال معرفي لا يرتهن بالمحلية فحسب، وهو ما من شأنه أن يُوحد بين جميع الباحثين والأكاديميين في العالم، ويجعل جُهده المعرفي أكثر تأثيراً وقدرة على ردع الظلم.

يمكنكم الحصول على الكتاب عند الضغط على الرابط 

الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل